الملكه القدسية

الملكة القدسية

المقدمة

الحمد لله رَبّ العالمين والصلاة والسلام على أشرف النبيين وخاتم المرسلين محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

إن شروط الاجتهاد تُبحَث بعد تعريف الاجتهاد, ومراد الفقهاء بها الأمور التي يتوقف على حصولها الاجتهاد, وهي نوعان, النوع الأول: شرائط لتحقق الاجتهاد, والنوع الآخر: شرائط لصحة الاجتهاد، ومن المعلوم أنَّ الضرر الواقع مِن عدم معرفة شرائط الاجتهاد وعدم مراعاتها والخطر الجسيم الذي فيها يستوجب بيانها مفصلاً بأجلى وأدق بيان. لذا تأتي أهمّية البحث في توضيح أهمّ شرائط الاجتهاد, وهي الملكة القدسية بعدما ادعى الاجتهاد كلّ من دَبَّ وهبّ. ويرى العلامة الوحيد البهبهاني أن الجهد العلمي والاستدلال الدقيق لا يكفي وحده في استخلاص النتيجة المطلوبة, فهنالك عاملٌ آخر يتمّثل بالجانب الذاتي الذي يتعلَّق بالبُعدِ النفسي, وذلك أنَّ النفس البشرية معرّضة إلى كثير من الشُبَه, وقد تؤدّي إلى حجب الوضوح والوعي لَدَى المحقّقين.

إنّ مَلَكَةَ الاجتهاد تتوقّف على تحصيلها مَلَكَتان هُما ملكة كسبية وملكة قدسية. والملكة الكسبية يتوقف حصولها على معرفة العلوم التي ذكرها الفقهاء وهي العلوم اللغوية من النحو والصرف والمعاني وعلم الكلام وعلم المنطق وعلم أصول الفقه وعلم الحديث وعلم التفسير وعلم الرجال والقواعد الفقهية، ويمكنُ التعبير بشكلٍ آخر, بأنّ الملكة الكسبية للاجتهاد تتوقّفُ على معرفةِ القواعِدِ الأصوليّة والقواعد الحديثية والقواعد الفقهية.

أمّا الملَكة القدسية فهي ما يتناوله البحثُ والتي تعتبر من أهمّ شرائط الاجتهاد.

 

المبحث الأول

تعريف الملكة القدسية

أولاً: تعريف الملكة القدسية:

وهي موهبةٌ إلهيّة من مزيد فطنةٍ وحسن إدراك وقوّة فهمٍ ليست حاصلة لكلِّ أحد، يؤتيها الله من يشاء من عباده على وفق حكمته ومراده، وقد يُعبّر عنها تارة بشم الفقاهة, قال الشهيد الثاني: (وأمّا تلك القوّة –الملكة القدسية- فبيدِ الله تعالى يؤتيها من يشاء من عباده على وفق حكمه ومراده)([1]).

وهذا ما ذهب إليه صاحب الفصول الغروية بقوله: (ومنها -شرائط الاجتهاد- أن يكون له قوّةٌ يتمكّنُ بها من رَدّ الفروع إلى الأصول على وجهٍ يُعتَد به عند أهلِ الصّناعة من الفقهاء الماهرين وهي المعبر عنها بالقوة القدسية)([2]).

ثانياً: اختلاف الملكة القدسية عن ملكة الاستنباط:

من الوهم أنّ المراد من الملكة القدسية هي الملكة المستنبطة المكتسبة من شدة الممارسة للاستنباط, كملكات الطب والتجارة ونحوهما من الحرف والصناعات المكتسبة من ممارسة الأعمال, وذلك لصحّة الاجتهاد أوّل مرّة بعد حصول وتحقق الاستنباط.

وإنّ ملكة الاستنباط هي تلك القوة الحاصلة من معرفة العلوم التي تتوقف عليها تلك المقدمة, وهي غير ملكة الشجاعة والسخاوة من الملكات, إذ الملكة في مثلها إنما تتحقق بالعمل والمزاولة كدخول المخاوف والتصدي للمهالك, فإنّ بذلك يضعف الخوف تدريجياً ويزول شيئاً فشيئا حتّى لا يخاف صاحبه من الحروب العظيمة وغيرها من الأمور المهام، فترى أنه يدخل الأمر الخطير كما يدخل داره, وكذا الحال في ملكة السخاوة, فإن بالإعطاء متدرجاً قد يصل الانسان مرتبةً يُقدِّم غيره على نفسه، فيبقى جائعاً ويطعم ما بيده لغيره.

والمتحصل أن العمل في أمثال تلك الملكات متقدّم على الملكة, وهذا بخلاف ملكة الاستنباط لأنها إنما تتوقف على جُملةٍ من المبادئ والعلوم كالنحو، والصرف، وعلم الأصول وعلم المنطق وعلم الكلام وعلم الحديث وعلم التفسير وغيرها، وعند تحصيلها تحصل له ملكة الاستنباط وإن لم يتصد للاستنباط ولو لحكم واحد فالعمل بالاستنباط متأخّرٌ عن الملكة فلا يتوهم أنَّ ملكة الاستنباط كسائر الملكات غير منفكة عن العمل والاستنباط. فالاستنباطُ متأخرٌ عن الملكة من غير دخل له في حصولها. نعم، تتقوى ملكة الاستنباط بالممارسة بعد تحققها.([3])

وملكة الاستنباط يمكن حصولها للعادل والفاسق والمؤمن والمنافق لتسببه عن أعمال القوة النظرية الحاصلة من اتقان العلوم النظرية الدخيلة في تحصيل الحجة على الحكم.

واكتفى المحقق الاصفهاني في تحقق الاجتهاد بأنه تحصيلُ ملكة الاستنباط من دون حاجة الى قوة قدسية إلهية أو قذف نور منه تعالى في قلب المستنبط، وإن كان كل قوة وكمال علمي أو عملي منه تعالى.([4])

وتتقوى ملكة الاستنباط بالممارسة بعد تحقُّقها في نفسها بينما الملكة القدسية تحصل وتتقوى بكثرة التوسّل بالله والمجاهدة في ذات الله:([5]) [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ]([6]).

ثالثاً: ثمرة الملكة القدسية:

إنّ ملكة الاجتهاد والتي يترتّبُ عليها جوازُ التقليد للمجتهد, وذلك بحصوله على ملكتين: ملكة استنباط وملكة قدسية, وقد يحصل على ملكة الاستنباط دون الملكة القدسية, فهنا عليه أن يعمل على ما توصَّلَ اليه استنباطه, ولكن لا يصحُّ أن يكون مرجعاً للتقليد. وشرط المجتهد الذي يكون مرجعاً للتقليد لابدّ له مضافاً إلى ملكة الاستنباط ملكة قدسية, وإنَّ استقراء مراجع التقليد عبر الحقب الزمنية يؤيد ما ذهبنا إليه.

