التحديات  توحّد الكلمة

قال الحق سبحانه في محكم كتابه  المجيد:

 

[ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِي ]

                                                    صدق

المقدمة

الحمد لله الذي أمرنا بالاعتصام بحبله المتين، ونهانا عن النَزّاع والفرقة في محكم كتابه المبين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله الطاهرين وأصحابه الميامين.

وبعد:

إنّ منهج الوفاق والوحدة بين المسلمين هو من الأهداف الكبرى للإسلام قال الله تعالى [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا](1).

إن في المسلمين اليوم أمَسَّ الحاجة إلى جمع الكلمة، وتوحيد الرأي، والتأليف بين فرقهم وطوائفهم، والكف عن نشر ما يوجب التفريق والتحزب بلا فائدة ترجى ولا إصلاح يرتقب لما تمر به الأمة العربية والإسلامية من ظرفٍ عصيب حيث أن العدوان عليها من كل جهة ومكان وبكل أساليبه الوحشية من العدوان العسكري والحصار الاقتصادي والغزو الفكري باسم العولمة، ولقد علم الكل أنه مرت قرون وقرون والفرق الإسلامية وطوائفها في جدال وخصام ورد وانتقاد واحتجاج واستدلال وشتم وسباب حتى ملئت الدفاتر وكادت تفنى المحابر، ولم يزد ذلك إلا تعصب كل فرقة لمذهبها، وتصلب كل طائفة لمبدئها، وحرص كل فئة على مقالتها، ولم يقتنع طرف منهم بما جاء به الآخر من برهان ساطع أو حجة بينة، فكان الأجدر والأولى بعد الوقوف على ذلك كف بساط القدح والانتقاد والتعرض لما يثير الاحقاد ويورث العناد ويُوْرِي زِناد الفِتْنَة ويوقِدُ أُوارَ المحنة. وفي هذا الوقت العصيب المنذر بالمصير الرهيب ولما يحيط بنا من التحديات علينا أن نستذكر أننا مسلمون ديننا واحد وربنا واحد وكتابنا واحد ورسولنا واحد وأهدافنا في الحياة واحدة، وأعداؤنا هم أعداء لنا لا بحكم أننا شيعة أو سنة ولكن بحكم أننا مسلمون تجمعنا أهداف الإسلام وأصوله، وأن ننصرف عن جميع الخلافات وننسى العصبيات.

إنّ كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة خرجت في الوقت الحاضر من طور الدعوة والبرهان والحجة والبيان إلى الضرورة الحتمية بأنْ ترى بالعين وتلمس باليد لا أن تلفظ فقط باللسان للظروف والتحديات المحيطة بنا، فيلزمنا العمل والصدق والإخلاص والتضحية والمفاداة وهي الحياة أو الممات، فلا وقت للكتابة والأقوال بل للجهود والأعمال، ولا يلزم من هذه الدعوة إزالة المذاهب الإسلامية ولا إضعاف ولاء المسلمين لمذاهبهم، وإنما تنشد إزالة العداوة المتبادلة بين أهل المذاهب والتقاطع والتنافر والتناحر، لأنه لا تلازم بين وجود المذهب والولاء له وبين عداوة المنتسبين إلى المذاهب الأخرى وبغضهم. ولكن مما يُكْلِمُ القلوب، ويُشجي الأفئدة، ويزيد الطين بلة، ويجعل العقول صرعى أن بعضاً من علماء المسلمين ما زالوا يتراشقون بعضهم ببعض، ويتجاهلون خطورة المرحلة التي تمر بها الأمة الإسلامية، فإن الدول الاستكبارية والاستعمارية ومن لفّ لفهم أصبحوا يَسِمُون العناوين بكون هؤلاء من المجاهدين أو من الإرهابيين، بل يصطفون مع فئة في زمن بعنوان أنهم مجاهدون، وفي فترة أخرى يحاربونهم بعنوان  أنهم إرهابيون، مما جعلنا أضحوكة أمام أعداء الإسلام والمسلمين، وأصبحنا اليوم (نهزة الطامع ومذقَة الشارب) قد أحاطت بنا الأعداء، وسلكت لمحو الإسلام سبل الحيل والدهاء، يريدون الاستيلاء علينا لسلب نعمنا وابتزاز ثرواتنا.

