الحق المبين

في

 تصويب المجتهدين وتخطئة الإخباريين

الشيخ الأكبر

الشيخ جعفر كاشف الغطاء

(1156هـ – 1228هـ)

 

 

المقدمة

الحمد لله الذي هدانا بمناهج الاحكام، ودلنا بضوء مدارك الأعلام إلى معالم اصول الحلال والحرام ونستعين بكلمته التي أنشأ بها نشأتي الآخرة والأولى، وطرد شياطين الأوهام بأنوار البراهين، وقمع أعداء الدين إلى مهوى المبعدين، ونصلي على محمد المبعوث بكتاب الله ونوره المنزل معه على كافة الأنام، وآله المطهرين عن ظلمات الأوهام بأنوار الحق واليقين.

 وبعد، فان من أجل العلوم منزلة بعد المعارف الحقيقية علم أصول الفقه، اذ به يُهْتَدى إلى معالم الأحكام، وقوانين الحلال والحرام، وكان من جملة ماصنف كتاب المستطاب المسمى، بحق المبين في تصويب المجتهدين وتخطئة الإخباريين، من مصنفات امام المجتهدين، وخاتم الفقهاء الراشدين، وفقيه المسلمين، وآيه الله في الأرضيين، الشيخ جعفر النجفي كاشف الغطاء طاب ثراه، فكم أودع فيها من دقائق تحقيقاته، ونتائج أفكاره الذي لم يصل اليه أيدي أكثر العلماء، وترفَع فيها ماخفي على المتقدمين، ولعمري كم أودع فيها من التحقيقات والفروعات المتعلقة بالمسألة من البيانات الطالعة، والأنوار الساطعة على ما لا يخفى من نظير فيها وطالع، فعليكم بمطالعة هذا الكتاب حتى ينوِّر القلوب والعيون، فاعرفوا قدره، ولا ترخصوا مهره والله ولي التوفيق.

 

بســـــم الله الرحمن الرحيم

الحق المبين

وبه ثقتي

 

الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، وصلى الله على محمد وآله سادات الزمان، ماطلعت الكواكب، وظهر في السماء نجم ثاقب. وبعد: فانه قامت الحرب على ساق واحد، وكثر الجدال والقيل والقال، حتى ملأ جميع الأقطار والافاق بين فريقين من الأمامية والطائفة المحقة السالكة مسلك الشريعة المحمدية، وبسبب ذلك انقسموا إلى قسمين مجتهدين وأخباريين، وبعد النظر في البين يظهر الرجوع لكل منهما إلى أحد الثقلين، فان المجتهدين ان لم يرجعوا إلى الأخبار ولم يعولوا على ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله والأئمةالأطهار، مرقوا عن الدين، ولم يوافقوا شريعة سيد المرسلين، والإخبارية ان لم يجتهدوا في المقدمات التي يتوقف عليها فهم الأخبار والروايات، خرجوا عن طريقة الأمامية، ولم يسلكوا مسلك الفرقة المحقة الجعفرية، فمرجع الطرفين إلى ما رُوي عن سادات الثقلين. فالمجتهد أخباري عند التحقيق، والإخباري مجتهد بعد النظر الدقيق، ففضلاء الطرفين بلطف الله ناجون الواصلون إلى الحق منهم والقاصرون والجهال المقصِّرون والطاعنون على المجتهدين المشيدين لأركان الدين هالكون، فلا يرد علينا تشنيع بعض المخالفين من المسلمين بان الخلاف كما وقع بين الفقهاء الأربعة وقع بين المجتهدين والإخباريين، اذ لانزاع بيننا في أصول الدين، ولا مانع عندنا من الرجوع

 

إلى الطرفين في معرفة حكم رب العالمين، وانما جعل لكل اسم على حدة لحصول الخلاف بينهم في مسائل متعددة، وان كان الحق فيها مع المجتهدين اذ الإخباريون فيها مخطئون لكنهم غير مقصرين، وان كان انكارهم لكثير منها يشبه انكار ضروري من العقل والدين، لانهم لم يقصروا في النظر، وسبقتهم الشبهة فكانوا ممن قصر لامن قَصَّر، على انه ليس من مَذهَبِنا الاقتصار على علماء معينين لايجوز التجاوز عنهم، ولو إلى الافضل منهم ونحن نشير اليها على التفصيل، ونبين حقيقة مذهب المجتهدين باوضح دليل، ثم نبين ما استند اليه كل من الفريقين، ونوضح القوي والضعيف من الجانبين، ونقتصر على ذكر شطر صالح منها مع اقامة البرهان، لانها عجالة سفر برزت إلى الوجود بلطف الله الملك المنان في دار السلطنة والايمان والعلم والعبادة أصفهان. حماها الله من نوائب الزمان مادارت الافلاك بكواكبها، واختلف المَلَوان، وقد كنت عزمت فيما مضى من عمري، وتقضى من ايام دهري اّلا اجول في هذا الميدان، ولا اتعرض للدخول بين الفضلاء والأعيان، حذرا من النفس الامارة، وابليس، ولان ابن اللَبّون لايستطيع صولة البزل القناعيس، لكن دعاني اليه وأوجب علي القدوم عليه، التماس ولدي الطاهر المطهر علي بن جعفر "أطال الله بقاه"، وجعلني فداه مع كثرة مارأيت من طعن بعض الجهلاء على ورثة علوم خاتم الأنبياء، والأئمة الأمناء، حتى كادوا ان يشبّهو على العوام ويلبسوا الحال على غير اولى الأفهام، وينحصر البحث في ذكر تلك المسائل مع الاشارة إلى بعض الشواهد والدلائل، وهي كثيرة لاتحصى في مثل هذه الرسالة الموجزة لاينبغي ان تذكر بتمامها وتسطر فلنقتصر على ذكر المهم منها، وفيه مطالب.

المطلب الأول
في العقل

اعلم انه لاريب في ان للمؤثرات فيما يترتب عليها من الآثار والصفات من الذوات والصفات خصوصيات، وليس ذلك الترتيب من الامور الاتفاقيات في شرعيات أو عاديات أو عرفيات، فترتب التسخين والتبريد والقتل والتعذيب والعلم والادراك مثلا، على النار والثلج والضرب والعقل، بدون واسطة أو بتوسط الحواس الظاهرة أو الباطنة، انما هو لخصوصيات فيها فان البديهة تحكم باقتضائها لذاتها لا لمجرد الجعل الإلهي وقضاء العادة، خلافا لبعض الأشاعرة، وكذا موافقة الطبع ومنافرته للمبصرات والمسموعات والمشمومات والمذوقات والملموسات مما يتعلق بالحواس الظاهرة، وما حل في الفكر أو الخيال ونحوهما، مما يتعلق بالحواس الباطنة، انما هي لأسباب ومقتضيات، وكذا موافقة العقل مع عدم الواسطة، فالعقل جُعِل سلطانا على النفس، يأمرها بما يصلحها، وينهاها عما يفسدها فهي منقادة له إلاّ إذا قويت عليه لنفسها، أو بمعونة الشيطان، وكذا النفس جعل لها سلطان على الاَّعضاء، لا يصدر عنها شيء خيراً أو شراً إلا عن أمرها، فالعقل إذا أدرك شيئا بواسطة أو بدونها من فساد الدنيا أو صلاحها في فعل أو ترك حكم على صاحبه به وجوبا أو تحريما أو ندبا أو كراهة أو تخييراً، و عَلِم استحقاق المدح والذم والعقاب في مقاماتها، وقضى على غيره لو كان مقدورا له بذلك، وفرض أو ندب على كل مطاع من سيد، أو غيره منع مطيعه من إرتكاب مايفسده، واوجب عليه المؤاخذة أو ندب اليها على حسب اختلاف المقام، واستحق المطيع المدح، والعاصي الذم منه ومن سائر العقلاء، فالعقل متكفل بتدبير النفس يبين لها ما يصلحها في امر دنياها وما يفسدها فيه من معاش ومسكن وفراش وغيرها بحسب ما يعلمه من الاسباب المقتضية للصلاح أو الفساد، فمتى ظهر له سبب يقتضي احد الامرين عمل على ما علمه، وإلاّ رجع إلى من هو أعقل منه، وأعرف في الجهة التي حاولها فيرجع إلى عقول ارباب الصنائع في الصناعة والاطباء في الطبابة وفي معرفة الضار والنافع إلى عقول العارفين، وأما ما استقل بمعرفته من مقتضيات حرّ وبرد وجوع وعطش ومنجي ومهلك وموافق ومخالف، فلا حاجة فيه إلى المرشد وقد قضي اللطف بإيداع معرفة كيفية المعاش في جميع الحيوانات ناطقها وصامتها، سوى ماقضت الحكمة بجعله جائزاً كالفراش، وأودع الخوف من كل من له سلطان في قلب الناطق والصامت من الحيوان، فلم تزل البهائم يخاف من مُؤذَياتها من مجانساتها وغيرها من الإنسان، وغيره من السباع والحيات والعقارب ونحوها، وعلمها اسباب النجاة من هرب ونحوه، وكذا المولّى عليه من عبد وخادم ورعية ونحوهم، فانهم لما أدخلهم تحت سلطان من له الولاية عليهم أودع في قلوبهم معرفة مافيه سبب النجاة والهلاك من الطاعة والانقياد والمعصية والعناد المبنية على الموافقة والمخالفة للمراد، مما يترتب عليه الصلاح أو الفساد للموالي أو العبيد، ومتى حصل الوفاق أو الخلاف  منهم علموا بانهم مستحقّوا المدح أو الذم  والثواب أو العقاب من مواليهم أو غيرهم، غير إن الداعي للموالي مثلا ذو وجهين، ما يتعلق بصلاح انفسهم، وما يتعلق بصلاح العبيد، وفي حق الواجب ذو وجه واحد وهو صلاح العباد، وأما من جهة أوامر الشرع ونواهيه مما يتعلق بالآخرة، فالحكم فيها أبْيَن وأظهر لأنه لا ينزّه أحد من الإغماض عن صلاح عبيده وفسادهم كتنزيه الله ولا يحكم بارادة صلاحهم على أحد، كالحكم على الله، فكيف يحكم العقل والعقلاء بديهة بأن عقلاء الموالي يقبح عليهم ان لا يحرّموا على الموالي ظلم العباد والإفساد في البلاد والخيانة والسرقة والكذب الضار وفعل الفاحشة وقتل النفس من غير سبب، وهتك حرمة المحرمات إلى غير ذلك ولايحكمون بمثل ذلك على الله، ولذلك ذهب المجتهدون من اصحابنا (  رضي الله عنه ) إلى إن العقل حجّة في الأصول والفروع، للعلم بأن أحكام الشرع إنما هي عن أسباب ومقتضيات كما يستفاد من صريح الآيات والروايات، وإمكان إدراك بعض تلك الأسباب غير خفي على أولي الألباب، فمتى اهتدى العقل إليها أحب أو كره وجودها، ثم الأيجاد  ثم أراد ثم مدح أو ذمّ، ثم حكم على من حلّ فيه وعلى غيره وعاقبهما، لو كان العقاب مقدوراً له ويقع منه عفو، وحيث علم إن الله مع حكمته، قد علم بما علم قضى بأنه كان منه ماكان منه، من حيث الوجود، ثم الإيجاد ثم الإرادة، ثم الطلب وعكسها مع ترتب استحقاق المدح والذم والثواب والعقاب من وجهين، مع زيادة إمكان المؤاخذة، ووقوعها فعلا مع عدم العفو، فما أدركه بنفسه غني فيه عن الدليل، وما خفى عليه يحتاج فيه إلى مرشد ودليل، فحكم العقل بالحسن والقبح شرعاً وعرفا وعادة من الضروريات ومما قضى به نص الكتاب والروايات في مواضع كثيرة غير محصورة وربما كان استقلاله في بعض الفروع أظهر من الأصول، ولو لم يستقل في كلا الأمرين لم يصلح الاستدلال به في خصوص احد الجانبين، والظاهر إنه محلّ اتفاق بين العقلاء من الكفار والمسلمين من المؤمنين وغيرهم، إنما أنكره الأشاعرة في الأصول والفروع في أمور الدنيا والدين، أما لإنكار الأسباب والمقتضيات مُطلقاً، كما يظهر من بعضهم، أو في خصوص الأحكام، وأما لإدراك العقل إياها وأما لعدم الاعتماد عليه لوقوع الغلط منه، وأما لأن الشرع لايتبعه مستندين إلى ما دلّ من الكتاب والسنّة على إنه لاتعذيب قبل البعثة.

وفيه أنه لا يُفهم من ذلك إلاّ إرادة ما قبل الإعلام، كما يظهر من معنى العبارة إذا قالها السيد لعبده وأنه يمكن إرادة العفو منها، أو يراد فيما بعث فيه وإرادة العقل بالرسول بعيدة وإلى وقوع التكليف بالمحال في أمر أبى لهب وغيره بالإيمان مع نص الكتاب والنبي( صلى الله عليه وآله وسلم) على عدم وقوعه فيكونون مأمورين بالتصديق والتكذيب معاً ولأنه لا يمكن كذب النص فيلزم التكليف بالمحال وفي قضاء الكفار فيما فيه قضاء المشروطة صحته بالإسلام القاضي بحرمة الإتيان به والعقل حاكم بعدم جوازه، وفيه انه ممنوع ووجهه ظاهر، وبالاجبار في أفعال العباد، أو أن الفاعل هو الله وهما مردودان بما لايخفى. واحتج لهم بأنّا نرى حكم العقل يختلف بالنسبة إلى الفاعلين والمفعولين والأمكنة والأزمنة والهيئات والأوضاع، ولو كان حاكما لما اختلف حكمه، ولم يكن الحُسْن والقبْح تابعين للشرع في إذنه وأمره ونهيه، فلم يحسن قتل المؤمن من ملك الموت لموافقة الأمر ويقبح من غيره لعدمها، ولا قتل البهائم في التذكية دون غيرها للإذن، ولا قتل العالَم بالغضب على واحد منهم وإيقاع الطاعون والإحراق بالصواعق من الله وقبح من غيره، ولا حسن حصول شيء من الملاك وقبح من غيرهم.

وفيه أن المدار على مراعات الجهات والاعتبارات وأورد عليهم لزوم إفحام الأنبياء والاعتذار بالفطرة أو الإجبار وبالمعارضة بمثله لاوجه لها، والكلام معهم طويل ليس هذا مقامه.

وأما أصحابنا الإخباريون فحيث قصروا الحجّة في غير الضرورتين على الألفاظ الواقعة في الكتاب والسنّة النبوية مفسرين بالأخبار ولم يعولوا على جميع ما أفاد المراد مع انه لا يخفى على عاقل إن الألفاظ انما تُلحَظ لكشف المراد لا لنفسها بديهة في جميع خطابات العقلاء، لان مدار صفة الطاعة والمعصية والانقياد والامتثال والتسليم والائتمار والانتهاء والعبودية ونحوها على المراد اختلفت كلمتهم فظهر من بعضهم إنكار الأسباب ومن بعض إنكار إدراك العقل، ومن بعض إنكار التعويل على إدراكه لكثرة كذبه فاشبه قولهم بذلك قول العنادية، ومن بعضهم تسليم إدراكه وصوابه، وإنكار الملازمة بينه وبين الشرع ولو أنهم نظروا في تكاليف السادة لعبيدهم وكل مطيع لِمُطاعهِ لعلموا إن المدار في جميع المحال والاقطار وفي جميع اللغات وسائر العبارات على المراد دون الأفاظ، ولا يشك عاقل في ان السيد إذا إمر عبده بان لايوقظه من الحق نومه فجاءه سبع أو أفعى أو نحوهما أو إمره بالإتيان بماء من الكوز فوجد فيه ماء متعفنا ووجد حوله ماء عذباً خالياً عن الموانع، أو قال: اقتل هذا ولم يعلم أنه ولده بل زعم أنه عدوه، فأبقاه على نومه حتى قضي عليه وجاءه بماء الكوز وقتل ولده، فلما لِيْمَ على ذلك اعتذر بان هذا مقتضى حديثه ونصّه ولست أخالف قوله إلاّ بحديث مثله عد عاصياً أو مجنوناً مسلوب الرأي، ولم يقبل عذره عند العقلاء، وإنما اقتصرنا على هذا القليل من الكلمات، لأن الغرض إنما هو الرد على الزاعمين

 

 أنهم غير مأمورين إلاّ بالعمل بالروايات، وما قيل من إن البحث فيه قليل الثمرة لأن جميع ما يستقِلُّ به العقل داخل في الضروريات وفي ذلك غنْيَة عن الاستدلال به مردود بما سيجيء في تحقيق أسباب الاحتياج إلى المسائل الاصولية.

المطلب الثاني
دليل العقل

ما يسمى دليل العقل باصطلاحهم، وهو أقسام والمهم هنا التعرض لأربعة أقسام، إذ هي عمدة موضوع النزاع بين الفريقين: أحدها أصل الإباحة، بمعنى مطلق الجواز. ثم قد يراد به إباحة الاستعمال في المستعملات من خصوص المأكولات والمشروبات أو مطلق المستعملات فيعمها مع الملبوسات والمفروشات، وما يتعلق بها أو مطلق الأعمال والانتفاعات. ثم قد يراد به خصوص مسلوب الرجحان من الطرفين مع التعميم في المتعلق أو التخصيص ويساوي على التعميم أصل البراءة بالمعنى الاعم، وعلى الأول يقدم الواجب على الحرام عند التعارض ولتقديم المستحب على المكروه وجه وعليه بالمعنى الآخر تعميماً وتخصيصاً عوّل المجتهدون وبنوا عليه الأحكام الشرعية والمطالب الفقهية فيما عدا ما علم من الشرع أصالة حرمته، كمملوك الغير والوقف الخاص في غير الأراضي والمياه المتسعة وما يتعلق بهما من سموك ونباتات وحصى، وما يخرج من الارض من كمأة ونحوها في وجه وعدا ما فيه تعدّ على إنسان أو حيوان معتبر دون غيره من المتناهي في الصغر وعدا مايتعلق بالوطئ في إنسان وغيره وما يتبعه في نوع الإنسان ولحوم الطيور، والمشكوك في وقوع تذكيته وما تعلق بالعبادات، ويجرى في المشتركات من الاوقاف العامة وغيرها، مالم تناف جهة الانتفاع المعدّة له. والاستصحاب فيها مردود بتبدل الموضوع، ونقل الصدوق (K) إجماع الإمامية، وقضت به السيرة المستمرة من زمن الانبياء السابقين إلى زماننا. وسيبقى ذلك إلى يوم الدين. ولم تزل ائمتنا ( عليه السلام) وأصحابهم ونوّابهم من العلماء يطلبون الدليل من المحرم، وقد استقرت عليه آراء الناس قديما وحديثا وغرس في اذهانهم، فلا يتوقفون في ضروب النباتات وأنواع الأفعال والأوضاع والحركات والسكنات، لأن البناء على هذا الأصل كالضروري فيما بينهم ويؤيد ذلك عدم تعرض العلماء لذكر المباحات في غير ما أصله التحريم، وبذلك ثبت معذورية جهّالهم، كيف لا وجميع مايستبيحونه من غير نص لا يمكنهم الاستناد فيه إلى غير الضرورتين من سيرة أو اجماع، لعدم حجيتهما عندهم، ولعدم ثبوتهما في اكثر الجزئيات، ولا إلى الضرورتين للوجه الأخير مع إن الضرورة إن تعلقت بجميع الأفراد لزم ألاّ يجوز العدول للعثور على دليل، ولم يقل به احد وإلا كان من العمل بالظن، لأوله إلى العلم وهذا غير مقبول عندهم. وقد استمر عمل الإخباريين على ذلك، ويؤيد ذلك إن نسبة الحرام إلى الحلال في غير الإعيان، وفيها فيما عدا الحيوان كنسبة المحصور إلى غير المحصور، فهذا القسم كغيره من كثير من الاقسام الآتية مما اختلف فيه علمهم وعملهم، ويفيده من الأخبار ما دلّ على حجب القلم عما لا يعلم. وإن ما حجب الله علمه موضوع، وإن كل شيء مطلق وحلال، حتى تعلم حرمته إلى غير ذلك. وفيما دلّ من الكتاب والسنّة على ان مخلوقية مافي الارض لانتفاعنا وتفسير الاعتبار لاينافي، لأن البطون لا تنافى الظهور وفي استدلال الإمام علي( عليه السلام) على عاصم بن زياد لما حرَّم على نفسه الطيبات بقوله تعالى [والأرض وضعها للانام] أبين شاهد عليه. فما ذهب اليه الإخباريون من أصالة الحرمة واقعاً أو ظاهراً، أو التوقف لأخبار وردت في مقام التعارض أو مطلقاً معوّل عليها عند الجميع لوجوب الرجوع إلى الامام ( عليه السلام) أو نوابه مع قيام الشبهة وحصول الشك، وإلاّ انسد باب الرجوع إلى الأئمة( عليه السلام) غالباً. ثم أنهم (  رضي الله عنه ) موافقون للمجتهدين غالباً بالحكم، مخالفون بالاسم ولا تراهم يرجعون إلى أصلهم، إلاّ فيما وقع فيه البحث كدخان التنباك مثلاً دون باقي الدخاخين، وإن ساوقه في المدرك المقرر عندهم. ثانيها أصل البراءة، وقد يدخل في أصل العدم باعتبار نفي الرجحان، وإن كانت الإباحة حكماً، فتكون للحجية مدركاً، وفي أصل الإباحة على بعض الوجوه وهو بالنسبة إلى حكمي الوجوب والندب مما قامت عليه البديهة، وجرت عليه سيرة الانبياء السابقين وأوصيائهم إلى عصر خاتم النبيين، ثم الأئمة الطاهرين، ثم العلماء المرضيين، فإنْ كلّ من ادعى أحد الحكمين طولب بالدليل، ولم يطالَب النافي بل يحكم بأن الحق معه حتى يقوم دليل الخلاف، ولم تزل الأدلة تقام على ثبوتهما دون نفيهما من ائمتنا( عليه السلام) وجميع علمائنا. ولذلك  دوَّنَهما العلماء في كتبهم دون ضدهما من الإباحة  وللزوم تكليف مالا يطاق على القول بعدمه، ولدلالة الاخبار المتواترة المعنى على رفع القلم عمّن لا يعلم وإن المحجوب علمه موضوع حكمه وعليه المجتهدون. ونسب إلى الإخباريين أمينهم "أي الشيخ الاستربادي" انكار ذلك وأما حكم الحظر والكراهة فتجري فيه عند فقهائنا المجتهدين، ولا ينبغي الشك فيه لمثل ماذكرناه في هذا المقام، وفي بحث أصل الإباحة، لكن لارجوع للمجتهد بعد حصول الشبهة من تعارض الأخبار أو من غيره إلاّ بعد بذل الوسع في طلب ماينفيه من الأدلة، ولا للعامي إلاّ فيما جرى على وفق العادة، واستمرت عليه أو مع العجز عن الوصول إلى الفقيه، وهذا الأصل في القسمين الاوليين جارٍ في حكم كل آمر ومأمور ومُطِيع ومُطَاع، وكذا بالنسبة إلى الآخيرين، وأما الإخباريون فقد نفوا ذلك وهم محجوجون بما أوردناه من الشواهد وما ذكروا من إن ذلك مردود بما روي بعبارات مختلفة تشبه أن تكون متواترة المعنى ( من إن لله تعالى في كل واقعة حكماً) مردود، بان المراد بهذا الأصل كأصل الطهارة، وصحة دعوى المسلم وعقده وفعله إثبات الحكم الظاهري التكليفي وهو غير ملازم للواقعي. فالمراد إذاً أن الحكم بعدم التكليف مقدم على الحكم به، وهذه المسألة أيضاً مما خالف فيها عملهم. فإنه لا يسع متشرع ترك العمل بذلك للزوم فساد النظام. وثالثها أصل العدم، وربما دخل فيه أصل البراءة وأصل الإباحة من أحد الوجهين، وهو حجّة عند المجتهدين، لأنه من الأصول التي عوَّل عليها العقلاء، وجرت عليه سيرة الأنبياء والأوصياء إلى زمان خاتم الأنبياء والأئمة الأُمناء، ونوّابهم من العلماء، فإن الشاهد إنما يطالب على الأثبات، فإن لم يكن كان البناء على العدم، وعلى مثل ذلك بنى جميع العوام من الكفار وأهل الإسلام، ويدل عليه مع ذلك إن لا نسبة للموجود على المعدوم، وهو في حقه بمنزلة المعدوم وحجيته لذاته لا لجريان حكم الاستصحاب فيه، وإن كانا قَلَّ مايفترقان، ولذلك يجري في المجردات عند من يدعي قدمها، وفي اختلاف الأحوال يطرئان الوجود والعدم وتكررهما على المحل الواحد، وأمّا الإخباريون فقد دخل فيما أنكروه من وجود حجة بعد الضرورتين، سوى الكتاب المفسر بالأخبار، وان كان جميع ما ادعاه المجتهدون، مأخَذه من الروايات، وهذا أيضاً مما اختلف فيه علمهم وعملهم، وشرط حجيته ألاّ يطرأ طارئ الوجود فيعارضه ذمه الاستصحاب، وهو أقوى منه. وأصل العدم أضعف الأصول، ولكن لا محيص عن القول بحجيته. ورابعها الاستصحاب، وهو إجراء ما كان في الزمن السابق إلى الزمن اللاحق في شرعيات أو عرفيات أو عاديات مع القول ببقاء الأكوان غنية عن المؤثر أو محتاجة إليه وعدمه. وعليه عامة المجتهدين إلاّ مَن شذّ منهم،  ولبناءِ أرباب الشرائع قديما وحديثا، بل جميع الناس عليه في جميع الأمور شرعية أو عرفية أو عادية، فلا يطلب شاهد على بقاء موجود بعد وجوده أو معدوم بعد عدمه، بل يطلب على الخلاف فكلما وجد وأمكن فيه البقاء من أحكام أو هيئات أو صفات أو أوضاع، ككفر وإسلام وإيمان وعدالة وفسق وطهارة ونجاسة وإباحة وحرمة وحُسْن وقبح ومرض وصحة واستقامة واعوجاج، وهكذا حُكِم ببقائه مع بقاء متعلقة، وإلاّ فلا. لان وجود التابع والعارض مقرون بوجود المتبوع والمعروض وفيما يفهم من الأخبار المعتبرة المتكثرة من إن اليقين لا يُنقض بالشك. وإن حصول اليقين من حيث هو بالوجود في الزمن الأول لا يهدمه الشك في الزمن الثاني فيكون ناقضا له عرفاً لا يختص بما إذا حصل سبب الاستمرار من خارج ليتحقق النقض كما قيل. ويتمشى بمقتضى السيرة في سائر الموضوعات والأحكام من غير الشرعية أو منها مع القطع بالواقع في الحكم الواقعي بحكم عقل أو ضرورة دين أو مذهب أو سيرة أو إجماع أو أخبار قطعية الإفادة، ومع الظن المعتبر بالحكم الظاهري مالم يعارضه أقوى منه ولا يعارض بما يتعلق بالأسباب والمؤثرات مما تعلق بالآثار، فبقاء طهارة المطهر، وبقاء نجاسة المتنجس، لا يعارضها أصالة بقاء نجاسة المتنجس، وبقاء طهارة الطاهر وأصالتها. وربما أُدعي القطع في ذلك. فإني لا أرى إن أحداً يرضى أنْ يأكل أو يشرب أو يتوضأ أو يغتسل من ماء في إناء معلوم النجاسة بعد زوال عينها بمجرد إحتمال عروض الطهارة أو يصيب بدن كافر يحتمل عروض  الإسلام له برطوبة، أو يشرب من ماء شرب منه بمجرد إحتمال الإسلام، أو أإرضا رطبة متنجسة لاحتمال ورود العاصم من الماء، أو إشراق الشمس المجفف عليها، أو الخمر لاحتمال انقلابه، أو العصير لاحتمال نقص ثلثيه، أو البئر لاحتمال زوال تغييرها أو الماء المتنجس، لاحتمال إتصاله بالمعصوم، أو وقوع الكرّ عليه، أو الحيوان المقتول لاحتمال تذكيته إلى غير ذلك. وهو خلاف ما عليه السيرة المستمرة، ودعوى أن الفارق الإجماع في البعض بعيدة عن التحقيق، والظاهر أن حكم ظاهر الشرع كباطنه، فالنجاسة الثابتة بالأصل كالمعلومة، فلا وجه لمنع الصغرى أو الكبرى. ويجري في أصل العدم المثبت للنجاسة نحو ما جرى في الاستصحاب بالنسبة إلى حيوان ميّت شُكّ في تذكيته، أصاب طاهر يتنجس بملاقات النجس؟ نعم لا يجري حكم الاستصحاب مع معارضة أصل مستقل غير تابع، ويبنى هناك على الراجح. ومثله إذا ما توسط حكم عقلي يتوقف عليه الحكم الشرعي كثوب رطب أصاب نجاسة مع احتمال جفافه وسقوط نجاسة في هواء المسجد مع احتمال الحاجز، وعروض القتل يزيد وليس في الدار سوى عمرو، وجري الماء على  المغسول مع احتمال عدم الحجب، ونحوها من الأصول المثبتة للمُثَبَّت من غير ترتب شرعي.

