مشروعية الفتوى الدفاع المقدس

 

مشروعية فتوى الدفاع المقدس

المقدمة

تحتل المرجعية الرشيدة أهمية كبيرة في تاريخنا الانساني، وتشكل عنصراً هاما من عناصر الحضارة الانسانية، تمخضت عن مواقف حاسمة في حياة العراق الوطنية، وعند اشتداد الازمات خاصة، وعند كل نكبة نجدها تتحمل أعباء إعادة التوازن الى العراق، وأبعاد الخطر عن الدين والوطن والانسان.

ومن خلال قراءة التاريخ السياسي للعراق والمنطقة لا نجد شائبة في ان المؤسسة الدينية وعلى رأسها المرجعية هي الاساس في تحريك السواكن داخل المناخ السياسي الاجتماعي، بالشكل الذي يحقق الاعتدال والإصلاح في المجتمع، وهذا ما نجده من خلال تتبعنا للدور المتميز للمرجعية منذ نهايات الحكم العثماني، وبدايات الاحتلال الاجنبي وصولا الى دورها في رسم أحداث ثورة العشرين الكبرى، كحلقة أولى تتبعها حلقات أخر، وإلى يومنا هذا في اصدار فتوى تاريخية لمواجهة الفكر التكفيري وقوات الظلام التي هاجمت مدينة الموصل العراقية وما تبعها من تجاوزات على الأهالي الأمنين في العراق.

ان مدرسة أهل البيت G أهتمت لمشروعية الفتوى كما أهتمت في مشروعية السلطة التي هي أهم من الدولة، فالمشروعية لازم ان تكون ثابتة والسلطة تعود الى المشروعية، إما الدولة فتعود الى الآليات والمؤسسات والوظائف والاحزاب والاعلام، أي ان مدرسة أهل البيت G منصب اهتمامها على المشروعية أكثر مما منصب على آليات الدولة. لذلك نشأة الاشكالية بين الفقيه والسلطان أي بين الواقع الراهن بتحولاته الاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها وبين الاطار الفقهي لتطور اشكاليات السلطة، فالفقيه رمزاً للتأصيل والأمة رمزاً للتحديث.

ان تطور الشرعية للحكم الشرعي في مدرسة أهل البيت G من الرسول الاعظم 7 الذي بلغ عن الله تعالى، ثم النص من الرسول الاكرم 7 على الائمة المعصومين G ثم ارجاع المعصوم الى السفراء الاربعة ثم الرجوع الى الفقهاء المجتهدين العادلين أي لطبقة معينة من الناس بمواصفات معينة، ثم الرجوع الى الأمة الاسلامية في يومنا الحاضر لان الأمة أصبحت قادرة على تحمل المسؤولية فأصبحت الشرعية بيدها.

لذا تتمحور هذه الدراسة حول مفهوم إساسي هو مفهوم الشرعية لفتوى الدفاع المقدس ضد موجات العنف والعمليات الارهابية التي جاءت من خلف الحدود بحجة مقاومة المحتل، وبعد ما عجز المد السلفي عن التفاعل والتأثير الشعبي، ارتكز على انظمة خارجية اتخذتها معبراً لتصفية الشيعة وبمعونة وسائل الاعلام المتنوعة، وبتكثيف جهودها من أجل زرع الذبول في النفسية العراقية.

نجحت فتوى الدفاع المقدس بتوفير الاجواء لنمو الروح التضحوية الوثابة، حين قرن هذا الوثوب بشرعية دينية، واستنهضت قوى البصيرة عند العراقيين، بعدما حاولت قوى الشر والضلال عميها، وترسيخ الهزات النفسية العنيفة، مع تكريس حالة الخلافات المذهبية والسياسية ممزوجة ومصحوبة بالخذلان والتركيز على الماديات المعاشة كواقع وحيد.

لقد وضعت الفتوى المباركة موازنة مذهلة لدور الدين القيادي حيث برزت في الاستجابة الشعبية، وكانت انتفاضة حقيقية رفعت الحالة المعنوية حيث ارجعت القوات المسلحة والجيش الى عنوانه الوطني سور الوطن بعد ما حولته الاحزاب والحكام إلى ارتباطه بهم، وصار اسم الجيش باسم قياداته العليا، مما أدى الى أن أصبح الجندي العراقي منكسراً يعاني حالات الوهن والضعف لأسباب مذهبية ومكانية واجتماعية، فأصبح يوصم بالطائفية.

ان هذه الفتوى المباركة جاءت وسط هذه الاجواء المخذولة لاستنهاض الهمم واسترجاع ثقة الشعب بجيشه واستطاعت رسم ملاح مستقبل القوات المسلحة المضيئة على قدرتها لمواجهة ضد كل الاعتداءات والمؤامرات دفاعا عن المقدسات والوطن.

اللهم انا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الاسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة الى طاعتك والمدافعين عن سبيلك وترزقنا فيها كرامة الدنيا والاخرة.

 

 

 

المبحث الاول

مفهوم الشرعية

مفهوم الشرعية هو أحد المفاهيم المحورية في المنظومة الاسلامية، وهو مفهوم له دلالاته الخاصة التي تختلف عن مدلولات الشرعية في الثقافات الأخرى كالثقافة الغربية.

فالشرعية عندما تستخدم في الاسلام في وصف سلوك أو قرار او حكم او تنظيم او أية ظاهرة سياسية بعينها انها تنصرف الى التوافق او التطابق بين هذا السلوك او الاجراء او الظاهرة وحكم الشرع فيه المستنبط من الأدلة الشرعية.

فالشرعية هي التفاعل الايجابي بين الواقع الانساني والنص الإلهي، ومن موقعها الحيوي هذا اكتسبت أهميتها في المنظور الاسلامي.

لذا خاطب سماحة السيد السيستاني K العسكريين العراقيين ويضفي على عملهم وادائهم وتنفيذهم لواجباتهم صفة القدسية، وهي أعلى مرتبة في العمل الشرعي بقوله (ان دفاع ابنائنا في القوات المسلحة والاجهزة الأمنية هو دفاع مقدس ثم يخاطبهم (إنكم أمام مسؤولية تاريخية ووطنية وشرعية، اجعلوا قصدكم ودافعكم هو الدفاع عن حرمات العراق ووحدته وحفظ الأمن للمواطنين، وصيانة المقدسات من الهتك، ودفع الشر عن هذا البلد المظلوم وشعبه الجريح).