إن الاختلاف الواقع بين الطوائف الإسلامية لا يمنع من التحرك في الاتجاه الإيجابي، والوقوف على أرض مشتركة لخدمة الإسلام والدفاع عنه، وإن كان لكل طائفة قضاياها الخاصة، فإن الظروف المحيطة بنا تحتم علينا أن ندافع عن الإسلام وأن تذوب جميع الخصوصيات في هذا الظرف والانصهار في بوتقة واحدة حتى تكون كتله واحدة متماسكة، فإذا لم نتحد أمام هذه التحديات للإسلام وأهله فأي ظرف سوف يوحدنا؟ إن الله جل وعلا سيمتحن إيماننا بهذه المواجهة الاستكبارية فهل نترك خلافاتنا ظْهِرّياً ونتحد لمواجهة الاستكبار ويكون هدفنا الأساسي هو نصرة الإسلام والدفاع عنه؟ فليعد المسلمون إلى إسلامهم وليرجعوا إلى الله تعالى وليعتصموا بحبله ويلتزموا بكتابه فسيجدون أمة واحدة وهدفاً واحداً، فإن الخلاف في الفروع الفقهية لا يكون أبداً حائلاً عن ارتباط القلوب وتبادل الحب والتعاون على الخير ووحدة المصير. ألسنا مطالبين بأن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا؟ هؤلاء أصحاب رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  كان يخالف بعضهم بعضاً في الإفتاء فهل أوقع ذلك اختلافاً بينهم؟ وهل فرق وحدتهم أو فرق رابطتهم؟ إنّ دعوتنا للمسلمين كافة إلى هدف واحد هو الحفاظ على الإسلام، وإن كل ما يضعف الإسلام أو يعرضه إلى الخطر يجب تركه وتصديه وتجاوزه مهما كان شعاره أو حجيته أو دعواه أو ظرفه، كما أن جميع الحواجز والوسائل والعوامل التي تؤدي إلى ضعف الإسلام يجب طرحها ومحاربتها وتجاوزها، وطي بساط البحث والكلام في مسائل الفرقة والاختلاف، فإن علماء المسلمين كتبوا في مسائل الخلاف أكثر مما كَتَبوا في مسائل الوفاق والاتفاق، والاشتغال بما هم إليه أحوج، والله تعالى هو الموفق إلى الصواب. كما إن طرح وصايا ونصائح وتوجيهات وحلول للوحدة الإسلامية والتي لا تمس الواقع في جو مُفْعَم بالمثالية والخيال، والحديث عن الإسلام بلا مذاهب وطوائف كما لو كان الإسلام لا يواجه عُقَدَاً صعبة. كل أولئك من الخطأ في الرؤية مما كان سبباً مهما من أسباب إحباط معنويات المسلمين بفعل كثرة الشعارات التي تتناول الوحدة الإسلامية والتضامن الإسلامي في المؤتمرات والمعاهدات التي تدعو إلى الدفاع عن مصالح المسلمين المهدورة في قرارات وتوصيات لها أول وليس لها آخر والتي تدير هذه المؤتمرات الدول الاستعمارية وتكون نتيجتها الصراع بين المسلمين بعضهم مع بعض.