 

وأما الإخباريون فلما كان مذهبهم قصر الحجة على الضرورتين والكتاب والسنّة النّبوية المفسرين كما نقله عنهم أمينهم، لم يعتدّوا بهذا الأصل، ولا بغيره من الأصول ولا بما عدا ماذكروا من الأدلة. والظاهر أن حالهم هنا كحالهم فيما مر ويجيء في الأصول علمهم مخالف لعملهم وسنبيّن لك إن شاء الله أنهم في كل المطالب أو جُلّها كذلك.

المطلب الثالث
في الكتاب

وقد منع من العمل بظاهره غير مفسر بالأخبار العاملون  بظاهر الأخبار، حتى ترقّى كثير منهم إلى لفظ الله والرحمن وإبليس والشيطان وفرعون وهامان والأرض والسماء والهواء والماء ونحوها، وكلماته عندهم بأسرها من المجملات والمتشابهات، لا يعرف شيء منها إلاّ بتفسير الروايات الصادرة من الأئمة الأطهار دون الواردة عن النبي المختار ( صلى الله عليه وآله وسلم) إذا لم تكن مفسرة، وهذا من الأقوال العجيبة، والأمور الشنيعة الغريبة لمخالفتها للآيات الكثيرة المشتملة على إنه عربي مبين وأنه هدى وبيان وتبيان ويهدى إلى الحق وإلى صراط مستقيم ويُبشَّر به المؤمنين، وينذر الكافرين، وتقشعر منه الجلود، وعلى الذمّ على عدم تدبرهم إياه، وإنه أُنزل للتذكير، ونزول براءة، وارسال علي( عليه السلام) بها ليقرأها على المشركين، وتنزيلها على خصوص الوعد والوعيد خروج عن مفاهيمها وعن طريقة الفريقين، وتقسيم آياته إلى محكمات ومتشابهات، والرد اليه عند المنازعة والاحتجاج على المشركين واليهود والنصارى. والتعجيز بسورة وعشر سور مثله، وإن المؤمنين إذا سمعوا ما أنزل الله تفيض أعينهم من الدمع، وأن بعض الجن استمعوه فقالوا إنه قرآن عجب يهدي إلى الرشد، وإنه يقص على بني إسرائيل، وإن المؤمنين يزيدهم هدى، والذين في قلوبهم مرض يتبعون ما تشابه منه، وانه لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، وانه لو نزل على بعض الاعجمين، لم يؤمنوا به، والاحتجاج بانه كتاب مصدق لما معهم، وانه مصدق لما بين يديه، وانه يوعظ به وان آياته مفصلة لقوم يتفكرون، وانه ذكرى للمؤمنين، وان آياته بصائر ورحمة وان المنافقين يحْذَرُونَ أنْ تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم، وأنه إذا نزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً، وإن الكتاب أنزل تبياناً لكلّ شيء، وإن آياته إذا تُليَت يعرف في وجوه الذين كفروا المنكر، وإنه يَعْلمه علماء بني إسرائيل وإن الآيات إذا تُليَت قالوا ما هذا إلاّ رجل افترى، وأنه أنزل وفيه ذكرى للمخاطبين، وإن آياته اذا تُليت عليهم يقولون ائتنا بكتاب غير هذا أو بدله، وإن منهم من يسمع آيات الله تُتْلى عليه فيصرُّ مستكبراً، وأنه ينطق عليهم بالحق في باب الاحتجاج وإن الملحدين إذا قُرِء عليهم يعجبون ويضحكون ولا يبكون وإنه إذا أُنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض، وإنه إ‏ذا بُدّلت آية مكان آية قالوا إنما أنت مفترِ، وإن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرّون للأذقان سجداً، وأنهم إنْ كانوا صادقين فليأتوا بحديث مثله وإن الله صرف نفراً من الجن إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) ليستمعوا القرآن فلمّا حضروه قالوا انصتوا إنهم رجعوا إلى قومهم منذرين واخبروا بإعجاز القرآن، وإنه إذا انزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال كان الكافر كالمغشي عليه من الموت، وانهم قالوا إن هذا إلاّ سحر يؤثر ان هذا إلاّ قول البشر، إلى غير ذلك من الآيات، وهذه الآيات جلّها مفهوم، معناها من كلام أهل العصمة في الروايات والخطب والمواعظ ونحوها فلا دَوْر، والروايات المتواترة معنى المشتملة على وجوب الرجوع إليه كأخبار الثَقَلَين ونحوها، وإن الفتن إذا أقبلت كقِطَع الليل المظلم لزم الرجوع إلى كتاب الله، لأن فيه بيانا وتفصيلاً، وإن ما وجدتم في كتاب الله أو السنّة لزمكم العمل به، ولا عُذرَ لكم في تركه، وإن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نور، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه، وإن كلّ شيء يُرَد إلى الكتاب والسنّة، وإن كلّ شيء مردود إلى كتاب الله، وكلّ مالا يوافق كتاب الله فهو زخرف، وإن الحديث إذا كان له شاهد من كتاب الله قُبِل وإلاّ ردّ، وإن القرآن حَمَّال ذو وجوه فاحمِلوه على أحسن الوجوه وإن من ردَّ متشابه القرآن إلى محكمه هُدي إلى صراط مستقيم إلى غير ذلك. والتخصيص بالمفسر لا وجه له لقلته وعدم معرفته كلاً أو جلاً قبل جمع الأخبار، مع إن ظاهر بعضها إن الخبر لايقبل إلاّ مع موافقته له، وللسيرة المستفادة من تتبع كلمات الأئمة( عليه السلام) في احتجاجهم على المخالفين والمؤالفين، ولا معنى للتوقف على التفسير كاحتجاج أمير المؤمنين( عليه السلام) على عاصم بن زياد لمّا حرّم على نفسه الطيبات بقوله تعالى [وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ، فيهَا فَاكِهَةٌ]، وقوله تعالى [يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَاْلمَرْجانُ] واحتجاج الزهراء ( عليها السلام) على أبي بكر لمّا منعها الإرث بقوله تعالى [ وَوَرِثَ سُلَيْمنُ دَاوُدَ]، وَنُقل في بعض الروايات إضافة قوله [فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً، يَرِثُنيَ وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ]، [وَأُولُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ]، وفي كتاب الله [ يُوْصِيكُمُ اللهُ في أَوْلادِكُمْ لِلذّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ]، [إِنْ تَرَكَ خَيْرً الوَصيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالأَقْرَبينَ]، واحتجاج أمير المؤمنين ( عليه السلام) على الصحابة، لمّا تفرقوا عنه بقوله تعالى[وَلاَ تَكُوْنُوا كَالَّذينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ اْلبَيِّنَاتُ]، واحتجاج الصادق ( عليه السلام) على سفيان الثوّري، وفي خبر آخر على عباد بن كثير حيث اعترضا عليه في لبس الثياب الحسنّة بقوله تعالى [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِيْنَةَ اللهِ…]، واحتجاج الهادي( عليه السلام) على أهل الاهواز في اثبات إمامة أمير المؤمنين( عليه السلام) بقوله تعالى [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولَهُ وَالَّذيْنَ آمَنُوا…]، واحتجاج الجواد( عليه السلام) على القاضي يحيى بن أكثم في مجلس المأمون في ردِّ أخبارٍ رواها في حق أبي بكر من إنّ جبرائيل ( عليه السلام) نزل على النبي( صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد سَلْ أبا بكر هل هو عني راضٍ فإني عنه راض، وفي حق عمر أنه قال يوماً (لو لم أُبْعَث لبُعِثَ عمر بن الخطاب)، (وقال لو نزل العذاب ما نجى منه الا عمر)، وذكر لردّ الأول في حقّ الأول قوله تعالى [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ ، وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ…]، إلى آخره، فقال: كيف يخفى على الله رضى أبي بكر وسخطه؟ فيسأل عنه، وفي ردّ الثاني قوله تعالى [وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيينَ ميثَاقَهُمْ]، [وَإِذْ أَخَذَ اللهُ ميثَاقَ النَّبِيينَفخصّ النبوة بما لم يُشرِك، فكيف ينالها من أشرك في أكثر زمانه؟ وفي ردّ الثاني في حقّ الثاني بقوله تعالى [وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأنْتَ فيهِمْ وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ]، قال: فكيف لاينجو إلا عمر؟ وقال ( صلى الله عليه وآله وسلم): ((كثَرت عليَّ الكذّابة، وستكثر فإذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله وسنتي…)) إلى أن قال ما مضمونه: (فما وافق فاعملوا عليه وما خالف فاتركوه)، واحتجاج الرضا ( عليه السلام) على ابن الكَوّا في عدم جواز نكاح المسلم النصرانية، بقوله تعالى [وَلا تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ]، فاعترضه ابن  الكَوّا، في قوله تعالى [وَالمُحْصَنَاتِ مِنَ الَّذينَ أُوتُوا الكِتَاب]، فقال: هي منسوخة، واحتجاج أبي جعفر الباقر ( عليه السلام) حيث ذكر أن صلاة السفر ركعتان فاعترضه زرارة ومحمد بن مسلم، بأن الله لم يقل افعلوا، فأجابهما بالمعارضة بقوله تعالى [فَلاجُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا]، واحتجاج الصادق( عليه السلام) على مولى آل بسام حيث سأله أنه قلع ظفره ووضع عليه مرارة، بقوله: هذا يعرف من كتاب الله [وَمَاجَعَلَ  عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ] ، والاحتجاج منهم ( عليه السلام) على من جلس على الخلاء وصغى إلى الملاهي بقوله تعالى [إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ…] إلى آخره، ومن تتبع كلمات الصحابة في احتجاجهم، كاحتجاج ابن عباس على أبن الكَوّا واصحابه حيث بعثه أمير المؤمنين( عليه السلام) إليهم فأنكروه عليه حُسْنَ ثيابه بقوله تعالى [مَنْ حَرَّمَ زِيْنَةَ اللهِ]، وقوله [خُذُوا زِيْنَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ]، واحتجاج أُبَيُّ بن كعب على الصحابة في تفرقهم عن أمير المؤمنين ( عليه السلام) بقوله تعالى [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البَيِّنَاتِ]، واحتجاج سلمان على عمر لما أمَّرَه على المدائن وكلفه ألاّ يسامح من قبله ظانّاً بهم السوء بقوله تعالى [يَاأَيْهَا الَّذينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمْ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً]، لم يبقَ معه ريب ويدلل عليه ماجرت عليه سيرة العلماء والخطباء والوعّاظ خلفاً بعد سلف من الاحتجاج به على مطالبهم من دون نكير، ومن غير ذكر تفسير ومن سيرة العوام فضلاً عن العلماء فإنّهم لم يزالوا يتلون الآيات، ويخافون إذا قرأوا آيات الوعيد ويستعيذون عند قراءتها ويطمئنون بآيات الوعد ويطلبون من الله نيل مضامينها ويحتج بها بعضهم على بعض في مقام المخاصمة، ونقل في المشهور أن جماعة من فحول أهل اللسان المنكرين لنزول القرآن جهدوا في أن يعارضوه، فرجعوا إلى قومهم وأقرّوا بالعجز عن معارضته، وقدموا المحاربة بالسيوف والسهام على معارضة بعض ما فيه من الكلام حتى إن أعظمهم في العلم والجاه حاول معارضته في قوله تعالى  [وَلَكُمْ في القِصَاصِ حَيوةٌ]، فعارض بما بعث على الخجل وظهور قبح ما فعل من قوله: (القتل أنفى للقتل من الديّة)، فالمسألة شبه ضروريات الدين فضلاً عن المذهب. ثم القول بذلك يقتضي نفي معرفة اعجاز القرآن وبلاغته وفصاحته، لأن معظم مدارها على المعاني ولو توقفت على تفسير الأئمة ضاعت فائدة الإعجاز. ثم لا يبقى ثمرة لعدم إرسال رسول إلاّ بلسان قومه، ولا ثمرة لنزول القرآن في بيان الأحكام، لأن الحاجة إلى الامام ( عليه السلام) في تفسير كل آية منه يقتضي أخذ الحكم من الامام( عليه السلام)، ولو كان الحال كلّه لكان من أعظم ما يعيبه أرباب الملل على المسلمين، ويشنعون به غاية التشنيع، وان قرآنهم لا يفهم ولا ينتفع به، وأنه مخالف لجميع كتب الله فإنها مفهومة عند من نزلت بلسانهم وهم لا يفهمون منه شيئاً فتوجه خطابات القرآن إليهم كتوجه الخطاب بالعربي إلى الفارسي أو الرومي أو الهندي وبالعكس. ثم ان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتلو ما ينزل عليه من القرآن على رؤوس المنابر، وعلى عامة الناس من دون أن يفسر لهم. ثم لا يخفى إن الأئمة والعلماء خلفاً بعد سلف يعظون بآيات الله ويخوّفون ويُرَغّبون من دون بيان وتفسير وفي الأمر بتدبَّر القرآن وتكرير آياته حتى كأنه يرى من يخاطبه والبكاء عند قرائته وقول ما يناسب جواب المنادى عند النداء والاستعاذة في مقامها وطلب اللطف في مقامه وكلمة الإيمان في مكانها والجحود في مكانه والتَّفَال والاستخارة به وانتخاب آياته للقراءة والكتابة لما يناسب عليه من رزق وحفظ وصحّة ونحوها أو التخلص منه من خوف ومرض وفقر ونحوها وفهم الكفار معانيه وإلأ يردّ عليه وجواب المسلمين عنه إلى غير ذلك كفاية في إثبات بداهة ما ذكرناه، وقد خالف علم الإخباريين عملهم، فإنهم يعملون تلك الأعمال الموقوفة على فهم الأقوال، ولو أنصفوا لأقرّوا بذلك واعترفوا، ولقد أجتمعت مع أعظمهم فضيلة وجرى ذكر المسألة، فذكرت له بعد ذكر الأدلة مخالفة علمه عمله فسكت عن الجواب. ثم بعد قيام هذه الأدلة وغيرها، وقد اقتصرنا على بعض منها تقوم البداهة والضرورة، فلا يصغى إلى بعض شبهات أورَدُوها وأخبار رَوَوْها فإنها بعد ذلك لو دلّت على خلاف ما قلناه، فلا بد من إطراحها وتأويلها، منها عن أبي جعفر( عليه السلام) (ما ضرب أحد القرآن بعضه ببعض إلاّ كفر). ومنها قوله( عليه السلام) (ما علمتم فقولوا وما لم تعلموا فقولوا والله اعلم، إن الرجل لينزع بآية من القرآن فيَخُرُّ بها ما بين السماء والأرض). ومنها قوله ( عليه السلام) لقتادة فقيه أهل البصرة هل تفسر القرآن قال: نعم، فقال ( عليه السلام): (إنْ كنت تفسره بعلم فأنت أنت…) إلى أن قال: (ويحك يا قتادة إنما يعلم القرآن من خوطب به). وقوله( عليه السلام): (من أفتى الناس ولم يعرف الناسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك). وقوله( عليه السلام): (من فسّر القرآن برأيه فليتبؤ مقعده من النار). وقوله( عليه السلام) لجابر: (إن للقرآن بطنا وللبطن بطن وله ظهر وللظهر ظهر، ياجابر ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، ان الآية يكون أولها في شيء وآخرها في شيء، وهو كلام متصل متصرف على وجوه). وقولهم، في عدة أخبار في تفسير [مَن عنده علم الكتاب] إنه علي( عليه السلام) , وقول الصادق( عليه السلام) في جواب [مَن عنده]: (من قال الذي عنده علم من الكتاب أفضل أو الذي عنده علم من الكتاب، إن نسبة الذي عنده علم من الكتاب إلى الذي عنده علم الكتاب، كنسبة القطرة إلى البحر) وأمثال هذه. وقد ورد مثلها في حق الأخبار النبوية، بل مطلق الأخبار، وبعد التحقيق والنظر الدقيق يظهر من اكثرها إن التفسير غير مخصوص بالأئمة، ولو أفاده فقصارى ما يفيد اختصاص التفسير وهو انما يكون في الخفي، أو إن تفسير جميع آيات القرآن مخصوص بالأئمة ونحن قائلون بهما، والحق الحقيق بالاتباع الذي لا ينبغي وقوع البحث فيه والنزاع، وقد ورد في بعض الأخبار وما عليه المجتهدون(  رضي الله عنه ) من تقسيم آيات القرآن إلى محكمات ومتشابهات كما ذكر في صريح الآيات والروايات وإن القرآن ثلاثة أقسام منه ظاهر لايخفى تعرفه العرب بلسانهم، وقسم تعرفه العلماء وتحتاج العوام في فهمه إلى البيان، وقسم لا يُعرَف منه المراد إلاّ ببيان سادات العباد، ولعلّ

 

مثل ذلك جار في مطلق الكتب السماوية فانها لاتخلو من ظاهر وخفي ومحكم ومتشابه وعليه جرت طريقة المسلمين، فإن حقائق تفسير العبادات المجهولة والحروف في مبادئ السور مَوْكول إلى بيان الشرع وإيضاحه ومعرفة دقائق التراكيب، وما فيها من النكات والإشارات واللوازم والملزومات مَوكولة إلى أنظار العلماء وأفكار الفضلاء وباقي ما فيه وهو الأكثر يستوي فيه العلماء والعوام.

المطلب الرابع
في الأخبار النبوية

ولا ينبغي الشك في أنها كسائر الأخبار المروية عن الأئمة الأطهار، وكسائر الخطابات الواقعة من العبيد والسادات، وهي المرتبة الثانية بعد كتاب الله ولم تزل أئمتنا ( عليه السلام) بها يحتجون على المخالفين والمؤالفين، وكذا جميع العلماء السابقين واللاحقين، ولها رجحان على أخبار الأئمة بأنها أبعد عن التقيّة من كفار هذه الأمّة وإجماع المسلمين، بل ضرورة المذهب بل الدين دالة على ذلك، وفي أخبار عرض الأخبار الصادرة عن الأئمة الأطهار عليها كعرضها على القرآن أبْيَن شاهد على ما قلناه، وعلى ذلك استقر رأي المجتهدين ومذهب الإخبارية كما نقل في "الفوائد المدنية"، أن أخبار النبي( صلى الله عليه وآله وسلم) بمنزلة القرآن، مجملة ومتشابهة، لا حجّة فيها، ولا عمل عليها إلا بعد تفسير الأئمة( عليه السلام) لمثل ما ورد في القرآن من ذكر البطون والناسخ والمنسوخ ونحو ذلك، ما أدري متى حصل فيها الإجمال، وبطل بها الاستدلال في حياته( صلى الله عليه وآله وسلم)، أو بعد أن قبضه الله إليه، ومن العجب إنّ الذي يظهر من الروايات العمل باخبار الانبياء السابقين من غير تفسير لتضمنها الاحتجاج والأقوال والأفعال الصادرة عنهم من دونه، فكيف يقال بعدم حجية أخبار نبيّنا من غير تفسير! إنّا لله وإنّا اليه راجعون، لقد هدمت قواعد الإسلام، فعلى الإسلام السلام فوالله إنه يحق لليهود والنصارى والصابئين ان يستخفوا على هذا بالقرآن، وبشريعة سيد المرسلين، وان تدقّ طبولهم فَرَحَاً، وان يمشوا في أطراف الأرض مرحاً قائلين: لو كان المسلمون على حق لكان لهم كتاب يعرفون معناه ونبي  يعرفون من كلامه ما أسسه من الشرع وبناه، ولو كانوا على حق، لكان كلام نبيهم على نحو كلام الأنبياء، وكلام كتابهم على نحو الكتب المنزّلة من السماء، ويحق للمخالفين ان يطعنوا علينا بالخروج  عن ربقة المسلمين قائلين: بأن مذهبهم مبنى على إنكار ضروري الدين، وإن جميع ما استدلوا به على إمامة علي أمير المؤمنين واولاده الغرّ الميامين من الكتاب المنزّل وكلام النبي المرسل من المجمل عندهم حتى يُفسّر بأخبار واردة من الأئمة الإثني عشر، وفيه على دعواهم دَوْر ظاهر فلا ثبوت إلاّ من أدلة أخر فينقطع كلام الإخباريين معهم إذ لا دليل سواهما عندهم وتضعف حجة المجتهدين وتقوى شوكة المعاندين، وقد ضيقوا على أنفسهم فضاقت عليهم مدارك الأحكام وتعطلت عليهم شرائع الإسلام، فلا يجدون لأكثرها دليلاً شرعياً، ولو كانوا يعملون بما يعلمون لكن استقراء فتاواهم وأحكامهم يقتضي بخلاف ذلك والله أعلم .                                                                     

المطلب الخامس
في الأخبار المعمول عليها ظنية أو علمية

إن الأخبار المعمولة عليها في الأحكام الشرعية وضعياتها وتكليفياتها وموضوعاتها الشرعية هل هي بتمامها علمية الصدور أو منقسمة إلى قسمين علمية وظنية؟ وربما جرى الخلاف في موضوعاتها اللغوية هل هي بتمامها قطعية الدلالة؟ الإخباريون على الأول، وربما خالفوا البديهة فيه، والمجتهدون على الثاني، وتحقيق البحث يتوقف على بيان امور:ــ

أحَدُها: إن مبنى الخطابات اللغوية والعرفية من أي لغة كانت وأي عُرْف كان في فهم المراد منها على ما يُفهم منها من المعاني المدلولة لها بطريق علمي كان أو ظني وهو أكثر شيوعاً وأقل ما يُتفق العلم لقيام احتمال التخصيص والتقييد والإضمار والمجاز وخفاء القرائن ولا يخرج عن جُلِّها على المعاني الواقعية فيلزم الحكم بلزومها ويتبدل بتبديلها إلاّ أن يقع توافق على إنها إذا أُطلقت أُريد منها خلاف مدلولها فتكون من الأسباب أو العلامات ولا مدخل لها في الحقائق والمجازات ويكون حالها حال باقي العلامات، ويجري نحو ذلك في المراسلات والمكاتبات والوصايا والسجلات وما يقوم مقام الألفاظ من الإشارات ونصب العلامات، وعلى نحو ذلك جرت عادة السلاطين (أرباب السلطان) فإنهم إذا كان لهم خدام مماليك وأحرار ذكور وإناث جاز لهم أن يعلقوا تكاليفهم بجميع خدّامهم وبخصوص الأحرار والمماليك أو الذكور أو الإناث ويُجعل الموضوع ما بنى على التبدل، كخروجهم من دارهم أو بقائهم فيها، أو اقامتهم عشرة وعدمها ومداليل الفاظهم عليها العمل إلاّ مع جعلها أسبابا أو رموز، والإدراكات لا يتغير الحكم بتغيرها، لأن الإدراك مرآة علمه وظنه وشكّه ووهمّه سواء إلا إذا جعل  موضوعا وبنى عليه حكم ونص على ذلك فأنه يخرج عن الضابطة لجعله موضوعاً ويكون حاله كما إذا قال لغلمانه: إذا قلت: الله أكبر أو رفعت أو قلبت عمامتى فاقيلواقتلوا فلاناً والغفلة والنسيان والإجبار والعجز من الأعذار لا من تبديل الموضوع والعلم و الظن في الصدور أو الدلالة والشكّ والوهم والجهل  المركب في  ذلك سواء، والعقل يحسِّن ذلك ولا يقبّحه، لأن الأغراض والحكم لا تقف على حد وأقلها الاختبار ولا مانع من أن يقول السيد لعبده اذا جائك فلان عني بخبر فاعمل عليه، وإن لم يحصل لك  علم ولا سيما إذا خاف من المطلع بل لا مانع من أن يقول وإن علمت بكذبه.

ثانيها: إن حال الأحكام الشرعية كحال العرفية والعادية في بناء فهم موضوعاتها على الظهور من طريق علمي أو ظني في كتاب أو ضرورة أو إجماع أو متواتر لفظيين أو أخبار آحاد محفوفة أو لا. وليس خطاب الشرع إلاّ كغيره من الخطابات وعلى ذلك جرت خطابات الأنبياء والكتب المنزلة من السماء وسيرة الأئمة والعلماء وإلاّ لأُنسد باب  الاستدلال بأكثر الايات والروايات ولا فرق بين أن يكون منشأ الظنّ من داخل لعموم أو إطلاق أو ظهور حقيقة أو قرينة مصاحبة أو من خارج كتفسير مأخوذ من خبر ضعيف أو معنى للفظ مأخوذ من كلام بعض المعتمدين من أهل اللغة وإن لم يكونوا بوصف العدالة والوثاقة أو ترجيح من تخصيص أو مجازاً أو إضمار مثلاً أو بين متجانسين كتخصيصين أو مجازين أو إضمارين لأن المدار على ما يظهر من تتبع السيرة على الظهور من أي وجه كان، فإن أهل اللغات وأهل العرف بأقسامهم لا يختلفون في ذلك إلاّ فيما لا تصل إليه أذهانهم من بعض التراجيح ولسان الشارع جار على ألسنتهم، وما نزل رسول  إلاّ بلسان قومه وبناء الخطابات والمكاتبات والمراسلات والوصايا والسجلات على ذلك، وكثير من الإخباريين لم يفرقوا بين الموضوعات والأحكام في عدم اعتبار الظنّ، وهذا أيضاً من المقامات التي خالف علمهم عمَلهم إذ لا يخفى على المُتَتَبع أنهم لا ينفكون عن العمل بالظن في الموضوعات بل الأحكام، وفي هذا المقام وغيره من المقامات الكثيرة ينكرون على المجتهدين عملهم ويعملون عملهم.

ثالثها: إن كلمات الشرع وخطاباتة هي كلمات أهل اللغة والعرف وخطاباتهم، فكما إن الموالي مثلاً إذا حكموا على مواليهم فأوجبوا عليهم أشياء أو حرموها كان ذلك عامّاً لهم وواقعياً بالنسبه إليهم فمن  ترك شيئاً مما أوجبوه أو فعل شيئاً مما حرّموه كان تاركاً للواجب أو فاعلاً للحرام الواقعيين لكنهم بين أقسام لأن بينهم العامد المقصر المستحق للمؤاخذة فيؤخذ إلا مع العفو ومنهم المعذور لغفلة أو نسيان أو عجز أو إجبار أو لأنه بعد بذل الجهد فهم غير المراد فعمله طاعة لمولاه فاصاب الحكم الظاهري، وهؤلاء قد يعفى عنهم عن  البدل، وقد يراد  منهم كذلك وكانت أحكام الشرع محمولة على الحكم الواقعي الذي جاءت به الأنبياء ونزلت به الكتب من السماء ولا يتبدل بعد مضي وقت جواز النسخ، ولا يتغير بل يبقى ببقاء الموضوع ثم المتعلّق قد يكون لازماً أما عامّاً لجميع المكلفين أو خاصاً بصنف كالأحرار والذكور والاناث وقد يكون مفارقاً لتعلّقه بوصف مفارق من رقية اوحضر أو سفر أو كثرته أو معصيته فيه أو وطن أو إقامة  أو شكّ أو كثرته ونحو ذلك، ولا يفارق اللفظ العمل بمدلوله إلاّ إذا جعلها( صلى الله عليه وآله وسلم) سبباً أو علامة لغيره كما في الشيء والسهم والجزء والكثير والقديم في محالّها ونحوها وربما جعل  منه مسألة نكاح الأمَة، وجعل عتقها مهرها في تقديم النكاح وتأخيره والإدراك بأقسامه من علم وجهل مركب وظن من فقيه أو غيره وشكّ ووهم مرآة تكشف عن الواقع والخلل في المرآة لا تستدعى الخلل بالمرئي إلاّ مع قيام دليل على الاستثناء من القاعدة كجهل القَصْر والإتمام والجهر والإخفات إنْ جعلناه من الموضوع مع عدم ترتب العصيان لجعله عذراً أو معه وقد يجعله من الأسباب في إسقاط القضاء مع احتمال الوجهين، وبناء على ذلك يمكن جعل ظن الصدور في التكاليف موضوعا متعلقا للحكم، ولا مانع منه ولا استحالة، فيكون لكلّ ظانّ حكم نفسه لكن القول بذلك من غير نص مخرج من القاعدة لا وجه له، وطول الباع في الفقه يأباه.