ثم يؤكد سماحته K موقفه المساند كليا للقوات المسلحة الأمنية،
وان من يقتل في سبيل الدفاع عن العراق فهو شهيد بإذن الله تعالى فيقول (وفي الوقت التي تؤكد المرجعية الدينية العليا دعمها وإسنادها لكم، تحثكم على التحلي بالمروءة والبسالة والثبات والصبر، وان من يضحي منكم في سبيل الدفاع عن بلده وأهله واعراضهم فإنه يكون شهيداً ان شاء الله تعالى).

رأت المرجعية الرشيدة ان الوقوف أمام الدواعش واتباعهم، وما يمتلكون من مفاهيم وأدوات لا تمت للإسلام بصلة فرض واجب بالوجوب الكفائي فالمواجهة إذن أصبحت فرضا من فروض الولاء، وأصبح التطوع في صفوف القوات الأمنية يمثل علامة الايمان والهوية الوطنية لجميع فئات الشعب العراقي، ففتوى الدفاع المقدس شكلت قوة فكرية ومكانة علمية قادرة على تهيئة الحافز الإيماني الذي زاد من همة المواطن العراقي، فتحمل مسؤولية الدفاع ثغور العراق بما تمتلك من موقع قيادة قادرة على خلق استقرار الحياة، وخلق الوعي التضحوي المستمد من مدرسة الائمة المعصومين G ومن النهضة الحسينية المباركة، وترسيخ ثقافة الانتماء الانساني، فكانت المرجعية الدينية صمام الأمان بما اعلنته من وجوب الدفاع بالوجوب الكفائي كواجب شرعي ووطني واخلاقي وانساني.

لقد وصل حب الدفاع عن الوطن تلبية لنداء المرجعية الى أن الوالد لم يكن يؤثر ولده عليه، كما ان الولد لم يكن يفضل أباه عليه في الدفاع، وقد يتجادلان ويتسابقان في من سيخرج أولا منهما للدفاع، وقد يصل بهما الأمر ان يذهبا سويا الى سوح الجهاد.

لقد ملكت الفتوى الجهادية قلوب العراقيين الصادقين، حتى اقتد هذا حبهم الى جهاد الى الاولاد الصغار والى أصحاب الاعذار من الرجال، والشيوخ الكبار بل حتى النساء يتسابقن الى سوح الجهاد.

لقد كانت الفتوى الدفاعية الكفائية مدافعة عن الحق، وحماية لحرية العقيدة، والتي ازكت روح التضحية والفداء في نفوس العراقيين الذين تقدموا الى سوح الفداء والتضحية لدرء الشر والفساد والجهالة العمياء والضلالة الشمطاء من هؤلاء الدواعش الاوغاد، بأنفس رضية وقلوب هنية لبقى العراق يأن ويرتكس في الهوان وتردى من ذل الى ذل ومن جهالة الى جهالة. ولكن العراقيين لبوا نداء المرجعية وتسابقوا الى ميدان الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، مصحوبا بالدعاء لقبول الاعمال بنيات خالصة وقلوب عامرة بالإيمان.

أولاً: مرجع الشرعية في مدرسة أهل البيت G

الشريعة هي الاطار المرجعي الذي يتحدد على اساسه الشرعية، والشرعية هي نسق محدد وواضح من المبادئ والقواعد والاحكام لها ابعادها الجلية من حيث مصدرها ام من حيث أدلتها وطرق استنباطها.

وعلى هذا تقسم الشرعية الحاكم الى الحاكم الشرعي والسلطان الجائر.

والحاكم الشرعي هو المعصوم G في زمن الحضور، وإما في زمن الغيبة فهم الفقهاء الجامعون لشرائط ولاية أمر الأمة وقيادتها ولهم أهلية السلطة على الناس بالأذن العامة للنيابة عن المعصوم أو من إذن له الفقيه الجامع للشرائط في السلطة.

ثانياً: الشرعية في منظور علم السياسة

الشرعية في علم السياسة تعني قبول ورضا الجماعة بحق النخب والمؤسسات السلطوية القائمة في الحكم، وما يترتب على ذلك القول والرضا من شيوع الطاعة للقواعد والقرارات التي تصدرها تلك النخب والتي تعد لازمة لبقاء تلك المؤسسات وفاعليتها، ان هذا التعريف يتصف بالحياد والعمومية التي تؤهله للتطبيق على كل المجتمعات، غير ان هذا التعريف يلقي بالانتقادات وذلك بان مفهوم الشرعية يرتكز على مفاهيم (الرضا العام والطاعة) ولا يتطرق الى مقدمات وركائز أو الشروط التي يحصل بمقتضاها النظام على الشرعية أو يحققها.

لذا من أبرز المحاولات لإثبات الشرعية وذلك من خلال تحديد إنماط عامة للشرعية منها:

  1. السلطة التقليدية: حيث الشرعية تستند الى الاعتقاد في قدسية التقاليد وترتهن بممارسة السلطة طبقا لها، وما يحظى الحاكم من مكانه على أساس تلك التقاليد.
  2. السلطة القانونية: التي تقوم فيها الشرعية على الاعتقاد بان الحكام يصلون الى الحكم ويمارسونه بمقتضى القانون أو القيم العقلانية التي استقرت على اساس الاتفاق او الفرض، وهنا شرعية الحكم تقترن بمدى الالتزام بتلك القوانين
  3. السلطة الكاريزمية: التي تعتمد شرعيتها على الاعتقاد واعتراف الاتباع بان تكون القيادة تمتلك سمات استثنائية خارقة للعادة تؤدي الى الولاء التام والثقة المطلقة في شخص القائد.

وفي الواقع فان هذا الاتجاه في الشرعية، بمعنى ان تحديد أسس الشرعية في علم السياسة يعني اعترافا ضمنيا بالخصوصيات الثقافية لقضية الشرعية بمعنى ان تحديد اسس الشرعية وركائزها في أي نظام تختلف من حالة الى اخرى وفق اعتبارات ثقافية وتاريخية واقتصادية واجتماعية خاصة بكل مجتمع بما يصعب تحديده في تعريف عام.