إن سياسة الدول والأمم في العالم اليوم قائمة على التكتل والتحالف والانضواء في مجموعات متعاونة يسند بعضها بعضا، ويدفع بعضها عن بعض، وإنهم يلتمسون أوهى الأسباب والروابط ليرتبطوا بها، أما المسلمون فدينهم واحد وكتابهم واحد وهدفهم في الحياة والممات واحد، وكل شيء بينهم يدعو إلى الإلْفَة ويساعد على الوحدة، فمن الخير لهم ديناً ودنيا أن يتفقوا ويتكتلوا وينسوا خلافاتهم ويذكروا فقط أنهم مسلمون، وإنّ المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، وإنّ الله أمرهم في كتابه العزيز أنْ يعتصموا بحبله، وأن يتعاونوا على البر والتقوى ولا يتعاونوا على الإثم والعدوان، وألا يكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات. فيا أيها المسلمون اعتمدوا روحانية الإسلام، وتحرروا من رق المادة، وتطهروا من لذة الشهوات والأهواء، وترفعوا عن سفاسف الأمور ودنايا المقاصد فإن الله يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها، وجاهدوا في سبيل إعلاء كلمة الله، وذودوا عن حياض شريعة رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  إعزازا لدينكم، وكونوا رهباناً بالليل فرساناً بالنهار. ولتكن لكم إرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف، ووفاء ثابت لا يعدو عليه تلون ولا غدر، وتضحية عزيزة لا يحول دونها طمع ولا بخل، ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم من الخطأ فيه والانحراف عنه والمساومة عليه والخديعة بغيره. وعلى هذه القوة الروحية الهائلة تبنى المبادئ، وتتربى الأمم الناهضة، وتتكون الشعوب الفتية، وتجدد الحياة فيمن حرموا الحياة زمناً طويلاً.

وكلمتي الأخيرة هو الدعاء للجميع بالتوفيق لإصلاح ذات البين وجمع الكلمة ووحدة الصف واعزاز دين الإسلام أمام هذه التحديات العنجهية الشرسة. قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز [وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ](1) صدق الله العلي العظيم.

 

الخطوات العملية على طريق الاتفاق:

هذه بعض نقاط الاتفاق بين المسلمين والتي يمكن أن تجمعهم تحت هدف واحد منها:

  1. البحث عن مواطن الالتقاء والتصورات الإسلامية للقضايا العامة، وإثارة الشعور بالمسؤولية تجاهها، وتقديم الشواهد التاريخية على المواقف الواعية التي كان يقفها قادتنا الإسلاميون التاريخيون في خلافاتهم أثناء مواجهتهم لتحديات الكفر والضلال، وكذلك الوقوف ضد الفكر الإلحادي والإباحي والتطبيع الاستعماري والاستكباري، والوقوف
    من قضايا الشعوب المستضعفة مثل قضية فلسطين موقف المساند المستميت، وبيان الظلامة الواقعة على المسلمين مثل قضية الحصار
    على العراق، ومواجهة الغزو للفكر الغربي مثل العولمة، والرد على الدعوات التي تحاول تشويه صورة الإسلام بين أديان العالم بنشر أفكار الإسلام والتعريف به، وإن هناك وحدة إسلامية في المعنى المضموني للإسلام.
  2. أن نعتبر تاريخنا عبرة لنا بما يحمل من سلبيات وإيجابيات، ولا نسمح له بأن يطبع في شخصيتنا أي تأثير في تفريقنا وفرقتنا، لأن الإسلام وضع حاجزاً كبيراً بين الإيمان بالله والارتباط بالجاهلية في كل ما تمثله من فكر وتاريخ، والتركيز على الخسائر التي لحقت بالمسلمين أجمع بمختلف طوائفهم من خلال فَسْح المجال للخلافات الطائفية التي يغذيها الاستعمار الكافر بأساليبه المتنوعة، وبتقديم الأمثلة على ذلك حركة الواقع فيما نملك من أمثلة من تاريخنا المعاصر والشواهد التاريخية التي دلت على ما سفك من الدماء للقتال بينهم أكثر مما سفك من قبل أعدائهم، وهذا يبعد المسلمين عن التقاتل الطائفي.
  3. الوقوف على أرضية مشتركة قائمة على ركنين الركن الأول: قوله تعالى [إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِي]([1]). والركن الثاني قوله تعالى: [وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ]([2]). والتركيز على نقاط الاتفاق بين المسلمين، والانتماء الإسلامي بدل الانتماء المذهبي، وتوضيح أن هذا هو المناخ الصحي للمسلمين، وبيان أن الانتماء المذهبي أو الطائفي أو غيرهما إنما نشأ بعد الرسول الكريم  صلى الله عليه وآله وسلم ، وأن التسنن والتشيع هما وجهتا نظر في فهم الإسلام، ويمكن لوجهتي النظر أن تتقاربا، وبيان أن مسؤولية كل مسلم في وقتنا الحاضر وواجبه الديني هو مَحْوُ كل العنوانين الداعية إلى التفرقة، وإظهار كل عنوان يجمع المسلمين، وإن السنة والشيعة والمعتزلة والأشاعرة والوهابية والسلفية عَناوِيْن استحدثت بعد الإسلام، والطائفية التي جزأت المسلمين وبلدانهم ليست ديناً، بل طائفية عشائرية بشكل أوسع.
  4. بيان أن الدليل الواقعي على روح الوحدة الإسلامية هو السقف الذي نستظل تحته وهو الإسلام، فإننا نعيش الوحدة الإسلامية فعلاً، فإن السني والشيعي يلتقيان في المدرسة والمصنع والمزرعة ويتحادثان ويتراحمان في المجتمع الإسلامي ولا تظهر علامة التفرقة في المظهر الخارجي والتعايش، فإن تعامل الشيعة مع السنة وبالعكس في الواقع مسألة مفروضة وواقعة، وتعايشُ بعضهم مع بعض مما لا ينكره إلا مكابر أو مُعادٍ.
  5. إن سبلنا وطرقنا إلى الله تعالى تتعدد وتختلف وتتكثر باختلاف المتعبدين والسالكين سبيل العبادة، وكلها تصب في الصراط المستقيم. جاء في القرآن الكريم [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ]([3])، وإن المسلمين جميعاً في فرائضهم الخمس يَتْلُوْنَ: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]([4]) وهم يدعون مولاهم تبارك وتعالى أن يهديهم إلى صراطه المستقيم ونهج دينه القويم.
  6. الدعوة إلى الحوار بين جميع طوائف المسلمين وفرقهم، وبيان أن الاستبداد بالرأي هو سبب سقوط الحضارات، ويفترض أن يبتعد عن أسلوب الأحكام الحاسمة السابقة، والجوانب الذاتية الشخصية، ليتحول حوار الفكر بالفكر دون أن يكون للواقع الانتمائي تأثير في ذلك، والابتعاد عن الأساليب العدوانية من الشتم والسب، والاتهامات غير المدروسة وغير الخاضعة للدقة والحساب. واحترام أفكار الآخرين لا كأفكار مقدسة لا تقبل النقد، وأنْ نعلم أنّ مثل هذا الحوار ليس بالسهل اليسير لأننا نعرف أن مواطن الخلاف لا تخلوا من حساسيات تمس المشاعر والمواقف، ولكن الهدف من أجله كبير وهو وحدة المسلمين وعز الإسلام، وإنْ كانت مثل هذه الخطوة تحفها المخاطر الكبيرة والصعاب الجسيمة، ولكن إن لم يحصل الهدف وهو الوحدة فلا أقل من تقريب المسافات لحجم الخلاف والمنافرة التي وقعت بين طوائف المسلمين.

إنّ أساس تفرق المسلمين وهو التقاطع الذي يؤدي إلى جهل بعضهم ما عند بعض، ومن جهل شيئاً عاداه ،ولو أنهم تقاربوا لتفاهموا، وقد يزول بتفاهمهم كثير من أسباب خلافهم أو يعذر بعضهم بعضا.

ولا بد من توضيح أمور في كل عامل من هذه العوامل في المجتمع وهي:

أولاً: العامل الثقافي:

  1. التركيز في المناهج التعليمية على الاتجاه التقريبي التوحيدي مثل تدريس وحفظ الآيات الشريفة التي تدعوا إلى وحدة المسلمين وعدم فرقتهم مثل قوله تعالى: [أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ]([5]) وقوله تعالى: [وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى]([6]).
  2. إن المشكلة ليست فقط أن لا نعرف كيف نتفق، ولكن المشكلة أيضاً أن لا نعرف كيف نختلف، فلو عرفنا كيف نختلف وندير خلافنا، وكيف ننطلق بالمسؤولية لوجدنا للخلافات حلاً أو استطعنا أن نجد لها عذراً، بأن نلتقي فيما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، واعتقد أنه لا مشكلة في الخلاف إذا اتقينا الله فيما نختلف فيه.
  3. بيان عالمية الإسلام، وإنّ الخصوصيات والمسحات الموجودة في مناطق ما أو طوائف مثل التسنن أو التشيع أو السلفيه أو الزيدية أو غيرها لا تمثل هي الأساس بل هي عنوان فرعي لا يطغى على العنوان الأساسي، والاعتزاز بالعنوان الأساسي وهو المسلم أكثر من العنوان الفرعي مثل الشيعي أو الزيدي أو السني أو الأشعري أو المعتزلي أو السلفي أو الصوفي أو غيرها. فإن المشكلة النفسية لكل من الشيعي والسني التي تؤدي إلى الرفض المتبادل بينهما، فالشيعي يفكر أن يكون شيعياً قبل أن يكون مسلماً في خط التشيع، والسني يفكر أن يكون سنياً قبل أن يكون مسلماً في خط التسنن، وإذا اقترب أحدهم فاكتشف إمكانية صواب فكر الآخر حاول أن يلف ويدور ليتكلف الكثير مما يجعله يقف عند موقعه من دون أن يتحرك خطوة واحدة باتجاه الآخر. فالمشكلة ليست مشكلة فكر بين علماء المسلمين وإنما هي مشكلة نفسية، فعلماء المسلمين تتحرك أفكارهم بروحية عشائرية فكأنه هناك عشيرة السنة وعشيرة الشيعة، فالمنطق العشائري هو الذي يفرض نفسه لا المذهب الفكري السني أو المذهب الفكري الشيعي. إنّ التربية الخاطئة التي تؤكد على الانتماء المذهبي قبل الانتماء الإسلامي، فالمسلم السني مثلاً يولد سنياً في طفولته وشبابه ويعيش مفردات المذهب المَلْأى بالثقافة المذهبية من تعقيدات واختلافات وعصبيات بحيث تكون معرفته وثقافته للمذهب الآخر هو سلبياته فقط، بل معرفته لسلبيات المذاهب التي لا ينتمي إليها أكثر من معرفته لمذهبه، فتراه مخزوناً من القضايا التاريخية والأحكام المختلفة عليها، وجميع الانتقادات مستحضرة عنده، وكذلك الشيعي يتحرك بهذا المنهج.
  1. القمع الفكري فلا يتجرأ أي فقيه سني أن يتبنى رأياً شيعياً في مسألة ما، وكذلك لا يتجرأ عالم شيعي قاده اجتهاده إلى ما يوافق الفكر السني في مسألة ما، فإنه يواجه بحملة من التشهير  والتضليل والتفسيق بل التكفير من داخل مذهبه.
  2. حرص الجميع على أن يكون هذا المنهج مركوزاً في عقولهم وسلوكهم بأن يجعل الفكر يحاور الفكر لا ذاتاً تحاور ذاتا، واهتمام وسائل الأعلام المرئية بعرض مشاهد تجمع علماء الطوائف حتى تصبح هذه الصورة والحالة مألوفة، فإن بعض النفوس الضعيفة الجاهلة إذا رأت فقيهها قد اجتمع مع فقيه من الطائفة الأخرى سقط من أعينهم وذهب احترامه وتقديره لديهم، بسبب اتهامه بالمجالسة أو الانحراف، فلا بد من تصحيح هذا الشعور والهاجس الخاطئ. كما إن إهانة العلماء ورجال الدين واحتقارهم والاستخفاف بهم والاعتداء عليهم من قبل الآخرين وبعضهم لبعض إهانة للإسلام واستخفاف بأحكام مالك يوم الدين.
  3. إهمال العلوم العملية والمعارف الكونية وصرف الأوقات وتضييع الجهود في فلسفات ونظريات عقيمة وعلوم خيالية سقيمة، مع أنّ الإسلام يحثهم على النظر في الكون وأسرار الخلق، والسير في الأرض، ويأمرهم أنْ يتفكروا في ملكوت الله [قُلْ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ]([7]).