نعم الظن ممن يعتبر ظنّه سبب لثبوت الحكم الظاهري، كالشكّ في الرباعية على وجه يصحّ، والشك في الخارج قبل الاستبراء ونحوهما، فإن الحكم الظاهري متمش فيهما مالم يعلم الحال فيعلم الحكم الواقعي، وأما العقود والإيقاعات وما في حكمهما فلا يرضى عاقل بتمشيته على العموم، لأن القول به تصويب لرأي الفقيه الواحد في آرائه والفقهاء المتعددين في آرائهم فيلزم اجتماع الحرية والوقف والملك والنسبة الرضاعية والنكاح والطلاق وخلافها والإسلام والإيمان والإباحة والطهارة ونحوها وخلافها ويترتب عليه ما يترتب القول بالتصويب مع نفي الحكم الواقعي بمعنى أنه ليس لله حكم إلاّ ما في قلوب الفقهاء أو إن الحكم الواقعي ينتفي بالنسبة إلى الفقيه ومقلديه. ومَن تتبع السيرة ونظر بعين البصيرة علم ان هناك حكمين، حكم ظاهري، قد لايطابق الواقعي ويترتب عليه الثواب والعقاب، وحكم واقعي، وهو مدلول الأدلة، فحكم الظن عن اجتهاد أو تقليد من دون تقصير كحكم الغفلة والنسيان والعجز والإجبار ونحوها، كما تقضي به القاعدة. وربما يقال بأنّ فيه زيادة إسقاط القضاء للزوم الحرج بدونه، وقد يقال بثبوت واقعيين ولا يأبى ذلك عقلٌ ولا نقل، وسيجىء لذلك تَتمّة بيان في مسألة الاجتهاد والتقليد.

 رابعها: إن الأدلة بحسب صدورها علمية وظنية، وهو الذي بنى عليه المحققون وأطبق عليه المجتهدون، وذهب الإخباريون إلى إن جميع  الأدلة قطعية الصدور، ولا فرق بحسبه بين آيات الكتاب ولا المتواتر والضرورتين اللفظية، وبين الأخبار الآحاد المودعة في الكتب المعتبرة، لأنها محفوفة بقرائن تفيد القطع، فجميع ما أودعه المحمّدون الثلاثة في الكتب الاربعة وغيرهم في باقي الكتب المعتبرة من اخبار تتعلق بالأحكام وغيرها محفوفة بقرائن القطع حتى صرّحوا بأنها حجّة في أصول عقائد الإسلام وفروعه، وزعموا إن المخطئ في الفروع معاقب كالمخطئ في الأصول، ولم يوافقهم على ذلك أحد سوى ما يظهر من بعض قدمائنا وينبغي فيه البناء على التأويل، لأنه لا يخفى عليه مع جلالة شأنه، إنه يلزم من ذلك الحكم بان جميع العلماء المتقدمين والمتأخرين مستحقون العقاب للقطع بحصول الخطأ منهم غير مرّة ولم يوافقهم على ذلك أحد سوى من توهموه موافقا لهم من المحمّدين الثلاثة، وليس كذلك، وأما السيد المرتضى وابن إدريس، فقد منعا العمل بالأخبار الظنية إن لم نؤوّل كلامهما، ولم يقولا بأن جميع الأخبار قطعية على إنه قد اعتذر عنهما بقرب عهدهما وتمكنهما من تحصيل القرائن والاستغناء بالإجماع والسيرة ونحو ذلك، وقد ادّعوا خلاف البديهة فإنه كيف يجوز للعقلاء حصول العلم بصدور جميع الروايات الواردة في الكتب المعتبرة لواحد من العلماء فضلاً عن جميعهم، مع إنّه مبني على مقدمات يُعلم الخلاف في كلّها أو جُلِّها، أولها معرفة المروي عنه إنه الإمام( عليه السلام) وربما اشتبه الراوي لكتابة تشبه كتابته‏ أو لوجود مشارك في اسمه أو لقبه أو كنيته ومع عدم ذلك لا بد من سلامة الروايات في جميع الطبقات عن الأئمة( عليه السلام) من مدّة تقرب من ألف ومئتي عام من خلل ينشأ من جهة الكتاب الذي أخذ منه الراوي بزعمه أنه كتاب شخص معتمد والواقع خلافه، أو إنه سالم من الغلط والواقع خلافه، أو إن الرواية حفظت من كتاب غير معتبر فنسي راويها وزعمها من معتبر أو من جهة المروي عنه لاشتراك  اسمه أو لقبه أو كنيته أو صنعته أو صفته أو نسبه أو مكانه حيث يعبر بها عنه، أو لاشتباهه في إسلامه، أو إيمانه، أو عدالته، أو ضبطه، أو نقده، أو لتجدد إسلامه، أو إيمانه، أو عدالته، وقد روى عنه قبلها فزعم إنه روى بعدها، أو في سند يقطع أو إرسال، أو وقف أو إضمار ونحوها، أو في الراوي لاحتمال روايته من خوف وتجويزه النقل بالمعنى، أو في متن الرواية لنقص فيها، أو تبديل وتغيير ونحو ذلك، فمتى وقع احتمال شيء من ذلك ولو على طريق الوهم في زمان من الأزمنة أو واحد من السلسلة اختل طريق القطع، ثم حصول العلم لهم لا يستلزم حصوله لنا ولو فرضنا تعدد الرواة في كل طبقة فضلاً عن كونهم في الأغلب واحداً بعد واحد ما استفدنا العلم إلاّ أنْ يبلغوا عدد التواتر أو تكون القرائن علمية في جميع الطبقات فهم في هذه المسألة ككثير من المسائل علمهم قد خالف عملهم، ولا محيص لهم عن العمل بالظن. وقول بعضهم بأن المراد بالعلم مظنّةٌ تطمئن النفس اليها، إن أراد الاطمئنان في الجملة، فهو قولنا، وإن أراد ما يدعى علماً عرفاً رجع إلى مذهب قومه وتخلص بعضهم بأن المراد في كلامهم بالعلم العلم العادي دون العقلي، مما لاينبغي الإصغاء إليه، لأن العادة قد قضت بخلافه, ثم لا فرق بين علم العادي وغيره عند العالم حين علمه، وأقوى ما استندوا اليه ما دلّ بزعمهم على بطلان الاجتهاد والعمل بالظن وهي أمور لا ينبغي أن يصغى إليها ولا يعوّل في أمر من الأمور عليها منها:

ما ذكره المحمّدون الثلاثة في اوائل كتبهم الأربعة، من إنهم
لا يوردون فيها إلاّ ما هو صحيح وحجة بينهم وبين الله تعالى، ويستفاد من بعض كلماتهم إنها تفيد العلم وفيه:

أولاً: إن حصول العلم على فرضه عند شخص لا يلزم منه ثبوته عند غيره على إن فيها ما يقطع بعدم العمل به مما يفيد التشبيه والتجسيم ونفي العصمة، وكثير من روايتهم مع الاختلاف فيها وظهور الاتحاد كما في مسألة خروج دم الحيض ونحوها تدل على اشتباه أحدهم، والتأويل البعيد غير سديد، على أنّه يردّ بعضهم أخبار بعض، بل الواحد منهم يرد بعض أخباره التي رواها، فلا بد من أن يقيّد بما يروونه للعمل، أو يأول وينزّل على إرادة الأول إلى العلم، أو على إنه كان ذلك البناء في الابتداء ثم حصل العدول عنه في الأثناء.

ومنها مادلّ من الآيات في كثير من المقامات بأنحاء من العبارات، ومن الروايات الداخلة في جملة المتواترات فلا دَوْر على منع العمل بالظن والتعويل عليه، ولو نظروا بعين الإنصاف لاعترفوا بأن العمل على ظاهرها  لايوافق طريقة المسلمين المؤالفين منهم والمخالفين، فإن اتباع الظن المنهي عنه عام للظن في الصدور والدلالة والأخذ بالقواعد المسلّمة وللقضاء والحكومات والتفرقة في غاية الضعف، وان خص بالأصول الدينية، أو قيّد بقيد التمكن من العلم، أو أُريد الأَوْل أليه، لأن العامل بالظن بل الشك للأَوْل إليه عامل عليه، فهو المراد، ثم المراد أنه بعد إن قامت البديهة على بطلان دعوى العلم دار الأمر بين القول بجواز العمل بالظن المستفاد من تلك الأخبار أو ترك العمل بها. ثم العلم والظن وباقي الإدراكات من الأمور الوجدانية فإن وجدت كانت بديهية لا تحتاج إلى دليل، وإلاّ لم يؤثر في وجودها الدليل، ولو جاء به جبرئيل، كيف يثبت جوع الشبعان وريِّ الضمآن بإقامة البرهان، فلا ينبغي البحث إلا في الإمكان وعدم الإمكان.

ومنها إن العمل بالظنّ قبيح عقلاً، فيكون قبيح شرعاً. وفيه مع كونه جارٍ على غير مذهبهم، ان القبح لو تم لجرى في الدلالة والصدور وفي جميع الأمور، وبطلان الفرق في غاية الظهور على إن القبح فيه إنما يعقل فيه مع عدم الأول إلى العلم، وقد بيّنا سابقاً أنه لا ينكر العقل والعقلاء على عبد أمره مولاه بأن يعمل على رواية فلان عنه صدق أو كذب أو على مايظنه وافق الواقع أو خالف لبعض الأغراض ومن جملتها الاختبار، فعمل بما أمر، ولا ينكر على المولى كيف أمره، والقول بقبح العمل بالظن عقلاً على الإطلاق كالقول بوجوبه كذلك ظاهر البطلان، بل الظاهر أن العمل بالظن مع الإذن أدلّ على العبودية من العمل بالعلم. ثم لو كان ما ذكروه من القبح حقّاً لزم ترك العمل بتلك الروايات، لقيام البديهة على عدم إفادتها العلم، ولا ينقلها القبح عن الظنية إلى العلميّة.

ومنها أن العلم حجة باتفاق الفريقين, والظن لم يقم دليل على حجيته. وفيه أنه بعد قيام البديهة والضرورة، لا حاجة إلى طلب الدليل، فإن ثبوت حجيتها شاهد على اعتبار ظنيتّها، فالآيات والروايات والضرورة الدالة على حجيّتها دالّة على اعتبار المظنون منها.

ومنها إن لكلامهم نوراً، كما تواتر نقله في الجامعة، وعن الرضا( عليه السلام) إن لكلامنا حقيقة وعليه نور فما لا حقيقة له ولا نور عليه فذلك إلى الشيطان. وفيه إن ذلك النور إن كان ظاهراً في جميع الأخبار فكيف يخفى على اصحاب الأئمة؟ فيحتاجون إلى التثبّت والنقد والعرض على الكتاب والسنّة، ثم يقع الخلاف بينهم في التكذيب والتصديق، ولم تزل طريقة العلماء على ذلك قبل جمع الأخبار في الكتب عندهم وبعده أيضاً عندنا فلعلَّ ذلك النور إنما ظهر بعد جمع الأخبار لا قبل، وللإخباريين لا لغيرهم ثم لو ذكرنا بعض الروايات من غير سند لِمَن لم يعثر عليها منهم خصوصاً مثل روايات عمّار لم يهتدوا إلى كونها من كلامهم بديهة ولا ريب في إن المراد منها خصوص بعض الكلمات، أو في خصوص بعض المقامات.

ومنها إن الروايات قد عرض كثير منها على الأئمة وكذا الكتب. وفيه إن هذا العرض كان في البعض ثم ثبوته بطريق الآحاد فهو أولُّ المسألة.

ومنها إن الأصحاب قد نقدوا الأخبار وهذّبوها. وفيه إن ذلك لو كان عامّا إنما صدر من الواحد بعد الواحد. ثم لا يعلم إن ذلك النقد هل كان لإخراج ما يعلم كذبه أو يظن؟ أو لِما لا يُعلم صدقه ولا نعلم العمومية فيه؟ وعلم الناقد لا يفيدنا العلم على إن الانتقاد إذا كان متقدما من الأصحاب وصادراً منهم خلفاً بعد سلف كيف لم يَعّول اللاحق منهم على نقد السابق حتى بقي النقد إلى زمان المحمّدين الثلاثة عندنا وعندهم، وعندنا إلى الآن فأيّ حاجة إلى النقد الجديد، وكيف كان نقد المحمّدين ونحوهم اتحد الناقد أو تعدد موجِباً لعلمنا يكون نقد كل متقدم موجباً لعلم المتأخّر، اللهم إلاّ أن يكون نقد المحمّدين جاء به جبرئيل من ربِّ العالمين، ولو كان نقد كل واحد من المُحمّدين مفيداً للعلم، فَلِمَ ينقد بعضهم ما نقده الآخر ويردّه. وأما الرواة فقد كان ينكر بعضهم رواية بعض.

ومنها إنها تفيد العلم لعرضها على عمومات الكتاب ومطلقاته وعمومات السنّة ومطلقاتها وموافقة القواعد الشرعية. وفيه إنه إنْ أُريد بذلك الأَوْل إلى العلم صحَّ وهو رأي المجتهدين، وإن أُريد حصول العلم على الحقيقة فلا وجه له وإنكاره مكابرة.

ومنها ما تواتر في الأخبارمن أنّ (حلال محمد( صلى الله عليه وآله وسلم) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)، والآبديّة منافية لجواز العمل بالأدلة الظنية، لأن الظن مما يتبدل ويتغير. وفيه إنه لو بُني على إن الحكم لاينقسم إلى ظاهري وواقعي، وإن المراد بالحكم المستمر هو الواقعي وهو عام لحكم القضاة وما يترتب على الموضوعات وعلى القواعد الشرعيات، وذلك لا يوافق طريقة فيلزم الاختلال في طريقة المسلمين من غير فرق بين المجتهدين والإخباريين، لأن ثبوت وجوب العمل بالظنّ في الجملة مما اتفق عليه الفريقان ولم ينكره أحد من أهل الإيمان ولا يوافق مذهباً سوى مذهب التصويب على إن الظاهر عدم الانطباق عليه بل فيه دلالة على بطلانه، لأن المعنى بالدوام على الظاهر إنما هو الحكم العام، لأن المتبادر من الحلال والحرام هو المكلف به على الوجه العام، وهم لايقولون به، ثم الظاهر من الأخبار إرادة نفي النسخ وعدم ظهور حكم واقعي جديد وهذا لا ينكره أحد فلا بدّ من البناء على التقييد.

ومنها ما ذكره بعض من أدخل نفسه في زمرة الإخباريين وهم براء منه كالمجتهدين لإبداعه في الدين وطعنه ولعنه لأعاظم المشيّدين لمذهب الأئمة الطاهرين(F) بعد أنْ ذكر ما يدل على إن حلال محمد( صلى الله عليه وآله وسلم) وحرامه أبديان، من الاستدلال بشكل من الأشكال لا يخفى عقمه على الجهّال والأطفال، حيث قال كل حكم اجتهادى قابل للتغيير وكل حكم قابل للتغيير مخالف للشريعة الإسلامية الآبدية فينتج كل حكم اجتهادي مخالف للشريعة الإسلامية وهذا القسم من الاشكال مما تهزء به الأطفال، لأنّـا بعد أن بيّنّا إن هناك حكمين ظاهريّ وواقعي، وأن البديهة قائمة عليهما، وأنه لم يزل من غير شعور يرجع إليهما، كان المنع على الصغرى أو الكبرى، لاختلاف الحكم باختلاف الجهة. ثم رجوعه عن الأحكام ورجوع جميع الإخباريين مما لا ينكره سوى المعاندين وإذا كان البناء على هذه المغالطات والمزخرفات، فلنقل إنّ دين محمد( صلى الله عليه وآله وسلم) منقسم إلى القسمين بالضرورة، ودين الإخباريين على حسب ما يدعون قسم واحد فيلزم من هذا إن دين الإخبارية خارج عن دين محمد( صلى الله عليه وآله وسلم)، وما أشبه هذا الشكل بأشكال كنّا نمتحن بها الأطفال حال صغرنا فنقول، من قال بربوبية فرعون، قال بجسميّته، ومن قال بجسميّته محق. ومثل من قال بنبوة مسيلمة الكذاب قال بجسميّته، ومن قال بجسميّته محق. وبمثل من قال بخلافة فلان وفلان وفلان قال بجسميّتهم، ومن قال بجسميّتهم محق. ونحو ذلك وفساد ما ذكره لا يخفى عليه فضلاً عن غيره ولكنه أراد التلبيس والعمل بالمثل المشهور (اذا لم تستح فاصنع ماشئت) وكيف يخفى على جاهل فضلاً عن عاقل إنه كما إن الواقعي منه مستمر غير مقيّد منه ما هو مقيد بزمان كصلاة الفرائض الموقتات وصيام شهر رمضان أو بحال دون حال كصلاة الحضر والسفر وكثرته وأكل الميتة للمضطر وهكذا وهذا يتغير بتغيرها كذلك الحكم الظاهري قد يدوم كما إذا بقى المجتهد على اجتهاده حتى يموت وقد يتغير بتغير الحال كتغير الاجتهاد فإن أريد إن دين محمد( صلى الله عليه وآله وسلم) لا يتغير بتغير الأحوال فهو خلاف الضرورة وإن أريد إنه لا يتغير مع بقائها فهو حقّ في الواقعي والظاهري فالمراد إذن إن دين محمد( صلى الله عليه وآله وسلم) واقعيتة وظاهريتة لا يتبدل الدائم منه عن دوامه ولا المقيّد مع بقاء تقييده.

ومنها إن الشريعة السمحة السهلة لا تلائم وجوب العمل بالظن. وفيه إن سهولة الشريعة لا تجوز وجوب طلب العلم، مع عدم إمكانه لحصول الغيبة بَعْدَ بُعْد العهد عن الأئمة الأحد عشر، وحصول الغيبة الكبرى للأمام الثاني عشر(روحي له الفداء)، بل في أيام الأئمة السابقين بعد أمير المؤمنين( عليه السلام) لأنهم في حكم الغائبين(صلوات الله عليهم أجمعين). ثم أي حرج وضيق في ترتيب الأحكام على الظنون سيما إذا كانت ظنوناً مخصوصة. ثم إنّ الحرج اللازم على فرضه مترتب على حقيقة الظن وليس للإخباريين محيص عنه وهم قائمون به وقاعدون. نعم إن كان  مترتباً على الاسم فلكلامهم وجه.

ومنها إن جواز الأخذ بالظن يفضي إلى انبساط العذر لليهود والنصارى ونحوهم. وفيه إنه إن أُريد انبساط العذر في الفروع فلا مانع وإن أُريد في الأصول فلا معنى للّزوم. ثمَّ إنه لو كان القطع الكاذب عذراً لعُذِروا في أصول دينهم وفروعه فإن كان التعذيب مبنيّاً على عدم التقصير فلا عذر مطلقاً وإلاّ فالعذر ثابت في المقامين. ثم إن ذلك  وارد على المجتهدين  والإخباريين، لأن أحداً لا يخلو من العمل بالظن ولو في بعض  الأصول الفرعية على إنه لازم لأهل الأديان السالفة إذ لا يخلو مذهب منهم عن العمل بالقواعد الظنيّه وإلاّ تعطلت شريعتهم ثم إنكار العمل به اي فائدة فيه بعد علم جميع  العقلاء بأن المنكر لم يزل يعمل عليه ويسميه علماً.

ومنها إنه يلزم من جوازه إثارة الفتن والحروب وبه اعتذر العامة عن قدمائهم. وفيه إنه لازم للطرفين ومجرد الاسم لا يدفع ما ذكر على إن الفتن قامت من ادعائهم العلم أكثر مما قامت بادعاء الظن ثم قيامها عن الاجتهاد الباطل لا يقتضي قدحاً في الاجتهاد الحق كما إن الصادر عن اعتقادهم الباطل لا يصلح أن يُعتذَر عنه باعتقادنا الحق.

ومنها إن الظن مداركه غير منضبطة، وما كان كذلك لا يجوز العقل ان يجعل مدار التكليف عليه إلى يوم القيامة. وفيه مع كونه لا يوافق طريقتهم إنه لازم للطرفين والمدارك الظنية عند المجتهدين  منضبطة إذ لا يذهبون إلى جواز العمل بكل ظن. ثم مجرد اسم العلم لا يقضي بالانضباط.

ومنها إن الاجتهاد مبني على حصول الملكة وهي خفية فكيف يجعل عليها مدار التكاليف؟ وفيه إن أحكام  الشرع والعرف تتعلق في الملكات في جميع الصناعات، وفي مكارم الأخلاق، ولا خفاء فيها لدلالة الآثار عليها وإلاّ لم يتميز الكريم والشجاع والبليد ونحوها عن مقابلاتها. ثم إن جميع الأدلة الدالة على الرجوع إلى العلماء تقتضي اشتراط الملكة، وإلاّ لم يكونوا علماء، ولأن مجرد الحفظ تستوي فيه العلماء  والعوام ولا ينقسم به المكلفون إلى قسمين.

ومنها إنه لو جاز العمل بالظن وهو يستلزم جواز الخطأ لم تجب عصمة الإمام لأن وجوبها مبني على انه يجب على الله تعالى إيصال العباد إلى الأحكام الواقعية. وفيه أن ذلك لازم للجميع من العمل ببعض القواعد الظنيّة حتى في أيام النبي( صلى الله عليه وآله وسلم)، وأيام الأنبياء، وجعل الظن من الموضوعات ينافيه ما تواتر نقله عن الرواة من تخطئة بعضهم بعضاً، وتخطئة الإمام لهم، ثم إن دليل العصمة إنه من الواجب أن يكون لله أمين، لا يمكن أن يصدر عنه الخطأ أو الخطيئة، لأن أمين الله على تمام العالم في إقامة الحدود والأحكام والقيام باصلاح النظام بحيث تطمئن به النفوس لا يكون سوى الإمام المعصوم، ولابد من ظهوره بين الانام إلاّ أن يجب الخفاء لحكمة وهي غير خفية على أدنى العقلاء. ومن جملة ما كان واجباً عليه لو كان ظاهراً قادراً قَهْر الكفار على الإسلام، ودفع الفتن بين الأنام، ورفع ظلم الظالمين لولا معارضة حكمة رَبِّ العالمين، فيكفي في المقام إن الرجوع إلى الظنون من قبيل الاضطرار لعدم بسط كلمة الأئمة الأطهار(صلوات الله عليهم أجمعين)، فإنه في حال الظهور فضلاً عن الغيبة لا يمكن كثرة التردد اليهم في الأمور، حتى يحصل العلم بالأحكام، ويطلع على حقائق الحلال والحرام. ثم على ثبوت بطلان  التصويب في البيِّن وعدم احتساب الظن من الموضوعات يرِد البحث على الجانبين.

ومنها إنهم جعلوا عدم الدليل دليلاً وهذا يتم لو لم يكن لله في كل شيء حكم، وقد دلّت الأخبار على ذلك. وفيه إن ذلك لا ينافيه لأن الحكم التكليفي غير الواقعي، فالمراد إن عدم الدليل فيما كان على خلاف القاعدة دليل الحكم بالعدم ظاهراً لا واقعاً. ثم ذلك جارٍ في جميع الشرائع ومرجعه إلى مثل أصل البراءة والإباحة. ثم ذلك مبني على الحكم الظاهري.

ومنها إن اللطف واجب على الله تعالى، والتكليف بالعلم من اللطف والتكليف بالظن خلافه. وفيه إنه لا يجب على الله تعالى جميع أفراد اللطف، بل ما فيه رفع الفساد، ولو أوجبناه منعنا كون التكلف بالعلم لطفاً في زمان الغيبة أو التقيّة وعدم تيسّر التوصل إلى العلم، بل التكليف بالظن هو اللطف، وخلافه خلاف اللطف، وكون التكاليف والأحكام حسنها وقبحها لأسباب واقعية تقتضي التكليف الواقعي،
لا ينافي في معارضة الجهات والاعتبارات المقتضية للتكليف الظاهري، ويكون النفع والضرر دائريين مدارهُ. ثم إن هذا أيضاً بناء على عدم القول بالتصويب، وهو قول عجيب لا يرتضيه أحد من الطرفين لازم على الجانبين.

ومنها إن الاجتهاد أمر خفي فلا يجوز بناء الأحكام الشرعية عليه. وفيه إنه إن أُريد الخفاء على المجتهد فممنوع، وإنْ أُريد الخفاء على مقلديه، فلا مانع على رأي المجتهدين، لأن المقلّد عندهم لا يجب عليه النظر إلى الأدلة.

نعم يرد ذلك على الإخباريين لأنهم يوجبون عليه النظر إلى الأدلّة والبراهين على إن أسباب العلم أشد خفاء لا سيما على المقلّد، لأن حصول العلم له متعسر أو متعذر مع إن الاجتهاد في الحقيقة لازم على الطرفين ومنكره مخالف في الاسم دون الحكم، لأن مجرد العلم بالصدور لا يرفع الاحتياج إلى بذل الجهد في معرفة الموضوعات والقواعد الشرعيات والتعارض والترجيحات كما إن علم الصدور بالقرائن لا يرفع الاحتياج إلى بذل الجهد في تحصيل قوّة الظن من وجوه أخر.

ومنها إنه إذا كان قول المجتهد حجة في حياته فكيف لا يكون كذلك بعد وفاته مع إن موته لا يقتضي موت قوله ورأيه، وقد كانا على قولكم حجتين. والعوام محكوم عليهم بالرجوع اليهما فيستصحب الجميع. وفيه بعد الإغماض عن كونه مبنيّاً على حجيّة الاستصحاب المنكر عندهم، إن الاجتهاد من المناصب الشرعية الموقوفة على النصب، إذ لا حجيّة في الحقيقة إلاّ في قول المعصوم فيلزم النظر في دليله فإن عمّ عمّ وإن خصّ خصّ، والقاعدة تقضي أن لا يجب على أحد اتباع غيره ولا سماع قوله إلاّ بأمر من الله ورسوله، والضرورة والإجماع إنما قاما على تقليد الحي، والظاهر من طريقة  الإمامية ذلك لأنه لو كان تقليد الميت جائزاً عندهم لعرف رجوعهم إلى كلامهم واستغنوا عن الأحياء في كثير من أحكامهم، ولَجرى البحث فيما بينهم في تحقيق الفاضل والمفضول منهم، والأخبار الشاهدة على وجوب التقليد متضمنة للفظ الحكومة أو لفظ الرجوع، وكلاهما ظاهران في تقليد الحي فكما إن القضاء لا يقع من الميت، كان الإفتاء كذلك وكما إنه يقع على الغائب مع حياته، كان حكم المجتهدين على نحوه، وكما إن القضاة إذا تعددوا تخيّر الخصوم في الرجوع إلى من شاؤا منهم، كان حال المفتين مع المستفتين كذلك، وكما انهم لو قضوا على أحد ثم ماتوا بعد القضاء استمر قضائهم عليه كان المفتون كذلك، لاشتراكهما في الدخول تحت عنوان الرجوع والحكومة، ولا يصدق في ذلك عنوان الرجوع إلى الموتى، لأن ذلك من الرجوع إلى الأحياء، لأن تعلق الفعل بالعنوان مبني على التعلق به حين وجوده لا على استمراره والتمسك باستصحاب حجية القول والرأي لا وجه له لتغيّر الموضوع، وحجيّتهما حال حياته لا تستدعي ثبوتها بعد وفاته، لأن موضوع الحكومة والرجوع قد ارتفعا، وكذا الحال في نصب الحكام والأمراء. نعم ما كان محكوماً به حال الحجيّة يجب العمل عليه لدخوله تحت الأدلة، ولأن المراد الحاكم من حكمه عموم الأوقات على المحكوم عليه، وفي الحقيقة هي نيابة ووكالة لا رواية وبالموت تنفسخ النيابة والوكالة. نعم عدم الفرق يلزم على قول الإخباريين من جعل كون المفتي راوياً فحاله كحال الرواة عندهم وقد تبيّن مما سبق ضعف قولهم وحالهم فيه في هذا المقام كغيره من المقامات علمهم مخالف لعملهم.