وقد أوضح الشيخ محمد حسين الاصفهاني أنّ مَن فَقَدَ الملكة القدسية لا يمكن العمل برأيه وتقليده وإن كان مجتهداً، لأنه لا يكون له قدرة على مخالفة هواه، فلا يؤخذ الحكم والفتوى منه وفتواه ليست بحجّة على المكلّفين وإن جاز له العمل برأيه.([7])

وذكر السيد الشوستري أنّ المجتهد الجامع للشرائط النافذ قضاؤه وولايته على القُصَّر وغيرهم هو المجتهد العادل, بل فوق العدالة, بناءً على ما هو المحتمل من رواية التفسير المنسوب الى الإمام العسكري ˆ, ومراده هو الملكة القدسية.

وقال العلامة الميرزا الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائرية: (ومِن الشرائط, القوة القدسية والملكة القوية, وهو أصل الشرائط، لو وجد ينفع باقي الشرائط، وينتفع من الأدلة والإمارات والتنبيهات، بل وبأدنى إشارةٍ يتفطَّنُ بالاختلالات وعلاجها، بل أدنى توجُّهٍ من النفس يتفطّن بالاحتياج إلى الشرائط ويدري إنها لعلاج الاختلالات.([8])

ولقد ذكر كثيرٌ من فحول علماء الأصول في أنّ العمل بالأدلّة وفهم ما يمكن منها أن يَرُدَّ الفروعَ إلى الأصول مِن أنّ جميع ذلك موقوف على صرف ملكة الاستنباط واستعمال القوة القدسية.([9])

رابعاً: تحصيل الملكة القدسية:

تحصل الملكة القدسية بالتوسُّل بالله والمجاهدة في ذات الله, بالالتزام العملي بأوامر الشرع ونواهيه، وتخلية النفس من الرذائل, وتحليتها من فضائل الخلوة والجلوة, فإنّه لا يعزُبُ عن عمله وساوس النفس فضلا عن إعمال الجوارح, ولا رَيْبَ في أن حصول هذه الملكة القدسية في مثل هذه الازمنة كاد أن يلحق بالمحالات إلاّ من شملته العناية الإلهية.([10])

جاء في الفصول الغروية: (وتحصيلُها –أي: تحصيلُ الملكة القدسية- أصعبُ من تحصيل بقية الشرائط بل يتعذّر في حقّ كثيرٍ من الناس, بخلاف بقية الشرائط، فإنّها قد يتيسر لهم لمعاشرة أربابها والمجادلة معهم).([11])

خامساً: الملكة القدسية أعلى رتبة من العدالة:

إنّ الملكة القدسية أهمّ من العدالة في الاجتهاد, ولا يريد الإمام ˆ إفادة أنّ مَن كان يُطهر نفسه بحسب الظاهر ويتملك التقوى ويجتنب الذنوب فبإمكانه أنْ يكون مفتياً ومرجعاً للتقليد وإن كان يميل باطنيا إلى الرئاسة, فآفة الميل إلى الرئاسة أكبر من آفة الميل إلى الشهوة والمال، ولذا أمر الإمام ˆ بتقليد مَن لم يكن مقبلا على الدنيا وكان صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا لهواه مطيعا لأمر مولاه وهذا كلُّه إشارة إلى تلك الملكة القدسية, فالمفتي يجب أن يكون واجدا لذلك المعنى وهو الملكة القدسية، فإن مجرد العدالة التي هي ملكة الاجتناب عن المحرمات وإتيان الواجبات دون الوصول إلى التقوى القلبية والصفاء الباطني لا تُحَقّق مناط التقليد بالنسبة للإنسان فتلك الملكة القدسية التي يحصل عليها مرجع التقليد هي الصفاء الباطني ونورانية القلب اللذان يمنعانه من كلّ التفات الى الدنيا او حب الرئاسة فلا فرق عنده بين أن يزيد عدد طلابه أو يقل, أو أنَّ رسالته العملية طُبِعت أم لا, وإلا فإذا اختلف الامر بالنسبة له ولو بمقدار ذرة حتى لو لم يرتكب المعاصي بحسب الظاهر وكان يصوم ولا يكذب ويجتنب المحرمات ولا يقوم بهذه تصنعا ولكن صفاء ضميره لم يكن بنحو يكون قلبه معرضا عن الدنيا بل يقوم ببعض الاعمال بحسب الميل الدنيوي, فإنه حينئذ يميل الى الدنيا, ولم نقصد من الدنيا الاقتصار على جمع المال والشهوات وإنما كل ما سوى الله فهو دنيا، فإذا كان في قلب الذين هم في طريق المرجعية ميلاً الى الرئاسة وحب الزعامة والتدريس وما شابه ذلك سواء كانوا يقومون ببعض الأعمال لتحصيل مقدمات هذا المنصب أم لا, فنفس هذا الحب هو حب الدنيا، وهذا يمنع من الوصول الى الدرجات العليا, فالشخص الذي لم يصل بنفسه الى الدرجات العليا فكيف يسلّمه الله زمام امور الناس ويجعله متحمّلاً لجميع اثقالهم؟ لذا اشتهر بين أفواه المتشرعة بأنّ المرجعية هي أمانة الله, والله أعرف حيث يضع امانته.

فقد نُقِل عن المرحوم الميرزا الكبير الحاج ميرزا محمد حسين الشيرازي اعلى الله مقامه أنه قال: (إنّي لم اخطُ ايَّ خطوة نحو الرئاسة والمرجعية وإنّ أمر المرجعية قد حصل بنفسه وأخذ بتلابيبي مع أني لم أكن راضياً أيضاً). وينقل عند ترشيحه الى المرجعية لم يكن الميرزا غير مسرور في ذلك المجلس فحسب بل راح يبكي؛ لأنه ألقيت مسؤولية الأمة في عنقه وكان سبب اختياره لهذا المنصب العظيم هو ما اشتهر من قدسيته, مضافاً لعلميته, فكان ذا عقل وفكر وتحمل وسعة يمكنه بالنهوض بهذا الأمر.

وخير شاهد ودليل على هذه الملكة القدسية هو مرجعية آية الله العظمى والمرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني دام ظله وإلاّ كيف تعلَّقَت القلوب بهذا المرجع العظيم حيث وهبه الله هذه الملكة القدسية, فهو حكيمٌ صموت لا ينطق إلاّ عند الملمات, وإذا نطق لا ينحاز ولا يتطرف ولا يتخندق ولا يجرح, يَنْصحُ ولا يفرض, وقد انقادت إليه الرقاب، وهو البوصلة التي تهدي الملايين من المؤمنين إلى حيث يتحركون ويسيرون، فكلمته تصل الى حيث أراد لها أن تصل فهو له الملكة القدسية النورانية مما جعل الله له الهيبة فلا تطمئن نفوس المؤمنين إلا إليه، ترك الدنيا وأعرض عنها فعرف الدّاء والدَّواء فعالجها بالحكمة والموعظة والحلم والصبر والزهد، فتَفزعُ الناس إليه عند الشدائد والملمات فيكون لها خير ملجأٍ ومأمنٍ وحصن.