ثالثاً: الشرعية في المفهوم الاسلامي

هو الالتزام بالأحكام الشرعية من جانب النخبة الحاكمة يقود تلقائيا ً في ظل نظام عام أو إطار ثقافي محكوم بالدين والشريعة الى تحقق الرضا والقبول الجماعي والطاعة، حيث يسهم الدين والشرع في تشكيل جانب أساسي ومهم من نسق القيم عند الناس، وتحديد اتجاهات القبول والرضا أو الرفض لديهم.

المبدأ الأول للشرعية: الناس

الناس إذا منحوا بأنفسهم فرداً او هيئة حق الحكم وادارة شؤونهم فان هذا الفرد أو الهيئة سوف تقوم على الأساسين الوجدان والمصلحة. وهذا اللون من الحكم بديهي (الديمقراطية) قد استعملت الكلمة في أكثر من معنى، ويعني اعطاء حق تقرير المصير بيد الناس. فهم الذين يقررون النظم والقوانين ويعينون المنفذين سواء كان هذا كله بالمباشرة أو بالواسطة المنتخبين أو بالتلفيق.

المبدأ الثاني للشرعية: المصلحة الاجتماعية

يرتكز هذا المبدأ على قضية ان الحكومة إذا كانت تعبيراً عن حكم الناس أنفسهم فمن الطبيعي ان تعمل على تحقيق المصالح الاجتماعية، لان الناس لا يريدون لأنفسهم غير ذلك، وليس الحاكم مغايراً للمحكوم كي يفترض تقديمه لمصالحه على مصالح المحكوم. وهذا يوكد كون الشكل الديمقراطي في الحكم هو أضمن الاشكال المتصورة لحفظ مصالح الامة، وربما عمد بعضهم الى جعل اساس المصلحة دليلاً مستقلاً ومبرراً قائما بنفسه لصحة الشكل الديمقراطي للحكم([1]).

ولما كانت الأمة ناشئة للحكومة لتحقيق مصالح الأمة، فيجب ان تكون للامة رقابة عليها.

والاشكالية لو قلنا ان للأمة الحق في مراقبة هذه الحكومة التي نشأت لتحقيق مصالح الأمة ولكن السؤال من منح هذه السلطة أو الحكومة حق الحكم والادارة وأعمال نفوذ وتحديد الحريات والأصول الوجدانية الاولى.

رابعاً: أسباب الازمة الشرعية

  1. التضارب في الادعاءات أو عدم ملائمة الادعاءات الخاصة بالحق في السلطة مما ينجم عنه انهيار المؤسسات الحكومية.
  2. ان البنى الحكومية قد يعتريها التفكك بسبب التنافس المفرط أو غير المنظم على السلطة خارج إطار المؤسسات القائمة.
  3. ان الحكومة قد تنهار بسبب استناد مبرراتهم الإيديولوجية أو دعاواهم بشأن الحق في السلطة على قراءات غير مقبولة تاريخية أو تنبؤات خاطئة للتطورات المستقبلية.

خامساً: مشروعية الفتوى

إنها استمدت شرعيتها من وراثة العلماء للأنبياء التي عرفت بخلافة الانسان وشهادة الانبياء، وذلك لان الشهادة إما من الانبياء وثانية من الائمة المعصومين G الذين يعتبرون امتداداً ربانيا للنبي 7 في هذه الخط، وثالثا المرجعية التي تعتبر امتداداً رشيداً للنبي 7 والامام B في خط الشهادة.

فالشهيد على الائمة في عصر الغيبة في يومنا الحاضر هو المرجعية الرشيدة التي تشرف على سير الأمة لحملها الرسالة الربانية والمسؤولة عن التدخل لتعديل مسيرة أو اعادتها الى طريقها الصحيح إذا واجهت انحرافا في مجال التطبيق([2]).

وبعد ما اعطى سماحة السيد السيستاني K الشرعية الى العراقيين وزرع الثقة في نفوسهم، وحملهم مسؤولية تسليم أمور مستقبلهم بأيديهم من خلال صناديق الانتخاب وعندما أفتى بفتوى الدفاع المقدس لبوا جميعا نداء الفتوى.

لقد أصبحت الأمة من ناحية تنامي دورها واشغالها حيزاً
أصيلا داخل المجال السياسي باتت معياراً جوهريا من معايير المعاصرة وروحاً لحداثة التاريخ السياسي، وهذا فضلا عن كونه حقيقة شرعية بذاتها.

ان شرعية الفتوى التي انطلقت من سماحته كانت خلاصاً
للأمة الاسلامية جمعاء، فانه إذا كانت التقوى خلاصاً للذات فان هذه الفتوى كان خلاصاً للأمة.

لذا خاطب سماحته K القيادات السياسية ووضعهم إمام مسؤولياتهم التأريخية والوطنية والشرعية الكبيرة، وطلب من السياسيين العراقيين ان يتركوا الخلاف والتناحر خلال هذه الفترة العصيبة، وتوحيد مواقفهم باتجاه مواجهة العدو المشترك، وان يدعموا القوات المسلحة، لان توحد السياسيين اليوم هو بمثابة قوة إضافية لأبناء الجيش العراقي في الصمود والثبات إمام دواعش العصر.

لقد حظيت فتوى الدفاع المقدس بالقبول الاجتماعي العام، وبالتأكيد من جميع احرار العالم، وانبثق من هذه الفتوى المباركة الحشد الشعبي، قوة الشعب الحقيقية- للمواجهة مع اعداء الحياة-، وهي تشكيلات عسكرية نظامية، نجحت في السيطرة على مجريات المواجهة كقوة رفعت من معنويات القوة المسلحة.

لقد اجتمعت أمة العراق بكافة أطيافها وأديانها ومذاهبها تحت مظلة هذه الفتوى الدفاعية ملبية هذه الدعوة ولم تكن منطوية تحت ألوية مؤسساتية أو تحزبات ميليشية أو تحت تأثير دهاليز السياسة بل كانت تابعة من قيم الطف الحسيني كما إنها أعلنت في الحرم الحسيني.

بل استطاعت هذه الفتوى المباركة القضاء على حجج التعصب
لبعض الانتماءات وانهاء التضادات وابعاد خطر الفرقة، وتأكيد
أصالة انتماء الجيش للوطن ورفع تهمة الارتزاق به، وأصبح الجيش
يحمل سمات الجيش التضحوي المدافع عن قيم المقدسات
والمواطنة.