ومنها إن المجتهدين قد يعملون بغير أقوال الأئمة من قياس ونحوه ويدعون العمل بكثير من الأخبار. وفيه إن الأمر بالعكس فان الإخبارية تركوا العمل بوصية الأئمة( عليه السلام) وتحذيرهم العام بجميع الأزمنة وجميع المكلفين من العمل بأخبارهم إلاّ مع العرض والنقد، لأن المغيرة وأبا الخطاب (لعنهما الله) دسّوا الأخبار الكاذبة في أخبارهم وأشتبه الأمر على الناس، ولأنه كثرت عليهم الكذابة، ولكل إمام رجل يكذب عليه كما أخبروا به، وقلدوا في النقد المحمّدين الثلاثة ونحوهم، وتركوا العمل بالإجماع الكاشف عن قول المعصوم كما بيناه، وبالأخبار الدالة على حجيّته المذكورة في بابه، وتركوا العمل بأخبار التقسيم للمكلفين إلى مفتين ومستفتين، وقد عملوا بالظن من حيث هو ظن، لعملهم بالأخبار الظنيّة المقطوع بظنيّتها بزعم أنها قطعية فهم عاملون بالظن من حيث هو ظن، والمجتهدون انما عملوا بها من حيث الأوْل إلى العلم، ولتعدّيهم في الأحكام الخاصة بالثياب أو الأواني أو بعض المايعات وغير ذلك، وليس هناك ضرورة والإجماع عندهم منكر، فليس لهم سوى القياس، والمجتهدون إنما عملوا بقول الإمام الذي قد دلّ عليه الإجماع.

ومنها إن مذهب الإخباريين أوفق بالاحتياط وهذا من الاشتباه الظاهر، فإن الآخذين بالاحتياط هم المتأملون المتدبرون فيما يصلهم من الأخبار ولا يعملون عليها إلاّ بعد أن ينقدوها نقد الدرهم والدينار ولا يسمعون كلام كل ناطق ولايصغون إلى كل ناعق، وهم المجتهدون الذين أشغلوا أنفسهم في الليل والنهار وصرفوا الأعمار بنقد الأخبار وعرضها على كتاب الله وسنّة النبي المختار ( صلى الله عليه وآله وسلم).

ومنها إنه لو جاز العمل بالظن لجاز بكل ظن.

ومنها إنه لو جاز العمل بالظن لجاز بالشك والوهم.

ومنها إن التكليف بالظن صفة نقص. والجواب عنها بل عن جميع ما مر واضح، وذكر هذه المغالطات بعد أن بيّنّا إن عدم استفادة العلم من أكثر الروايات من البديهيات مقتض لعدم اعتبارها، أو ترك العمل بالأخبار التي شهدت البديهة بظنيتها، وما كان ينبغي لنا التعرض لهذه الشبهة السخيفة، لكن أردنا أن لا يتوهم أحد أن دليلهم في الباب دليل معتمد أو دليل ردهم على المجتهدين يحقّ أن يطلق عليه اسم المستند، وما أشبههم في هذا المقام برجل كان عند بعض العلماء الأعلام فسأله عن اعراب جاء زيد، فقال، يحتمل إن جاء مبتدأ وزيد خبر أو جاء خبر مقدم وزيد مبتدأ مؤخر، ثم عدَّ أشياء من هذا القبيل وسكت فقال له: ويلك إذا كانت هذه أجوبتك فلا وجه لانقطاع كلامك ومثل ذلك ينبغي أن يقال لأهل هذه الإيرادات إذا كان بناؤكم على هذا النوع من

 

الإيرادات، فينبغي أن لا تزالوا تعترضون إلى يوم يبعثون ولهذا المقام تتمة يناسب ذكرها في مبحث الاجتهاد.

المطلب السادس
 في الإجماع

اعلم إن الحكم ليس إلاّ للملك الجبار، والقضاء ليس إلاّ للفاعل المختار، فالمدار على إرادته وكراهته ومن عداه من الحكام راوٍ عنه بواسطة أو بلا واسطة فحجيته أقواله تعالى لحكايتها عما أراد، وكذا حجيّة العقل وإن لم يكن معصوماً، وحجيّة أقوال النبي( صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة( عليه السلام) والضرورة الإسلامية والإيمانية وباقي ما يفيد القطع بقولهم وإرادتهم وكراهتهم إنما هي للكشف عن إرادتهم وكراهتم الملزومتين لإرادة الله وكراهته، فالكل رواة ومحدثون من الله، وقد تكون الرواية عن جبرئيل عن الله بموافقة الإرادة والكراهة تترتب الطاعة والامتثال، والانقياد، والعبودية، والخدمة، وأضدادها، وجميع ما دلّ عليهما والكشف عنهما بمنزلة المرآة. وهما بمنزلة المرئي وكذلك كل من له سلطان عرفي أو عادي فان مدار طاعة رعيّته ومماليكه وخدمه على العمل بمقتضى إرادته وكراهته، والتوصل إليهما يكون بأنحاء متعددة:ــ

منها طريق اللفظ وليس حجة في نفسه بل للكشف عن المراد.

ومنها التوصل بفعله وهو على نحوه.

ومنها طريق العقل فمتى علموا بمقتضى عقولهم إرادته وكراهته للزوم فوات مصلحة أو حصول مفسدة تعودان إليه أو إليهم لزيادة شفقته عليهم ولم يعملوا بمقتضى علمهم استحقوا المؤاخذة منه وآخذهم لو علم بعلمهم إلاّ أن يشملهم عفوه، وليس لهم أنْ يعتذروا بعدم صدور صيغة الأمر والنهي منه.

ومنها طريق الضرورة والبداهة الحاصلة من تتبع أحوال رعيته أو المقربين من غلمانه وخدّامه فمتى خالف واحد منهم واعتذر بعدم علمه أو بعدم ورود النص من مولاه لم يقبل عذره.

ومنها اتفاق جميع خواصه بحيث يفيد القطع بدخوله فيهم أو مطلق مايشمله كاتفاق أهل بلد أو مجلس وهو منهم من دون بلوغ حدّ الضرورة وهو مرتبة متقدمة على الضرورة، وهي مركة منه مع زيادة، فهو مقوّمها كما انه متقوّم بما يفيد الظن.

ومنها اتفاق بعض خواصه وبطانته مع إفادة القطع برأيه وقوله.

 ومنها سيرة أتباعه وطريقتهم المستمرة في أيامه.

ومنها رؤياه لبعض الأفعال الصادرة من أتباعه مرة أو مراراً بحيث يحصل القطع بأنه لو كرهها لنهاهم عنها إلى غير ذلك، فإذا علم أن الأحكام تابعة للإرادة والكراهة كانت الحجة في الأحكام  الشرعية كما ذكر في العرفية، فيما دلّ عليهما من قول أو فعل أو تقرير أو ضرورة دين أو مذهبٍ أو عقلٍ أو إجماعٍ ولا بحث فيما عدا الأخيرين في إمكان وجود أو علم أو وقوعهما أو ججيّة، وقد مضى الكلام في الأول منهما وبقي الكلام في الإجماع، ويراد به عندنا الاتفاق الكاشف عن رأي المعصوم أو عن قوله فقط في وجه فتقع فيه المعارضة واحتمال التقية على نحو الادلة القطعية الصدور الظنيّة الدلالة، ولا ينبغي الكلام في حجيّته لأنه من السنّة وحاله كحال الروايات المقطوع بصدورها من المعصومين( عليه السلام)، إذ إفراد المعصوم بالذكر والتخصيص بخصوص اللفظ دون ما يفيد الحكم من غيره لا ينبغي صدوره من عاقل، ومنكره منكر حجيّة قول المعصوم ويلزمه إنكار وجود الضرورتين، ولولا الاعتماد عليه والبناء على عدم الاقتصار على الكتاب والأخبار لضاق السبيل ولم يعرف من مسائل الفقه سوى القليل، فإن أكثر مواردها خاصة والتعدي عنها ليس من الضروري بالضروره، والقياس ليس من مذهبنا فلم يبق سوى الإجماع وعليه المدار ويفيد ذلك قول الإمام الكاظم( عليه السلام) للرشيد في حديث طويل (جميع أمور الأديان أربعة. أمرٌ لا اختلاف فيه وهو إجماع الأمّة على الضرورة التي يضطرون إليها، والأخبار المجمع عليها وهي الغاية المعروض عليها كل شبهة والمستنبط منها كل حادثة). وقول أمير المؤمنين( عليه السلام) لبعض القضاة (هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟ فقال: لا،… إلى أن قال والمفتي المحتاج إلى معاني القرآن وحقائق السنن والإشارات والآيات والإجماع والاطلاع على أصول ما أجمعوا عليه). وقول الحسن( عليه السلام) لمعاوية (إنما الناس ثلاثة… إلى أن قال ورجل أخذ بما لا يختلف فيه… إلى أن قال فنحن نرجوا أن يغفر الله له ويدخل الجنة). وروى بعض مشايخ الإخباريين في كتابه المسمى "بالنفحات" عمّن روى عنه (إن الله قد احتج على العباد بأمور ثلاثة: الكتاب، السنّة، وما أجمعوا عليه). وفي نهج البلاغة ما يفيد ذلك كقوله( صلى الله عليه وآله وسلم) ما مضمونه (إن الحق مع الجماعة وإنه يجب اتباع السواد الأعظم، وإن الشاذ من الإنسان للشيطان، كما إن الشّاذّة من الغنم للذئب ونحو ذلك). ويؤيد ذلك اعتماد المتقدمين عليه كالكليني حيث قال في مسألة توريث الجد والجدّة، قد رويت أخبار صحيحة إلا إن إجماع  العصابة على إن الجد بمنزلة الأخ، وقال بعد ذكر خبر آخر، وليس هذا مما يوافق إجماع العصابة، وعلي بن الحسن بن فضال بعد ذكر خبر رواه عن الإمام الكاظم ( عليه السلام) وقال (وهذا الخبر مما أجمعت العصابة على خلافه) والصدوق وغيره ذكروا في بعض الاحكام إنها من دين الإمامية، ولا شك إن غرضهم الاحتجاج بذلك ثم جرى على ذلك العلماء خلفاً بعد سلفٍ، وإنما لم يدونوه تدوين الأخبار لعدم حصره وانضباطه وهو قرينة من القرائن لأن مداره على حصول العلم وليس له حد محدود، كما إنهم لم يدونوا مسائل الضرورة الدينية والمذهبية والسيرة والتقرير وكذا الافعال إلاّ فيما قلّ وندر وإلاّ فلا استغناء عنه في زمن حضور ولا في زمن الغيبة وإمكان وجوده والعلم به ووقوعهما معلومة مما مرّ وكيف لا يستفيد العلم ببعض مذاهب أئمتنا ولا نهتدي إليها ولكلّ دين رئيس يرجع إليه أصحاب وأتباع وعلماء يعولون في احكامهم عليه يتوصل الناس من معرفة مذاهبهم إلى معرفة مراده من اليهود والنصارى وباقي فرق أهل الكتاب وغيرهم وأقسام مذاهب الأسلام من الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية وكذا أرباب العلوم من أهل العربية والتفسير والكلام وغيرهم فان لهم طريقة يعرفون بها إجماعهم ويروونه في كتبهم، فالجعفرية بحمد الله لهم طريقة معروفة وسيرة مألوفة يتوارثها صاغرهم عن كابرهم يرجعون فيها خلفاً عن سلفٍ إلى أئمتهم، ثم الضروريات يتقدمها غالباً أو دائماً الظن ثم يتبعه العلم بالنظر في أقوال العلماء حيث ينشأ منها، ثم تكون ضروريات فلم يبق في المقام كلام إلاّ فيما اختلفت فيه كلمات العلماء الاعلام من طريقة الاهتداء من قول العلماء إلى أقوال الأئمة الأمناء( عليه السلام) حيث ذكروا فيها طرق:ــ

أحدها الدلالة التضمينية: فهي قطعنا باتفاق جماعة وفيهم الإمام( عليه السلام) على وجه العموم كاتفاق علماء أهل الإسلام أو أهل الحق أو الخصوص كان يعرف اتفاق أهل المدينة ومن جملتهم الإمام( عليه السلام) أو قوم في محفل وأحدهم الإمام( عليه السلام) ونحو ذلك وكان فيهم مجهول النسب عُلم دخوله وهذا الطريق قليل الفائدة. أما في الأول فلأنه بعد معرفة أن الإمام( عليه السلام) أحد القائلين تمّت الحجّة. ولا اعتبار بأقوال غيره.

وأما في الثاني فلمثل ذلك ولقلّة وقوع مثله مع إن مثل ذلك في المقامين لا تظهر له ثمرة معتبرة في أيام غيبة صاحب الأمر(روحى له الفداء).

ثانيهما الدلالة الالتزامية: ولها طريقان: أحدهما إن اتفاق المجتهدين حجّة لا لنفسه كما يدعيه المخالفون بل لدلالته على موافقة قول المعصوم في زمن الحضور والغيبة مستندين إلى أمور:ــ

منها إن مقتضى الحكمة في وضع التكاليف وتعلق الخطابات بالأحكام الواقعية أن يكون هناك من يعمل بها غير المرشد لأن المرشد إنما عين لذلك. وإنه لو جاز عمومية الحكم الظاهري لكل مكلف في عمل من الأعمال وزمان من الأزمنة لجاز في الجميع، فيجب بمقتضى الحكمة إن علماء الإمامية إذا اتفقوا على خطأ أن يبعث الله من يباحثهم ويردّهم إلى الحق إما بظهور صاحب الأمر( عليه السلام) من غير ظهور أو إرسال غيره فيباحثهم أو يباحث أحدهم فيردّه فلا يحصل إجماع على خطأ، وفيه إن الحكمة لا توجب ذلك وأي مانع من أن يأخذ العلماء بخبر وَردَ للتقية فجهلوا حاله أو يشتركوا في العمل بروايات صحّحوها وليست بصحيحة، والحكمة كما قضت بجواز عمل البعض على  الحكم الظاهري لانقلاب مصلحتهم قد نقضي بجواز عمل الكل، والقبح لو تحقق لم يرتفع بأصابة الواحد والإثنين. ودعوى قضاء الحكمة بوجوب الظهور لردّ خطأ الواحد والإثنين إذا انحصر الاجتهاد بهم وعدم قضائها إذا خطأ الجميع مع كثرتهم سوى واحد ووجوبه إذا كان مجتهدان فمات المصيب في غاية البعد والحكمة في الغيبة والأخبار تدلّ على عدم الظهور مطلقاً.

ومنها دعوى الملازمة بين جوازه في حكم من الأحكام أو في وقت من الأوقات، وبين جوازه في الجميع في جميع الأوقات ولا يعرف لها وجه لأن ترتب القبح في الأشد لا يستلزمه في الأضعف وإلاّ فقد يقال بقبح ذلك إذا كثر المجتهدون وكان المخطيء أقل القليل بمثل تلك الحجّة، من أن ذلك قبيح إذا عمّ الأحكام والأوقات، فيكون كذلك إذا خص. ثم إنّا نعلم إن مذهب الإمامية تتجدد أولاً فأولاً، من الواحد بعد الواحد، مع العلم بمخالفة من تقدمه من أهل الطبقة السابقة عليه، مع إنّا لا نقطع ببطلانه لذلك. ثم لو صحّ ذلك لكان مضامين أكثر الروايات في الكتب المتداولة مقطوعاً بحكمها، للعلم بان ارباب العصر عاملون بها.

ومنها الأخبار الدالة على إنه لا يخلو الزمان من طائفة يهدون الناس ويردونهم عن خطأهم وضلالهم، وكذا بعض الآيات المفسرة بالروايات. وفيه إن الذي يظهر من الآيات والروايات نفي الخطأ عن جميع آحاد المكلفين على إن الظاهر منها إرادة الخطأ الذي لا يعذرون فيه. والخطأ الواقع من المجتهدين من غير تقصير دخوله في عنوان الحق أظهر منه في عنوان الباطل، فلا بد من تنزيلها على غيره كأن يُراد وجود من له أهلية ذلك وإنْ منعه الظالمون، أو يحكم بالتخصيص بالعقائد أو بعض الأحكام ويؤيد ذلك إن مثل ذلك ورد في حقّ زرارة، ومحمد بن مسلم، ونحوهما من الفضلاء ثم الظهور قبل الاتفاق لا يظهر من كلامهم، وبعد الاتفاق يستلزم تقدم الإجماع على الخطأ.

ومنها الإجماع الذي يظهر من السيّد والشيخ حيث قالا إنه طريقة أصحابنا وهو في محلّ المنع، لأن الظاهر من أكثر الفقهاء عدم القول به، وما كان هذا حاله لا ينبغي الركون اليه ثم البناء على ذلك قليل النفع لبُعد حصول القطع من جميع العلماء خصوصاً بعد انتشارهم وعدم دليل قاطع على المسألة في غير ما بلغ حد الضرورة الدينية، أو المذهبية، لأن من خرج عنهما خارج عن الدين ولم يبقَ محتسباً من المجمعين أو العقل الصريح، إذ لا يجوز خفاؤه على العقلاء.

الطريق الثاني من طريقي الالتزام وهو إذا علمنا اتفاق العلماء أو بعضهم على أمر ظاهر لو كان الحق في خلافه لظهر وبان ولم يخفَ على الرواة والعلماء الأعيان، فإذا رأينا الجميع أو البعض المعتمد به كَثُر أو قلَّ على رأي وأهتدينا منه إلى العلم برأي الإمام( عليه السلام) كان حجّةً بلا كلام. وهذا الطريق أسلم الطرق وأنفعها، وينبغي أن تُنزّل عليه إجماعاتهم المدّعاة أو المنقولة للعلم بأنهم لا يريدون في جميع ما ادّعوه ونقلوه اتفاق العلماء في عصرهم أو في عصرٍ ما أو في جميع الأعصار لأن ذلك لا يستقيم في أكثر المسائل التي ادعوا عليها الإجماع وقد ينادون بالخلاف في مقام دعواه، وعلى هذا فمرجعه إلى الكشف عن قول الأئمة الماضين، وظني إن إجماعات أهل العربية والحكماء والمتكلمين ونحوهم من هذا القبيل حتى لو سُئِل أحدهم إنك تقطع قطعاً، لا يدخلك فيه ريب إن جميع العلماء لا يشذّ منهم واحد قائلون بهذه المقالة لم يُنعِم في الجواب، فيكون غرضهم الاتفاق الباعث على حقيقة الدعوى، وبهذا يرتفع الاستبعاد في تحصيل الإجماع في زمان الغيبة، وهو أولى من تنزيله لذلك الاستبعاد على الشهرة، ويَهوْن بذلك اختلاف النَقَلَة أو الناقل الواحد في دعواه ودعوى عدمه ومخالفة كثير من الفقهاء ولكلّ عصرٍ عصره ولو بلغوا الشهرة، ولذلك ترى انسباق الذهن إلى الإجماع من غير خطور جميع الآحاد في البال ولا دليل لزوم الظهور، وهذا النحو وان لم يدخل تحت الإجماع بمصطلح  القدماء، لكن هوّن الخطب إنه لا فرق بين كثرة القائلين وقلّتهم عندنا، مع الكشف عن قول المعصومين، وفيه تعريض بالمخالفين في قولهم إن الحقّ مع المجمعين وإنه لا حاجة إلى ضمّ المعصوم في حجيته، إذ هو معصوم لأدلّة رووها، لا تفيد سوى ما عليه أصحابنا لأنهم قائلون بمضمونها لدخول المعصوم في المجمعين.

وأما الإخباريون فقد أنكروه غاية الإنكار، وربما توهم بعضهم نفي إمكانه أو وقوعه أو إمكان العلم به أو وقوعه أو حجيّته زعما منهم إن ذلك غير ممكن الحصول أو الحجيّة لاستبعاد ليس في محلِّه، خصوصاً على ما اخترناه في طريق التحصيل وقد خالف علمهم عملهم في ذلك كما في أكثر ما أنكروه من المسائل، فإنهم لم يزالوا يحدثون عن اتفاقهم واتفاق المجتهدين والشيعة والعامة وأهل العربية وغيرهم، وإن لم يسموه إجماعاً ولم يزالوا عاملين في أكثر المطالب الفقهية في تسرية الأحكام به ولو سألتهم عن بعض المسائل حكموا بمقتضى الإجماع فيها من حيث لا يشعرون.

 

وأما الإجماع المنقول بخبر الواحد فليس إنكاراً لا استناداً إليه من خصائصهم، بل الخلاف واقع فيه بين المجتهدين أيضاً، وإن كان المعروف بين قدمائهم والمتأخرين من محققيهم حجيّته كما يظهر من كلام بعض المحققين منهم، لأنه خبر كسائر الأخبار لا فرق بينه وبينها سوى ذكر الإمام مصرحاً أو مضمراً، ولا يترتب على ذلك شيء ينفي الحجيّة وعلى هذا يجري فيه ما يجري في الأخبار من التقسيم إلى صحيح وحسن وموثق وضعيف وقوي ومرسل ومتعدد الواسطة ومتحدها، وإن كان الأخير أكثر ومنجبر بالكتاب أو السنّة النبوية أو الشهرة في الفتوى أو الرواية، أو مخالفة العامة والأصحّية ونحو ذلك، والإيراد عليه يبعد حصوله أو تحصيله، فلا تحصل مظنّة بصدق المخبر به، وباختلاف نَقَلَته بل الناقل الواحد، وبكونه من أخبار الحدس كخبر الحكيم والمنجم والطبيب، وبعدم تعرض القدماء له وبعدم تدوينه كتدوين الأخبار، وبأن ناقله قد ينقل الخلاف معه، وباختلاف نَقَلَته في طريق تحصيله إلى غير ذلك، جوابه ظاهر وقد كشفناه في " كشف الغطاء" وقد اختصرنا الكلام، إذ الطول لا يناسب المقام.

المطلب السابع
فيما أدخلوه في القياس وليس منه

وقد نسبوا المجتهدين إلى العمل بالقياس مع إنهم (  رضي الله عنه ) أجمعوا على عدم جواز العمل به، وعرف ما بينهم إنه ليس من دين الإمامية حتى إنهم هجروا أقوال من صدرت منه بعض عبارات تؤذن بعمله به، والسبب في ذلك إنهم قاصرون عن الوصول إلى ما وصل إليه المجتهدون، حيث إنهم لا يفهمون سوى المناطيق، ولم يعلموا إن المدار في  فهم الخطابات في جميع اللغات على ما يفهم من العبارات، ومنها تصريحات وتعريضات وتلويحات ورموز وإشارات وتنبيهات، وما يفهم من جميع الكلمات في شرعيات في مخاطبات أو مكاتبات أو وصايا أو سجلات لأنهم لم يدققوا النظر به، ولم يعرفوا سوى ظاهر الخبر، ولم ينظروا في جملة الأخبار فيستفيدوا من مجموعها حكماً لم يكن مستفاداً من آحادها. فحال المجتهدين كحال خادم توجه إلى خدمة السلطان مع القرب منه والاطلاع على باطن أحواله، والعلم بكيفية خطاباته وضروب مقاصده وإراداته، فإذا تكثّرت منه الخطابات وُلد من مجموعها معاني خفيّات، وإنْ لم يُعلم من آحادها، حتى إنه ربما فهم شيئاً من المجموع لا يسعه بيانه، ولأجل ذلك قيل قد يتولد في ذهن المجتهد حكم لا يسعه بيانه وحال الإخباريين كحال خادم لا يدخل الدار وانما يسمع كلام السلطان من وراء الجدار فهو من الدثار، ولم يحط خُبْر بقرائن  الأحوال، فهذا لا يجوز له العمل إلاّ بعد الرجوع إلى من هو بمنزلة الشعار، وهؤلاء لمّا قَصُروا عن الوصول إلى ما وصل اليه العلماء الفحول، زعموا إنه لا طريق إلى الوصول إلى مراد الأئمة الهداة، سوى ظاهر العبادات، ونسبوا ما عدا ذلك إلى القياس، ومن جهة ذلك توصلوا مع شاذّ من أصحابنا إلى إنكار ما لا يمكن إنكاره، وأدخلوه في القياس كمنصوص العلّة مع إن جمع أهل اللغات العربية وغيرهم وأهل العُرف بأقسامهم يفهمون التعميم في حكم العلة وكتنقيح المناط مع إنّا نريد به ما يحصل به القطع في تسرية الحكم، فمن أنكره فقد أنكر حكم الشرع وردّ على الشارع ونحوهما طريق الأولوية مع إنها ثلاثة اقسام:ــ

 

منها ما تدخل في دلالة اللفظ كتحريم التأفيف، فحكمها كحكم سائر المداليل اللفظية.

ومنها ما يحصل القطع بالتعدية فيها، وهذه من قبيل المناط المنقح، إلاّ إن مَدْرَك الأول المساواة، والثاني الترجيح.

ومنها مايحصل الظن فيه بالتعدي، وفي هذا اختلف المجتهدون، فالمانعون جعلوا ذلك بحكم القياس أو منه لاقتصارهم في الظنون المعمول عليها على الظنون المنصوصة. والمجيزون استندوا إلى ما دلّ من بعض الأخبار على إن الأولوية الظنيّة حجّة شرعية، ولعلّه أقوى، وعلى أي تقدير فالبحث عن المدارك المتصورة ما وافق منها وما خالف من اللوازم للمستدل، حتى يعرف الموافق فيعمل على الوفق ويعرف المخالف فيجتنبه، وكذا في سائر المقامات، وإن المُثْبِت لحجيّة القياس كالنافي لحجيّة الأخبار، والجاهل كالجاهل بها، فيلزم البحث إمّا لإثبات الثابت، أو لنفي المنفي.