 

المبحث الثاني

أقوال العلماء في الملكة القدسية والدليل عليها

أولاً: أقوال العلماء:

اعتبر الشهيد الثاني إنّ العمدة في الاجتهاد هو الملَكَة القُدسيّة في استنباط الأحكام من الموارد ورَد الفروع إلى أصولها.([12])

وذكر الشهيد الثاني في مُنية المريد إشارة الى هذه الدرجة من النور الإلهي حيث إنه بعد أن عدَّ عدداً من الشرائط اللازمة للاجتهاد, وبيّن العلوم التي على الإنسان أن يحصلها كمقدمة لذلك، وما على الذين يرومون التفقه في الدّين من الحصول على هذه العلوم ، حتى يصل ويقول: (ولا يكون ذلك كله إلا بهبة من الله تعالى إلهية وقوة منه قدسية توصله الى هذه البغية, وتبلغه هذه المرتبة، وهي العمدة في فقه دين الله تعالى ولا حيلة للعبد فيها، بل هي منحة إلهية ونفحة ربانية يخص بها من يشاء من عباده, إلاّ أن للجد والمجاهدة والتوجّه إلى الله تعالى والانقطاع إليه أثراً بيّناً في إفاضتها من الجناب القدسي [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ]([13]))([14]).

ومِن الممكن أنْ يكونَ مرادُ الشهيد الثاني من هذه الملكة القدسية نفسُ حالة التقوى الباطنية التي هي ذلك النور الذي يمُن الله به، وليس هو العلّم بالتعلم إنما هو نورٌ يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه([15]).

فذلك النور الذي يمنحه الله للإنسان, ويتعلَّم الإنسان جميع العلوم الحقيقية بواسطته ويتميّز عن العلوم الاعتبارية وغير الحقيقية هي تلك الملكة القدسية التي أشار إليها رحمه الله والتي هي نفس صفاء الباطن والنورانية التي أشار اليها إجمالا.

وأوضح صاحبُ الفصول الغروية بأن القوة القدسية لها مَدخَلٌ كبير في الاجتهاد بقوله: (أن يكون له قوّة يتمكن بها من رَد الفروع إلى الأصول على وجهٍ يعتدّ به عند أهل الصناعة من الفقهاء الماهرين, وهي المعبّر عنها بالقوة القدسية)([16]).

ولقد ذكر كثير من فحول علماء الأصول في أن العمل بالأدلة وفهم ما يمكن منها أن يَرُدّ الفروع إلى الأصول من أن جميع ذلك موقوف على صرف ملكة الاستنباط واستعمال الملكة القدسية.([17])

قال صاحب عناية الأصول: (أن يكون له قوّةٌ يتمكن بها من رد الفروع إلى الأصول على وجهٍ يُعتد به عند أهل الصناعة من الفقهاء الماهرين, وهي المعبَّر عنها بالقوة القدسية)([18]).

وذُكر أن المرحوم آية الله العظمى السيد أبو الحسن الأصفهاني قد اعترض على كلام المرحوم آية الله العظمى السيد محمد كاظم اليزدي في العروة الوثقى حيث أنه وفقاً للحديث الوارد في التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري ˆ يشترط في المجتهد مضافاً للعدالة (أن لا يكون مقبلاً على الدّنيا وطالباً لها ومكبّاً عليها مجداً في تحصيلها) يعني مضافاً للعدالة يجب للفقيه أن تكون له ملكة قدسية.([19])

فاعترض عليها المرحوم السيد أبو الحسن الاصفهاني بأنه إذا كان طلب الدنيا على وجه الحرام فهو موجب للفسق ومناف للعدالة؛ وعليه فاعتبار العدالة مغنٍ عن اعتبار هذه الصفات, وإذا لم يكن على وجه الحرام فلا يكون مانعاً عن جواز التقليد، والصفات المذكورة تعبيرٌ آخر عن العدالة.([20])

ولكن يجب القول إن ثمة إشكال في كلام السيد أبو الحسن الأصفهاني؛ لأنّ الرواية تدلّ بظاهرها على أنه يجب أن يكون في مرجع التقليد ملكة صالحة لا تسمح له بالإقبال على الدنيا وتجعله مطيعاً لأمر مولاه باستمرار، وأن يكون ممتلكاً في باطنه لفكر ودافع إلهي يحوّل وجهته عن عالم الغرور ويوجهه نحو عالم البقاء، ويجعل قلبه منجذباً إلى تلك الجهة، لا أن يكون لديه مجرد ملكة يتجنّب بواسطتها عن الحرام في الخارج فحسب دون أن تحقق فيه تلك الدرجة من السلامة الباطنية، وبين القولين بونٌ شاسعٌ كما ترى.([21])

ثانياً: الدليل على الملكة القدسية:

إنّ الحديث مروي عن الإمام الحسن العسكري ˆ في التفسير المنسوب إليه, والمنقول كذلك في كتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي، وقد ذهب الشيخ الطبرسي إلى أن آثار الصدق ظاهرة على هذا الخبر لمرجعية التقليد لما روي.([22])

إن شرط ثبوت الملكة القدسية في تفسير الإمام الحسن العسكري ˆ: (مَن كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه)([23]). وهذا الخبر وإن كان ضعيفاً إلا أن اعتماد الفقهاء عليه واستنادهم إليه أوجب الوثوق بصدوره.

فشَرْطُ أن لا يكون مقبلاً على الدنيا وطالباً لها ومكباً عليها مجدّاً في تحصيلها هو القوة القدسية أو الملكة القدسية, وهذا الشرط غير العدالة فإنّ العدالة توجد في تاجر المال مع أنه مقبلٌ على الدنيا وطالبٌ لها ومكبٌ عليها. مضافاً إلى ما دلّ على ذمّ حُب الدنيا والانكباب عليها والتفاني في سبيلها, فإنها تدُل بفحواها أنّ مَن تلبّس بذلك لا يصلح للمرجعية في التقليد ولم ينل المرتبة العالية من العلوم الدينية, فإنها منحة إلهية لا تُعطى إلا لمن أخلص لله وأزال حب الدنيا عن قلبه وهواه، فإن حُبّ الدنيا سبب كُلّ ظلمة وغشاوة، ورأس كل خطيئة ومعصية.

وقد ورد بعدّة طرقٍ عن الأئمة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أنه: (ما ذئبان ضاريان في غنم قد فارقهما رعاؤها, هذا في أولها وهذا في آخرها بأفسد فيها من حب المال والشرف في دين المسلم)([24]).

وفي الكافي في رواية عليّ بن إبراهيم بسنده عن حفص بن غياث عن الإمام أبي عبد الله الصادق ˆ: (كيف يكونُ مِن أهل العلم مَن هو في مسيره الى آخرته وهو مقبل على دنياه، وما يضرّه أحب إليه مما ينفعه)([25]).