إن الفضيلة الأسمى لهذه الفتوى المباركة هي تحويل الانتماء من
الدور الخطابي الى وجود سلوكي تضحوي وضع الملايين من الشباب في أحضان السواتر للدفاع عن المقدسات والوطن، فبرزت هذه الفتوى في وقت تعطل به الارادات، وأصاب الولاء الوطني شلل، بسبب شراسة المجابهة، فنهضت بأعباء الأمة، وقد باع المجاهدون أنفسهم الى الله، فقد افتدوا أنفسهم للإسلام. قال تعالى: [إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ]([3]).

ومن لم يلتحق بسوح الجهاد، فلم يعوقه البعد ان يرسل المال او يدعو بلسانه لدفع اعتداء الأشرار.

 ومن بركات الفتوى ضد الدواعش انها ردت الاعتداء الواقع، ودفع الشر المتوقع، وازالة الفساد، وضعضعة قوى الشر، ليكف بأس الأشرار، قال تعالى: [أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَاللّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلاً]([4]).

كما ان هذه الفتوى المباركة منعت أذى المؤمنين من الرجال والنساء والاطفال والشيوخ، فهي التي استنقذتهم من هؤلاء الدواعش الوحوش.

سادساً: تعريف الدفاع

ينقسم الدفاع الى نوعين هما:

 النوع الأول: الدفاع لدفع الاعتداء (الدفاع الاستعدادي)

وهو الدفاع لحفظ بلاد العراق من تعدي الدواعش الفجار المستحقين لغضب الجبار خوفا من استيلاء الدواعش أعداء الإسلام على العراق لا سامح الله وتفريق كلمته ووحدته.

النوع الثاني: الدفاع لطرد الأعداء (الدفاع لأخراج العدو)

هو الدفاع لطرد الدواعش عن العراق وقراه وأراضيه وإخراج الدواعش منها بعد التسلط عليها والسعي الى نجاة العراقيين من ايدي الدواعش التكفيرين المعتدين. وهذا أفضل أنواع الجهاد وقد أفتى جدنا الأعلى الشيخ جعفر كاشف الغطاء P بان هذا الدفاع أفضل أنواع الجهاد، وأعظم وسائل القرب لرب العباد لذا افتى فقهاؤنا اذا دار الامريين امتثال وجوب الجهاد الابتدائي للدعوة الإسلامية ودفاع لطرد الكفار عن بلاد الإسلام تعين الثاني منهما للأولوية القطعية ولعدم اشتراط الأذن في الثاني.

والأدلة على وجوب الدفاع

أولا: الآيات الشريفة

  1. قوله تعالى: [وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ]([5]) ولاريب في اطلاق الآية والمراد في سبيل الله صدقه على القتال لحفظ الدين ولدفع استيلائهم عن بلاد المسلمين([6]).
  2. قوله تعالى: [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ]([7]) معناها وجوب قتال الكفار لئلا تقع فتنه من ذهاب الدين او نحوه. والآية دلت على وجوب الدفاع بقسميه.

ثانيا: السنه الشريفة

  1. روي عن الامام علي بن ابي طالب B (ان الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أولياءه، وهو لباس التقوى ودرع الله
    الحصينة وجنته الوثيقة، فمن تركه ألبسه الله ثواب الذل وشمله البلاء وديث بالصغار وأديل الحق منه بتضييع الجهاد، وغضب الله
    عليه بتركه نصرته)([8]).
  2. روي عن الامام محمد الباقر B في صحيح ابن خالد (ألا اخبرك بالإسلام واصله وفرعه وذروة سنامه؟ قلت: بلى جعلت فداك، قال B أما أصله فالصلاة وفرعه الزكاة وذروة سنامه الجهاد)([9]).

ثالثا: الاجماع

لا ريب في قيام الاجماع على وجوب الدفاع عن البلاد والعباد من الأشرار من المعتدين بل ذلك من الضروريات.

 

 

 

المبحث الثاني

 شرعية الفتوى على جميع المباني الفقهية

ان هذه الفتوى المباركة لم تكن ناقصة الشرعية على جميع مباني الفقه السياسي:

أولا: شرعيتها على مبنى ولاية الفقيه

فان كان مبناه في الحكم هو ولاية الفقيه ليس معناه جعل الأمة الإسلامية بمنزلة القاصرة، كما ليس معناه استبداد الفقيه بالإدارة والسلطة كيفما شاء دون مشورة أو رعاية للمصالح والمعايير الإسلامية.

فان الفرق بين مدرسة أهل البيت G ومدرسة الخلفاء هو ان البيعة حسب مدرسة أهل البيت G سبب في تمكين ولي الأمر شعبيا من ممارسة ولايته، حسب مدرسة الخلفاء فهي شرط لتحقيق أصل الولاية له.

ثانيا: شرعيتها على مبنى الشورى

ان نظرة السيد الصدر P تعكس تقاسم الوظيفة بين الفقيه والأمة لمبناه في خلافة الانسان وشهادة الأنبياء، فان الفقيه يمثل الشرعية الدينية والأمة تمثل الشرعية الشعبية، فالأمة تمثل الخلافة العامة، أي الحاكمية السياسية، وهي تقوم بدورها هذا بوصفها كليا مفوضا وتختار الحاكم بصفته فردا منها ومكلفا من قبلها.

واما الفقيه فهو المجسد الموضوعي لدور المعصوم B في مرحلة غيابه والرقيب الشاهد الذي يمارس دوراً تشريعا، ويتدخل لتعديل المسيرة واعادتها الى طريقها الصحيح اذا واجهت انحرافاً.

واما الأمة فقد اسند اليها السيد الصدر P السلطة التشريعية والتنفيذية، فهي صاحبة الحق في ممارسة السلطتين، وان دور الأمة يتأهل فعليا على ركنين محكمين: الخلافة والشورى، وان نظرية السيد الصدر P قامت على تركيب مزدوج لمشروعية السلطة، فالحاكمية السياسية تمارسها الأمة عبر الشورى، مستنده الى الشرعية الشعبية والحاكمية الايدلوجية يمارسها الفقيه بالاستناد الى المشروعية الدينية.

قال السيد الصدر: (اذا حررت الأمة نفسها من نظام جبار فخط الخلافة ينتقل الى الأمة فهي تمارس دورها في الخلافة في الاطار التشريعي استنادا الى القاعدتين القرآنيتين الكريمتين، قوله تعالى: [وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ]([10])، [وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ]([11]).