المطلب الثامن
في الاجتهاد والتقليد

لا يخفى على من تتبع الآثار وأمْعَن النظر في الأخبار، إن لأهل كل ملّة رؤساء يرجعون إليهم في الأحكام الشرعية، مما لا تدخل في الضرورتين أو في المعلوم مطلقاً في أحد الوجهين، كما إن أهل الحِرَفْ والصنايع كذلك، إذا أشكلت عليهم الأمور فإنهم حينئذٍ يرجعون إلى علمائهم بالصنعة وعرفائهم، فاليهود يرجعون إلى أحبارهم والنصارى إلى رهبانهم والمسلمون إلى علمائهم. وقد كان في زمان أئمتنا( عليه السلام) الزرارية واليونسية ونحوهم. وقد امروا (صلوات الله عليهم) بالرجوع إلى بعض أصحابهم كما أمروا بالرجوع إلى زرارة ويونس بن عبد الرحمن ويحيى بن زكريا ونحوهم. والظاهر إن المراد الرجوع في الفتوى دون الرواية، وليس الاجتهاد سوى استفراغ الوسع في تحصيل الظن وذلك لازم بديهةً بالنسبة الى الموضوعات وباقي المقدمات، وإن قلنا بعلمية الصدور. ثم إنه قد جرت سيرة جميع المتشرعين على إن الناس بين قسمين: علماء لا رجوع لهم إلى غير الأدلّه، وعوام يرجعون إلى العلماء. وورد إن العلماء ورثة الأنبياء ونوّاب الأئمة الأمناء، وإن من عرف شيئا من حلالهم وحرامهم جعلوه حاكماً. والرّادّ عليه رادّ على الله، وهو على حد الشرك، ومعلوم إن الحاكم غير المحكوم عليه، وقد جعلوا قضاة يرجع إليهم في القضاء لئلاّ يختل النظام وتضل العوام، وعدم  الرجوع في الفتوى أبْعث على عموم البلوى، فقد ورد في الحديث إنه لا يفتي الناس إلاّ من عرف الناسخ من المنسوخ، ولولا الحكم برجوع العوام للزم إمّا وجوب بلوغ درجة العلماء على جميع المكلفين، أو سقوط التكليف عنهم، إذ من المتعسر بل من المتعذر توصل العوام إلى معرفة المسائل بالشواهد والدلائل مع وجود الناسخ فيها والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبيّن والحقيقة والمجاز، وهكذا، وكذا مع تبدل اللسان بالنسبة إلى عرب هذا الزمان فضلاً عن باقي اللغات فلا يمكنهم معرفة الأدلّة على عربيتها إلاّ بعد معرفة اللغة والنحو والصرف والنكات البيانية، فإن بنات العرب في زمان صدور الخطاب أعرف بلسان الشرع من العلماء الماهرين في هذه الأيام. ولا بد من العلم بالأخبار وتعارضها وترجيحاتها ومقبولها ومردودها ومعرفة الكتاب والسنّة النبوية للعرض عليهما والشهرة  والقواعد للترجيح، كما ورد الأمر به في الروايات فمن أوجب الأخذ بالأدلة ومنع التقليد وجعل العلماء رواة يروون الأدلة للعوام ويبينون لهم كيفية الاستدلال ومقدمات الأدلة فقد أنكر ضرورة الدين، فضلاً عن المذهب، وادعى خلاف البديهة، ولا أظن أحداً من أهل الشرائع السابقة، فضلاً عن شريعتنا يدّعي وجوب تعليم العالم من سائله جميع ما تتوقف عليه المسألة من الأدلة، وكيفية الاستدلال، ومن أنكر ذلك فقد خالف علمه عمله، وكان إنكاره للاسم دون المسمّى، وللفظ دون المعنى، وكيف العمل بأخبار جُمعت في الكتب من دون إحاطة بها مع العلم بأنها ترد بعضها بعضاً، وإنما يعقل الخطاب بها على انفراد، ونظير ذلك حال السيد مع عبيده فإنه إن خاطبهم بخطاب على الانفراد عملوا عليه من دون ملاحظة خطاب آخر. وإن جميع خطاباته المتعارضة في كتاب وجب عليهم الفحص والبحث عن أحوال التعارض وأنكرها الإخباريون، فزعموا إن مرجع العلماء ومرجع العوام واحد، فيجب على العوام الرجوع إلى الكتاب والسنّة وأن يعملوا بالعلم دون الظن، ويكون الفقيه راوياً لهم فلزمهم على ذلك أن يجب عليهم ألاّ يعوّلوا على قول الفقهاء في حكم من الأحكام وإنما هم رواة لهم فنِسْبَتُهم إليهم كنسبة الرواة إليهم وأعظم ما استندوا إليه ما نقلناه عنهم في إثبات علمية الأخبار، فيلزم على الفقيه على رأيهم، أن يذكر الدليل إذا سُئِل وتفسيره ويذكر ما يتوقف عليه من المقدمات ومستند الدلالة، ويذكر المعارض ووجه الجمع إلى غير ذلك، فإذا سُئِل إمام الجماعة عن مسألة جزئية لزمه أن يأتي بالدليل ويذكر ما يتوقف عليه، فيشغل نفسه بمسألة واحدة جزئية لواحد ولا يلتفت إلى غيره، فإن بُنيَ كلامهم على ظاهره من إن حكم العوام والعلماء في الأخذ عن الدليل واحد كانوا مخالفين للمجتهدين ومنكرين لضروري الدين، وإلاّ فهم قائلون بالاجتهاد والتقليد من حيث لا يشعرون، وعلمهم مخالف لعملهم إلاّ أن يعود بحثهم إلى مجرد الاسم، وإني رأيت من مشايخهم من يطعن على المجتهدين بتسمية الاجتهاد والتقليد متمسكاً بأنه كيف تجوز هذه التسمية؟ مع عدم الإذن بذلك شرعاً، وأعظم ما أوقعهم في الشبهة ادعاؤهم إن الخطابات الشرعية عامة للعلماء وللعوام في زمن الحضور والغيبة، والحكيم إنما يخاطب بما يفهمه المخاطب، فكل مكلف يفهمه، وفيه مخالفة البديهة من وجوه:ــ

الأول: إن دعوى عمومية الخطاب للمعدومين والغائبين على وجه الحقيقة مع الضم إلى الموجودين وبدونه مما لا يرضى به العقل ولا يوافق أوضاع اللغة، وأما دعوى تعليق الخطاب مَجازاً أو وضع الخطاب عن مقتضى اللفظ، وإنما هو ظاهر في الموجودين الحاضرين في مجلس خطاب  النبي( صلى الله عليه وآله وسلم) والعموم من أدلّة خارجية، فالمدار على مصطلحهم دون غيرهم، ثم لو قلنا بعمومية الخطاب بالنسبة إلى الخطابات العامة كيف يمكن القول به بالنسبة إلى من لا يعرف لسان العرب، وفي مثل خطاب زرارة ومحمد بن مسلم ونحوهما وأكثر الروايات من هذا القبيل، ومن العجب إن بعضهم صرّح بأن هذه الخطابات المخصوصة من قبيل الأمثلة، فزرارة مثال وهكذا، فالخطاب لهم يعمّ الجميع، ثم نقول لو كان الخطاب عاماً فلا بد من تنزيله على مصطلح وقته، لأنه إنْ أُريد باللفظ معنى واحد فلا بد من تنزيله على ذلك المعنى وإنْ أُريد إن أهل كل وقت يحملونه على مصطلحهم لزِم بالنسبة إلى كلام العرب إن الكُر مختلف باختلاف معنى الرطل وباختلاف قدر الأشبار أو معناها، والفرسخ مختلف باختلاف قدر الذراع أو معناها، وكذا الزكاة والخمس وأكثر الأحكام، وكذا بالنسبة إلى باقي اللغات كالنون والسبيل، والريش والطعام والحليم ونحوها، ثم إنْ التزموا بذلك في حق جميع أهل اللغات، فقد كابروا الضرورة، وإنْ خصّوه فقد ثبت حكم التقليد في الجملة، ثم الخروج عن التقليد كيف يحصل؟ بإلقاء الفقيه عبارات لا يفهمها مَنْ أُلْقِي إليه، وإن قيل بلزوم الإفهام على وجه الاعتماد لزم التقليد على إن ذلك ممتنع كما لا يخفى على أولي الأفهام. ثم إنْ بُنيَ  الأمر على ما قالوه انحصر الناجون في العلماء وهلك باقي الناس جميعاً، بل يلزم من ذلك عدم نجاة العلماء لإغرائهم الناس بالجهل، فهؤلاء الجماعة إنْ لم نؤوّل كلامهم بأنهم يُورِدون ألفاظاً لا يريدون معانيها فليس لهم سوى الحمل على العناد والتعصب، ثم البليّة العظمى والمصيبة الكبرى إنهم يُلْبِسون على العوام قائلين بأنّا نعمل بأخبار أهل البيت( عليه السلام)، والمجتهدون لا يعملون بها، مع أنهم هم المخالفون لأخبار أهل البيت( عليه السلام) والتاركون للعمل بها، كما مرّ بيان ذلك في جميع المباحث السابقة ومن جملتها عدم  العمل بأخبار التحذير من الكذابة وما يظهر من أخبار العرض وأخبار حجيّة الإجماع وأخبار التقسيم إلى المفتين والمستفتين ونحو ذلك كما بيّنّاه وإنّ مِن أشكل الأمور الاهتداء إلى وجه يعذرون فيه، واحرّ قلباه وامصيبتاه واغوثاه من شماتة الأعداء المسلمين، ومن إنكار جميع اليهود والنصارى وأعداء الأئمة الطاهرين على الدين، إذا اطلعوا على هذه الأقاويل التي لم يتفوّه بمثلها أهل الشرائع جيلاً بعد جيل فقالوا إن علماء الإسلام مبنيّ دينهم على الأخذ بخلاف ما جرت عليه شرائع الأنبياء السابقين وادعوا ما تقتضي أبطال حكم ربّ العالمين بأنهم يعملون بما لا يعلمون ويقولون مالا يفعلون ولقد وجدتهم على ثلاثة أقسام: قسم وهم الأكثر، غلب عليهم الحسد وحبّ الجدال، فشغلوا أنفسهم بالقيل والقال وأحبوا أن تخفق خلفهم النعال ورأوا إن ذلك لا يُنال إلاّ بدعوى الاستقلال والطعن على العلماء والاعتزال لأنهم علموا أنهم لو كرروا الورود عليهم كانوا أقل وأذل من جميع من وصل إليهم، فراغوا عن طريقة المجتهدين لأنها لا تُنال مع مساعدة التوفيق، إلا بعد مضي برهة من السنين ومالوا إلى طريقة الإخباريين، وأدخلوا أنفسهم فيهم وليسوا منهم ولا من المجتهدين لأنهم رأوا انه يكفي في دعوى الفضيلة مع الدخول في حزبهم تلاوة مالا يفهمون من بعض أخبار الأئمة الطاهرين. وقسم غلب عليهم الجهل وقلّة العقل، فرأوا قوما يدّعون العمل بقول الأئمة، وأخبار سيّد الأمّة، فتبعوهم تبع البهيمة لراعيها والطفلة الصغيرة لمربيها وأعرضوا عن طريقة المجتهدين لأنهم لم يصلوا إلى مذاق العلماء المدققين، (حلواى تنتنابى تانخورى ندانى). وقسم من العلماء العاملين والفضلاء المقدسين بذلوا الجهد في الطلب ونالوا أعلى الرتب، وبذلوا جهدهم في طاعة الملك المعبود، وإن كانوا قد قصِروا عن نيل المطلوب والمقصود ومُلئت قلوبهم من حبّ الفقهاء والمجتهدين وأقرّوا بأنهم أساطين الدين، ونواب الأئمة الطاهرين( عليه السلام)، فأولئك عند الله معذورون وعلى ما بذلوا جهدهم في معرفة أخبار الأئمة مثابون مأجورون ولكنهم لمّا لم يكن لهم أصول يرجعون إليها ولا ضوابط شرعية يعولون عليها وكانوا عاملين على ظواهر الأخبار غير ناظرين إلى كثرة الكذابة على الأئمة الأطهار( عليه السلام)، صدرت منهم أحكام غريبة وأقوال منكرة عجيبة.

منها قولهم بنقص القرآن،مستندين إلى روايات تقضي البديهة بتأويلها أو طرحها، وفي بعضها نقص ثلث القرآن أو ربعه ونقص أربعين اسما في سورة تبت، منها أسماء جماعة من المنافقين، وفي ذلك منافاة لبديهة العقل لأنه لو كان ذلك مما أبرزه النبي( صلى الله عليه وآله وسلم) وقرأه على المسلمين وكتبوه، لافتضح المنافقون ولم يكن النبي( صلى الله عليه وآله وسلم) مأموراً إلاّ بالستر عليهم، ولقامت الحرب على ساق وكان في ابتداء الإسلام من الفتن ما كان في الختام. ثم لو كان حقّاً لتواتر نقله وعرفه جميع الخلق لأنهم كانوا يضبطون آياته وحروفه وكلماته تمام الضبط فكيف يغفلون عن مثل ذلك؟ ولَعُرف بين الكفار، وعدّوه من اعظم معايب الإسلام والمسلمين، ولكان القارئ لسورة من السور الناقصة مبعّضاً في الحقيقة ولكان القرآن غير محفوظ، وقد أخبر الله بحفظه، ولَعُرف بين الشيعة وعدّوه من أعظم الأدلة على خروج الأولين من الدين لأن النقص على تقدير ثبوته إنما هو منهم. ثم العجب كلّ العجب من قوم يزعمون إن الأخبار محفوظة على الألسن والكتب في مدّة ألف ومائتي سنة. وإنها لو حدث فيها نقص لظهر ويحكمون بنقص القرآن وخفائه في جميع الأزمان فلا بد من تنزيل تلك الأخبار إمّا على النقص من الكلمات المخلوقة قبل النزول إلى سماء الدنيا أو بعد النزول إليها قبل النزول إلى الأرض، أو على نقص المعنى في تفسيره، والذي يقوى في نظري القاصر التنزيل، على إن النقص بعد النزول إلى الأرض فيكون القرآن قسمين: قسم قرأه النبي( صلى الله عليه وآله وسلم) على الناس وكتبوه وظهر بينهم وقام به الإعجاز، وقسم أخفاه ولم يُظهر عليه أحد سوى أمير المؤمنين ( عليه السلام). ثم منه إلى باقي الأئمة الطاهرين( عليه السلام)، وهو الآن محفوظ عند صاحب الزمان(جعلت فداه).

ومنها قولهم بتحريم الجمع بين الفاطميتين مع التصريح بفساد عقد النكاح من بعضهم مع إن التحريم لو قيل به لا يستلزم لخبر أو خبرين شاذَّين مخالفَين للكتاب والسنّة النبوية. وجميع الأخبار الدالّة على جواز الجمع في العقد الدائم في خصوص أربع وفي غيره مطلقاً وكذا جميع أقوال الفقهاء، حيث حصروا المحرمات في النكاح ولم يتعرضوا له فيها، وما نسبه إلى بعض المحدثين من القول بذلك استنادا إلى ما ذكر في كتابه من إنه إنما يروي فيه ما هو حجّة بينهم وبين الله تعالى، فقد بيّنّا إن ذلك منقوض بما ذُكر من الأحاديث المتروكة العمل في كتابه، وإنه لا بد من تنزيل عباراته، وقد خالفوا جميع الأخبار الدالة على لزوم عرض الخبر على كتاب الله والسنّة النبوية وعلى ما أجمع عليه الإمامية فإن خالف فهو زخرف، وإذا التزموا بالعمل بكل خبر، وإنه يحكم على عمومات الكتاب والسنّة، ويخصصهما، لزم الحكم بذلك في جميع الأخبار صحيحها في مصطلح المتأخرين وضعيفها، لأن الكل قطعية عندهم، فيلزم العمل بأحاديث وجوب جبر المقصورة، والذكر عند طلوع الشمس وعند غروبها، وجميع الأذكار والدعوات في جميع الأوقات، وآدابها الواردة بصيغة الأمر، وأخبار تحريم كثير من الأوضاع في مقامات الآداب، وغيرها، وبأحاديث الوضوء بماء الورد ولزوم نقص شعبان، وتمام رمضان، وفساد الصوم بمطلق الكذب، والغيبة والسبّ، ونحوها ونوم النبي( صلى الله عليه وآله وسلم) عن غسل الجنابة مع إنه( صلى الله عليه وآله وسلم) كان لا ينام قلبه وطهارة طين المطر إلى ثلاثة أيام، والسهو من النبي( صلى الله عليه وآله وسلم) حتى في الصلاة ووجوب الكحل، وفرق الشعر، ونجاسة الحديد ونحوها. وقد روى يونس عن هشام بن الحكم إنه سمع الصادق( عليه السلام) يقول (لا تقبلوا علينا حديث إلا ما وافق القرآن والسنّة، أو تجدون منه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة فإن المغيرة بن سعيد (لعنه الله) دسَّ في كتب أبى أحاديث لم يُحدِّث بها أبى فاتقوا الله، ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا وسنّة نبينا). وذكر يونس إنه ورد العراق فوجد فيه بعض أصحاب أبي جعفر( عليه السلام) وكثيراً من أصحاب أبي عبد الله( عليه السلام) فأخذ كتبهم وعرضها على الرضا( عليه السلام) فأنكر منها أحاديث كثيرة أنْ تكون من أبي عبد الله( عليه السلام)، وقال (إن أبا الخطاب (لعنه الله) كذب على أبي عبد الله. وكذا أصحابه يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا هذا فلا تقبلوا علينا خلاف القرآن…) إلى آخره، ومن العجب إن بعض الإخباريين جعل ذلك حجّة، في إثبات صحّة الأخبار لدلالته على اعتناء الأصحاب بالتصحيح ولا وجه له لأنه لا يتم إلا بثبوت الاعتناء للجميع، وإرادة بلوغ العلم بالتصحيح، وعصمتهم، وما يقال من إنكم قد خصصتم الكتاب والسنّة بأخبار ظنيّة في كثير من المقامات كتحريم أم المفعول وبنته وأخته على الفاعل، وأمثال ذلك وما ذلك إلا من قلّة فهم قائله وعدم قابليته للفرق بين المقامات فإنّ مَن تتبع الأخبار ونظر فيما اشتملت عليه من التراجيح، علم إن الخبر إذا قوى الظن بصدقه لجهة من الجهات كعمل الأصحاب وتلقيه بالقبول وغير ذلك، عُمِل به وكان حجّة يخص به القرآن والسنّة ولا يُردّ لأجلهما، وإلا ضرب بالجدار كما يظهر من الأخبار المروية عن الأئمة الأطهار(صلوات الله عليهم) على إن مسألة الجمع مما تعمّ البلوى لكثرتها وكثرة وقوعها، فينبغي أن تكون أخبار ما بين الشيعة متواترة كأخبار المتعة بخلاف المسائل النادرة الوقوع، والمسألة واضحة البرهان غنيّة عن البيان.

ومنها عدم تجويزهم النظر إلى بدن بنت الزوجة المدخول بها، أو أم الزوجة نظراً إلى عمومات تحريم النظر بزعم إنه ليس في الأخبار ما يدل على ذلك، والإجماع والسيرة لا حجية فيهما، وكأنهم لم ينظروا في أخبار تغسيل الميت، فإنه سئل الصادق( عليه السلام) عن الرجل يموت، وليس عنده من يغسله إلا النساء قال (تغسله امرأته، وذات محرمه وتصب عليه النساء الماء صباً من فوق الثياب)، وعن زيد بن علي عن آبائه عن علي( عليه السلام) في حديث قال (إذا مات الرجل في السفر… إلى أن قال، وإذا كان معه نساء ذوات محرم يُورونّه ويصبُبْنَ الماء عليه صبّاً ويَمْسُسْنَ جسده، ولا يُمْسُسْنَ فرجه)، والمس أشد تحريما من النظر بديهة، وفي الباب عدة أخبار تدل على جواز تغسيل المحارم من وراء الثياب كما ورد في الزوجة والأم والأخت ومن اللوازم عادة ظهور شيء من البدن مع بقاء الثياب والظاهر إن المراد بها  ثياب الميت لا أن توضع عليه ثياب من خارج حتى يمكن أن ينزّل على إرادة الشمول، والمحرم لغةً وعرفاً من حرم نكاحه قال في القاموس: المحارم ما حرّم الله ثم قال: رحم محرم يحرم تزويجها.

ومنها إن افضل فضلائهم وأعلم علمائهم ذهب إلى  إن الغناء حلال في ذاته وإنما يحرم للعوارض كاتصاف اللعب والملاهي ونحوه إليه وهو مخالف للكتاب والسنّة والإجماع، بل ضرورة المذهب ومستنده بعض روايات شاذة معارضة بأقوى منها مخالفة للضرورة فيجب إطراحها أو تأويلها لذلك.

ومنها إن من أعظم فضلائهم من يرى إن الكتابة المستحبة على الأكفان لأموات الرجال والنساء ولمِن سُمّي بأي اسم كان كمحمد وعلي وعمران ونحوها من الأعلام كإسماعيل (يشهد أنْ لا إله إلا الله) معلّلاً بأن الرواية وردت بأن الصادق( عليه السلام) كتب على كفن ولده إسماعيل، (يشهد أنْ لا إله إلا الله) وفي الحقيقة قد تعدّى عن طريقته لأن الإمام( عليه السلام) كتب بيده الشريفة بقلمه الشريف بمداده الشريف بقرطاسه الشريف في كفن ولده المخصوص في المكان المخصوص في الزمان المخصوص، فكيف يتجاوز إلى غير ذلك؟.

ومنها إن من أجلّ علمائهم من أفتى لبعض الحكّام بتحليل مال رعاياه من الشيعة، مستنداً إلى إنهم لا يحسنون الصلاة، فحالهم كحال تاركها وتاركها كافر بنص الأخبار، ومال الكفار حلال وقد خالف الضرورة والبديهة في ذلك إذ لو كان له أثر في الشريعة لورد متواتراً من خاتم الأنبياء( صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأمناء( عليه السلام) ولنادت به الوعّاظ والخطباء لأنه أبلغ في الوعظ وأَدعى في المحافظة على شرائط الصلاة. نعم الأخبار منادية بأن من أقرّ بالشهادتين حرم دمه وماله، وبأن التارك للصلاة الغير المستحل للواجبات الضرورية لا يُحكم بكفره.

ومنها إن شخصا من أفضل فضلائهم ذهب إلى إن الإدغام في حرفين من كلمتين متماثلتين أو متقاربتين، والمدّ في حروف اللّين في جميع محالّه غير جائز، لخروجه عن المرسوم وطريقة قراءة الناس. وقد ورد في الأخبار اقرأوا كما يقرأ الناس وفي ذلك مخالفة الضرورة، ولقولهم( عليه السلام) نحن نقرأ بقراءة أُبَيّ وذكر هذا الفاضل، إن الأكل بغير الكفّ حرام، لأنّه بِدعة ولأن الإمام( عليه السلام) ألقى آلة التناول من يده وأكل بكفّه.

ومنها إن منهم من أوجب الذكر عند طلوع الشمس وعند غروبها وجبر المقصورة بثلاثين تسبيحة، والتحنّك والتردّي ونحوها لظاهر الأمر ولو كان كذلك لم ينجُ من الإمامية إلاّ القليل، وبلغ حدّ التواتر لتوفر الدواعي على نقله، ولأن مثل ذلك جارٍ في أكثر المندوبات الواردة بصيغة الأمر.

ومنها قولهم بأن نقل الموتى إلى المشاهد المشرفة حرام مستندين إلى ظاهر بعض أخبار ولم ينظروا إلى حديث اليماني ونقل عظام آدم( عليه السلام) ويعقوب( عليه السلام) مع البناء على المساواة إلاّ ما خرج بدليلٍ، لاستدلال الأئمة( عليه السلام) بأقوال الأنبياء السابقين وأفعالهم، ويكفي في ذلك ما دلّ على إن للمؤمن في مماته من الحرمة نحوها ما كان في حياته. وأي احترام أعظم من نقله إلى مشاهد ساداته ومن العجب إنهم لا ينكرون جواز النقل بل النبش إذا ظهر إن موضع دفنه محل العُذرات والقذارات أو يُخاف عليه من إخراج اليهود أو المخالفين له، وإحراقه وينكرون نقله لحفظه من عذاب القبر ونار جهنم، ويظهر من ذلك جواز النقل إلى غير المشاهد المشرفة من المقابر المشرفة ومطلق الأماكن المشرفة ومن مشهد إمام إلى أفضل منه، ومن مكان شريف إلى أشرف منه وجواز النبش وتقطيع الأعضاء إذا توقف النقل على ذلك، وما صدر عن بعض الجَهَلَة المنطبق عليه قول القائل، عدو المرء ما جهله، من الاستناد إلى ما دلّ على تحريم المُثْلَة بعد الإغماض عن الطعن في عموم دليله ظاهر البطلان لأن المُثْلَة المحرمة إنما يكون فيما لم يكن فيه صلاح الإنسان أو دفع فساده، وإلا لزم أن لا يجوز قطع أنف الملسوع أو أذنيه مثلاً لحصول أُكلة أو قرحة يخشى سرايتهما، فإن التمثيل بالحي أشد حرمة من التمثيل بالميت، ثم أي مُثلة وإهانة أعظم من إخراج عظام محمولة من أبعد مقام إلى مواضع لم يكن فيها قبر إمام، وخبر اليماني قاضٍ بكفاية وجود قبر الإمام ولو بعد سنين وأعوام، ويقضي صاحب الفهم والنظر الدقيق بلزوم التقطيع إذا توقف الدفن عليه، والطعن في مثل هذه الأشياء إمّا ناشئ من الجهل وتقليد بعض ظواهر عبارات الفقهاء، أو الحسد الذي لا يخلو منه كثير من العلماء، ولم يزل كامناً في الصدور حتى إذا رأوا فرصة برز منهم بعد الخفاء إلى الظهور، ثم صاحب المذهب لو أخطأ الصواب كان معذوراً مأجوراً عند ربِّ الأرباب. ثم في جريان سيرة الإمامية على ذلك وما نقل كثيراً من رؤيا أشخاص دفنوا جوار الأئمة فاتفق أن حفرت قبورهم فرأوا فيها غيرهم وبالعكس، وما نقل من الأطياف المقرونة بالمعاجز كفاية وهي كثيرة لا يمكن جمعها في كتاب ويؤيده ما اشتهر بين الإمامية من ثبوت الملائكة النقّالة ونقلوا في ذلك أنقالاً غريبة، منها ما نقل أنه رأى ذلك يقظة، ومنها ما كان في الرؤيا وهو كثير، ومن جملته أن عمةً لي كانت من صالحات النساء وعابداتِهُنَّ، ذكرت لوالدي إنها رأت نعشاً محمولاً من جهة البصرة ومعه خلق كثير لباسهم البياض فسألَتْهم لِمَن هذا النعش؟ فقالوا لها (لأغا محمد)، وقد كانت على الظاهر لا تعرف (أغا محمد) وكان (أغا محمد)، الكبير المشهور بالتقوى والصلاح والعلم حاجّاً في تلك السنّة وتوّجه من مكة على طريق البصرة فأرّخَ والدي المرحوم ليلة المنام، فلما رجع أصحابه أخبروا عن موته في تلك الليلة. ومنها ما اتفق في كربلاء من إنهم حفروا قبراً فوجدوا فيه رجلاً مؤمناً مات في بعض ممالك النصارى. ومنها إن رجلاً عشّاراً مات فدفن في أرض النجف ورجلاً مؤمناً دُفن في مقام يسمى الحطوة قريب البصرة، فاتفق إنه حُفر قبر العشّار فوجدوا فيه ذلك المؤمن ثم جاؤا إلى قبر موضع المؤمن فوجدوا فيه العشّار إلى غير ذلك والله اعلم.

ومنها ما نُقل عن بعضهم من نجاسة الحديد لبعض روايات يظهر منها ذلك معارضة بأقوى منها، وفي ذلك ما يقرب من إنكار ضرورة الدين فضلاً عن المذهب، فأنه لم يُعْهَد منهم(صلوات الله عليهم) غسل الرؤوس بعد الحلق والفواكه واللحم بعد القطع، ولا الأمر بذلك ولا بتطهير الحدادين ثيابهم إذا أصابها رطوبة، ولو كان الحال على ذلك لتواتر نقله ونادت به العلماء والوعاظ والخطباء، وكان أمره أشهر من أمر النجاسات العشرة لكثرة الاحتياج إليه وعدم الاستغناء عنه.

ومنها قول معظمهم بتطهير الخمر وسائر أنواع المسكرات من المائعات لبعض روايات أعرض عنها الأصحاب ويعارضها الإجماع والسيرة المألوفة والطريقة المعروفة ولقد رأيتُ في كتاب "دلائل الأحكام" إنه نقل لبعض شاهات الصفوية، إن فلاناً من فضلائهم الأعيان حكم بطهارة الخمر فأمر بدق الطبول وإظهار السرور قائلا باني كنت اجتنبه لنجاسته وقذارته لأني لم أزل أأكل الحرام، على إني أرجو إنه إذا طهر بعد ذلك يحكم بإباحته.

ومنها الحكم بطهارة اليهود والنصارى لظواهر بعض الأخبار، وربما تَسرّوا إلى باقي أقسام الكفّار تبعاً لقاعدة أصل الطهارة، المستفادة من ظواهر بعض الأخبار، وعملاً ببعض الأخبار، وقد خالفوا في ذلك الإجماع والسيرة الإمامية وظاهر الكتاب وكثيراً من الأخبار.

