الحق اليقين

في

تراجم المعصومين

 

الجامع شتاته

آية الله العظمى

الشيخ علي كاشف الغطاء  قدس سره

(1331هـ – 1411 هـ )

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله المتوحد بالإلهية و الكمال ، و العظمة و السلطان ، وسلامه على رسوله الحبيب الكريم المنتجب من نسل عدنان ، وعلى آله الغر الميامين الكرام المعز بهم دين الإسلام .

يَعْلَمُ مَنْ خَبَرَ مَقامَ شيخنا المؤلف في العلم وثافَنَهُ في تقرير مباحثه الأصولية وتحرير أبوابه الفقهية ومناقشته الآراء المنطقية من تنقيح فصولها وحَذفِ فُضولِها وتشييد سوامق مَدارِكها و اتقان حَوافِلِ أَرائِكها ، أن التزام المنهج العقلي هو الأصلُ عند شيخنا المُعَظَم في كُلِّ ما كتب وصنّفَ في هاتيك الفنون وما طُبِعَ من آثاره الخالدة كالنور الساطع ونقد الآراء المنطقية و الأحكام وغيرها شهودٌ عدولٌ على صحة هذه الدعوى ، وهذا ما أشتهر به وذاع عنه في أوساط الحوزة العلمية المباركة ، ولكن في هذا الكتاب الموسوم ( الحق اليقين في تراجم المعصومين ) نجد الشيخ  قدس سره  غيره ، مُرْتئِيا أن ما ذكره الرواة و أصحاب السير من مناقبهم وفضائلهم صحيح لا ينبغي الشك فيه ، وأنَّ ما ذكروه من ذلك إنما هو جزء يسير من هاتيك الفضائل و الكرامات الدالة على سمو المقامات بسبب الضغوط السياسية التي كانت تمنع نقل كل حديث يُشَّمُ منه رائحة تفضيل أهل البيت الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين ، ويضاف إلى ذلك ما جُبِلَ عليه الشيخ المقدس من الولاء المحض و المودة الصادقة لمن أوجب الله مودتهم في كتابه الحكيم حتى انه – وهذا ما يعرفه القاصي و الداني – كان إذا ذُكِرَ أي إمام من الأئمة الطاهرين المعصومين عليهم السلام  انبجست دموعه على كريمته ، و إذا ارتقى خطيب مجلس الإمام الحسين  عليه السلام صهوة المنبر تتحادر دموعه على خَدَيه ، ومما يشفع لبعض المنقول هنا من الروايات كونُها مشمولة بقاعدة التسامح في الفضائل و المناقب كما في السُّنن و الكراهة و الترغيب و الترهيب . و الله الهادي إلى سواء السبيل .

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

بيان تاريخ ولادة سيد المرسلين وخاتم النبيين

وحبيب رب العالمين عليه وآله الكرام صلاة رب العالمين

 إلى يوم الدين

 

قد اتفقت الإمامية إلاّ من شذ منهم على إن ولادته صلى الله عليه وآله وسلمكانت في السابع عشر من ربيع الأول والمخالفون على أنّها في الثاني عشر منه وشذ من قال منهم على أنّه ولد في شهر رمضان وفي العدد القوية أنّه صلى الله عليه وآله وسلم ولد عند طلوع الفجر من يوم الجمعة في السابع عشر من ربيع الأول بعد خمسة وخمسين يوماً أو خمسة وأربعين أو ثلاثين يومــــــــاً من هلاك أصحاب الفيل وولد لسبع بقين من ملك أنوشروان وقيل في ملك هرمز ابن أنوشروان وقد اشتهر عنه  صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (ولدت في زمن الملك  العادل) وموضع ولادته جعل مسجداً معروفاً الآن يزار ويصلى فيه.