ثانياً: العامل الديني

  1. الملحوظ أن منهجية البحث عند كل طائفة ومذهب في داخل مذهبه من المسائل يكون النقد والإشكال فيها بهدوء والاختلاف مقبولاً، بينما لو كان هذا البحث في نقد مسائل الطائفة الأخرى أو المذهب الآخر فهنا يختلف البحث والنقد والإشكال، وتكون المنهجية محورها التعصب وعدم الرضا بأي رأي يعرضه المذهب الآخر، والاستدلال حتى بالأدلة الواهية لإثبات الرأي المخالف الآخر. فما يبحث من المسائل داخل المذهب يختلف في منهجية البحث والطرح فيما يبحث فيه ما يختلف بالنسبة للمسائل في المذهب الآخر، فعندما يبحث المسألة في داخل إطار مذهبه على حسب الأدلة، وإن الشك هو محوره في البحث للوصول إلى اليقين، ولكن عندما يبحث المسألة في إطار المذهب الآخر يكون اليقين محوره ومنظوره بأنّ الحق معه والباطل مع الآخر.
  2. إنّ بعضاً ممن يدعون العلم محور دعوتهم وقطب رحى أفعالهم هو رمي الآخرين بكلمتي الشرك والمشرك ومشتقاتهما ذريعة لسفك الدماء والنهب والسلب للأموال، وقد علّموا أوباشهم وجهالهم هذه الكلمة وفروعها ومرّنوهم عليها، وأطلقوا أعنّة ألسنتهم في النطق بها فاتسع الخرق، وصارت عندهم كلمة (مشرك) و(شرك) و(أشركت) من الكلمات المعتادة والألفاظ المتداولة يستعملونها مع غير أهلها، ويخاطبون المسلمين الموحدين بالآيات الواردة في حق المشركين، ويحسبون ذلك هيناً [أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ]([8]).
  3. الدعوة إلى البحث في العقائد والأحكام الشرعية بطريقة جديدة، وعدم الاعتقاد بأن القدامى وسلفنا الصالح من العلماء الأبرار قد توصلوا إلى الحقيقة المطلقة، لأنهم إذا كانوا قد فكروا واستنتجوا فليس من الضروري أن يكون فكرهم نهاية الفكر في العالم، وأن تكون أبحاثهم هي نهاية البحث في العالم فهم رجال ونحن رجال، فبإمكاننا أن نفكر ونجتهد كما فكروا واجتهدوا، وقد أوضح القرآن الكريم هذا الضابط والمنهج بقوله تعالى: [تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَت]([9]) في اجتهادها وفكرها وفي أبحاثها [وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ]([10]).
  1. منع استعمال الألفاظ والكلمات والمصطلحات المستعملة عند فرق وطوائف المسلمين وإطلاقها على فئة من المسلمين التي تؤدي إلى الخلاف مثل لفظ الرافضة والنواصب وغيرهما، لأن بعض هذه الألفاظ تحمل في طياتها معناً قبيحاً، ولذلك رمت كل طائفة الطائفة الأخرى، وتحريم النكات والتعريضات الفكاهية التي تمس بالمذاهب الإسلامية وتؤدي إلى تفريق المسلمين .
  2. عدم استفتاء من لم يكن أهلاً للاستفتاء ممن لا يلتزمون بالأحكام الشرعية مثل بعض أساتذة الجامعات من قسم الفلسفة أو التاريخ الذين تخرجوا من الجامعات الغربية، والذين يرون أن الإسلام نظام عبادي فقط أو يكيفون بعض المصطلحات الغربية على الإسلام أو يسقطوها ويقحموها بذريعة أن الإسلام صالح لكل عصر وزمان، أو ممن يكون منهجيتهم في الاستفتاء تكفير الآخرين؛ بل علينا استفتاء أهل الاختصاص [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ] وإبراز سيرة علماء المسلمين الذين يدعون إلى الوحدة الإسلامية والتمجيد بها. كما أنه لا يعلم أن الفقيه إذا ذهب إلى رأي معين معناه تخطئة الآخرين من الفقهاء إذا كان مخالفاً لرأيه، وبيان شروط وضوابط الاجتهاد، وأن المجتهد إنْ أصاب فله حسنتان وإن أخطأ فله حسنة واحدة.
  3. إن منشأ الاختلاف إما من جهة عدم العمل بالعلم وإما من جهة العمل بلا علم كما عند الجهلة القاصرين من أهل البوادي والقفار فيما يصدر منهم من ألفاظ وأعمال منافية للشرع القويم في بعض الأمكنة من المزارات، وعدم تعميم ذلك على جميع الحضور، وحمل الجاهل القاصر منهم على كونه معذوراً.
  4. الانصراف عن الخلافات الدينية والمذهبية إلى الدين كعقائد وأعمال لا إلى ألفاظ ومصطلحات ميتة لا روح فيها ولا حياة، وعدم إهمال كتاب الله والسنة الشريفة، والجمود والتعصب للآراء والأقوال، والولع بالجدل والمناظرات والمراء، وكل ذلك مما حذر منه الإسلام ونهى عنه.قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم : (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أُوتوا الجدل).