وما في الكافي أيضاً بسنده عن الإمام أبي عبد الله الصّادق ˆ في ذكر مناجاة النبي موسى ˆ: (يا موسى إنّ عبادي الصالحين زهدوا في الدنيا بقدر علمهم، وسائر الخلق رغبوا فيها بقدر جهلهم)([26]).

ويترتب على الملكة القدسية شمّ الفقاهة, فقد وَرَدَ أن مرجع التقليد لا يكون مرجعاً حتى يكون له شم الفقاهة التي يفرق بها لحن الخطاب ورمزه من الأدلة، فإنّ الحكم المتصيّد من مجموع خطابات الشارع أو مِن مجموع أفعاله حجة أو مجموع سيرته أو طريقته وتقريره, أو متصيّد مِن كيفية خطاباته وألحانه ورموزه وظواهره وبطونه.([27])

ولا ينبغي التأمّل في اعتبار ما ينقدح في ذهن مرجع التقليد من تتبع الأدلة بالانبعاث عن الذوق السليم والإدراك المستقيم بحيث يكون مفهوماً من مجموع الأدلة، فإن ذلك من جملة المنصوص، فإنّ للعقل على نحو الحس ذوقاً ولمساً وسمعاً وشماً ونطقاً من حيثُ لا يصل إلى الحواس، فاعتبار المناطيق والمفاهيم والتعريضات والتلويحات والرموز والإشارات والتنبيهات ونحوها من مقولة واحدة إذ ليس مدار الحجية إلا على التفاهم عرفا.([28])

ومن الفقهاء من لا يملك القوة القدسية فقدَ حاسّة الشم فجمُد على ما رآه أو سمعه, لا ينتقل من شيء الى آخر, ولا من مفهوم الى مفهوم, ولا من مراد الى مراد؛ لعدم تبينه أنفه له، لأن من لم يشم الشيء لا يهتدي إليه إذا كان لا يبصره ولا يسمعه, فجمد على المناطيق والنصوص.

فمثلا حُقِّقَ في أصول الفقه أنّ مفهوم الوصف ليس بحجة، وفي كثير من الأخبار يظهر اعتبار ذلك المفهوم باعتبار خصوصية المقام، فالغافل يعترض عليه بأنه مفهوم الوصف وهو ليس بحجة على ما هو محقق في الأصول, سيما إذا كانت القرينة لم تكن بذلك الجلاء، إذ قد عرفت أنّ تعليق الحكم على الوصف مُشعِرٌ بالعلية، فإذا تقوّى ذلك الإشعار بخصوصية مقام يحصل القدر المعتبر من الظهور. ومثاله: ما ورد في صحيحة الفضيل عن أبي عبد الله ˆ في غاية خيار الحيوان، قال: (قلت له: ما الشرط في الحيوان؟ فقال: إلى ثلاثة أيام للمشتري, قلت: فما الشرط في غير الحيوان؟ قال: البيعان بالخيار مالم يفترقا)([29]). هذا كالصريح في تخصيصه بالمشتري، ومع ذلك يعترض بأن دلالته بمفهوم الوصف وهو ليس بحجة, وقس على ذلك.

 فشمّ الفقاهة التي هي ثمرة الملكة القدسية من الأدلة الشرعية, والظن الحاصل به دليل شرعي, فمن نظر وتتبع أحوال الفقهاء من قديم الزمان الى الآن يجد أنه لولا أن شم الفقاهة من مجموع الأدلة أو من مفرداتها ومن أدلة كل باب منها لما كتبوا كتب الفروع وأكثروا من تشقيق المسألة الواحدة إلى ما يقرب المئات وأفتوا بها, وليس عندهم نصٌّ في ذلك من عموم أو خصوص, كالعلامة الحلي في ثلثي القواعد والتحرير وكذا في الدروس بل والمبسوط, وحاشاهم من الأخذ بغير دليل أو عمل بالقياس والاستحسان, بل عملهم على الظنون الناشئة عن الأدلة الخاصة, وهو معنى الشم. فظهر أنه لا يجوز الأخذ بكل ظنٍ ولا الجمود على الظنون المخصوصة, بل هو أمرٌ بين أمرين, فالظنُّ الحاصل من شمّ الفقاهة التي هي ثمرة القوة القدسية حجة شرعية.

 

المبحث الثالث

الامور التي تتوقف عليها الملكة القدسية

أولاً: الأمور التي تتوقف عليها الملكة القدسية:

هنالك أمور تتوقف عليها الملكة القدسية لحصولها لمرجع التقليد منها:

الأمر الاول:

أنْ لا يكون مرجع التقليد معوَجُّ السليقة، فإن اعوجاج السليقة آفة للحاسة الباطنة كما أنّ الحاسة الظاهرة ربما تصير مؤوفة، مثل ما يكون بالعين آفة تدرك الأشياء بغير ما هي عليه، و بالذائقة أو غيرهما.([30])

والاعوجاج ذاتيٌّ كما ذكر وكسبيٌ باعتبار العوارض, مثل سبق تقليد أو شبهة اعجبته غفلةً, وما يناسب ذكره شاهداً على اعوجاج السليقة ما رُوي أنّ في زمان الإمام محمّد الباقر ˆ كان رجلٌ يسرق فيتصدّق به محتجاً بقوله تعالى: [مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ]([31]) معتقداً أن عشر حسناته بإزاء سيئة سرقاته, ويبقى له تسعة أعشارها وهي تنفعه، وكان يكابر مع الإمام ˆ ولا ينتهي بقوله ونهيه.

وكذا الرّجُلُ الذي في زمانِ الإمام الصّادق ˆ يُوجِب غسل دبره بخروج الريح ومنشأ خياله ظاهر.

وقد بلغ اعوجاج السليقة ببعضهم بدعواه طهارة المني لقوله تعالى: [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَم]([32]).

ويحكى أنّ بعض القضاة حكم بدفن رجل حيٍّ شهد الشهود بموته في زمن غيبته وثبت عندَه موتُهُ وحَكَمَ به زاعما أنّه ميّت شرعاً والميت يجب دفنه شرعا.([33])

وطريقةُ معرفة اعوجاج السليقة هو العرض على أفهام الفقهاء واجتهاداتهم فإن وَجَدَ فهمه واجتهاده وافق طريقة الفقهاء فليحمد الله ويشكره، وإن وجده مخالفاً فليتهم نفسه.