روى الصدوق في الإكمال والأمالي عن أبي طالب عن عبد المطلب قال: (بينما أنا نائم في الحجر إذ رأيت رؤيا أهالتني فأتيت كاهنة قريش وعليّ مطرف خز وجمتي تضرب منكبي لارتعادي واضطرابي فلما نظرت إلي عرفت في وجهي التغير فاستوت جالسة وأنا يومئذ سيد قومي فقالت ما شأن سيد العرب متغير اللون هل رابه من حدثان الدهر ريب ؟فقلت لها :بلى أني رأيت رؤيا الليلة وأنا نائم في الحجر كأن شجرة قد نبتت على ظهري قد نال رأسها السماء وضربت بأغصانها الشرق والغرب ورأيت نوراً ساطعاً منها أعظم من نور الشمس سبعين ضعفاً ورأيت العرب والعجم ساجدة لها وهي كل يوم تزداد عظماً ونوراً، ورأيت رهطاً من قريش يريدون قطعها فإذا دنو منها أخذهم شاب من أحسن الناس وجهاً وأنظفهم ثياباً فيأخذهم ويكسر ظهورهم ويقلع أعينهم فرفعت يدي لأتناول غصناً من أغصانها فصاح بي الشاب وقال: مهلاً ليس لك منها نصيب فقلت:لمن النصيب والشجرة مني فقال:النصيب لهؤلاء الذين قد تعلقوا بها وستعود إليها تلك الجماعة بعد منازعاتهم ومشاجرتهم إلى هذه الشجرة ويؤمنون بها فيكون لهم النصيب منها فانتبهت فزعـاً مرعوباً متغير اللون، فرأيت لون الكاهنة قد تغير، ثم قالت: لئن صدقت ليخرجن من صلبك ولدٌ يملك الشرق والغرب وينبأ في الناس فسرى عني همّي وغمي فانظر أبا طالب لعلك تكون أنت وكان أبو طالب يحدث بهذا الحديث والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد خرج ويقول:(كانت الشجرة والله أبا القاسم الامين وتفسير ذلك الشاب أمير المؤمنين).

 وعن ابن عباس  عن أبيه قال: سمعت أبي العباس يحدّث قال: قال ولد لعبد المطلب عبد الله فرأينا في وجهه نوراً يزهر كنور الشمس فقال:إنّ لهذا الغلام لشأناً عظيماً قال:فرأيت في منامي أنّه خرج من منخره طائرٌ أبيض فطار فبلغ المشرق والمغرب ثم رجع راجعاً حتى سقط على بيت الكعبة فسجدت له قريش كلها فبينما الناس يتأملونه إذ صار نوراً بين السماء والأرض وامتد حتى بلغ المشرق والمغرب فلما انتبهت سألت كاهنة بني مخزوم فقالت: يا عباس لئن صدقت رؤياك ليخرجن من صلبه ولد يصير أهل المشرق والمغرب تبعاً له.

قال أبي: فَهَمَّني أمر عبد الله إلى أنْ تزوج بآمنة وكانت من أجمل النساء وأتمهنَّ خلقاً وخُلُقاً فلما مات عبد الله ولدت آمنة رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم أتيته فرأيت النور بين عينيه يزهر فحملته وتفرست في وجهه فوجدت منه ريح المسك وصرت كأني قطعة مسك من شدة ريحه.

فحدثتني آمنة قالت:لما أخذني الطلق واشتد بي الأمر سمعت جلبة أي أصواتا عظيمة وكلاماً لا يشبه كلام الآدميين ورأيت علماً من سندس على قضيب أخضر من ياقوت قد ضرب بين السماء والأرض ورأيت نوراً يسطع من رأسه حتى بلغ السماء ورأيت قصور الشامات كأنها شعلة نار ورأيت حولي من القطاة أمراً عظيماً وقد نشرت أجنحتها حولي ورأيت شعيرة الأسدية قد مرت وهي تقول: يا آمنة ما لقيت الكهان والأصنام من ولدك ورأيت رجلاً شاباً من أتم الناس طولاً وأشدهم بياضاً ما ظننته إلاَّ عبد المطلب قد دنا مني فأخذ المولود فتفل في فيه ومعه طشت من ذهب مضروب بالزمرد ومشط من ذهب فشق بطنه شقاً ثم أخرج قلبه فشقه وأخرج منه نقطة سوداء فرمى بها ثم أخرج صرة من حرير خضراء ففتحها فإذا فيها كالذريرة البيضاء فحشاه ثم رده إلى مكانه ومسح على بطنه واستنطقه فنطق فلم أفهم ما قال إلاَّ أنَّه قال: في أمان الله وحفظه وكلاءته قد حشوت قلبك إيماناً وعلماً وحلماً ويقيناً وعقلاً وشجاعة و أنت خير البشر طوبى لمن اتبعك وويل لمن تخلف عنك.ثم أخرج صرة أخرى من حرير بيضاء ففتحها فإذا فيها خاتم النبوة فضرب على كتفه ثم قال: أمرني ربي أنْ أنفخ فيك من روح القدس فنفخ فيه وألبسه قميصاً وقال: هذا أمانك من آفات الدنيا فهذا ما رأيت يا عباس.