فالنص الأول يعطي الأمة صلاحية ممارسة أمورها عن طريق الشورى مالم يرد نص خاص على خلاف ذلك، والنص الثاني يتحدث عن الولاية، وان كل مؤمن ولي للآخرين ويريد بالولاية تولي أموره بقرينة تفريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليه، والنص ظاهر في سريان الولاية بين كل المؤمنين والمؤمنات بصورة متساوية.

ثالثا: شرعيتها على مبنى اذن الفقيه في السلطة

ان نظرية الميرزا النائيني في تنبيه الأمة وتنزيه الملة هو الاكتفاء بأخذ الأذن من المرجع الجامع للشرائط في السلطة لتتصف بالشرعية حيث قال (عدم لزوم تصدي شخص المجتهد، بل يكفي اذنه في الصحة والمشروعية وهذا المطلب من البديهيات الغنية عن البيان حتى ان عمل عوام الشيعة على هذا الأمر)([12]).

وقد اذن سماحة السيد السيستاني K بشرعية السلطة من الذي ينتخبه الشعب العراقي في ممارسة السلطة.

رابعا: شرعيتها على مبنى دور الأمة

ان سماحة السيد السيستاني K يوجب تدخل المرجع المنتخب من قبل الفقهاء في المجتمع للتصدي للأمور العامة التي يتوقف عليها حفظ النظام، وقد أخذ بمبدأ الأكثرية وان إرادة الأمة هي سبب الشرعية، حيث جعل فتواه في الانتخابات كحق من حقوق الشعب لأنه له الولاية على نفسه في اختيار شكل الحكومة ومن يمثلهم، فالحكومة عند السيد من رحم الشعب.

ان اعتقاد سماحته بالولاية في الأمور العامة المسببة من قبل المسلمين هي التي أعطت الشرعية في فتوى الدفاع المقدس، وذلك بما ان سماحته اعطى الشرعية بيد العراقيين في اختيار مرجعهم الذي يكون حكمه نافذ عليهم، لذا عندما افتى سماحته بفتوى الدفاع المقدس كانت شرعيتها من العراقيين بعدما رضوا واختاروه مرجعاً دينيا لهم.

ان المرجع تصبح فتواه شرعية وملزمة إذا أختاره الشعب لمقام القيادة الدينية، فالمرجع الذي ينبغي ان تكون فتواه ملزمة للشعب يتمتع بصفتين المشروعية والمقبولية فالمشروعية تعطيه حق بالحكم والا لا يجوز له ان يحكم الناس وان كان مقبولاً من جانبهم.

واما المقبولية فإنها تعطيه السلطة، فالذي لا يكون مقبولا من المجتمع لن يمتلك السلطة التي تمكنه من الحكم، وان كان حكمه من الناحية الشرعية جائزاً، ومع عدم وجود القدرة او السلطة لا يصبح التكليف منجزا بحقه. ان قبول الناس لمرجعية ما سوف يصل الى مرحلة الفعلية ويصاحبه الاثار الفعلية والا بقي في اطار القوة دون ترتب اثار خارجية عليه.

وكما ان المجتهد يكون حائزا على منصب القضاء سواء رجع الناس اليه ام لم يرجعوا مع الفارق، وهو انه اذا قبل من الناس لفصل الخصومات فسوف تنتقل الصفة (الاضافية) الى المرحلة الفعلية مع ترتيب اثار عينية كثيرة، والا بقي في مرحلة القوة دون ترتيب الاثار، فان جريان ولاية المرجع في الامور العامة للامة الاسلامية هو ايضا كذلك، فأصل المقام محفوظ وترتب الاثار الخارجية منوطة بتولية من قبل الامة والقبول به.

اما المستند الشرعي لفتوى الدفاع المقدس، فان الاسلام شرع المقاومة الداخلية والتي تكون مهمتها مواجهة الانظمة الفاسدة الظالمة التي تمارس العنف والارهاب بين الناس، والمقاومة الخارجية تعني بمواجهة الاحتلال بجميع اشكاله. والهجمة الداعشية شملت المضمونين، والمبنى الفقهي للمقاومة معروف المستند من الكتاب العزيز والسنة الشريفة بدء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الى التغيير باليد ومعناها المقاومة المسلحة، وادنى مراتبها رفض المستبد.

ومن المباني الفقهية للمقاومة الخارجية هو اجماع المسلمين بلا استثناء على وجوب الدفاع عن بلاد المسلمين، وقد اجمع فقهاء الامة الاسلامية على شرعية وجوب المقاومة المسلحة.

ان الفضيلة في الإسلام هو رد الاعتداء، ومنع الخضوع للأشرار، لذلك جاءت فتوى الشرعية الواجب الكفائي في الجهاد، لمنع الفساد في العراق بل في كل البلاد، اذ ترك هؤلاء الدواعش الأشرار يعيشون فساداً من غير رادع يردعهم، ولا مانع يمنعهم لعم الفساد والبر والبحر.

لقد شخصت الفتوى المباركة بان الرحمة بالأشرار قسوة بالأخيار وان الذين يذهب فرط حبهم للتسامح مع الأشرار الدواعش الذين لا يلوون على شيء إلا جعلوه خرابا، والحال هو شاهد عيان انما يحرضون على الشر، ورب التسامح يحوي في ذاته اكبر الجرائم فتكا بالجماعة الإنسانية، ولذلك قال تعالى: [وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ]([13]).

لذلك كانت فتوى الدفاع المقدسة دفاعا على الفضيلة والمقدسات والإنسانية، ولئلا يتغلب الشر ويستشرى الفساد [وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ]([14]).

لقد كانت فتوى الدفاع المقدس شرعية دينية خالصة لوجه الله قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ6 وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ]([15]).

ان الفتوى الدفاع المقدس صدرت للدفاع ضد الدواعش لا بسبب الحمية لأنها عرضة الانطفاء ولا عصبية لأقوامهم لأنه يدخله الظلم والعنف عن القتال وانما صدرت عن الايمان بالله واليوم الاخر وبالحق في ذاته الذي يقوى كلما قوى الحق وضوحا.

والحمد لله اذ انطلقت هذه الفتوى من جهة شرعية متيقنة من منشأ وجودها، وانبثقت بمنطلقات عقلية مؤمنة عبر استنهاض شرعي وطني اخلاقي، لصد اي تجاوز على كرامة الدين والوطن.