ومنها حُكم بعضهم بأن المتنجس لا ينجّس لاشتباه حصل له من بعض الروايات وقد خالف كثيراً من الأخبار لأنه لم ينتبه لها وخالف ضرورة المذهب بل الدِّين فإنه لا يخفى على النساء والأطفال الحكم بنجاسة ما يوضع في الأواني المتنجسة من المائعات بعد زوال عين النجاسة عنها ولو أكل أحدٌ أو شرب منه أنكر عامة الخلق عليه، وكذا اذا أصاب أحدٌ ثوباً متنجساً أو بدناً أو أرضاً متنجسة برطوبة ولم يتطهر من ذلك.

ومنها قول أكثر فضلائهم بعدم نجاسة الماء القليل بمجرد الملاقاة ولم يوافقهم من أصحابنا سوى نزر قليل عملاً ببعض أخبار معارضة بأقوى منها وبالكتاب والإجماع بل الضرورة.

ومنها قول أكثرهم بأن أولاد بنات هاشم كأولاد أولاده يستحقون الخمس ولم يوافقهم سوى نزر قليل من أصحابنا مستندين إلى إنهم أولاد واستدلوا عليه بضروب من الأدلة حاصلها، إن أولاد البنات أولاد وعليه إن الخمس حق الطائفة والقبيلة دون مطلق الذراري، وهي تتبع الآباء ولولا ذلك لكان بنو مروان وجميع بني أمية من أولاد البنات مستحقين للخمس.

ومنها قول أكثرهم بسقوط الخمس بعد ضعف قوة الشرع مستندين إلى أخبار التحليل وهي معارضة بأقوى منها وبالسيرة وعمل الشيعة.

ومنها قول أعظم فضلائهم وقد انتهت إليه الرئاسة في زمانه، من إنه لا يجوز الغُسل الترتيبي إلاّ بالأكف فلو اغتسل بإناء أو غيره بطل غُسله، لورود ذلك في الغُسل، وهذا مخالف للضرورة ومقتضى لبقاء المسلمين على الجنابة، وحرمة المكث في المساجد عليهم، وبطلان صلاتهم وصيامهم إذا اغتسلوا مرتين، لأن جلّهم أو كلّهم لا يغتسلون بأكفِهم ولو كان الأمر على ما قال لأمر به العلماء في محافلهم وأثبته الفقهاء في كتبهم، ونادت به الخطباء على منابرهم، وكان أكثر المسلمين من المتقدمين والمتأخرين على الجنابة باقين، وعلى الحضور في المساجد والصلاة جماعة للزوم اللبث مؤاخذين مع إن ما اعتمد عليه من الرواية الفعلية لا تعارض القوليات. ثم هي مخالفة لكتاب الله وسنّة نبيه، واتفاق المسلمين، بل ضرورة الدين ومعارضة بعضهم لنا في أمثال هذه المقامات، بأنّا قد نخصّ الكتاب بخبر الواحد الظني مردودة، بأن ذلك مشروطٌ بقوة الخبر لانجباره لشهرة في فتوى أو رواية أو سيرة  أو موافقة قواعد محكمة ونحو ذلك وقد مرَّ بيانه.

ومنها قول معظم فضلائهم بمعذورية الجاهل بالحكم وربما رتّبوا عليه عدم تكليف الكافر بالفروع وهو في غير المستثنى من قبيل إنكار الضروري وعمومات الخطابات، ومطلقاتها شاهدة به، ولولا ذلك لتُركت أكثر الأحكام وانهدمت أكثر قواعد الإسلام. نعم يقوى في النظر معذورية الجاهل الساذج الذي لم يخطر بباله الحكم إذ لولا ذلك للزم التكليف بالمحال.

ومنها قول أكثرهم بتحريم شرب التنباك المسمّى في لغة العرب المحرّفة تُتُناً، مستندين إلى وجوه عديدة لا وجه لوجه منها.

منها إنه لا نصّ على إباحته، وما كان كذلك فالبناء فيه أما على التحريم واقعاً، أو ظاهراً أو التوقف، وفيه ما مرّ من بطلان هذه القاعدة للأدلة القاطعة، والمعروف من منعهم الاقتصار على خصوص الشرب بالآلتين المخصوصتين المعدتين له المسماة إحداهما في اللغة العربية المحرّفة غرشة أو شربة أو كدرة والأخرى غليونا أو شطبا، وفي اللغة الفارسية الجديدة بغليان، وجميع ما أشبهها مما يكون له رأس يوضع فيه التنباك، ويوضع عليه النار متصل بمجوف من عصى أو ظرف آخر متصل طرفه بفم الشارب يجذب الدخان من ذلك الرأس بفمه فيدخل إلى جوفه فلو كان الدخان من غير التنباك من أي الأشياء كان من عذرة، أو غيرها من أعيان النجاسات أو غيرها من ضروب الخشب والنباتات مشروبا بتلك الآلة أو غيرها أو كان من التنباك، فاستعمل في غير تلك الآلة وما يشبهها، بأن يجعل وقوداً في تنور أو غيره أو يحرق على الأرض أو أدخل من غير طريق الفم أو منه بغير طريق الجذب أو به ولم يصل الجوف، فظاهرهم عدم البأس ولذلك لم يذكروا من المحرمات سواه، ويظهر منهم أيضاً إن استعمال التنباك وغيره من النباتات وغيرها من خشب أو ثمار ونحوها أكلاً وشمّاً وسعوطاً وقطوراً وبخورا ولطوخاً وإطلاءً ونحو ذلك لا بأس به، وإذا تأملت حالهم وجدتهم عاملين بأصل الإباحة في أكثر أحوالهم وأفعالهم حتى لو أتيت لهم بالاسم أو طالبتهم بدليل الحكم، رجعوا إلى إنكارهم. ولمّا شاع استعمال شرب التنباك بالنحو المعروف، وكثر فيه القيل والقال والنزاع والجدال، تنبهوا لما بنوا عليه من ذلك الأصل الذي لا أصل له ومن مثل ذلك ترى العجب العجيب، لأن البناء إن كان على طلب الدليل الخاص في الإباحة، فالدخاخين متساوية، والنباتات متساوية والأحوال متساوية في لزوم الحكم بالتحريم من غير فرق بين الأكل والشرب والسعوط والقطوع واللطوخ والشم والأدهان  وشرب الدخان من التنباك وغيره وسائر الانتفاعات، وإن كان العمل على عمومات الإباحة أو في خصوص النباتات، فما بال التنباك صار مغضوبا عليه من بينها؟ ومن تأمل في أحوال هؤلاء الجماعة ورأى كل واحد منهم تميمياً مرة وقيسياً أخرى ليس لهم حد يقفون عليه ولا ساحل ينتهون إليه وإنما كانوا كذلك لتجنبهم النهج القويم والصراط المستقيم، وإنكارهم الضروريات، وطعنهم على نواب الأئمة الهداة.

ومنها إنه مسكر فهو حرام وكون إسكاره إنما يترتب على كثيره لا على قليله، لا يدفع الحكم بتحريمه لما رُوِيَ من إن ما أسكر كثيره فقليله وكثيره حرام، وهذا خطأ بيِّن، وإنما نشأ من عدم الفرق بين المسكر في إسكاره والمضعف في إغمائه والفرق بينها أوضح من أن يُبيَّن لأن الإغماء إنما يكون بغلبة الضعف على النفس والغلبة على العقل تجئ بالتبع والمسكر يغلب على العقل أولاً وبالذات وربما بعث على قوة النفس كالخمر من العنب والنقيع من الزبيب والفضيخ من الرطب والجعة من الشعير والتبع من العسل، ونحوها واستنادهم في دعوى الإسكار إلى إنه قد يغلب على عقل شاربه حتى يخرج عن الشعور فيقع في النار ولا يحس بحرارتها حتى يحترق فيها، ويقع في الماء حتى يغرق فلا يحسّ بنفسه حتى تخرج روحه، ونحو ذلك وذكروا في كتبهم  المصنفة في التحريم كثيراً من هذه الأمور، وفيه إن ذلك لا يقتضي تحقيق وصف الإسكار بل هو أعم منه. والعام لا يدل على الخاص ثم إن ذلك إنما يحدث على من ترك الشرب زماناً طويلاً فيشرب منه شرباً فاحشاً، ويجذبه جذباً واحداً ولا يشربه شيئا فشيئاً فيغلب عليه لذلك، ولو أنه شربه تدريجيا كما يشربه أرباب السليقة لم يغلب عليه ولو استمر إلى سنة، كما إن الجائع إذا اشتد به الجوع، والعطشان إذا اشتد به  العطش فأفرطا بالأكل والشرب، وكان الجوف خالياً من الزاد والماء وقع منهما ذلك، ولذلك لا يكون غالباً إلاّ في الفقراء، وخصوصاً الأعراب كإفراطهم بالشرب عند وجدانه بعد طول فقدانه.

ومنها إنه من الإسراف لأنه من المضر بالمال والبدن، وهذا اعجب من سابقه إذ يلزم تحريم الحوامض بأسرها وجميع الأشياء الباعثة على الضعف من النباتات وغيرها والفواكه وغيرها إن كان المدار على حصول الضرر، ولو ضعيفاً أو في بعض الأوقات، أو من بعض الوجوه، وإن أُريد الضرر من جميع الوجوه، فذلك ليس جارياً في التنباك فإنه نافع من وجوه متعددة، وقد يجب لدفع البلغم والصفراء والرطوبات. نعم هو كغيره من الطعومات والمشروبات حرام على من يحصل له الضرر معتبر من جهة، كصاحب اليبوسة الشديدة وكذا ما عداه من المأكولات والمشروبات فإنها تجري فيها الأحكام الخمسة.

ومنها ما استدل به الإمام( عليه السلام) على بعض من جحد وجود الواجب، من قوله( عليه السلام) (إن كان كما قلنا وهو كما قلنا نجونا وهلكتم، وان كان كما قلتم وليس كما قلتم نجونا ونجوتم). وبهذا يؤيدون قاعدة أصل التوقف وفيه إن الكلام ليس مع التارك فيوجب عليه الفعل، بل مع المحرم الذي حرم ما أحل الله فهلك إن لم يكن من أهل النظر، أو كان منهم فقصر، ثم قد بيّنّا إن الآخذ بالدليل ناجٍ، وإن أخطأ فلا هلاك على من أخطأ في الفروع، وكلام الإمام( عليه السلام) مع الجاحد للأصول.

ومنها الاستناد إلى الأطياف التي رآها جماعة من الأتقياء ونقلوا انهم رأوا الأئمة الأمناء في المنام فمنعوهم عن شربه وبعضها مقرون بالمعجز، كما نقل (إنه رأى شخص في حرم الحسين( عليه السلام) قد قلب وجهه عن محله، ودار إلى غير مقره، فسُئِل عن ذلك فقال، رأيت الإمام( عليه السلام) فقال لي: لِمَ تشرب التنباك؟ فضربني بكفّه، وهذا أثر ضربته). وفيه إن الأحلام لا تكون شواهد للأحكام باتفاق علماء أهل الإسلام، وما ورد من قولهم( عليه السلام) (من رآنا فقد رآنا) ليس فيه دلالة إلاّ على رؤيا من رأى صورهم على ما هي عليه على إنه قد يقع الاشتباه في المنام في فهم الكلام، ثم إنها معارضة برؤيا شيخنا الفَتْوَني(S) عليه فقد نُقل أنه رأى الصاحب( عليه السلام) في مجلس وبيده قليان على نحو ما عند العجم يشرب به، فانتزعه من فمه الشريف وسلّمه إلى الشيخ. ورؤيا شيخنا المقدس الشيخ حسين الخمايسي فإنه  نقل لي إنه رأى نفسه في المنام داخلٌ الروضة الشريفة الحسينية، قال فبينما أنا واقف إذ رأيت سيّد الشهداء، قد خرج من الضريح المبارك فأوّل ما خطر في بالي أن أسأله عن شرب دخان التنباك هل هو حرام أو حلال؟ فسألته، فقال في الجواب حلال لكنّا لا نشربه.

ومنها حديثان لم يُنقلا في الكتب المعتبرة وإنما نُقلا في كتاب غير مشهور ولا معروف، ويظهر عليها آثار الوضع والتزوير، في أحدهما أنه يأتي قوم من أمتي يشربون الدخاخين وينفخونه في الهواء، وفي آخر وصف التنباك بأن له آذاناً كآذان الحمار، ثم صرح فيهما بالبراءة من الشاربين، ومن العجب إن شخصاً فاضلاً من الإخباريين صنف رسالة، وأكثر ما ذكر فيها من الأدلة، ما هو من قبيل إن فلاناً شربه فمات وفلاناً شربه فاحترق، ونحو ذلك، ولو أراد أحد مقابلته بمثل ذلك في جميع المأكولات والمشروبات كأن يقول إن فلاناً أكل فغصَّ فمات، وفلاناً شرب فشرق فمات، وفلاناً دخل الحمّام أو خرج منه أو جامع فمات، وهكذا القصر عن الإحصاء ولم يمكنه إلاّ ذِكْر قليل من تلك الأشياء. ورأيت في بعض حواشيه أشياء مضحكة منها إنه يورث البخر. ومنها إنه معرّب، تونا باك، وتأبى الإمامية مع نقدهم التام أن يأخذوا بمثل هذه المزخرفات في إثبات هذه الأحكام.

ومنها قول بعضهم بحرمة الترياق المجرد استنادا إلى ما ذكر في التنباك، نعم القول بحرمة الترياق الفاروق لدخول أجزاء الخمر فيها لغير المضطر إن صحّ ذلك لا محيص عنه.

ومنها قول بعضهم بحرمة قهوة البن، مستندين إلى إن حَبَّها يصير بالإحراق فَحْماً فيكون حراماً، وفيه إنه مع الاعتراف بصيرورتها فحماً لا تثبت حرمتها، لأن الحرمة إنما هي في الطين، وقال أفضلهم على الإطلاق إن قول النبي( صلى الله عليه وآله وسلم) (سيأتي زمان على أمتي يشربون القهوات)، ربما أريد به قهوة البن وإن كان اسم القهوة في اللغة موضوعاً للخمر، لأنها تشبهه بالوضع بالكؤوس والإدارة والاجتماع لها في المجالس ونحو ذلك، وهو عجيب فإن إطلاق القهوة على قهوة البن ليس من لغة العرب، ولا من لغة العجم، لأنها مستحدثة، والقهوة إنما هي الخمر، ولو أن الأحكام المتعلقة بالموضوعات يُراد بها المعاني الجديدة سمّيْنا العسل واللبن والسكر مثلا خمراً، وحرّمناها وسمّيْنا الخمر بأحد أسمائها فحللناها.

ومنها توقف بعضهم عن العمل بحكم قامت ضرورة العقل على ثبوته بحيث لا يخفى على النساء والأطفال، فإن عالماً من علمائهم وصالحاً من صلحائهم كان واقفاً على شاطئ الفرات فرأى امرأةً قد غرقت في الفرات وكان قادراً على الدخول إليها وإخراجها فلم يفعل، ولوم على ذلك فقال: إن مسّ بدن المرأة حرام ولم يحضرني حديث يدلّ على الإذن في خصوص هذا المقام فترك المرأة وهو ينظر إليها حتى قُضي عليها.

ومنها قولهم بوجوب الجهر حيث يؤتى بالذكر أو مطلقاً في الأخيرتين، مستندين إلى بعض أخبار لا دلالة فيها، ولو دلّت وجب تأويلها، أو طرحها لاستمرار عمل الشيعة على خلافها، وظهور اتفاق العلماء على عدم العمل بها.

ومنها قولهم بوجوب غسل الجمعة لبعض روايات يفيد ظاهرها ذلك، وهي معارضة بمثلها، ومع عدم المعارضة هي مخالفة لطريقة الشيعة، لأنه لو وجب لكان ظهوره فوق ظهور وجوب غسل الجنابة والحيض، لابتلاء جميع المكلفين به في كل جمعة، وغسل الجنابة لخصوص الأزواج، أو من عرض له عارض اتفاقي. وغسل الحيض من خواص بعض النساء فالحكم من القطعيات.

ومنها قولهم بوجوب زيارة سيد الشهداء( عليه السلام) لبعض أخبارها ظاهرها ذلك، وفيه إن ذلك على خلاف طريقة المسلمين فإن الواجب من السفر مقصور عندهم على الحجّ، ثم يلزم على كلامهم إن وجوبه أشد من وجوب الحج لعدم توقفه على الاستطاعة كما في الحج، لأنه بدني لا مالي ولو قيل بالمالية، لزم إلحاقه بالحقوق المالية، يخرج من التَرِكة مع الديون والزكاة والأخماس، ولو كانت واجبة لأُدخلت في الوصايا الواجبات، ولنادى بها الخطباء في غير محل التقية في جميع المقامات.

ومنها إنكارهم حرمة النبش فإني رأيت رجلاً من فضلائهم في النجف، فقال لي، ما الدليل على حرمة النبش، فلم يسعني أن أُجيب بإجماع أو سيرة أو ضرورة، فقلت في جوابه ما دل على وجوب الدفن.

ومنها إنكارهم على الفقهاء ركنية غير المنصوص عليه من الأركان الصلاتية. وفيه إن الركنية هي الأصل لفوات المركب بفوات بعض أجزائه، وإنما يطلب الدليل على عدمها.

ومنها إيجاب بعضهم وضع المئزر في الكفن فوق القميص استنادا إلى رواية فيها ظهور في ذلك، وفيه إن الظاهر من إطلاق المئزر وضعه تحت القميص، وإن سيرة المسلمين وطريقتهم على ذلك.

ومنها ادعائهم إنهم هم العالمون بالأخبار دون المجتهدين، وفيه إن الأمر بالعكس كما لا يخفى على المنصف، لأن العمل بالأخبار إنما يكون بالعمل بتمامها.

ومنها أخبار العرض والترجيحات الأُخر، وإيجاب العمل بما أراد الله من أي نحو فُهم.

ومنها تركهم العمل بأخبار كثرة الكذّابة، ولزوم النقد، وأعجب من ذلك إنهم زعموا أن طريقتهم أوفق بالاحتياط وهذا أعجب من السابق فإن العامل بالاحتياط الذي ينقد الأخبار نقد الدرهم والدينار، فيعرف غثّها وسمينها وصادقها وكاذبها كما أمروا به.

ومنها قول كثير من علمائهم بحرمة الدفن في غير اللحد بشق أو وضع سرداب و نحوه وهو مخالف لعمومات الأدلة وسيرة المسلمين.

ومنها قول بعضهم بأن التحنك وهو إدارة طرف العمامة تحت الحنك شرط في صحة الصلاة والعمدة في احتجاجهم، ما يظهر من عبارة الصدوق وهذا مما يخالف مذهب العلماء قديما وحديثا، حيث لم يذكره ذاكر من الشرائط ولإجماع المسلمين وسيرتهم وطريقتهم.

ومنها ما نقل عن بعض أجلاّئهم وأعيانهم من إيجاب أربع وخمسين غُسْلة في غسل الميت تتعلق بأعضائه، وهو مخالف لظاهر الأخبار وللضرورة والبديهة.

ومنها اعتمادهم على كل رواية حتى إن بعض فضلائهم رأى في بعض الكتب المهجورة الموضوعة لذكر ما يرويه القصاص من إن جزيرة في البحر تدعى الجزيرة الخضراء فيها دور لصاحب الزمان فيها عياله وأولاده فذهب في طلبها حتى وصل إلى مصر، فبلغه إنها جزيرة فيها طوائف من النصارى وكأنه لم ير الأخبار الدالة على عدم وقوع الرؤية من أحد بعد الغيبة الكبرى ولا تتبع كلمات العلماء الدالة على ذلك.

ومنها إنه روي لي بعض المعتمدين عن بعض فضلائهم إنه قال إذا وقفت على باب البلد فأقبل رجل أعرابي من الصحراء وقال، قال الصادق( عليه السلام) كذا، وجب العمل بروايته.

ومنها قول بعض فضلائهم بتحريم متعة العلوية استناداً إلى إعراض الإمام( عليه السلام) عمّن قال: أترضى ذلك لبناتك أو أخواتك، وقوله ( عليه السلام) (إنّا لا ننزي بِرْذَوناً على عتيق)، وقد علمت إنه لا دلالة في ذلك على إنه مخالف لظاهر الكتاب والسنّة النبوية وقول علماء الإمامية، إذ لم يعدّوا ذلك من المحرمات.

ومنها إن فاضلا من الفضلاء ممن يميل إلى طريقتهم ذهب إلى إن الماء لا ينجس بالتغيير بعين النجاسة في الصفات الأربعة معاً فضلاً عن واحدة منها مستنداً إلى إن الكتاب والسنّة دلّلا على طهارة ماء القليل، فلا بدّ من الجمع بينها وبين أخبار التنجيس بالتغيير، بحمل أخبار التغيير على الإحالة إليها، بحيث يخرج عن اسم الماء، وقد خالف الضرورة والإجماع والأخبار. وقد اجتمعت مع أعظم علمائهم في مكان فقال لي رأيت في رسالتك ورسالة سيد علي يعني جناب زبدة المجتهدين وأفضل العلماء العاملين مولانا ومقتدانا مير سيد علي(دام ظله)، إن مسَّ المحدث لاسم الله حرام، وليس عليه دليل، فقلتُ له إذا لم يكن على وجوب تعظيم المحترمات دليل، فما الدليل على عدم جواز تنجيس القرآن وإلقائه في القذارات فسكت، وكان غرضي رفع استبعاده وتعجبّه، إلى غير ذلك من الأقوال العجيبة والمزخرفات الغريبة التي لا يُتصور صدورها من جاهل فضلاً عن عاقل ولو رُمْت حصرها لأعيى القلم وأعقب السّأم، ومن جملة هفواتهم وبعض مزخرفاتهم طعنهم على العلماء في اعتنائهم بما عدا علم الحديث من العلوم علماً وتعليماً وتدويناً وإنه ليس في الروايات ما يفيد الأمر بذلك أو الإذن فيه ولا عُرف ذلك بين أصحاب الأئمة( عليه السلام) فوضْعها وتدوينها بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة سبيلها إلى النار، ثم بعضهم عمّ وبعضهم خصّ، وكشف حقيقة الحال لتندفع به غياهب الإشكال، أن نقول وعلى الله المعوّل والاعتماد والاتكال إن العلوم مشتَرِكة في أنها لا تحريم فيها من جهة ذاتها لأن العلم صفة كمال والجهل صفة نقص، ولذلك دخلت جميع العلوم تحت علم الله وعلم الأنبياء والأئمة(عليهم الصلاة والسلام)، ولم يَرِد في الأخبار شاهد على تحريم شيء منها، وجمعها وترتيبها وتعليمها وتدوينها وتسميتها إنما هي لذكرها بعد نسيانها، وجمعها بعد تشتتها، وضبطها بعد تفرقها، كجمع كتاب الله بعد تفرقه، وجمع الأحاديث بعد شتاتها، ولا يكون لها حكم غير حكمها إلاّ لأمرٍ خارج، إذ لا عيب من جهة القرطاس أو المداد أو القلم ونحوها.

ثم العلوم على قسمين:ــ

 أولها: ما حرمت غايته المترتبة عليه كعلم السحر والقيافة والكهانة والموسيقى وعلم القمار وعلم الشعبذة وعلم الضلال ونحوها والذي يظهر بعد التأمل في الأخبار، إن التحريم متعلقة العمل بها دون العلم فالتعليم والجمع والكتابة ونحوها إنْ كانت لغرض صحيح، كالحل والإبطال، والتوصل  إلى المعرفة، للنهي عن المنكر، وهكذا فلا بأس بها. ومع الخلو من الغرض، أو ملاحظة الغرض الفاسد، يجئ حكم التحريم كلما وكان الغرض منه صحيحاً وقصد به الغرض الفاسد كعلم النجوم للبناء على التأثير على نحو ما يقع من اللطيف الخبير حرام، وعليه تنزل الأخبار لمعارضتها بمثلها، ولأن كثيراً من أصحاب أئمتنا( عليه السلام) كانوا منجّمين ومعلوم أن الأئمة( عليه السلام) أقرّوهم على ذلك.

وثانيهما: ما لا تحرم غايته وهو على أقسام:ــ

أحدها، ما لا ربط له في معرفة الأحكام، لكنه يبعث على قوة الفكر، وجودة النظر، فيرتبط بالعلوم  الشرعية من هذه الجهة فيرجح إذ يُشترَط ألاّ تُبنى عليه قواعد الفقه، فان طريقة الفقهاء على الجادة الوسطى لا يتعمقون فيهبطون عن المقاصد، ولا يقولون على الظهور من غير تحقيق، فلا يصلون إليها وإني رأيت بعض المصنفين من الفضلاء بنى جواز وضوء المختضب وعدمه على مسألة جواز انتقال الأعراض مستقلة وعدمه، وربما توهم بعضهم بناءً على مسألة الاستصحاب على بقاء  الأكوان وعدمه، وهكذا، وترك تضييع العمر بهذا العلم، والبناء على الاشتغال بتحصيل علم الشرائع لعدم وفائه بالجميع أولى، ومن هذا القبيل النظر في الدواوين وإنشاد الشعر وحفظه، وهكذا حال كل عمل يخلّ بتحصيل العلوم الإلهية، ومعرفة الأحكام الشرعية.

ثانيها ماله ربط بكمالها ولا توقف لها عليه لارتباطه ببعض مسائلها كعلم الهيئة المرتبط بمعرفة القبلة وعلم الحساب المرتبط بضبط الوصايا والمواريث ونحوها ولا ريب في استحباب معرفتها وتدوينها وتعليمها وترتيبها، إلاّ لِتوقف معرفة الأحكام عليها. فإن متعلقها العمل دون العلم بل لتوقف صلاح الناس عليها.

ثالثها ما يتوقف عليها توقف لزوم لا توقف كمال فلا يكون الفقيه فقيها إلاّ بها وهو قسمان:

أحدهما ما تُغني القوة القدسية فيه والعقل السليم والظهور بين العقلاء عن الرجوع  إلى الكتب المصنفة فيها كعلم الميزان فإنه محتاج إليه في إثبات الأحكام شرعياتها وعادياتها وعرفياتها، لكن صاحب الذوق السليم يُدرك الأحكام وهي متوقفة عليه من دون نظر إليه، ولذلك ترى العوام من أهل الصحارى والبلدان من جميع الأصناف، من أهل جميع اللغات، مبني كلامهم في إثبات أحكامهم عليه وإن لم يكونوا سامعين به أو ناظرين إليه وعلم الكلام فإن موضوعه معرفة الشارع الموقوف عليها معرفة الشرائع، لكن لا يخفى على من تتبع السِيَر وتأمل ونظر في سيرة محمد( صلى الله عليه وآله وسلم) سيد البشر، وأولاده الأئمة الميامين الغرر( عليه السلام), إنه لا يجب التعمق في معرفة أصول الدين، ولا النظر  إلى كتب المتكلمين، كما جرت عليه عادة المسلمين حتى أنه ينبغي أنْ يُحتسَب من ضروريات الدين، فإن عقائد الإسلام لم تزل مقبولة من العوام الذين لم يسمعوا بعلم الكلام عند النبي( صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة( عليه السلام)، وكانوا يقبلون منهم كلمة الإسلام والإيمان ولا ينسبونهم  إلى كفر ولا عصيان، والاحتجاج بمثل قول بعضهم البعرة تدل على البعير وإن الدولاب أو المغزل لا يدور من غير مدير، من غير حاجة  إلى الاحتجاج بغيره، وما قيل من إنه لو اكتفى بهذا المقدار للزم معذورية الكفار، وكل من استحقّ الخلود في النار مردود بأن الله قد نصب دليلاً يفهمه أدنى المكلفين فكلّ من أخطأ به كان من المقصرين أو إن اللطف شمل المصيبين، وإنْ كانوا للمؤاخذة مستحقّين، وليس شمول اللطف المندوب واجباً على ربِّ العالمين. نعم الخوض في مباحث علم الكلام يزيد في البصيرة  في معرفة عقائد الإيمان والإسلام، لكن التعمق بالنظر في تلك القواعد  قد يبعث على حصول الاعتقاد الفاسد، وصاحب القوة القدسية المتسببة عن الألطاف الإلهية، غنيّ عن النظر إليه، غير محتاج  إلى الاعتماد في اعتقاده عليه، وما ورد في بعض الأخبار من ذمّ الكلام والمتكلمين إنما هو في حق المخرج عن الدين، والخارجين عنه، كيف لا وليس فيه جارياً على مذهبنا سوى التعرض للاعتقادات الموافقة  لما عليه الأئمة الهداة( عليه السلام). ولا شكّ إن البحث فيها من أعظم الطاعات اللهم إلا أنْ يكون تحريمه على الناس من جهة جمعه في الكتب المحتاج إليها في العلم في ضبطه، أو المِداد أو القرطاس ومن قبيل هذين العلمين علم المعاني والبيان، فإنها لا ريب  في توقف الفقاهة عليها، لكن صاحب الطبع السليم، والفهم المستقيم غنيّ عنها.