قال العباس فلم أزل أكتم شأنه و أنسيت الحديث فلم أذكره إلا يوم إسلامي حتى ذكرني رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم .

وروى الصدوق في الأمالي عن الصادق عليه السلام قال: كان إبليس لعنه الله يخترق السماوات كلها ويسترق السمع فلما ولد عيسى عليه السلام منع من ثلاث سماوات وصار يسترق السمع من أربع سماوات ولما ولد رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلممنع من جميع السموات ورميت الشياطين بالنجوم وقالت قريش هذا قيام الساعة الذي كنا نسمع أهل الكتب يذكرونه.

 وقال عمرو بن أمية: انظروا هذه النجوم التي يهتدى بها ويعرف بها أزمنة الشتاء والصيف فإنْ كان رمى بها فهو هلاك كل شيء و إنْ كانت ثبتت ورمى بغيرها فهو أمر حدث،و أصبحت الأصنام كلها صبيحة ولادة النبي  صلى الله عليه وآله وسلم منكوسة وارتجس في تلك الليلة إيوان كسرى وسقطت منه أربع عشرة شرفة وغاصت بحيرة ساوة وفاض وادي السماوة وخمدت نيران فارس ولم تخمد قبل ذلك بألف عام ورأى الموبذان وهو حكيم فارس وفقيه المجوس في المنام إبلاً صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة وانسربت في بلادهم وانقصم طاق الملك كسرى من وسطه فانخرقت عليه دجلة العوراء وانتشر في تلك الليلة نور من قِبلَ الحجاز ثم استطار حتى بلغ المشرق ولم يبق سرير ملك من ملوك الدنيا إلاَّ و أصبح منكوساً والملك مخرساً لا يتكلم يومه ذلك وانتزع علم الكهنة وبطل سحر السحرة ولم تبق كاهنة في العرب إلاَّ حجبت عن صاحبها وعظمت قريش في العرب وسموا آل الله عز وجل إنما سموا آل الله لأنهم في بيت الله الحرام.

 وقالت آمنة: إنّ ابني سقط والله فاتقى الأرض بيده ثم رفع رأسه إلى السماء فنظر إليها ثم خرج مني نور أضاء له كل شيء وسمعت في الضوء قائلاً يقول: إنّك قد ولدِّت سيد الناس فسميه محمداً وأتي به عبد المطلب لينظر إليه وقد بلّغه ما قالت آمنة فأخذه ووضعه في حجره، ثم قال:

الحمد لله الذي أعطاني
 

 

هذا الغلام الطيب الأردان
 

 