ان فتوى الدفاع المقدس قاتلت اولا معنويا عبر العديد من الجهات بدءا من مواجهة الذات العراقية الخائرة القوى في حينها، ومحاربة شياطين اليأس، واستنهاض القوة والعزيمة والثبات، وهذا هو الصوت النهضوي المرجعي المتمثل بنهضوية الامام الحسين B لابد ان ينتصر لصالح الانسان والوطن والدين.

استطاعت هذه الفتوى المباركة تأسيس مشروع انساني ينطلق من مشروعية تكوينه المرجعي القيادي للمواطنة المستمدة جذورها من الارث المقدس للائمة الاطهار من ال البيت G، بعد ما سعت قوى الضلال والاستكبار تهميش القوى الوطنية، فكانت الفتوى عبارة عن صرخة حقيقية مدوية ايقظت الضمير العراقي الوطني، وحققت مباغتها لقوى الضلال والعدوان بما حققته من تواجد قوي في قلب الساحة العراقية بل العالمية، لذلك ارعبت قلوب الكثير من محترفي الاجرام بعد ما عاش العراق العديد من الازمات التي صاحبتها تحولات خطيرة وعميقة ومعقدة على مستويات مخفية رجحت في بعض الاحيان كفة الصراع الى الارهابين، حتى بات العراق قريبا من الكارثة وقاب القوسين او ادنى من الانهيار، وعانى من رهبة ان تجتمع امم في دولة عربية وغير عربية مسلمة وغير مسلمة لتدعيم الارهاب وتمول الصراع عدة وعدد.

 

المبحث الثالث

مصدر الشرعية

ان مصدر الشرعية هو الامة في عصر الغيبة عندما لا يوجد نص، وعلى هذا تكون هي مصدر السلطات، فلها حق الاشتراك في تنصيب الحاكم الذي تريده حاكما عليها ولها حق تعيين شكل الحكم الذي يقوم فيها، ولها حق تعيين شكل ما تراه من الحكم الذي اختارته، ولكل فرد من أفراد حق في ذلك كله، لان حقوق الامة في الحقيقة ليست الا حقوق افرادها.

واذا كانت الامة مصدر السلطات كان حاكمها تحت سلطانها، ولم تكن هي تحت سلطانه، فتكون لها حريتها السياسية بأكمل معانيها، لان الحق في هذه الحرية حقها الذي اعطاه الاسلام لها، ولم تأخذ منحة من الحاكم من حكامها، ولو كان منحة من حاكم لم يكن حقا صحيحاً، لان من له حق المنحة له حق استردادها فتكون حريتها اذا كانت منحة من حاكم مهددة بحقه في استردادها منها، ولهذا اراد الاسلام ان يجعل حق الامة في حريتها السياسية حق طبيعيا لها لا تستمده من حاكم، وانما تستمده من كونها مصدر السلطات في الحكم، وإنها بصفتها هذه يكون الحاكم تحت سلطانها ولا تكون هي تحت سلطانه حتى تستمد حريتها
منه.

قال الامام علي بن ابي طالب B في عهده لمالك الاشتر رضوان الله عليه: (وليكن احب الامور اليك اوسطها في الحق واعمها في العدل واجمعها لرضا الرعية، فان سخط العامة يجحف برضا الخاصة، وان سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة).

نبه الامام علي B لزوم العدل الاجتماعي العام للرعية وحفظ قلوب العامة وطلب رضاهم بوجهين احدهما ان سخط العامة لكثرتهم لا يقاومه رضا الخاصة لقلتهم، بل يجحف به ولا ينتفع برضائهم عند سخط العامة، وانه وصف الخاصة بأوصاف ونعوت مذمومة تستلزم قلة الاهتمام بشأنهم بالنسبة الى اهمية منزلة سواد الاعظم من الشعب وهم العامة، لهذا ذكرهم بصفات محمودة توجب العناية بهم([16]).

وفي الاتجاه نفسه يقول الامام علي B:

(وانما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الامة، فليكن صفوك لهم، وميلك معهم)([17]).

يبين الامام علي B بشكل قاطع حاسم ان هدف هذه السياسة
بجميع معاملاتها يجب ان تستهدف رضا الشعب وتحقيق مصالحها،
ولا يجوز ابدا ان يضحي الحاكم بمصالح الشعب من اجل رضا حفنة
قليلة من الناس هم الطبقة الارستقراطية (الخاصة) فإن رضا هؤلاء لا قيمة له إمام غضب الشعب([18]).

وفي هذا الاطار يتضمن كتاب الامام الحسين B الى اهل الكوفة الذي ارسله معه مسلم بن عقيل فإنه كتب (قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجى والفضل منكم والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرات في كتبكم فاني اقدم اليكم وشيكا)([19]).

ما يدل على مكانة الامة والاكثرية والرأي العام في المفهوم الاسلامي.

وثمة مقاربة لموضوع الامة ودورها وصلاحيتها، ويتصل ذلك بالشورى، فإذا كانت الشورى واجبة وملزمة، فمن صاحب الحق في اختيار الحاكم ومراقبته ومحاسبته واستبداله؟ ومن صاحب الحق في اختيار اهل الشورى وانتخابهم؟ يرى معظم علماء الاسلام من المحدثين ان مبدأ الشورى في الاسلام ينطوي على الاخذ بمبدأ سيادة الامة التي لها حق تولية رئيس الدولة وعزله ومنها يستمد سلطته، ومن هنا يقول مفتي مصر السابق محمد نجيب المطيعي (إن مصدر قوة الخليفة هي الامة، وانه يستمر سلطاته منها، وإن المسلمين هم أول أمة قالت بان الامة مصدر السلطات كلها قبل ان يقول ذلك غيرها من الامم.

ان عدد من الاحكام الثابتة في الشريعة الاسلامية يتجاوز قدرة الفرد، ويعتبر حكما موجها نحو المجتمع، ومن ذلك الاحكام المتعلقة بالحكم والدولة، ولذلك دأب القران الكريم على ان يتحدث الى الامة في قضايا الحكم وتوعية منه للامة على دورها في خلافة الله تعالى على الارض.

يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين ان ولاية الامة على نفسها، ففي عصر وجود المعصوم B لاريب ان الولاية له، ولا ولاية لاحد في شأن الحكم الا بإذنه، وفي عصر عدم وجود المعصوم على نحو ظاهر تكون الولاية في هذه الحالة للامة نفسها)([20]).