ثالثاً: العامل السياسي

إن قضية الخلاف بين السنة والشيعة أصبحت اليوم من القضايا التي تتصل بالخطط الاستكبارية في السيطرة على المسلمي، ومحاولة إشغالهم ببعضهم البعض لا سيما في القضايا الهامشية، ولعل الخطورة في ذلك أن هذا الانفصال المذهبي قد تحول إلى انفصال سياسي، حتى أن بعض الناس اخذ يتكلم بطريقة غوغائية تعتمد عنصر الإثارة ولا تخلو من النكتة في بعض الحالات بحيث يشعر أن الشيعة غير السنة وبالعكس في كل شيء، بل يغالون حتى في مسألة القرآن الكريم وغيرها، فالطائفية قد استحكمت بل زادت تعصباً والتنافر أصبح أكبر، مع إن الكتب والمعلومات أصبحت في متناول كل امرئ وقد مَلأت الكُتُبُ الإسلامية آفاق البلدان. وإني لا استبعد أنْ تكون الأيدي الأجنبية التي تحب الوقيعة بالمسلمين وتود تفريق كلمتهم وتشتيت شملهم بما يحصل الفرقة ويحتدم به الخصام بين فرق الإسلام هي السبب في إثارة الخلافات ليخلو لها الجو في إجراء مقاصدها ونفوذ سياستها.

إن عدم التواصل والتقارب بين المذاهب الإسلامية هو من جَرّاء القوى الاستعمارية، وقد بدأ هذا الأمر وكأنه أسقط من يد المسلمين، إضافة إلى التحاور والتفاهم حول مجمل مشاكلهم وقضاياهم الخلافية، والأغرب من ذلك أنّ المسلمين قد استسلموا في وقتنا الحاضر لمقولة مفادها: إن حال التخلف الذي استفحل في عقل الأمة وجسدها لم يكن أكثر من نتيجة طبيعية للخلاف التاريخي المستحكم بين سنيها وشيعيها في وقت أراد المستعمر أن يحجب النظر عن مسؤوليته المباشرة عن الحالة المزرية التي وصلت لها الأمة مستخفاً بوعي المسلمين إلى الحد الذي قدم نفسه وسيطاً ومصلحاً فيما بينهم خلال مناسبات عديدة فانخدع المسلمون بدسائس المتملقين من المستعمرين وأعجبوا بأعمالهم ومظاهر حياتهم، واندفعوا في تقليدهم فيما يضر ولا ينفع.

رابعاً: العامل التاريخي

إشغال علماء المسلمين بالكتابة والبحث عن أمور هامشية لا تعدو كونها تفصيلاً من تفاصيل الحوادث التاريخية، فتضخم وتجعل في مصاف القضايا الاستراتيجية التي تهدد وجود الإسلام، ومعظم هذه المسائل التي تبحث وقد بحثت والتي تعمق هُوّة الخلاف بين طوائف المسلمين، بينما يترك الحديث والكتابة عن الهجمة الاستكبارية التي تجتاح العالم الإسلامي برمته. ومن المؤسف أن بعض المغفلين مما يوصفون بأنهم من علماء الدين لا نشك في إخلاص بعضهم، وطيبتهم تعمل جاهدة على إشغال بعضنا بعض وإثارة الخلافات التي تؤدي إلى التقاطع بين المؤمنين، ومن ثم العداء المستحكم والتراشق بالسباب والشتائم وتضييع الوقت وتشتيت الجهد الذي يفترض أن يكون مخصصاً لمحاربة أمريكا وإسرائيل بدل ضرب بعضنا بعضا في وقت تبقى أمريكا وإسرائيل تقهقهان علينا.