                        أعيـــــذه بالبيــــــــت ذي الأركــــــــان  

ثم عوذه بأركان الكعبة وقال فيه أشعاراً قال: وصاح إبليس(لعنه الله) في أبالسته فاجتمعوا إليه فقالوا: ما الذي أفزعك يا سيدنا؟ فقال لهم: ويلكم لقد أنكرت السماء والأرض منذ الليلة لقد حدث في الأرض حدث عظيم ما حدث مثله منذ رفع عيسى ابن مريم  عليه السلام فأخرجوا وانظروا ما هذا الحدث الذي قد حدث فافترقوا ثم اجتمعوا إليه فقالوا: ما وجدنا شيئاً فقال إبليس(لعنه الله) أنا لهذا الأمر ثم انغمس في الدنيا فجالها حتى انتهى إلى الحرم فوجده محفوفاً بالملائكة فذهب ليدخل فصاحوا به فرجع ثم صار مثل الصر وهو العصفور فدخل من قبل(الحرى) وهو جبل معروف بمكة فقال له جبرئيل: ما وراءك لعنك الله،فقال له حرف اسألك عنه يا جبرئيل، ما هذا الحدث الذي حدث منذ الليلة في الأرض؟ فقال له ولد محمد  صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هل لنا فيه نصيب ؟ قال لا قال: ففي أمته ؟ قال: نعم قال رضيت.

وروى الصدوق في الأمالي وابن شهر أشوب وغيره عن آمنة O قالت: (لما قربت ولادة رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم أصابتني دهشة عظيمة ففزعت من ذلك فإذا قد دخل عليَّ طير أبيض ومسح بجناحه على بطني فزال عني ما كنت أجده من الخوف فبينما أنا كذلك إذ دخل علي نساء طوال يفوح منهن رائحة المسك والعنبر وسمعت كلاماً لا يشبه كلام الآدميين وبأيديهن أكواب من البلور الأبيض، قالت امنة: فقلن لي اشربي من هذا الشراب فلما شربت أضاء نور وجهي وعلاه نور ساطع وضياء لامع ثم قلن يا امنة اشربي من هذا الشراب وابشري بسيد الأولين والآخرين محمد المصطفى ثم قمن النسوة وخرجن فإذا أنا بأثواب من الديباج قد نشرت بين السماء والأرض وقائل يقول: خذوا من أعز, ورأيت رجالا وقوفا في الهواء بأيديهم أباريق ورأيت مشارق الأرض ومغاربها ورأيت علما من سندس على قضيب من ياقوتة قد ضرب بين السماء والأرض في ظهر الكعبة فخرج رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم) فلما سقط إلى الأرض سجد تلقاء الكعبة رافعاً يديه إلى السماء كالمتضرع إلى ربه, ورأيت سحابة بيضاء تنزل من السماء حتى غشيته فسمعت نداء طوفوا لمحمد شرق الأرض وغربها والبحار ليعرفوه باسمه ونعته وصورته ثم انجلت عنه الغمامة فإذا أنا به في ثوب أبيض من اللبن وتحته حريره خضراء وقد قبض على ثلاثة مفاتيح من اللؤلؤ الرطب وقائل يقول:قبض محمد على مفاتيح النصرة والريح والنبوة,ثم أقبلت سحابة أخرى فغيبته عن وجهي أطول من المرة الأولى وسمعت نداءً طوفوا بمحمد مشرق الأرض وغربها واعرضوه على  كل روحاني الجن والإنس والطير والسباع واعطوه صفات آدم ورقة نوح وخلة إبراهيم ولسان إسماعيل وكمال يوسف وبشرى يعقوب وصوت داود وزهد يحيى وكرم عيسى ثم انكشفت عنه فإذا أنا به وبيده حريرة بيضاء وقائل يقول: قد قبض محمد على الدنيا كلها فلم يبق  شيء إلاّ دخل في قبضته ثم رأيت ثلاثة نفر كأن الشمس تطلع من وجوههم في يد أحدهم أبريق فضة نافحة مسك وفي يد الثاني طشت من زمردة خضراء لها أربعة جوانب في

 