ان القران الكريم لم يتحدث عن ولي الامر بصيغة المفرد، وإنما تحدث عن اولي الامر بصيغة الجمع وفي ذلك تزكية للجماعية، وفي هذا تأكيد على وجوب اشتراك الامة في اختيار اولي الامر، والا لما جاز وصفهم بانهم من هذه الامة، فليس منا من هو مفروض علينا بالغلبة والقهر والاستبداد([21]).

ولذا ان الحاكم لا يستمد بقاءه المشروع ولا يستحق ذرة من التأييد الا اذا كان معتبرا عن روح الجماعة ومستقيما مع اهدافها، ومن ثم ان الامة وحدها هي مصدر السلطة، والنزول على ارادتها فريضة، والخروج عن رايها تمرد، ونصوص الدين وتجارب الحياة تتضافر كلها على تزكية ذلك([22]).

وهذا ما يعبر عنه سماحة السيد السيستاني K في لقاءاته إنما انا خادم للعراقيين لانه يرى ان الحرية السياسية بأكمل معانيها هي حق للعراقيين، وهذا الحق طبيعي لهم، لا يستمد من الحاكم.

ولذا لم يعد جائزا اليوم الوقوف ضد الدولة المنتخبة القائمة على ارادة الشعب، لان ارادة الشعب لابد ان تحترم، وان اي جهة اذا ارادت ان تحكم الناس، فان السبيل الوحيد لها هو صناديق الانتخاب، وليس طريق التامر أو الغلبة أو الانقلاب. لذلك ان فكرة سيادة الامة والشعب هي فكرة اسلامية لان الناس في الاسلام يملكون حق اختيار نظامهم السياسي الذي يريدون، ولهم ان يختاروا حكامهم كما يرغبون في عصر غيبة المعصوم B.

فتوى الدفاع المقدس واسباب النصر

جاءت فتوى الدفاع المقدس في وقت حرج من تاريخ العراق بعد احتلال جناة داعش وذيول البعث المنهار وجميع طغاة القبيلة والطائفية ومليشيات الارهاب جزء من العراق في زمن عمَّ الوهن صفوف الجيش العراقي لهول التخاذل الذي وقع في صفوف القادة، وتواطؤ الحكومات المحلية مع الارهابيين حتى دأب اليأس وتصوروا العجز وقد شل حركة المقاومة تماماً وان الطريق سهلا للدواعش بالمضي نحو المدن المقدسة والقضاء على شيعة العراق الاشاوس، ولكن فتوى الدفاع المقدس هي الصوت المقاوم للعودة الى الدين الحقيقي، ونشر الوعي المقاوم للانحراف والظلم والطغيان الذي استمدت الفتوى شرعيتها من نهضة ابي الاحرار الامام الحسين B، ومن نهجه التضحوي.

لقد وقعت هذه الفتوى المباركة صاعقة من السماء على رؤوس العراقيين، وأصبحت صدمة هزتهم من اعماقهم فنهضوا من كبوتهم واستفاقوا من غفلتهم، ونفضوا عن كاهلهم غبار الضعف والوهن، واندفعوا الى تلمس طريق العزة والكرامة.

إما اهم اسباب النصر بسبب فتوى الدفاع المقدس فهي:

  1. ان من أهم اسباب نجاح فتوى الدفاع المقدس هو حسن التقدير الذي ربط النهضة التضحوية بمسيرة سيد الشهداء الامام الحسين B، واعاد الوعي الحقيقي للامة، وحسن التقدير هنا هو فهم الواقع وبناء علاقة طيبة مع الناس، وتطهير المجتمع من الرغبات السياسية التي اثقلت الكاهل العراقي.
  2. الإخلاص في الدفاع عن المقدسات والوطن لأجل الدين، فان من كان مخلصا فليكن على ثقة فيما وعد الله من النصر والتعبئة الروحية للمجاهدين كفيلة بأن تجعلهم في دفاعهم كالبنيان المرصوص (ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص). فان الأمة التي تنصر الله باتباعها للدين الخالص قد ضمن الله لها النصر ووعدها به ووعد الله لا يتخلف فالمدافعون العراقيون لا يبتغون من دفاعهم غرضا من اغراض الدنيا، وإنما يبتغون رضوان الله تعالى، وعزة الايمان واهله وجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الكفر هي السفلى. لقد تسلح المدافعون بسلاح الايمان والصبر قبل سلاح النار، فامنوا ان ترك لذة عاجلة ومتعة حياة قائمة لأجل حياة افضل وسعادة اكمل وخير أشمل، وهي حياة الشهداء يوم القيامة.
  3. تمسك المدافعين بالدعاء والالتجاء الى الله في نصرهم واعتقادهم بان النصر بيد الله وحده (وما النصر الا من عند الله العزيز الحكيم واقتداءهم بالرسول العظيم 7 (اذا دخل المعركة قال اللهم انت عضدي ونصيري بك أجول وبك أصول وبك أقاتل). والتوكل على الله بعد اعداد جميع القوى التي لابد منها، وذلك ايمانا بان النصر من عند الله الذي بيده العزة والذلة، والنصر والهزيمة فالايمان بالله تعالى والتوكل عليه من أعظم أسباب النصر [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ]([23]). فالأيمان بالله تعالى، والتصديق بلقائه من أعظم اسباب النصر، والثبات في مواقف القتال، فإن الذي يؤمن بان له الها غالبا على امره، يمده بمعونته الالهية، كما امده بالقوة الروحية والجسدية [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ]([24]).
  4. تأكيد سماحة السيد K على أهمية التحلي بالصبر والشجاعة والثبات في مثل هذه الظروف، ويحذر سماحته من ان يدب اليأس والقنوط والإحباط في نفس أي عراقي، بل لابد ان يكون حافزاً لنا من العطاء في سبيل حفظ ديننا ومقدساتنا، وأورد سماحته آيات قرآنية عدة تؤكد الصبر والمرابطة وعدم التنازع وتحمل الصعاب والبأساء والضراء. لذا تجلبب المدافعون بجلباب الصبر والإرادة القوية والعزم الصادق والحزم في الشدائد الذين من صفاتهم يكثرون عند الفزع، ويقلون عند الطمع، لمعرفتهم بان عدوهم الدواعش عدو فتاك متوحش قد نزع الرحمة من قلبه.
  5. حشد العراقيون بكل ما أتوا من حول وطول وقوة لقتال الدواعش التكفيريين سواء بالعدد والسلاح، وقد كانوا مصداق لقوله
    تعالى [وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ
    اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ]([25]).