وربما يلقي الشيطان في قلبه: إن موافقة الفقهاء تقليدهم, وهو حرام ونقص فضيلة، فلا بد من المخالفة حتى يصير الإنسان مجتهداً فاضلاً, ولا يدري إن هذا الغرور من الشيطان, وإن حاله حينئذ حال ذي العين المؤوفة أو الذائقة المؤوفة أو غير ذلك حين قالوا له: ليس هاهنا مرارة فيقول لهم: أنا أراه مراً  ولا أقلّدكم وتكونون أفضل مني.([34])

الامر الثاني:

أن لا يكون في قلبه محبة الاعتراض والميل إليه بحيث متى ما سمع شيئاً يشتهي أن يعترض عليه إما حباً لإظهار الفضيلة أو أنه مرضٌ قلبي, ومثل هذا لا يكاد يهتدي ولا يعرف الحق من الباطل، بل ربما رأينا بعض الفضلاء الزاهدين البالغين أعلى درجة الفضل والزهد فسدَّ عليه بعض اصول دينه فضلاً عن الفروع بسبب هذه الخصلة الذميمة, وقد شبّه العلامة الوحيد البهبهاني هذا البعض بالكلب العقور.([35])

وبعض من الطلبة يعجبه التكرار والإكثار من المعاودة والمباحثة وتحصيل المهارة الكاملة، وربما يتوهم لزوم ذلك إلى أن يصرف عمره فيه، ولذا ترى غالب الطلبة لا يبلغون درجة الاجتهاد بل يموتون وغاية ما يصل إليه أحدهم أنه نحويٌ أو صرفي أو منطقي أو كلامي إلى غير ذلك، فيصرف تمام عمره في تحصيل مقدمة من المقدمات ذي المقدمة، مع أنّ الفقه أيضاً مقدمة للعبادة التي خُلِقَ لأجلها, فيضيع عمره أو يصرفه في غير مصرفه.

وأعجب مِن هذا أنهم يصرفون عمرهم في الفلك والحساب وأمثال ذلك، ويعتذرون أنه رُبما يكون له نفع للفقه, وربما يتسرعون في الفقه في أواخر عمرهم، وبحسب العادة يصعب حصول معرفة صنعة أو علم في أواخر العمر، لا سيما إذا تشوّش الذهن بسبب أنسه بالاحتمالات والاعتراضات الحكمية والكلامية وغيرها، ولذا ربما يتكلمون بكلمات يشمئز منها الفقه غاية الاشمئزاز لعدم أنسهم بطريقة الفقاهة، ويعترضون على أدلة الفقه بأيّ احتمالٍ يكون، فلا يكاد يثبت عندهم مسألة فقهية.

الأمر الثالث:

أنْ لا يكون لجوجاً عنودا، فإنّا نرى كثيراً من الناس إذا حكموا بحكم في بادي نظرهم أو تكلّموا بكلام غفلة أو تقليد أو من شبهة سبقت إليهم أنهم يلحّون ويكابرون لإثباتها, مِن قبيل الغريق يتشبّثُ بكلِّ حشيش للتتميم والتصحيح, وليس همّتهم متابعة الحق, بل جعلوا الحق تابع قولهم.([36])

وهذا النّوعُ من الفقهاء لا يهتدي, بل رُبما ينكر البديهي ويدعي خلافه، فهذا حاله في البديهيات فما ظنّك بالنظريات القطعية فضلاً عن الظنية، فإن الظن قريب من الشك والوهم, وبأدنى قصور أو تقصير يخرب ويزول, لا سيما الظنيات التي وقع فيها الاختلال والاختلاف من وجوه متعددة, ويحتاج إلى رفعها وعلاجها شرائط كثيرة.

الأمر الرابع:

نرى كثير من طلاب العلم في أول أمرهم في نهاية قصور الباع وفقدان الاطلاع ومع ذلك مستبدون برأيهم القاصر الجاهل الغافل، فإذا رأوا كلام المجتهدين ولم يفهموا مرامهم لقصورهم وفقد اطلاعهم يتسرّعون في الطعن عليهم بأن ما ذكرتم مِن أين؟ بل كل ما لا يفهمونه ينكرونه ويشنعون عليهم ولا يتأمّلون إن الإنسان في أول أمره قاصر عن كل علم، وكذا عن كل صنعة، وكذا عن كلِّ أمرٍ جزئي سهل، فضلاً عن الأمور الكلية العظام المشكلة، وإنه مالم يكِدّ ويجِدّ في الطلب والتعب في تحصيل ذلك الجزئي لم يحصل له، فكيف يتوقع درك الأمور المشكلة العظيمة، والوصول إلى مرتبة المحققين والمجتهدين مع أنه لم يتهم بعد رأيه القاصر, ولم يهتم بتحصيل ما يخالف فهمه القاصر. هذا حال الطلبة, وأما المجتهد فهو أيضاً لا بدّ أن لا يستبد برأيه بمجرد أول نظرة، بل يتردد ويتأمل.([37])

الأمر الخامس:

أن لا يكون له حِدّة ذهن زائدة، بحيث لا يقف ولا يجزم بشيء مثل أصحاب الجربزة([38]).

واعلم أن الجربزة يراد بها غاية سرعة الذهن وسرعة الانتقال بحيث لا يثبت على ما يرجّحه مِن شدة سرعة خاطره, فينتقل ذهنه إلى وجه يرجّح ضد ما يرجحه, أو لا يقف ذهنه مِن شدة سرعته على شيء.

والجربزة هو جانب إفراط الجودة، كما أن البلادة جانب تفريطها، فالجودة واسطة معتدلة وهي من الكمالات كالشجاعة. ولا ضير في تجدد الرأي مع تجدد النظر أحيانا.([39])

الأمر السادس:

أن لا يكون بليداً لا يتفطن بالمشكلات والدقائق، ويتقبّل كلما يسمع ويميل مع كل قائل، بل لابد فيه من حذاقة وفطنة, وأن يكون ذا فكرٍ صائب ورأي ثاقب سريع الانتقال مِن الدليل إلى مدلوله, ومِن الملزوم إلى لازمه, ومن الأصل الى فرعه، ومن الظاهر الى باطنه، ومِن مجموع الأدلة الى أحكام غير منصوصة وفروع غير مذكورة، ويَعرف الحق من الباطل.([40])

الأمر السابع:

أن لا يكون مدّة عمره متوغّلاً في علم الكلام أو الفلك أو النحو أو غير ذلك مما هو طريقته غير طريقة الفقه، ثم يَشرع بعد ذلك في الفقه, فإنّه يخرب الفقه بسبب أنس ذهنه بغير طريقة الفقه، والف فهمه بطريقة الكلام وأمثاله، وقد رأينا كثيراً من الماهرين في العلوم من أصحاب الأذهان الدقيقة السليمة أنهم خربوا الفقه؛ لأن منهجهم كلامي أو فلسفي او لغوي, فإن لكل علم منهجية معينة. بل إن صرف العمر في بعض العلوم يمنع من تهذيب النفوس, وربما يورث القساوة كما ورد في الحديث في علم النحو.([41])

الأمر الثامن:

أن لا يأنس بالتوجيه والتأويل في الآية والحديث إلى حَد تصير المعاني المؤوّلة مِن جملة المحتملة المساوية للظاهر المانعة عن الاطمئنان به، كما هو ديدن البعض، وأن لا يعوّد نفسه بتكثير الاحتمالات في التوجيه فإنه أيضاً ربما يفسد الذهن.([42])

الأمر التاسع:

أن لا يكون جريئاً غاية الجرأة في الفتوى كبعض الأطباء الذين هم في غاية الجرأة، فإنهم يقتلون كثيراً بخلاف المحتاطين منهم، وقد قيل: إن الجريء في الفتوى ربما يكون من قبيل قاطع الطريق إلى الله تعالى.([43])

الأمر العاشر:

أن لا يكون مفرطاً في احتياطاته بحيث يخرب الفقه، بل كل مَن أفرط في الاحتياط لم نَرَ له فقهاً لا في مقام العمل لنفسه ولا في مقام الفتوى لغيره. وقد امتلأت بعض الرسائل العملية بكثرة الاحتياطات حتى ظنّ إنّ من كثرة احتياطاته دليل على أعلميته.([44])

الأمر الحادي عشر:

أن يصرف عمره في تهذيب أخلاقه لما عرفت من اشتراط الملكة القدسية لمرجع التقليد، ولأن العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء،([45]) سيما الفقه والنور لا يُقذف في قلب رديء الأخلاق مع أنه لو قذف فنعوذ بالله من العالم رديء الأخلاق فإنه شرُّ الناس؛ وذلك لأنه من الصادّين عن سبيل الله وقطاعي الطريق إليه تعالى.([46])

والتحقيق:

إنّ هذه الأمور المذكورة التي تُشترط في الملكة القدسية كلها ترجع الى اعتبار اعتدال السليقة واستقامة الطبيعة وحسن الفطنة دون البلادة في الذهن وشذوذ التفكير واعوجاج الفهم.

ولعل ذلك إنما يحصل بالتوجه نحو الله تعالى والتوسل بالنبي وآله الأطهار G، فإنّ العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء، كما إن دراسة أحد الكتب الفقهية الاستدلالية الموسّعة والحضور على يد أحد الأساتذة المهرة والمذاكرة في المسائل لها أبلغ الأثر في القوة على الاستنباط والاطمئنان بحصول الملكة القدسية والقدرة الكاملة على الاستنتاج.

ثانياً: الاعتراضات على الملكة القدسية:

الاعتراض الأول:

لاشك في اختلاف المجتهدين المعتبرين في المسائل الفقهية، ولا بُدّ من أن يكون واحد منهم مصيب والباقون مخطئون، فيلزم في كون المخطئين فاقدي الملكة القدسية في المسائل التي أخطأوا فيها، ويكون المجتهد هو المصيب فقط، والباقون ليسوا بمجتهدين لفقدهم للملكة القدسية التي هي شرط الاجتهاد.([47])

الجواب:

إنّ المعتبر هو قوّةُ الفهم، وليس المعتبر مطابقة الفهم للواقع ، فخطأ المجتهد في المسألة لا يوجب سلب الملكة القدسية عنه كما ذَكَرَهُ بَعضُهُم على ان الاختلاف بين المجتهدين غالباً ينشأ من الخلاف في المبنى.

الاعتراض الثاني:

إنّ اعتبار الملكة القدسية تنافي وجوب التقليد على العامي, إذ لا طريق له إلى إحرازها في المدعي للاجتهاد.

الجواب:

إنّ الملكة القدسية نظير العدالة ومعرفة العلوم التي يتوقف عليها الاجتهاد، فإنها تعرف بالرجوع الى أهل الخبرة وشهادتهم على ذلك، وقد تعرف بالاختبار والمخالطة، فإن العامي قد يحصل له الاطمئنان بقدرة الشخص على ذلك إذا رأى فيه قوة الذكاء في باقي الأمور.

الاعتراض الثالث:

إنّ اعتبار الملكة القدسية ينافي القول بوجوب الاجتهاد عيناً او كفايةً؛ لأن المكلف إما أن لا يكون له تلك الملكة فلا يجب عليه الاجتهاد لعدم تمكنه منه, وإما أن تكون له الملكة وهو لا يعلم بحصولها عنده وهي شرط وجوب لا شرط وجود، لعدم قدرة المكلف عليها، لكونها موهبة من الله تعالى، ومع عدم العلم بالشرط لا يجب المشروط لعدم إحراز التمكن منه.

الجواب:

إنّ كثيراً من الناس يحرز الملكة القدسية عنده، كما إن الشك في القدرة على العمل والتمكن منه لا يعتنى به بسبب الشك في الملكة القدسية إذ ما مِن واجب إلا والمكلف لا يعلم قبل الإتيان به بتمكنه منه واقعاً لاحتمال طرق العجز في الأثناء أو عدم القدرة عليه, ولذا لا تجري أصالة عدم القدرة على العمل عند الإتيان به، مضافاً إلى أن بناء العقلاء على وجوب العمل مع هذه الاحتمالات.

الاعتراض الرابع:

إن مصنفي الكتب الأربعة الكافي ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب والاستبصار مصرّحون بجواز العمل بالأحاديث من دون توقف على ملكة أو غيرها سوى فهم الحديث لتصريحهم بذلك, فقول الصدوق في مَن لا يحضره الفقيه بأنّ وضع هذا الكتاب إنما هو لأن يرجع إليه ويعمل بما فيه, ولتصريح صاحب الكافي بأنه كتاب يرجع إليه المسترشد ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به, ولتصريح الشيخ الطوسي أن تهذيبه يصلح أن يكون مذخوراً يرجع إليه المبتدي في تفقهه والمنتهي في تذكيره والمتوسط في تبحره.([48])

الجواب:

إنما يلزم جواز الرجوع إلى هذه الكتب الحديثية والعمل بالحديث لمن كان يفهم الأحاديث ومستجمعاً لشرائط الاستنباط، ولا يلزم من كلامهم رحمهم الله عدم اعتبار شرائط الاجتهاد التي منها الملكة القدسية.

الاعتراض الخامس:

إنّ الأحكام الشرعية إمّا أن تستنبط من قواعد شرعية كقاعدة الحلّ والطهارة وعدم نقض اليقين بالشك، فلا تحتاج الى الملكة القدسية، ولذا كلُّ عاميّ يتمسك بها في الشبهات الموضوعية ولم تكن لكل واحد من العوام تلك الملكة إذ لو كانت موجودة في جميع العوام لما كانت شرطاً يختص بها بعض الناس. وإما أن تستنبط من الأخبار ولا يحتاج استفادة الأحكام منها الى تلك الملكة القدسية بدليل تقرير المعصومين G معاصريهم مِن العالِم والعامي على العمل بأخبارهم Gبمجرد السماع لمن فهمها من دون توقف على حصول شرط آخر وهو الملكة القدسية, بل ولا على حصولها غيرها.([49])

الجواب :

إن استفادة الأحكام من القواعد الشرعية في الشبهات الحكمية تحتاج إلى فريدة ذكاء وفطنة ليفحص الأدلة ويحرز دلالتها أو عدم دلالتها على المسألة. وهكذا استفادة الأحكام من الأخبار في هذا العصر فإنه يحتاج إلى مزيد فهم وفطنة وبصيرة لتعارضها وتخصيصها وتقييدها وتخصصها وإعمال الأصول اللفظية، فلا يستغني الإنسان عن الملكة القدسية.