كل جانب لؤلؤة بيضاء وقائل يقول: هذه الدنيا فاقبض عليها يا حبيب الله( صلى الله عليه وآله وسلم) فقبض على وسطها وقائل يقول: قبض الكعبة وفي يد الثالث حريرة بيضاء مطوية فنشرها فأخرج منها خاتماً تحار أبصار الناظرين فيه فغسله من ذلك الإبريق سبع مرات ثم ضرب الخاتم على كتفيه وتفل في فيه فاستنطقه فنطق فلم أفهم إلاّ أنّه قال: في أمان الله وحفظه وكلاءته قد حشوت قلبك إيماناً وعلماً وحلما ويقيناً وعقلاً وشجاعة أنت خير البشر طوبى لمن اتبعك وويل لمن تخلف عنك ثم أدخل بين أجنحتهم ساعة وكان الفاعل به هذا رضوان ثم انصرف وجعل يلتفت إليه ويقول: ابشر يا عز الدنيا والآخرة, ورأيت نوراً يسطع من رأسه حتى بلغ السماء ورأيت قصور الشامات كأنها شعلة نار نوراً ورأيت حولي من القطاة أمراً عظيماً قد نشرت أجنحتها.

وقال عبد المطلب: لما انتصفت تلك الليلة إذا أنا ببيت الله تعالى قد اشتمل بجوانبه الأربعة وخر ساجداً في مقام إبراهيم ثم استوى البيت منادياً الله أكبر رب محمد  صلى الله عليه وآله وسلم الآن قد طهرني ربي من أنجاس المشركين ثم انتقضت الأصنام وخرت على وجوهها وإذا أنا بطير الأرض حاشرة إليها وإذا جبال مكة مشرفه عليها وإذا بسحابة بيضاء بإزاء حجرتها فأتيت آمنة وقلت لها:أنا نائم أو يقضان قالت: بل يقضان قلت: فأين نور جبهتك ؟ قالت: قد وضعته وهذه الطير تنازعني أنْ أدفعه إليها فتحمله إلى أعشاشها وهذه السحاب تضلني لذلك قلت: فهاتيه أنظر إليه قالت: حيل بينك وبينه إلى ثلاثة أيام فسللت سيفي قلت لتخرجينه أو لأقتلنك قالت: شأنك وإياه فلما هممت أن ألج البيت بادر إلي من داخل البيت رجل وقال لي: ارجع ورائك فلا سبيل لاحد من ولد آدم إلى رؤيته أو أنْ تنقضي زيارة الملائكة فارتعدت وخرجت). ولماحكي عند عبد المطلب أنّه ولد مختوناً مسروراً قال: (ليكون لابني هذا شأن).

بيان وصيته  صلى الله عليه وآله وسلم  وسائر الوقائع التي اتفقت عند موته

روي المفيد والطبرسي أنّه  صلى الله عليه وآله وسلملما تحقق دنو أجله جعل يقوم مقاماً بعد مقام في المسلمين ويحذرهم الفتنة بعده والخلاف عليه ويؤكد وصايتهم بالتمسك بسنته والاجتماع عليها والوفاق ويحثهم على الاقتداء بعترته والطاعة لهم والنصرة والحراسة والاعتصام بهم في الدين ويزجرهم عن الاختلاف والارتداد وكان مما قال: (أيها الناس إنّي مفارقكم وأنتم واردون علي الحوض ألا وإني سائلكم عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنّ اللطيف الخبير نبأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض وسألت ربي ذلك فأعطانيه ألا واني قد تركتهما فيكم كتاب الله وعترتي أهل بيتي لا تسبقوهم فتتفرقوا ولا تقصروا عنهم فتهلكوا ولا تعلموهم فإنّهم أعلم منكم أيها الناس لا الفيتكم بعدي ترجعون كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض فتلقوني في كتيبة كبحر السيل الجرار ألا وأن علي ابن أبي طالب أخي ووصيي يقاتل بعدي على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله).