ثانيها مالا تغني القوة القدسية عن الرجوع إليه، والاعتماد في معرفة الأحكام الشرعية عليه، لكونه مبنيّاً على النقل والتوقيف، فلا يُعرف إلا بالتعليم والتعريف، وهو أقسام :ــ

أولها: علم اللغة، المتضمن لبيان معاني الألفاظ العربية. فإن ألفاظ الكتاب والسنّة لا تُعرف إلا بعد معرفته لاستحالة فهمها على من لم يكن من العرب، من فارسي أو تركي أو هندي أو غيرهم. وأمّا العرب فقد اختلّ لسانهم لمعاشرة العجم، وذهب منهم كثير من الألفاظ العربية، وما بقيَ منها أكثره تغيرت صورته، وتبدّلت حروفه فُهم بالنسبة  إلى لسان من كان موجوداً وقت الخطاب أعجامٌ لا أعراب، حتى إن أعلم العلماء في هذا الزمان لا يعرف ما كانت تعرفه النساء منهم والصبيان، فعلم اللغة تتوقف الفقاهة على معرفته، وإنما يتمّ حفظه وضبطه بجمعه وكتابته. كما إن فهم أهل كل لغة للغة غيرهم، موقوف على تعليمهم إياها وتعريفهم لها.

ثانيها: علم التفسير، وهو مما يتوقف فهم معاني كلمات القرآن لعربيتها عليه فيتوقف عليه معرفة الناسخ من المنسوخ، والمحكم من المتشابه، والعام من الخاص، والمطلق من المقيّد، والمجمل من المبيّن والحقيقة من المجاز، لأن جميع المكلفين، بعد عهد الأئمة( عليه السلام) بحكم العجم، وإذا لم يُعرف تفسيره فلا يمكن عرض الأخبار عليه وتصحيحها لموافقته وتضعيفها لمخالفته وتدوينه وكتابته أقرب  إلى ضبطه. والإخباريون اقتصروا في كتبهم على ذكر المفسّر في الروايات لذهابهم  إلى إجمال ما عداهُ وقد مرّ بطلانه.

ثالثها: علم العربية، من النحو والتصريف المتكفلين ببيان الكيفية المتعلقة بالهيئات الأصلية والكيفيات العارضية وقد أسسها أمير المؤمنين( عليه السلام). فقال كل فاعل مرفوع، وكل مفعول منصوب، وان حروف العلّة إذا تحركت وفتح ما قبلها يُقلَب ألفاً، وهذا العلم مما يتوقف عليه فهم الأحكام الشرعية، لأن جلّها مستفاد من الكتاب والسنّة وألفاظهما عربية، فمن أنكر التوقف، كان مخالفا للضرورة والبديهة. ثم التعليم والتدوين والترتيب محتاج إليها للضبط والحفظ عن النسيان، ولا يستغني عن هذه العلوم الثلاثة، صاحبُ طبعٍ سليم، وذوقٍ مستقيم، لأنها توقيفية كُلاًّ أو جُلاًّ. فمن لم تكن له معرفة بها فليس بفقيه، غير إنه يكفي الاشتغال فيها على مقدار الحاجة، إذ لا معنى لصرف العمر في المقدمات، وتضييع الغايات، ومن كان من فصحاء العرب، استغنى عن ذلك.

رابعها: علم الفقه، وهو عبارة عما يجمع النتائج المستفادة من الأدلة، لحفظها عن الضياع. فحالنا فيه كحال العبيد إذا أمرهم مولاهم بأوامر متعددة، ونهاهم عن أمور متعددة في مجالس متفرقة، وخصّ بكل خطاب بعضاً منهم، مع تشريكهم في التكليف، فجمعوا محصول تلك الأوامر والنواهي بأخصر عبارة، وجعلوه في طومار لئلاّ تضيع عليهم مطالب مولاهم. ولا شكّ إن ذلك من الحزم وقوة العزم، وإن هؤلاء أقدم عند مولاهم من مضيعي أحكامه، وواكلي أمرها  إلى حفظ الحَفَظة، وعلى كل حال فهذا العلم هو العلم المراد وجميع مسائله من أهم ما يراد. فلم يبق اعتراض إلا على القلم والقرطاس والمِداد والجلد. وفي الحقيقة هم بالجميع قائلون، وبالكل عاملون، لكن قولهم لا يوافق عملهم. وفي "الفوائد المدنية" إنه سُئِل مؤلفها، إن يكتب كتاباً في فقه الأحكام، فأجاب، بأنّي لا أكتب سوى الأحاديث الواردة عن الأئمة( عليه السلام)، واستنادهم  إلى إنه لم يدوّن سابقا فيكون بدعة، يجرى مثله في كل ما لم يدوّن في السابق من مواعظ وخطب أو غيرها، وهذا من العجيب فإن الأوامر والنواهي حاكمة بالعمل عليها وذلك يستدعي ضبطها للسلامة من ضياعها وذلك لازم عند العقلاء في حفظ مطالب الدنيا وهذا أَولى منها ومثل هذه الكلمات لو كان صدورها من الأطفال لوجدناه عربياً ثم إن قولهم مُباين لعملهم لأنهم لا زالوا يباحثون ويناظرون ويتعرضون لمسائل تلك العلوم، ولا يتناكرون ذلك. والعلوم عبارة عن تلك المسائل أو علمها، وليست عبارة عن المِداد والقرطاس فالرواة والمحدثون الأولون إنْ كانوا بالروايات عاملين وعن دلالتها وتعارضها باحثين، وعلموا منها أحكام سيد المرسلين( صلى الله عليه وآله وسلم)، كان علمهم فقهاً وكانوا فقهاء مجتهدين، وإلا كانوا حاملين للألفاظ كالعوام لا يهتدون منها  إلى شيء من الأحكام.

خامسها: علم أصول الفقه، وهو العلم الذي أنكروه غاية الإنكار، وأكثروا من الطعن بسببه على العلماء الأخيار والفضلاء الأبرار، وزعموا  أنه من البدع، وأنه علم مخترع لم يكن معروفاً بين الرواة، ولم يكن صادراً عن الأئمة الهداة( عليه السلام). ولذلك عدّوا الصدوق والكليني وغيرهما من المتقدمين من صنف الإخباريين دون المجتهدين، وسيتضح لك إنهم إنما لم يكونوا عارفين بتلك المسائل وآخذين بها عن الشواهد والدلائل فليسوا من العلماء ولا من العارفين بأحكام خاتم الأنبياء( صلى الله عليه وآله وسلم)، والأئمة السادة الأمناء( عليه السلام)، بل هم من العوام ضالّون عن السبيل، غير مُفَرِّقين بين المدلول والدليل، إلا أنْ يكون طعنهم من جهة التسمية والتدوين ومثله لا يصدر عن صاحب رأي متين. وهو غني عن التعرض للبرهان وقد مرّ فيما مرّ ما يغني عن البيان فلا بد من ذكر مسائله على التفصيل ليتضح إن ما ذكروه من الزخرف والأباطيل، ويظهر إن ما عابوه على الاجتهاد إمّا من الخطأ الفاحش أو العصبية والعناد. ومنها:ــ

مسألة الحُسْن والقُبْح العقليين ولم تزل العلماء الأواخر منهم والأوائل يناظرون ويباحثون بها أهل الباطل. فمعرفة الحقيقة والبطلان مما يلزم على الفضلاء الأعيان، وكون المسائل التي يستقل بها العقل من ضروريات الدين، فلا ثمرة للبحث فيها ولا وجه له لأن تعدد الحجج مما يزيد الحكم بياناً. والضرورة تختلف مراتبها على إن الملازمات العقلية التي يُبحث فيها في مسألة مقدمّة الواجب والنهي عن الضدّ مثلاً ليست بضرورية ثم استقلاله في كثير من الآداب والسُنن والمكروهات لا يُنكر على إنه قد يغفل المستدل عن الضرورة مع ثبوتها عنده، وقد يخفى على بعض لقيام الشبهة. ثم المكلف في ابتداء بلوغه وعدم اطلاعه لعدم معاشرته والأعراب في الصحارى البعيدة عن العمران، الذين لم يباشروا أهل البلدان، ربما خفيت عليهم اكثر الضروريات، وكذا الكافر المستجد الإسلام، وإن كان في بلاد الإسلام، والأسير من حين الصغر في بلاد الكفار، والوارد منهم  إلى بلاد الإسلام وقد أسلم حين وروده، وهكذا فيجب على كل من عُنيَ بإرشاد العوام وبيان الأحكام أن يعرف ما هو الحق في هذه المسألة. فإن لم يكن عارفاً بها فليس من العلماء الذين هم بمنزلة الأنبياء، فهذه المسألة مقررة مبيّنَة عند العلماء دَوّنوها أو لم يدَوّنوها، وأكثر المُدَوّنات عند الأواخر لم تكن مُدَوّنة عند الأوائل، والسبب شدّة التقية، وعدم إمكان تظاهر العلماء في تصنيف أو تأليف، وما جاء مُدَوّنا من الأخبار فمن معاجز الأئمة الأطهار( عليه السلام)، على إن المسائل الأصولية لمّا كان محتاجا إليها، لكيفية الاستدلال بالكتاب والسنّة، وأكثرها متعلقة بمعرفة الألفاظ اللغوية مفرداتها ومركباتها، وهي مشتركة بيننا وبين العامة اكتفينا بكتب لغتهم عن كتب لغتنا وكتب عربيتهم عن كتب عربيتنا  إلى أن ظهر دين الإمامية، وارتفعت التقية، وصنّفوا كتباً وذكروا فيها ما هو الحق عندهم، وكان أصحابنا المتقدمون يتذاكرون فيه ويتباحثون ويتناظرون.

ومنها مسائل تقسيم الأحكام  إلى الأحكام الخمسة ومعرفة المضيّق، والموسّع، والمعيّن، والمخيّر، والمتعيّن والكفائي وهكذا، وهذه مستفادة من الكتاب والسنّة والضّرورة من الدين، ومن لم يفهم ذلك من المتأخرين والقدماء كان معدوداً من الجُهّال لا من العلماء، ولم يسعه عمل ولا فتوى. وكان يخبط في الشريعة خبط عشواء، فأن أُريد إن معرفة ذلك غير محتاج إليها كان في ذلك إنكار لزوم معرفة أحكام الشرع إذ ذلك من أعظم الأحكام الشرعية التي يحتاج إليها جميع البرية.

ومنها ما أُفرد من المباحث اللغوية لشدّة الاحتياج إليها وتوقف فَهْم الخطابات عليه، وكثرة القيل والقال، وحصول النزاع والجدال، وعدم استيفاء أهل اللغة للبحث فيه، وهو أمور:ــ

منها مباحث الحقيقة والمجاز، والمشتركات والمضمرات وكيفية الاستعمالات وبيان ما يجوز منها في لغة العرب وما لا يجوز. ولا ريب في إن مَن لم يكن له خبرة في الحال، ولا يعرف الجائز من غيره في أنواع الاستعمال، فلا يعدّ من العلماء. ولو أن رواة الأخبار العاملين عليها لم يحيطوا خُبراً بذلك لم يكونوا عاملين على الصواب، ولا مطيعين ربَّ الأرباب. وإنما اغتنوا عن التدوين لظهورها في أيامهم بين العوام، فضلاً عن العلماء الأعلام لإغنائهم باللسان عن البيان، ومن قال بأن الكليني والصدوق مثلاً ونحوهما، ليسوا من الأصوليين، فقد نسبهم  إلى الخروج عن الشرع المبين، لأنهم على قوله عملوا على الأخبار من دون معرفة ما يتوقف عليها من المقدمات، وكذلك الحكم في أخذ العبيد من كلام ساداتهم، والرعية من كلام رؤسائهم لو وضعوا لهم أحكاماً بعبارات متفاوتة وتقريرات مختلفة. ثم الحكم كما يجري في لغة العرب، كذلك يجري في جميع اللغات، فلو فرض إن الكتاب والروايات، جاءت بلغة من باقي اللغات، لزم معرفة الحقائق منها والمجازات وكيفيات الاستعمالات ومن لم يعرف مفاهيم كلامهم خَبَطَ خَبْطَ عشواء في معرفة أحكامهم.

ومنها بحث تقسيم الحقائق  إلى لغوية وعرفية عامة وخاصة وتقديم المتقدم، وتأخير المؤخر. والبحث في ثبوت الحقيقة الشرعية وتوقف فهم الكتاب والسنّة على ذلك من الأمور البديهية، لأن مدار فهمهما والحكم بمدلولهما موقوف على ذلك. فمن لم تكن له خبرة بهذه المباحث فلا يُحتسب من العلماء، ولم يفهم شيئاً من الكتاب  والسنّة.

ومنها بحث المشتق وإن بقاء المبدأ شرط فيه أو لا. فيبنى عليه فهم جميع الأحكام المتعلقة بالمشتقات كلفظ المثمرة والحائض ونحوهما. فمن لم يكن على بصيرة منها لم يفهم تلك الأخبار المشتملة عليها.

ومنها بحث المفاهيم وتوقف معرفة الأحكام وأخذها من الأدلة النقلية مُجْمَع عليه، مما لا يخفى على أدنى العوام، فإن فهم معاني الألفاظ في الكتاب والسنّة موقوف على معرفة المنطوق والمفهوم وأقسام المفاهيم ومعرفة المقبول والمردود منها والقوي والضعيف والأقوى والأضعف إذ كل مَنْ أراد معرفة معاني كلام مشتمل عليها، عربياً كان أو غيره لا بد من بحثه عنها، وتوجيه فكره إليها، فمَن لم يكن عارفاً بها، لم يَجُز له الأخذ من الكتاب والسنّة فيما اشتمل عليها وهو بديهي.

ومنها البحث في الأوامر والنواهي وبيان ما يُفهم من إطلاقها، وهو من المباحث الملازمة. إذ يتوقف معرفة أكثر الواجبات والمحرمات على تحقيقه. والكتاب والسنّة مملوءان منها، وإطالة البحث فيه لكثرة الاختلافات، ولزوم معرفة الراجح والمرجوح منها وكل مَنْ لا يعرف معناهما وما يستفاد من صيغتهما، وما أفاد مفادهما، فهو من العوام لأنه قد خفي عليه أكثر مدارك الأحكام. فكل من ليس له في هذا المقام معرفة وتحقيق تام ضاقت عليه مهمات الإسلام لكن العلماء السابقين استغنوا بظهورها عندهم، لأنهم من اللغويين، أو لقرب عهدهم من التدوين، فكل من لم يكن من الأصوليين، فليس له قابلية فهم الأخبار والكتاب المبين، وكذا الحال في جميع المأمورين والمنتهين من أي أمر كان، بأي لغة كانت فالكليني والصدوق ومن تقدمهما من العلماء من الرواة وغيرهم من الأصوليين وإن لم يكونوا منهم، فلا يجوز التعويل عليهم والأخذ عنهم. والإخبارية يزعمون أنهم ليسوا بأصولية فإن صدقوا في دعواهم خرجوا عن الطريقة الشرعية.

ومنها البحث في الملازمات، من مسألة النهي عن الضد والمقدمات. والبحث فيها يرجع  إلى أمرين أحدهما من جهة دلالة الخطابات، فيرجع  إلى مباحث اللغات، فيجب البحث عنها كما يجب البحث عن غيرها، وتدوينها كغيرها تحفظاً عن النسيان، وعدم الضبط، وبدون ذلك يجهل الحكم الشرعي. ومعلوم أن العلماء من قديم الدهر لا يخفى عليهم ذلك وكانوا مكتفين عن البحث فيها، أما لظهور الحال عندهم قبل تكثير الأقوال، أو لأن ذلك مرسوم في مصنفات أخر، وإنْ كانت من غير أتباع الأئمة الإثنى عشر( عليه السلام) لأن البحث فيها وفي كل ما يتعلق بلغة العرب، مشترك بين جميع علماء المسلمين. ثم الحكم يجري في جميع اللغات فلو فرض إن خطابات الشرع بغير الألفاظ العربية للزم التعرض لمثل هذه المباحث.

ومنها البحث عن العام والخاص، والمطلق والمقيّد، والمجمل والمبيّن، والناسخ والمنسوخ، ونحوها وهي من الأمور المتكررة في الكتاب والسنّة. وقد حذر العلماء عن عدم معرفتها فمن لم يجهد في معرفتها لم يَطُل في معرفة الشرع باعُه، ولم يَجُز للناس الرجوع إليه وإتباعه، ومن لم يكن فيها خبير تام فليس له نصيب في معرفة الأحكام فمن لم يكن بمثل ذلك من العالمين، ولم يدخل في زمرة الأصوليين، فلا يحتسب في أحكام الشرع من العارفين. ومثل ذلك جارٍ في جميع اللغات وفي خطاب العبيد من السادات.

ومنها بحث الإجماع وبيان إمكانه ووقوعه، والعلم به وحجيته، ومن أعظم ما يلزم على الفقيه إمعان النظر فيه، إذ هو الميزان وعليه المدار في الرد والقبول للأخبار. ولولاه لضاعت أكثر الأحكام، ولم يكن للشريعة استقامة ولا نظام، فمن لم يُمعن فيه نظره، ولم يُحلّ فيه فكره، فليس معدوداً من العلماء، ولا محسوبا من الفقهاء. وعلمائنا من المتقدمين والمتأخرين لم يزالوا به قائمين قاعدين ومن أنكر حجيّته فقد جحد أئمته، ولم يبق له في تسرية الأحكام المتعلقة بموضوعات خاصة إلى ما يماثلها من موضوعات أخر سوى القياس لبطلان ادعاء الضرورة فيما عدا ما شذّ منها وندر.

ومنها مباحث القياس فلا بد من إتقانها ومعرفة ما يدل على خروجه من أقسام الأدلة الشرعية والفرق بين القياس الباطل، وما سموه قياسا مما ليس منه من منصوص العلة، ومفهوم الأولوية من اللفظ، لرجوعها  إلى دلالة اللفظ. وكذا طريق الأولوية وتنقيح المناط مما يستفاد منها القطع فإنّ ترك العمل بهما إنكار لحجية قول المعصوم، وطريقة الأولوية الظنية قام النزاع فيها، والقول بحجيّته لظاهر بعض الروايات غير خالٍ عن القوة، وعلى كل تقدير من لم يكن له خبرة من هذه المقامات، فليس له لياقة الأخذ من الروايات.

ومنها بحث الاجتهاد والتقليد المتكفل لبيان إن المتشرعين على قسمين: تابعون ومتبوعون، وليسوا قسماً واحداً كما عليه الإخباريون. وخالفوا في ذلك ضرورة الدين وسيرة المسلمين بل سيرة الأمم السابقين، فلا بد من بيان بحث يبيّن معنى الاجتهاد والتقليد، وما المقبول منها والمردود، وبطلان القياس، وإن منصوص العلّة، وطريق الأولوية، وتنقيح المناط، ليست منه فالعالم إنْ لم تكن عنده خبرة من هذه المباحث، لم يكن من العلماء ولا من أهل الخبرة بشريعة خاتم الأنبياء( صلى الله عليه وآله وسلم). وعلى كل حال فالعلماء  السابقون واللاحقون المجتهدون منهم والإخباريون مشتركون في استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي من جهة الموضوعات والقواعد الشرعية، بل في الصدور أيضاً، وإنْ توهم الإخباريون إنهم على خلاف ذلك فهم مجتهدون من حيث لا يشعرون، لكنهم عاملون على الظن من حيث إنه ظن بزعم إنه علم. والمجتهدون ومقلدوهم لا يعملون به من جهة كونه ظناً بل من جهة أَوْلِه إلى العلم، فهم واتباعهم العاملون بالعلم من حيث الحقيقة دون الإخباريين، وأما تابعوهم الراجعون في الأحكام إليهم والمعوّلون عليهم، لا يعرفون شيئا من الكتاب والأخبار، ولو اشتغلوا في تعليمهم بالليل والنهار، فان كانوا غير مقلّدين فقد مرقوا من الدين وإلا كانوا من الكاذبين. وإذا تأمّلت ما مرّ من المباحث علمت إنه لا محيص لهم عن العمل بجميعها، وقولهم مخالف لعملهم، فلا يبقى لهم نزاع فيما مرّ من المباحث الأصولية، إلا في إفرادها وضبطها، وذِكْر الخلاف فيها، وبيان الخطأ والصواب في تلك الأقوال. وكذا لا كلام لهم في وضع العلوم، إلا في تدوينها وضبط قوانينها وتسميتها وإلا فَهُمْ لم يزالوا يتناظرون في تحقيق مضامينها. ثم على العلماء بيان المسائل للعمل بها مع القول بها وإن لم يكونوا بها عاملين، فلا بد من ذكرها للرد على العاملين بها، ثم كشف الحال بحيث ينكشف عنه غياهب الإشكال. إنه لا شكّ ولا ريب في إن لله حكماً واقعياً حدَّثَت عنه الأنبياء ونزلت به الكتب من السماء، وإنّ للوصول إليه والاطلاع عليه طريقين: ظنّيٌ وقطعيٌ، وإنه لا بد من بذل الجهد وإمعان النظر في الطريق الظنّي من جهة قبوله وردّه، والبحث عن دلالته ومعارضاته بقدر الوِسع، فمرة يوافق ذلك الواقعي ومرة يخالف. فالمباشر لذلك العمل نسميه مجتهداً، والعاجز عنه الراجع  إلى العارف به نسميه مقلداً، وثبوت هذين القسمين من ضروري مذهبنا، بل جميع مذاهب المسلمين، بل ضروب المليين. ومن أنكر ذلك فهو معترف بجنانه، منكر بلسانه، أو مخالف بعلمه، موافق بعمله. ومن أنكر حكم الله الواقعي الأصلي الأوَّلي ولم يثبت حكماً سوى ما في ضمائر المجتهدين والمقلدين فقد أنكر ضرورياً من ضروريات الدين، والتزم بثبوت الأحكام المتضادة في شريعة سيد المرسلين( صلى الله عليه وآله وسلم) بالنسبة  إلى الأحكام المتعلقة بالموضوعات من قسم العقود، أو الإيقاعات، من اجتماع الزوجية، والحرية، وثبوت النسب، وعلقة الرضاع، والوقف العام، وأضدادها. فلا معنى لجعل حكم المجتهد والمقلد مما يلزم فيه الانطباق على الحكم الواقعي الأولي، لأن الإدراكات من قبيل المرآة وهي غير المرئي، وأما بالنسبة  إلى الحكم الواقعي الثانوي الذي جعل الإدراك موضوعاً له، من جهل مركب، كجهل القصر والإتمام، والجهر والإخفات في أقوى الوجوه، أو شكّ في الأجزاء الصلاتية غير الأركان أو السهو والنسيان عنها، أو عن مفطرات الصيام، أو النجاسة الخبثية، أو الكون بين المشرق والمغرب في المخطئ باجتهاد القبلة، فهو حكم واقعي ثانوي، وقد تتبدل الأحوال فيكون ثالثاً ورابعاً فلا شكّ في إمكانه ووقوعه في العبادات بالنسبة إلى الأحكام والموضوعات، وكذا الحكم الظاهري فيهما، كما في حكم الشاك  في الحدث بعد الطهارة أو بالعكس. وفي نجاسة ماء الطهارة الحدثية وعدمها، وفي فعل الأركان بعد تجاوز المحل وعدمه إلى غير ذلك، وكذا حكم العذر بالنسبة إلى الناسي والغافل والعاجز. فالذي يقتضيه التحقيق والنظر الدقيق إن الأقسام الأربعة جائزة لا مانع منها عقلاً الواقعي الأصلي الأولي، وعليه بُنيت جلّ الأحكام، والواقعي الثانوي فصاعداً والظاهري والعذري، فلا مانع عقلاً من جعل الاجتهاد والتقليد من الموضوعات، فيكون الحكم فيهما واقعياً ثانوياً كما في الجهل المركب في مسألة القصر والإتمام والجهر والإخفات وكثير من الإدراكات في الموضوعات والأحكام، ولعل كلام بعض قدمائنا في دعواه المؤاخذة على الحكم الواقعي، محمول على الثانوي فلا تكون المؤاخذة إلا على المقصر من غير فرق بين أنْ يكون الظن من جهة الصدور، أو من جهة غيره إلا إن مقتضى الأصل والقاعدة والجري على أوامر السادة  والعبيد البناء على العذر أو الحكم الظاهري فيما لم يقم دليل على خلافه الواقعي الأصلي دون الثانوي، حتى كاد أن يكون ضرورياً من مذهبنا. ثم ذلك لا يستقيم إلا في أحكام العبادات، وأمّا في المعاملات والأحكام فيقتضي في أكثر المقامات اجتماع الأحكام المتضادة بعضها مع بعض كالموضوعات، والاستناد في إثبات الواقعي الثانوي ومتعلقه وصف المظنّة في المجتهد والمقلّد بقوله( صلى الله عليه وآله وسلم) (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة) من سوء الفهم وقلّة البصيرة، لأنه إن أُريد بذلك إن ما حُكم به لا يبدله غيره ولا يقع فيه نسخ بعده، فالمراد من الحلال والحرام الواقعيين الأوليين، وإنه لا يجوز التبديل في الحكم الواقعي، فلا منافاة وإن أُريد ما يعمّ الظاهري وكان المراد إنه إذا حكم بالحكم الظاهري الذي يجب العمل به ظاهراً على كل ظانّ وبالعذري على كل معذور ، وهو حكم واحد استمر ذلك وإرادة الواقعي الثانوي بعيدة عن ظاهر اللفظ، بل تعدّ من التعمية والألغاز، إذ المراد حينئذٍ إن خصوص الحكم في حين من الأحيان على شخص من الأشخاص لا بد أن يبقى، وهذا بعيد كل البعد، وتبدل الآراء مما لا ينبغي أن ينكره أحد من العلماء المجتهدين والإخباريين القائلين بثبوت الحكم الظاهري والنافين القائلين بالواقعي الثانوي. وسيجيء تمام الكلام وبيان حقيقة المقصد والمرام بحول الملك العلام، ومن أعجب الكلام الذي تتحيّر فيه الأفهام كلام مختل النظام صادر مما غفل عن النظر في هذا المقام لعدم ارتباطه بما ذكره من الطعن بالعلماء الأعلام، في قولهم السديد بالاجتهاد والتقليد، مع إنه أكثر من ذكر الأحاديث الدالة على ثبوتهما في كتابه المسمّى بـ" الفوائد المدنية"، حيث قال: باب من يجب رجوع الناس إليه في القضاء والإفتاء، وذكر فيه أحاديث عديدة منها  ما روى عن صاحب الزمان( عليه السلام) وفيه أنه ذكر بخطّه الشريف: (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فأنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليكم). ومنها ما روي عن أبي جعفر( عليه السلام) أنه قال لأبّان: (اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس فإني أحبّ أنْ أرى في شيعتي مثلك). ومنها ما روي عن الصادق( عليه السلام) إنه قال لعِيص بن المختار: (إذا أردت أنْ تحدث شيئاً، فعليك بهذا الجالس يعني زرارة). ومنها قوله( عليه السلام) لعبد الله بن أبي يعقوب حيث قال له: (إني لست كل ساعة ألقاك ولا يمكنني القدوم ويجيء الرجل من أصحابنا، وليس عندي كل ما يسألني)، فقال( عليه السلام): (وما يمنعك عن محمد بن مسلم). وقوله( عليه السلام) لشعيب العقرقوفي، حيث قال له: (إذا احتجنا أن نسأل فلِمَن نسأل؟) قال( عليه السلام): (عليك بالأسدي) يعني أبا بصير ثم ذكر أخباراً كثيرة من هذا القبيل ثم ادّعى إنها لا تدل على الاجتهاد والتقليد، وعاب على المحقق والعلامة والشهيدين والمحقق الثاني في فهم ذلك.