ولم تحث الفتوى الدفاع المقدس على التضحية بالنفوس الزكية فقط، بل ساهمت في الدعم المالي للمدافعين حيث ان العراق كان يمر بأدق مرحلة ويواجه أخطر معركة وهو في حاجة ماسة الى الدعم المالي، والبذل والانفاق في سبيل تزويد المعركة بالسلاح والعتاد لتتمكن من مجابهة الدواعش الأعداء، والوقوف امام طغيانهم واعتدائهم، مع العلم كان العراق يمر في ظروف أزمة مالية دقيقة وحرجة وايام عصيبة من الناحية الاقتصادية، حيث استشعر العراقيون بان فضل الانفاق في سبيل الله والدفاع عن المقدسات بهذه الفتوى المباركة [مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]([26]).

وقد استحضر العراقيون الاحاديث الشريفة الواردة في فضل الجهاد بالمال وعظيم أجره وثوابه لقوله 7 (من جهز غازيا فقد غزا، ومن خلف غازيا في سبيل الله فقد غزا).

كما ان فتوى الدفاع المقدس حثت على ان الدفاع باللسان الى جانب الجهاد بالنفس والمال، حيث قال الرسول الأعظم 7 (جاهدوا بأموالكم وانفسكم وألسنتكم) وربما كان اللسان انكى على عدونا الدواعش من السيف، اذ يكون الجهاد باللسان بإقامة الحجة عليهم، وبدعائهم الى الله، وبالأصوات عند اللقا وبالزجر ونحوه في كل ما فيه نكاية بالعدو ولم كان اللسان من اثر في غلبة المسلمين على عدوهم وفي دحض حجتهم

  1.  أوصت الفتوى المباركة المجاهدين بان لا يقتلوا شيخا فانيا ولا طفلاً وامرأة وان يحسنوا ويصلحوا فان الله يحب المحسنين، وان يسيروا باسم الله وفي سبيل الله ويقاتلوا أعداء الله ولا يخونوا ولا يغدوا ولا يمثلوا ولا يقتلوا الذرية ولا يقطعوا الشجر ولا يخربوا عامراً، ويطعموا الاسرى، وان ينتهون عن المثلة وتشويه الاجسام، وأوجب دفن القتلى للعدو حتى لا يتركوهم نهبا للوحوش كما اوجبت الفتوى الدفاع المقدس هو لصد عدوان الأشرار للانتقام. لذا تحلى المدافعون العراقيون بالصفات الأخلاقية والقيم الإسلامية مما جعل الله معهم والنصر حليفهم.

 

قائمة المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

  1. الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي الشيخ المفيد، تحقيق مؤسسة آل البيت عليهم السلام لتحقيق التراث دار المفيد، ط2، (1414هـ).
  2. الاسلام والاستبداد السياسي، محمد الغزالي، دار النهضة العربية، مصر القاهرة، (1997م).
  3. الاسلام ومبادئ نظام الحكم، الدكتور عبد الحميد متولي، الناشر: منشأة المعارف، (2000م).
  4. تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي، تحقيق مؤسسة آل البيت Gلإحياء التراث، ط2، مهر، قم، (1414هـ).
  5. تنبيه الامة وتنزيه الملة، ميرزا محمّد حسين النائيني، تحقيق: سيد جواد ورعى، بوستان كتاب، ط1، قم.
  6. حرية الفكر في الاسلام، عبد المتعال الصعيدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، (2009م).
  7. حقوق الانسان العربي، برهان غيلون، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، (1999م).
  8. خلافة الانسان وشهادة الانبياء، السيد محمد باقر الصدر، دار المعارف الحكمية، (2014م).
  9. الراعي والرعية، توفيق الفكيكي، دار الغدير، ايران، (1429هـ).
  10. عهد الاشتر، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، المؤسسة الدولية، بيروت، (2000م).
  11. الفقيه والدولة الفكر السياسي الشيعي، فؤاد ابراهيم، دار الكنوز العربية، بيروت، (1998م).
  12. كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء، الشيخ جعفر كاشف الغطاء، تحقيق مكتب الإعلام الإسلامي، فرع خراسان، ط1، (1422هـ)، مركز انتشارات دفتر تبليغات إسلامي.

 


([1]) الاسلام ومبادئ نظام الحكم، الدكتور عبد الحميد متولي، ص109.

([2]) خلافة الانسان وشهادة الانبياء، السيد محمد باقر الصدر، ص22.

([3]) سورة التوبة، الآية 111.

([4]) سورة النساء، الاية 84.

([5]) سورة البقرة، الآية 190.

([6]) كشف الغطاء، الشيخ جعفر كاشف الغطاء، ج4، ص381.

([7]) سورة البقرة، الآية 193.

([8]) وسائل الشيعة،  الحر العاملي، ج15، ص14، حديث 13.

([9]) وسائل الشيعة، الحر العاملي، باب من أبواب مقدمة العبادات، حديث 3.

([10]) سورة الشورى، الآية 38.

([11]) سورة التوبة، الآية 71.

([12]) تنبيه الامة وتنزيه الملة، الميرزا النائيني، ص29.

([13]) سورة البقرة، الاية 251.

([14]) سورة البقرة، الاية 190.

([15]) سورة الحج، الآية 77، الآية 78.

([16]) حرية الفكر في الاسلام، عبد المتعال الصعيدي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2009م، ص56.

([17]) الراعي والرعية، توفيق الفكيكي، دار الغدير، ايران، 1429هـ، ص268.

([18]) عهد الاشتر، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، المؤسسة الدولية، بيروت، 2000م، ص82.

([19]) الارشاد، الشيخ المفيد، ص39.

([20]) الفقيه والدولة الفكر السياسي الشيعي، فؤاد ابراهيم، دار الكنوز العربية، بيروت، 1998م، ص435.

([21]) حقوق الانسان العربي، برهان غيلون، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1999م، ص125.

([22]) الاسلام والاستبداد السياسي، محمد الغزالي، دار النهضة العربية، مصر القاهرة، 1997م، ص59.

([23]) سورة الحج، الآية 40.

([24]) سورة محمد، الآية 7.

([25]) سورة الانفال، الآية 60.

([26]) سورة البقرة، الآية 261.

 
 
البرمجة والتصميم بواسطة : MWD