وكان   صلى الله عليه وآله وسلميقوم مجلساً بعد مجلس بمثل هذا لكلام ونحوه ثم أنْ عقد لأسامة بن زيد ابن حارثة الأمرة وأمره وندبه أنْ يخرج بجمهور الأمة حيث أصيب أبوه من بلاد الروم واجتمع رأيه على إخراج جماعة من مقدمي المهاجرين والأنصار في معسكره حتى لا يبقى في المدينة عند وفاته من يتخلف في التقدم ويطمع في الرئاسة على الناس بالإمارة فعقد الإمرة على ما ذكرنا وجدّ في إخراجهم وأمر أسامة بالبروز عن المدينة بمعسكره إلى الجرف وحث الناس على الخروج إليه والمسير معه وحذرهم من الابطاء عنه فبينا هو كذلك إذ عرضت له الشكاية التي توفي فيها فلما أحس بالمرض الذي عراه أخذ بيد علي بن أبي طالب  عليه السلاموأتبعه جماعة من الناس وتوجه إلى البقيع وقال للذي اتبعه إنني قد أُمرت بالاستغفار لأهل البقيع فانطلقوا معه حتى وقف بين أظهرهم وقال: (السلام عليكم أهل القبور لايهنكم ما أصبحتم فيه مما فيه الناس أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها) ثم استغفر لأهل البقيع طويلاً،وأقبل على أمير المؤمنين  عليه السلام فقال: (إنّ جبرئيل   عليه السلامكان يعرض علي القرآن كل سنة مرة وقد عرضه علي العام مرتين ولا أراه إلاَّ لحضور اجلي) ثم قال: (يا علي إني خيرت بين خزائن الدنيا والخلود فيها أو الجنة فاخترت لقاء ربي والجنة فإذا أنا مت فاستر عورتي فانه لا يراها أحد إلا أكمه)

ثم عاد إلى منزله فمكث ثلاثة أيام موعوكاً ثم خرج إلى المسجد معصوب الرأس معتمداً على أمير المؤمنين عليه السلام بيمنى يديه وعلى الفضل ابن العباس باليد الأخرى حتى صعد المنبر فجلس عليه,ثم قال: (معاشر الناس وقد حان مني حقوق من بين أظهركم فمن كان له عندي عده فليأتني أعطه إياها ومن كان له علي دين فليخبرني به، معاشر الناس ليس بين أحد وبين الله شيء يعطيه به خيراً أو يصرف عنه شراً إلاَّ العمل الصالح، أيها الناس لا يدعي مدع ولا يتمنى متمن والذي بعثني بالحق نبياً لا ينجي إلاَّ عمل مع رحمة ولو عصيت لهويت اللهم هل بلغت)،ثم نزل فصلى بالناس صلاة خفيفة ثم دخل بيته وكان إذ ذاك بيت أم سلمة O فأقام به يوماً أو يومين فجاءت عائشة إليها تسألها أنْ تنقله إلى بيتها الذي تسكنه واستمر المرض به أياما وثقل فجاء بلال عند صلاة الصبح ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم   مغمور بالمرض فنادى الصلاة يرحمكم الله فاؤذن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم بندائه فقال: يصلى بالناس بعضهم فإني مشغول بنفسي فقالت عائشة: مروا أبا بكر فليصل بالناس وقالت حفصة مروا عمر فقال الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم حين رأى ذلك: (اكففن فإنكن صويحبات يوسف).

ثم قام  صلى الله عليه وآله وسلم مبادرا خوفا من تقدم أحد الرجلين وقد كان أمرهما بالخروج مع أسامة ولم يكن عنده أنّهما لم يخرجا فلما سمع بذلك علم أنّهما لم يخرجا فبادر لكف الفتنة وإزالة الشبهة وهو لا يستقل على الأرض من شدة الضعف آخذا بيد علي ابن أبي طالب  عليه السلام والفضل ابن عباس ورجلاه يخطان الأرض من الضعف فلما خرج إلى المسجد ووجد أبا بكر قد سبق إلى المحراب فأومأ إليه بيده أنْ تأخر فتأخر وقام رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم مقامه فكبر وابتدأ الصلاة التي كان ابتدأها أبو بكر ولم يبن على ما مضى من فعاله فلما سلم انصرف إلى منزله واستدعى أبا بكر وعمر وجماعة من حضر المسجد من المسلمين ثم قال: (ألم آمر أنْ تنفذو جيش أسامة) فقالوا: بلى،فقال  صلى الله عليه وآله وسلم: (فلم تأخرت عن أمري) فقال أبو بكر: إنّي كنت قد خرجت ثم رجعت لأجدد بك عهداً وقال عمر: يا رسول الله إنّي لم أحب أن اسأل عنك الركبان فقال النبي  صلى الله عليه وآله وسلم: (أنفذوا جيش اسامة)، يكررها ثلاثاً ثم أغمي عليه من التعب فمكث هنيئة فبكى المسلمون وارتفع النحيب من أزواجه وجميع من حضر فأفاق رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم فنظر إليهم ثم قال: (ائتوني بدواةٍ وكتف)، فقال عمر: إنّه يهجر, فاختلف أهل ذلك البيت منهم من يقول:قربوا يكتب لكم رسول الله ومنهم من يقول القول ما قال عمر فلما كثر الاختلاف قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: (قوموا)، فكان ابن عباس يقول: (الرزيَة كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أنْ يكتب لهم ذلك الكتاب).