وهذا بخلاف الملقي للعامي من الإمام المعصوم فإنّ العامي إذا ألقى إليه الامام ˆ الحكم في مسألته يعلم أنه هو حكم مسألته لعدم اختلاف الوارد مع المورد من المعصوم، فهو نظير القاء الفتوى من المجتهد لتلميذه.

 

الخاتمة

إنّ النتيجة مما تقدَّم أنّهُ لا يكفي ملكة الاستنباط عند المجتهد في جواز تقليده وأن يكون مرجعاً للتقليد, وإن وجب عليه العمل على رأيه, ولا يجوز له التقليد وإلا إن حصول ملكة الاستنباط الكسبية أصبح في هذه الأزمنة المتأخرة بتوفر وسائل العلوم المقدمة لها سهْل, ونرى كثيراً ممن يدعي حصوله على ملكة الاستنباط ويدعو الناس إلى الرجوع إليه في أخذ الفتوى الشرعية.

إنّ خطورة هذه الدعوى تجعل رقاب وأموال ودماء وأعراض الناس بيده, ومما يؤسف له أن في العصور المتأخرة قد انحصر في أذهان الناس أنه يكفي ملكة الاستنباط في الرجوع إلى تقليده من دون التفحص على ملكته القدسية, وانحصر التفحص على ملكة الاستنباط دون غيرها, وصار لفظ الأعلمية هو مَدَارُ البَحثِ والدَّرسِ والتقديم والتأخير الذي حُصر في ملكة الاستنباط.

نعم لمرجع التقليد أن تتوفّر عنده ملكتان: ملكة الاستنباط والملكة القدسية التي هي أعلى رتبة من العدالة, وعلى هذه النتيجة لو أن مجتهداً عنده ملكة الاستنباط وتوفرت فيه العدالة وكان يومياً يقضي ساعتان من وقته للاستجمام على نهر مِن دون أن يراه أحد, أو كان يشتري العقارات, ويحب تربية الحيوانات, أو يحب جمع الأشياء النادرة, فهذا ليس بحرام ولا يخدش بالعدالة, ولكن يخدش بالملكة القدسية, فلا يمكن أن يكون مرجعاً للتقليد, فالمرجعية للتقليد على مر الأزمان تمثّلت ممن كان مخالفاً لهواه, أي لا تكن في نفسه حُبُّ الدنيا وحطامها.

والحقيقة أنّ الملكة القدسية مِن الأمور الغيبية تحديدها وشروطها وتحصيلها أمور لا تُضبط ولكن آثارها وثمراتها أوضح من الأعيان لمن كان له قلب سليم وتتبَّع سير مراجع الدين.  

 

المصادر

خير ما نبتدئ به القرآن الكريم.

أوثق الوسائل/ موسى التبريزي (ت1305هـ)/ مكتبة الكتبي النجفي/ قم/ 1399هـ.

بحار الأنوار/ العلامة المجلسي (ت1110هـ)/ ط2/ الناشر مؤسسة الوفاء/ بيروت/ 1403هـ-1983م.

بحر الفوائد/ الميرزا الآشتياني (ت1319هـ)/ مكتبة آية الله العظمى المرعشي/ قم/ 1403هـ.

تمهيد القواعد/ الشهيد الثاني (ت966هـ)/ مكتب الإعلام الإسلامي/ تحقيق مكتب الإعلام الإسلامي/ قم/ 1416هـ.

التنقيح في شرح العروة الوثقى/ تقريرات الشيخ علي الغروي لأبحاث السيد أبو القاسم الخوئي.

جامع السعادات/ الشيخ محمد مهدي النراقي (ت1209هـ)/ نحقيق السيد محمد كلانتر/ مطبعة النعمان/ النجف الأشرف/ الناشر دار النعمان للطباعة والنشر.

الرسائل الأصولية/ العلامة الميرزا محمد باقر الوحيد البهبهاني (ت1205هـ)/ ط1/ قم/ مطبعة أمير/ 1416هـ.

الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية/ الشهيد الثاني (ت966هـ)/ الناشر منشورات جامعة النجف الدينية.

شرح مقدمة كشف الغطاء/ الشيخ حسن كاشف الغطاء (ت1262هـ)/ مخطوط/ بخط المرحوم عبد المجيد هادي كاشف الغطاء 1321هـ/ مكتبة كاشف الغطاء العامة.

عناية الأصول/ السيد الفيروزآبادي (ت1410هـ)/ مكتبة الفيروزآبادي/ قم/ 1400هـ.

الفصول الغروية/ محمد حسين الاصفهاني (ت1354هـ)/ دار إحياء العلوم الإسلامية/ قم/ 1404هـ.

فقه الاجتهاد والتقليد/ السيد هادي الروحاني/ تقريرات السيد محمد صادق الروحاني.

الفوائد الحائرية/ الميرزا الوحيد البهبهاني (ت1205هـ)/ تحقيق لجنة تحقيق مجمع الفكر الإسلامي/ الناشر مجمع الفكر الإسلامي/ قم/ 1415هـ.

القول الرشيد في الاجتهاد والتقليد/ السيد المرعشي (ت1411هـ)/ ط1/ مطبعة ستارة/ الناشر مكتبة آية الله العظمى السيد المرعشي النجفي/ قم/ 1422هـ-2001م.

كتاب ولاية الفقيه/ المجلد الثالث/ القسم الرابع/ ميزان اعتبار التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري ˆ / موقع انترنت علوم ومعارف إسلامية/ الملكة القدسية.

كنز العمال/ العلامة علاء الدين علي المتقي الهندي (ت975هـ)/ الناشر مؤسسة الرسالة/ بيروت/ 1409هـ-1989م.

لسان العرب/ ابن منظور (ت711هـ)/ الناشر أدب الحوزة/ 1405هـ.

مصادر الحكم الشرعي والقانون المدني/ الشيخ علي كاشف الغطاء (ت1411هـ)/ ط1/ مطبعة العاني/ بغداد/ 1410هـ-1990م.

مفاتيح الأصول/ السيد محمد المجاهد (ت1242هـ)/ مؤسسة آل البيت G/ قم.

منتهى الدراية/ السيد محمد جعفر المروّج الشوستري (ت1430هـ)/ دار الكتاب/ قم/ 1415هـ.

منية المريد/ الشهيد الثاني (ت966هـ)/ تحقيق رضا المختاري/ ط1/ مطبعة مكتب الإعلام الإسلامي/ 1409هـ.

نهاية الدراية في شرح الكفاية/ الشيخ محمد حسين الغروي الإصفهاني (ت1361هـ)/ مكتبة سيد الشهداء ˆ / تحقيق مهدي أحدي ورمضان قلي زادة/ قم/ 1374هـ.

النور الساطع في الفقه النافع/ الشيخ علي كاشف الغطاء (ت1411هـ)/ مطبعة الآداب/ 1381هـ-1961م/ النجف الأشرف.