أقول قد عُلم من ملاحظة السيَر من حين ابتداء إرسال الأنبياء ونزول الشرائع، إلى زمان خاتم الأنبياء، والأئمة الأمناء إلى يومنا هذا، إن الناس بين قسمين: علماء رجعوا في معرفة الأحكام إلى الأدلة المأخوذة من الكتب المنزّلة من السماء، وأخبار الأنبياء والأوصياء بعد أن اختار الله جوارهم، إذ كانت متضمنة الأحكام، مجموعة عند العلماء الأعلام، لأنهم عارفون بمضامينها مطلعون على غثّها وسمينها، عالمون بحقائق ألفاظها ومجازاتها وعموماتها وخصوصاتها ومطلقاتها ومقيداتها ومحكماتها ومتشابهاتها ومستداماتها ومنسوخاتها خبيرون بعلاج معارضاتها وتقربوا بذلك إلى الملك الجليل، وكان مَن كان منهم من أمّة محمد( صلى الله عليه وآله وسلم) كأنبياء بني إسرائيل، قد أثنى عليهم الله في كتبه المنزّلة، وعلى لسان كل نبي بعثه بدينه وأرسله قد ملأت مدائحهم كتب الأخبار، وظهر امتيازهم على غيرهم ظهور الشمس في رابعة النهار. وعوام مشغولون بمكاسبهم مترددون ذهاباً وإياباً في طلب مأربهم أو فارغون متكاسلون أحب الناس إليهم البطّالون، إذا احتاجوا إلى معرفة شيء من الأحكام رجعوا إلى أولئك العلماء الأعلام، وإن حصل بينهم نزاع في شيء من الحطام أو غيره رجعوا إلى القضاة منهم والحكام. وهذه من المسائل الضرورية والمطالب البديهية، فجعْلُ القسمين قسماً واحداً مبنيّ على العصبية والعناد، أو الجهالة المانعة من بلوغ السداد والرشاد. ومما يدل على ذلك ما ذكروه من الروايات فإنها صريحة في ثبوت القسمين تابع ومتبوع وراجع ومرجوع إليه، مضافاً إلى ما دلّ على إن الرجوع في الأحكام، إنما هو لِمَن يتصف بمعرفة شيء منها، ولا شكّ إن عموم الرجوع ينافي إرادة شيء منها قلَّ أو كثر، والأخص الرجوع بما عرف على إن قوله (ونظر في أحكامنا)، أَبيَن شاهد على ذلك، وما دلّ على إنه لا يفتي الناس إلا من عرف الناسخ والمنسوخ… إلى آخره.  وعلى الأمر بالرجوع  إلى بعض الخواص كزرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير الأسدي ويحيى بن زكريا ويونس بن عبد الرحمن وغيرهم، فقد عُلم من جميع ما مر إنه لا يجوز للعوام العمل بالرأي بعد اختلاط الأحكام، وعدم التمكن من الوصول إلى الإمام، بل يلزمهم الرجوع إلى العارفين. وانه لا يجوز لأحد أن يُفتي الناس أو يقضي بينهم إلا أن يبلغ درجة خاصة في المعرفة، ولما كانت مجملة غير مبيّنة فلا بد أن يبقى التابع على حاله من الرجوع حتى يعلم الوصول إليها، لأن ثبوت الوصول بعد عدمه تنفيه الأصول، لأن خروج التابع عن حكم التابعية ووصوله إلى درجة العمل بالرأي والمتبوعية، يتوقف ثبوتهما على الدليل، ولا دليل في المقام إلا إحدى الضرورتين وليس لها موضوع في البين، فيما عدا المجتهد المطلق. ودعوى إن عموم الخطاب قاض بعمل جميع المخاطبين مما يفهمون، مردود بأن الخطاب صار مجملاً لا حجية فيه، بعد تقييده بالمجمل، فلا وجه للتجرّي على إن مسألة التجرّي من النظريات عملاً وإفتاء، فلو أجاز ذلك لنفسه في أحدهما فأما أن يكون بالاجتهاد فيدور، أو بالتقليد وهو مبني على التركيب، وعلى إن مسألة الاجتهاد مما يجوز فيها التقليد، وفي المقامين منع، وأمّا مسألة المفضول فيقتصر في وجوب الرجوع فيها إلى الفاضل على المستفتي لا على المفتي. ويجوز له العمل والإفتاء، إلا أن ينافي النهي عن المنكر، فإنكاره لمسألة الاجتهاد المطلق، وتكثير الطعن على المجتهدين، بذلك مما لا وجه له. ثم إنه قد ظهر مما مر إن الطعن على المجتهدين المحكمين لقواعد الدين المشيدين لشريعة سيد المرسلين راجع إلى جماعة الإخباريين، لأنهم إنْ لم يعوّلوا على مقالتهم، فقد بان خطأ طريقتهم، وأما هذا الرجل المبدع لهذه الطريقة الجديدة والمقالات التي تظهر لكل ذي فهم إنها ليست بسديدة، الذي حمَلَه العناد والعصبية على إفساد الشريعة المحمدية بتقرير زخارف وأباطيل عملها في بلد سيّد البرية، وضمنها كتاباً وسماها "الفوائد المدنية" قد وضعه للإضلال، ومن لطف الله وباطن الشرع ما أضل به سوى الجُهّال قد تجرى على ساداته وأدخل طعنهم في جملة مزخرفاته كأنه لم يعلم بأنهم بُهْم قامت قواعد الدين وتشيدت أركان شريعة سيد المرسلين( صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن أتى بكلام لا يليق صدوره من العوام، حيث قال: وبالجملة وقع تخريب الدين مرتين، مرّة يوم توفي النبي( صلى الله عليه وآله وسلم) ومرّة يوم أجريت القواعد والإصلاحات التي ذكرها العامة في الكتب الأصولية ودراية الحديث وفي أحكامنا وأحاديثنا. وناهيك أيها اللبيب إن هذه الجماعة يقولون بجواز الاختلاف في الفتاوى، ويقولون قول الميت كالميت، مع إنه تواترت الأخبار عن الأئمة الأطهار بـ (أن حلال محمد( صلى الله عليه وآله وسلم) حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة).

أقول، هذا والله من العجب العجاب، وكلام لا يرضى به أذناب الأعراب، لأنه لو صحّ ما ذكره في هذا الكتاب لكان أساس الشريعة مبنياً على الخراب من مبدأ ظهور الأديان إلى ظهور صاحب الأمر صاحب الزمان( عليه السلام) لأن الشريعة إذا لم تُبْنَ على تلك القواعد المذكورة، والأصول المسطورة والعلوم المعروفة والكتب المألوفة، لم يمكن إقامة الشواهد والدلائل على بعض المطالب والمسائل. وقد ظهر ذلك مما تلوناه وما ذكرناه مِن تَوقُف معرفة الشرع من دون معرفة الشارع وإن كلما حُكم به واجب القبول إلا من علم الكلام ولا يمكن الاستدلال على حرام أو حلال إلا بمعرفة علم الميزان ولا يعلم المراد من خطاباته إلا بعد معرفة ألفاظ العرب بذواتها وكيفياتها الداخلة والخارجة وهذا من البديهيات، وقد تكفل بذلك علوم العربية بأقسامها ثم لا يفيد ذلك إلا بعد معرفة البحث في الأخبار وبيان مقبولها ومردودها وكيفية الاستدلال بها وعرضها على الكتاب وأحوال تعارضها وذلك موقوف على تفسير القرآن ومعرفة آيات الأحكام. ثم لا يعلم المقبول من الأدلة ومردودها إلا بعد معرفة الضرورة دينية ومذهبية، والسيرة والإجماع وإنما يهتدي إليه من الإطلاع على آراء الفقهاء ومذاهبهم، وذلك لا يعلم إلا مِن كتبهم. ثم لا يجد ذلك كلّه إلا بعد معرفة المقبول من الرأي للعمل والإفتاء وللحكومة والقضاء من المردود وهكذا فمن لم يحط خبراً بكلام الفقهاء  والمجتهدين، وما تحرر وتقرر في كتب الأصوليين بدون التدوين أو منع التدوين لم يذق طعم الشرع المبين وعد من الجاهلين، غير إن السعي في المقدمات يُغني عنه مقدار ما يتوصل به إلى فهم الآيات والروايات ولا يلزم فيها صرف الأعمار، فتفوت الغاية المطلوبة وهي فهم الكتاب والأخبار. ثم قال(عفا الله عنه) إنْ لم يكن ما قاله تعصباً منه وناهيك أيها اللبيب إن هذه الجماعة يقولون باختلاف الفتاوى ويقولون إن قول الميّت كالميّت مع إنه قد تواترت عليه الأخبار عن الأئمة الأطهار بأن (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة). ثم روي عن أبي جعفر( عليه السلام) عن علي( عليه السلام) إنه قال: (لو قَضيت بين اثنين بقضية، ثم عادا إليَّ لم أزدهما على القول الأول لأن الحق لا يتغير)، ثم قال ولا أظن برجل يخاف الله أن يكون في ريب مما تلوناه، وكم من رجل حسبناه صالحا فلما ذكرنا عنده هذه الأحاديث تحرك عليه عرق العصبية والحسد وعاند وكابر أمّا قبل التصور أو بعده.

أقول من القول العجيب والخطاب الغريب ما وجهه هذا البليد إلى الرجل اللبيب، وهو إن اختلاف العمل والفتوى وتغيرهما لتبدل اجتهاد وتغير تقليد، لاختلاف رأي أو موت مجتهد منافٍ لما دلّ من الروايات المستفيضة من (أن حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)، ولقد أجاد وأفاد وأتى بفوق ما يريد لا ما يُراد لان بطلان هذا الكلام مما لا يخفى على الخاص والعام، فينبغي أن يكون غرضه حصول الشهرة بين الأنام، وأن يزعم الزاعم أنه له قابلية لمقابلة العلماء الأعلام، وإلا فكيف يخفى على أدنى أُولي الأفهام، إنه لا منافاة بين الاختلاف وبين ما دلّ عليه كلام سيد الأنام( صلى الله عليه وآله وسلم) وبيانه: إن المجتهدين لما أثبتوا حكمين واقعياً وظاهرياً وعَنوا بالظاهري ما كان لزوم العمل به ناشئاً من حرمة التجرّي، ولزوم الطاعة والامتثال، كما يجرى ذلك بالنسبة إلى العبيد والمَوَالي فعذرهم في عدم إصابة الحكم الواقعي في بعض الأحيان انسداد طريق العلم عليهم وحصول الاضطرار بالنسبة إليهم، فوجوب العمل عليهم كوجوب أكل الميتة ولحم الكلب والخنزير، للاضطرار وجواز نهب الأموال وسبي العيال والأطفال للتقيّة، ووجوب الأخذ بقول المشرك واليهودي والنصراني بزعم القابلية فالمراد بقوله( صلى الله عليه وآله وسلم) حلال محمد وحرام محمد الواقعيان لا العذريان الظاهريان، لأن الأوليين هما المفهومان من العبارة لأن إباحة أكل الميتة ونهب أموال الشيعة جائزان إلى يوم القيامة من دون اعتبار شرط. وإن أريد الظاهري المتعلق بالعذر الدائر مداره، فهو بهذا القيد باقٍ إلى يوم القيامة، بل لو أثبتنا هنا الواقعي الثانوي صرفنا اللفظ عنه إلى الواقعي الأوَّلي، لأنه المتبادر لأن إرادة الدوام فيما يتعلق بالحكم المختلف باختلاف الأشخاص بعيد عند أولي الأفهام، فلا يفهم ذوق سليم وطبع مستقيم من هذه الأخبار الواردة عن سادات الزمان إلا إن دِين محمد( صلى الله عليه وآله وسلم) لا ينسخ بدين من الأديان، ولا عَجَب من نسبة العصبية والحسد إلى بعض الأتقياء الصالحين الناهجين منهج شريعة سيد المرسلين، فقد نسب مثل ذلك إلى أمير المؤمنين وسيد الوصيين وإلى الأئمة الطاهرين بل إلى جميع الأنبياء والمرسلين والعلماء العاملين (رضوان الله عليهم أجمعين). ثم إنه لم يُنسب إليه سوى ما هو المرغوب إليه والمحبوب لديه والمؤمن يحب لأخيه كما يحب لنفسه. ثم ما الذي يحمله على الحسد؟. هل هو وجدانك لأخبار مسطورة وأحاديث مذكورة كتبها في قرطاس؟ ليقوى بها جهال الناس فيكون حسده على وجدانك المِداد والقلم، أو على فهمك الذي بانت عليك به زلّة القدم.

ومنها علم الرجال وهو مما يتوقف عليه الاستدلال، لأن موضوعه بيان حال الرجال في الاعتماد وعدمه ومن يصح الخبر به ويضعف والفرق بين الأصحّ وغيره، والقرب للحمل على تقية الإمام منه وعدمه وكثرة كتبه ورواياته التي بها يُعرَف ارتفاع مرتبته وعدمه، وكونه ممن كان في زمان التقية الشديدة أو غيره ولم يزل ذكر حال الرجال  متكرراً في كلام الأئمة وأصحابهم وسائر رواتهم، فإنْ كان تقصير من المجتهدين في ذلك كغيره من العلوم، فمن جهة الضبط والجمع والتدوين، الذي صاروا بسببه من المبدعين كما أبدعوا في وضع كتب المزارات والمصابيح وسائر ما جمع فيه العوَذ والحروز والدعوات وكتب الردّ على المخالفين وباقي أقسام الكفار المليين وغير المليين، هلاّ كانوا كالإخباريين، لا عناية لهم في الدين وفي ضبط ما يتوقف عليه فهم الكتاب المبين والسنة وأخبار الأئمة الطاهرين فلو كانوا محقّين لكانوا فيها من الزاهدين فإنّ الزهد ينبغي أن يكون في الدنيا والدين. ومنها ،تقسيم الأخبار إلى الأقسام الأربعة كما صنع حجة الله العلامة الحلي(قدس سره )، وقد تقدّمه صاحب البشرى لمعرفة القوي والأقوى والصحيح والأصح، والأعدل والأفقه والأورع، وهكذا ليعرف إن الخبر له قابلية العمل به أولاً وفي مقام تعارض الأخبار يعرف القوي من الأقوى والضعيف من الأضعف، لأن صحّة الخبر وقوته قد تكون من جهة خارجية من شهرة في نقل أو فتوى فقهية بكتاب أو سنّة نبوية أو قواعد شرعية إلى غير ذلك، وقد تكون من جهة المتن في دلالته وفصاحته وبلاغته واقترانه بالمعجزات وقد يكون من جهة السند لاختلاف أحوال الرجال في عدالتهم ووثاقتهم وأوثقيتهم وأعدليتهم وقرب عهدهم وزيادة فضيلتهم إلى غير ذلك والاحتياج إلى معرفة ذلك أشد لعمومه في جميع الأخبار وتكرر اعتباره فيها ولهجت به ألسن الرواة والمحدثين. ثم العلماء على مرور الدهور والسنين ولمّا كانت صحّة الرواية وضعفها مبنية على الوثوق بصدقها وعدمه كان اللازم ضبط جميع الطرق الموصلة إليها لكن جميع الطرق غنيّة عن الجمع ووضع التصانيف لانضباطها وانحصار مرجعها لكن الذي يتشوش فيه البال ولم يمكن ضبطه بمجرد الفكر والخيال، إنما هو حال الرجال. فحال هذا العِلم بَعْد بُعد العهد كحال عِلم اللغة والعربية والأحكام الفقهية وباقي المسائل الأصولية، فهذا التقسيم كان من العهد القديم جارياً على ألسِنة القدماء مذكوراً في كتبهم مستفاداً من كلماتهم، إلا أن الأمر لم يكن مضبوطاً لعدم معرفة المقبول من الروايات والمردود، فحاولوا كشف الحال بوضع هذا التقسيم ليسهل التناول على المحصّلين، فما أدري إن نسبة هذا التقصير الصادرة من الإخباريين إلى المجتهدين ولا سيما من }ملاّ محمد أمين{، هل هي باعتبار وضع الأسماء؟ لأنها لا تجوز حتى تنزل من السماء أو من جهة موافقة ما ذكره العامة، فإن كان من جهة موافقة العامة، فلا وجه له، لأنّا لو تركنا جميع ما ذكره العامة وجمعوه لم يبق لنا مذهب، لأنّا نترك الأخبار التي رووها في أهل البيت( عليه السلام) وفي خصوص أمير المؤمنين( عليه السلام) وجميع الأحكام الموافقة لأحكام الأئمة الطاهرين. ثم نترك جميع المقدمات التي يتوقف عليها فهم الروايات فنكون جاهلين ضالّين معاقبين. ويحسن ذلك منا لمخالفة المخالفين، وربما جرى الحال إلى ما ذكروه في باب التوحيد والمعاد وكل ما يجب فيه الاعتقاد، أو من جهة تسهيلهم الصعب من معرفة الصحيح والضعيف باصطلاح القدماء على الطالبين، أو دعاهم الحسد لهم على ما وفقهم الله من وضع ما يوضّح القابل من غير القابل، لرواية أخبار الأئمة الطاهرين، فإن لم يكن ذلك لم يبق عليهم سؤال، إلا على التدوين ووضعه في كتب الأصوليين، فاعتراضهم على الفقهاء  بمثل هذه الأشياء لا يرضى به جاهل فضلاً عن عاقل.

ومنها التفرقة بين القضاء والإفتاء، فحكموا بلزوم دوام حكم القضاء دون الإفتاء وفيه إن الذي يقتضيه التحقيق والفكر الدقيق أنه لا يجوز تبدل كل منهما بالنسبة إلى ما لم يقطع ببطلانه. فلا يردّ اجتهاد باجتهاد بل يمضي ما قضى به الاجتهاد الأول من العمل قبل حدوث الثاني، إنما يرفع حدوثه ما بعده ما لم يتعلق بأحكام مبنيّة على الدوام، كملكية العقار والنكاح والفراق ومطلق الأملاك فإنه يُحكم ببقائها كما في القضاء والسبب في القضاء، إنه لو لم يبنى على دوامه لفسد النظام، وثارت الفتنة بين أهل الإسلام، ولم ينقطع الجدال والخصام. وفي الفتوى بالنسبة إلى ما بنى على الدوام أنه لولا ذلك للزم الضرر التام بإرجاع الأموال، والأخراج من الأوطان والتفرقة بين الأزواج، ورجوع الأحرار عبيداً والأوقاف أملاكاً وهكذا. والضرر والحرج منفيان، وإنكار العدول من القضاة وأرباب الفتوى عدول عن الإنصاف، فإن العدول منهم لا ينكر، و الشرع على ذلك استمر، وإنما ينسخ الاجتهاد السابق العلم اللاحق دون الظن.

ومنها إنّ طريقه المجتهدين في مذهب الإمامية بدعة فهي ضلاله وسبيلها إلى النار. وفيه، إن الإبداع و الاختراع في طريقة الإخباريين، حيث تبيّن مما ذكرناه في تضاعيف المباحث، إن الرواة و العلماء السالفين كانوا سالكين طريقة المجتهدين وعلى قواعدهم وضوابطهم معتمدين، ولولا ذلك لم يفهموا شيئاً من القرآن المبين وأخبار الأئمة الطاهرين، والمحمّدون الثلاثة من أعاظم المجتهدين، وكذا من سبقهم من علماء الرواة المعتمدين، فلو لم يكونوا بتلك القواعد عارفين، لم يكونوا بأحكام الشرائع عالمين. ولكن يختلف الزمان لأن بعض العلوم يغني فيها اللسان عن البيان، فقد ظهر مما مرّ إن الإخباريين لا تُعرف لهم طريقة، ولا يوقف لمذهبهم على حقيقة، والمحصّل من تتبع أحوالهم وتصفح ما برز من أقوالهم ادعاء أنهم من المعصومين، أو من ينكشف لهم حقائق شريعة سيد المرسلين، وأنهم من الأشرافيين يعلمون من غير نظر ويقطعون بغير خبر، من حال الخبر، وما ذكروه من إن المجتهدين وافقوا العامة في وضع تلك العلوم، مما يُضحِك الثكلى لأن الحكم المشترك إذا كان حقّاً لا يُترَك لاشتراكه، وكذا ما ذكروه من انهم عاملون بأخبار الأئمة الطاهرين لا المجتهدين فإن العاملين بالأخبار الناقدين لهما نقد الدرهم والدينار موافقة لأحاديث الأئمة الأطهار إنما هم المجتهدون.

ومنها مسألة مباحث حجيّة الأخبار فأن العلم بأقسامها وبيان ما يفيد العلم منها، وما لا يفيد، وبيان الأقوى والأضعف، وتفصيل الأخبار المتواترة معناً أو لفظاً، والمحفوفة بالقرائن العلمية، وغيرها. والبحث في حجيّة خبر الواحد وعدمها، وكيفية البناء في مقام التعادل والتراجح  وموافقة التقية ومخالفتها، وموافقة الكتاب ومخالفته، وموافقة الشهرة ومخالفتها، ونحو ذلك، مما يتوقف عليه الرجوع إلى الأخبار والاحتجاج على الأحكام المروية عن الأئمة الأطهار، وذلك لازم لكل من حاول الاستدلال بالروايات على ثبوت الأحكام الصادرة عن الأئمة الهداة. فإن مَن لم يكن له الخبرة بذلك، فليس له قابلية استنباط الأحكام من كلام النبي( صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة( عليه السلام)، ولا يجوز للعوام إن يرجعوا إليه وأن يعتمدوا في معرفة أحكام الشرع عليه فكيف يطعن على المجتهدين ببحثهم عن كيفية الاستدلال بأخبار الأئمة الطاهرين، مع إن مَن لم يوفِّ الكلام حقّه في هذا المقام بإيراد تلك التحقيقات وإظهار تلك التدقيقات بتضمينها في الخطاب، أو تدوينها في كتاب، لم ينفع أبناء جنسه، وكان علمه غير نافع إلا لنفسه. ومَن لم يكن عارفاً بها فليس ممن يليق للنظر في الأخبار، والتعرض لبيان أحكام شريعة النبي المختار، ومعاذ الله أنْ يكون ذلك من المتقدمين ولا من المتأخرين إلا أنْ يكون ممن تأخر عن اختراع }ملاّ محمد أمين{. نعم من أخذ الروايات بطريق المشافهة لا من الكتب المشتملة على الأخبار المختلفة فحاله كحال العوام الآخذين من المجتهدين، إنما يلزمه معرفة كلام العرب وكيفيات مخاطباتهم، فما عسى هؤلاء المساكين المدعوّين باسم الإخباريين، يقولون وما الذي بمزخرفاتهم يريدون، ألم يعلموا إن المجتهدين ما صنعوا شيئاً سوى ذكر ما يتوقف عليه فهم الأحكام من الكتاب أو السنّة النبوية أو أخبار الأئمة( عليه السلام)، وبيان حجيّتها وكيفية الأخذ منها. فإن أنكروا التوقف فقد خالفوا البديهية، إذ لا يخطر ببال جاهل فضلاً عن عاقل توقف حجيّة الأدلّة على معرفة الدليل، والأحكام الشرعية على معرفة الشارع، فلا تعلم حجيّة القرآن إلا بعد معرفة الله ولا حجية الأخبار النبوية إلا بعد معرفة رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم) ولا أخبار الأئمة إلا بعد إثبات إمامتهم، ولا ريب إن الجميع موقوف على معرفة مسائل الكلام، كما إنه لا يخطر ببال أحد من العقلاء إن معرفة خطابات العرب والعجم وغيرهم من أهل اللغات، لا يتوقف فهمها على المصطلحات، والمتكفل بفهم لسان الشرع المتوقف على معرفة لسان العرب، إنما هو علم العربية، كما إن معرفة حال الروايات موقوف على معرفة حال الرواة ومعرفة التعادل والتراجح ومعرفة القابل للعمل والفتوى ونحو ذلك والمتكفل بذلك علم أصول الفقه، كما إن معرفة الإجماع والشهرة يتوقف عليها الترجيح والمتكفل به علم الفقه. فنفي الاحتياج إلى نفس العلوم من الجهالة المحضة، والمنع من جهة التسمية أو التدوين لا يرضى به من عد من أدنى المشتغلين فكل من نسب أحداً من أصحاب الكتب الجامعة للأخبار المختلفة من الأوائل والأواخر، كالكليني والصدوق والشيخ وغيرهم إلى الإخبارية بمعنى جمودهم على الأخبار، وعدم معرفتهم بمسائل تلك العلوم مدونة أو لا، فقد طعن فيهم أشد الطعن، ونسبهم إلى الجهل أو العصيان. فإن الجميع منهم من أعاظم المجتهدين فهم منزهون عن الدخول في زمرة الإخباريين التابعين لهذا الفقير المسكين }محمد أمين{، وأقصى ما هناك حصول التفاوت في المقدمات بحسب قوة الإدراك وضعفه، فقوي الإدراك لا يحتاج إلى النظر في كتب علم الميزان والكلام، وهو قليل الاحتياج إلى النظر في المقدمات التوقيفية بخلاف ضعيفه، وباختلاف القرب والبعد عن المعصوم في كثرة الاحتياج إلى تتبع علم اللغة وغيره من علوم العربية وقلته، وباختلاف كثرة جمع الأخبار المختلفة في كتب الأخبار وقلته، وباعتبار قرب العهد من الرواة والفقهاء في تحصيل الإجماع وبُعدهم وباعتبار طول السلسلة في مراتب الرجال وقصرها إلى غير ذلك، فالأولون أقل مؤنة في تحصيل الاجتهاد والاطلاع على الإجماع من غيرهم على اختلاف مراتبهم والكل مجتهدون. وإذا أردت أن تعرف حقيقة الحال فانظر في حال العوام الآخذين عن العلماء، فإن حالهم كحال الرواة الآخذين عن الأئمة، فمن أخذ منهم مشافهة فلا حاجة له إلا إلى معرفة لسان العالم إنْ عربياً فعربي أو فارسياً ففارسي أو هندياً فهندي، وإذا كان الكتاب واحدا اكتفى بمعرفة اللفظ والكتاب على نحو اللغة التي تبنى عليها، وإذا تعددت واختلفت الفتاوي في الكتب من العالم الحي الواحد، ولم يتمكن من مشافهته ومشافهة غيره، أو من الميت مع تعدد الحي، وجب على المكلف أنْ يبذل وسعه في معرفة المقدّم من الفتوى والمؤخّر، وصريح الدلالة على غيره ومقطوع الصدور، والأصح وغيره إلى غير ذلك، وكذا الحال في أوامر الحكام والمَوَالى ونحوهم وفي الوصايا والسجلات وجميع الخطابات الوضعيات كما لا يخفى.

 

تمتّ الرسالة بلطف الله رب العلمين وببركات النبي( صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين( عليه السلام) في أصفهان حماها من نوائب الحدثان في الليلة الخامسة من شهر رمضان وسميتها الحق المبين في تصويب رأي المجتهدين وتخطئة الإخباريين والله ولي التوفيق.

 

 

قد تمت هذه النسخة الشريفة ويتلوها خاتمتها المشتملة على القواعد الستة عشر.

وقد تصدينا بطبع هذه النسخة الشريفة المسمّاة بالحق المبين في تصويب المجتهدين وتخطئة الإخباريين والاهتمام في مقابلتها من النسخة التي قد قوبلت من نسخة الأصل بعد مقابلة بعض الأفاضل وأنا الأقل الحاج الشيخ أحمد الشيرازي أصلح الله حاله ونور قلبه بمحمد وآله الطاهرين.

 

 
 
البرمجة والتصميم بواسطة : MWD