خامساً: العامل الاجتماعي

إن الإنسان الذي ينشأ في بيئة اجتماعية معينة، ويظل قابعاً فيها ولا يفارقها ذهنياً نراه يؤمن بصحة ما فيها من معتقدات وتقاليد وقيم ،فهو يعتقد اعتقاداً جازماً أنها خير ما يمكن أن يكون في الدنيا كلها، وإن ليس هناك ما هو أفضل منها، وهو كلما فكر وتأمل لا يستطيع أن يخرج من إطار هذا الاعتقاد الجازم لأنه واقع تحت تأثير التنويم الاجتماعي الذي يُشْبِهُ كثيراً التنويم المغناطيسي الذي يوجه على الفرد. إن العقائد التي ينشأ عليها قد تكون (سخيفة جداً) ولكنها في نظره (معقولة جداً)، وهو يتعجب ويتساءل لماذا لا يؤمن بها المخالفون مثلما يؤمن هو بها؟ ولا يدري أن المخالفين يتعجبون ويتساءلون مثله, ولعلنا لا نخطئ إذا قلنا: إن الإنسان كلما ازداد تجولاً في الآفاق واطلاعاً على مختلف الآراء والمذاهب انفرج عنه إطاره الفكري الذي نشأ فيه واستطاع أن يحرر تفكيره من القيود قليلاً أو كثيراً. وكلما كان الإنسان أكثر انعزالاً كان أكثر تعصباً وأضيق ذهناً، فالذي لا يفارق بيئته التي نشأ فيها ولا يقرأ غير الكتب التي تدعم معتقداته الموروثة لا ننتظر منه أن يكون محايداً في الحكم على الأمور. إنّ معتقداته تلّون تفكيره حتماً وتبعده عن جادة البحث الصحيح وبذلك يركز المؤلف الطائفي دائماً على معايب المعتقدات والقيم الموجودة في الطوائف الأخرى، أما معايب طائفته فهو يغض النظر عنها أو يحاول تبريرها بمختلف الأدلة النقلية والعقلية.

إنّ على علماء المسلمين نشر مبادئ الإسلام وأصوله، وأن يعرف كل مسلم أن أصول ومبادئ الإسلام واحدة، فكل المسلمين يؤمنون بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين وما أنزل عليهم، ويعتقدون أن القرآن حق، وأن رسالة محمد  صلى الله عليه وآله وسلم  حق، وأن عليهم إن تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله ورسوله، وقبلتهم واحدة، وصلواتهم واحدة، وهناك مبادئ اتفّق عليها المسلمون وهي مبدأ الوحدة الإنسانية بين البشر وإلغاء التمايز العنصري، مبدأ إلغاء آثار الجاهلية وتشريعاتها المخالفة للإسلام، مبدأ الاخوة والتكافل والتكافؤ بين المسلمين، مبدأ احترام الملكية الشخصية، مبدأ من قال لا إله إلا الله فقد عصم ماله ودمه، مبدأ (كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله)، مبدأ وحدة الشريعة ووحدة الثقافة، ومبدأ أداء الأمانة وقوانين الإرث وقوانين الديات والقصاص وتشريعات العبادات والمعاملات.

وفي الختام الدعاء للجميع بالتوفيق لإصلاح ذات البين وجمع الكلمة ووحدة الصف وإعزاز دين الإسلام أمام هذه التحديات العنجهية الشرسة.   

 

 

 

 


(1) سورة آل عمران, آية: 103.

(1) سورة الأنفال, آية: 46.

([1]) سورة الأنبياء, آية: 92.

([2]) سورة الأنفال, آية: 46.

([3]) سورة يوسف, آية: 108.

 

([4]) سورة الفاتحة, آية: 5.

([5]) سورة الفتح, آية: 29.

 

([6]) سورة المائدة, آية: 2.

([7]) سورة يونس, آية: 101.

([8]) سورة القلم, آية: 35.

 

([9]) سورة البقرة, آية: 134.

([10]) سورة الأنبياء, آية: 7.

 
 
البرمجة والتصميم بواسطة : MWD