الوحيد البهبهاني وآراؤه الأصولية/ رسالة دكتوراه/ الباحث محمد عبد الحسن الغراوي/ المشرف عبد الأمير كاظم زاهد.

وسائل الشيعة/ الحر العاملي (ت1104هـ)/ تحقيق مؤسسة آل البيت Gلإحياء التراث/ ط2/ مطبعة مهر/ قم/ 1414هـ.

ولاية الفقيه في حكومة الإسلام/ السيد محمد حسين الحسيني الطهراني/ موقع علوم ومعارف الإسلام الحاوي على مجموعة تأليفات آية الله السيد محمد حسين الحسيني الطهراني Q.

 

 

 

([1]) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية/ الشهيد الثاني/ 3/ 66.

([2]) الفصول الغروية/ محمد حسين الاصفهاني/ 404.

([3]) التنقيح في شرح العروة الوثقى/ تقريرات الشيخ الغروي لأبحاث السيد أبو القاسم الخوئي/ 1/ 10؛ فقه الاجتهاد والتقليد/ السيد هادي الروحاني/ تقريرات السيد محمد صادق الروحاني/ 17.

([4]) نهاية الدراية في شرح الكفاية/ الشيخ محمد حسين الغروي الاصفهاني/ 3/ 425.

([5]) الفصول الغروية، محمد حسين الاصفهاني, 387.

([6]) سورة العنكبوت, الآية 69.

([7]) نهاية الدراية في شرح الكفاية/ الشيخ محمد حسين الغروي الاصفهاني/ 3/ 425.

([8]) الفوائد الحائرية/ الوحيد البهبهاني/ 37.

([9]) اوثق الوسائل/ الميرزا موسى التبريزي/ 1/ 301؛ بحر الفوائد/ الميرزا الآشتياني/ 2/ 67.

([10]) منتهى الدراية/ السيد محمد جعفر الشوستري/ 8/ 377.

([11]) الفصول الغروية/ محمد حسين الاصفهاني/ 404.

([12]) تمهيد القواعد/ الشهيد الثاني/ 25.

([13]) سورة العنكبوت/ 69.

([14]) منية المريد/ الشهيد الثاني / 387.

([15]) بحار الأنوار/ المحدث المجلسي/ 1/ 225.

([16]) الفصول الغروية/ محمد حسين الاصفهاني/ 404.

([17]) أوثق الوسائل/ موسى التبريزي/ 1/ 301؛ بحر الفوائد/ الميرزا الاشتياني/ 2/ 67.

([18]) عناية الأصول/ السيد الفيروز آبادي/ 6/ 191.

([19]) راجع التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري ˆ / 300, وقد ورد فيه: (فأما من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا لهواه، مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه).

([20]) ولاية الفقيه في حكومة الإسلام/ محمد حسين الطهراني/ موقع علوم ومعارف الإسلام.

([21]) ولاية الفقيه في حكومة الإسلام/ محمد حسين الطهراني/ موقع علوم ومعارف الإسلام.

([22]) الاحتجاج/ الشيخ الطبرسي/ 2/ 263.

([23]) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري/ 300.

([24]) بحار الأنوار/ العلامة المجلسي/ 70/ 24.

([25]) الكافي/ الشيخ الكليني/ 2/ 319.

([26]) الكافي/ الشيخ الكليني/ 2/ 317.

([27]) شرح القواعد/ الشيخ حسن كاشف الغطاء/ المبحث التاسع والعشرون/ مخطوط.

([28]) مصادر الحكم الشرعي/ الشيخ علي كاشف الغطاء/ 2/159.

([29]) الكافي/ الشيخ الكليني/ 5/ 170.

([30]) الفوائد الحائرية/ الوحيد البهبهاني/ 337.

([31]) سورة الأنعام/ الآية 160.

([32]) سورة الإسراء, من الآية 70.

([33]) راجع: النور الساطع في الفقه النافع/ الشيخ علي كاشف الغطاء/ 1/ 113.

([34]) النور الساطع في الفقه النافع/ الشيخ علي كاشف الغطاء/ 1/ 114.

([35]) الفوائد الحائرية/ الوحيد البهبهاني/ 344.

([36]) الفوائد الحائرية / الوحيد البهبهاني/ 339.

([37]) الفوائد الحائرية/ الوحيد البهبهاني/ 339.

([38]) الجربز معرب من (كربز) الفارسية وهي بمعنى الخب وهو الخداع المفسد. وفي لسان العرب جربز: الخِبُ الخبيث من الرجال وهو دخيل. وفي اصطلاح علماء الأخلاق هي صفة من رذائل القوة العاقلة في جانب الإفراط موجبة لخروج الذهن عن الاستقامة على شيء، بحيث يستخرج أمور دقيقة غير مطابقة للواقع ويتجاوز عن الحق ولا يستقر عليه، وربما أدى في العقليات الى الإلحاد وفساد الاعتقاد بل الى نفي حقائق الأشياء كما في السوفسطائية وفي الشرعيات الى الوسواس. لسان العرب/ ابن منظور/ 5/ 318؛ جامع السعادات/ النراقي/ 1/10.

([39]) النور الساطع في الفقه النافع/ الشيخ علي كاشف الغطاء/ 1/ 115.

([40]) الفوائد الحائرية/ الوحيد البهبهاني/ 399، شرح مقدمة كشف الغطاء/ الشيخ حسن كاشف الغطاء/ مخطوط.

([41]) الفوائد الحائرية/ الوحيد البهبهاني/ 340؛ وقد ورد في الحديث: (مَن تنحى سُلِب منه الخشوع)/ راجع: القول الرشيد في الاجتهاد والتقليد/ السيد المرعشي/ 1/ 86.

([42]) الفوائد الحائرية/ الوحيد البهبهاني/ 340.

([43]) الفوائد الحائرية/ الوحيد البهبهاني/ 341.

([44]) الفوائد الحائرية/ الوحيد البهبهاني/ 341.

([45]) لم نعثر على هذا الحديث بهذا اللفظ في الجوامع الفقهية حسب فحصنا ، والذي ظفرنا به ما هو لفظه: (ليس العلم بالتعلم إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه) بحار الانوار/ المحدث المجلسي/1/255/ ح17؛ وكذا نقل في كنز العمال للفاضل الهندي بهذا النص (علم الباطن سر من أسرار الله عز وجل وحكم من حكم الله يقذفه في قلوب من يشاء من عباده) كنز العمال/10/159/ ح20 288.

([46]) الفوائد الحائرية/ الوحيد البهبهاني/ 345.

([47]) النور الساطع في الفقه النافع/ الشيخ علي كاشف الغطاء 1/ 116.

([48]) ليُنظر: النور الساطع في الفقه النافع/ الشيخ علي كاشف الغطاء/ 1/ 112.

([49]) النور الساطع في الفقه النافع/ الشيخ علي كاشف الغطاء/ 1/ 112.

 
 
البرمجة والتصميم بواسطة : MWD