وروى الكليني عن الكاظم  عليه السلام قال: قلت لأبي عبد الله  عليه السلام أليس كان أمير المؤمنين كاتب الوصية ورسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم المملي عليه وجبرئيل  عليه السلام والملائكة شهود؟ قال:فأطرق طويلاً ثم قال: (يا أبا الحسن قد كان ما قلت ولكن حين نزل برسول الله الأمر  صلى الله عليه وآله وسلم نزلت الوصية من عند الله كتاباً مسجلاً نزل به جبرئيل عليه السلام مع أمناء الله تبارك وتعالى من الملائكة فقال جبرئيل عليه السلام:يا محمد مر بإخراج من عندك لأوصيك ليقيفها من عندك وتشهدنا بدفعك إياها له يعني علياً  عليه السلام. فأمر النبي  صلى الله عليه وآله وسلم بإخراج من كان في البيت ما خلا علياً وفاطمة H بين الستر والباب فقال جبرئيل عليه السلام: يا محمد ربك يقرئك السلام ويقول: هذا كتاب ما كنت عهدت إليك وشرطت عليك وشهدت به عليه وأشهدت به عليك ملائكتي وكفى بي شهيداً يا محمد قال: فارتعدت مفاصل النبي  صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (يا جبرئيل ربي هو السلام ومنه السلام وإليه يعود السلام صدق عز وجل وبرهان الكتاب)، فدفعه إليه وأمره بدفعه إلى أمير المؤمنين  عليه السلام فقال له: اقرأه فقرأه حرفاً بحرف فقال: (يا علي هذا عهد ربي الي وشرطه علي وأمانته وقد بلغت ونصحت وأديت)، فقال علي عليه السلام : (وأنا أشهد لك بابي أنت وأمي بالبلاغ والنصيحة والتصديق على ما قلت ويشهد لك به سمعي وبصري ولحمي ودمي). فقال جبرئيل  عليه السلام : وأنا لكما على ذلك من الشاهدين. فقال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم: (يا علي أخذت وصيتي وعرفتها وضمنت لله ولي الوفاء بما فيها). فقال علي  عليه السلام: (نعم بأبي أنت و أمي عليَّ ضمانها وعلى الله عوني وتوفيقي على أدائها)، فقال رسول الله: (يا علي إني أريد أنْ أشهد عليك بموافاتي بها يوم القيامة)،فقال علي  عليه السلام : (نعم أشهد)، فقال النبي: (إنّ جبرئيل وميكائيلH  فيما بيني وبينك الان وهما

 

حاضران معهما الملائكة المقربون لأشهدهم عليك) فقال: (نعم ليشهدوا وأنا بأبي أنت وأمي أشهدهم)، فأشهدهم رسول الله وكان فيما اشترط عليه النبي بأمر جبرئيل عليه السلام فيما أمره الله عز وجل أنْ قال له: (يا علي تفِ بما فيها من موالاة ولي الله ومعاداة عدو الله والبراءة منهم على الصبر منك على كظم الغيض وعلى ذهاب حقك وغصب خمسك وانتهاك حرمتك)، فقال: (نعم يارسول الله)، فقال أمير المؤمنين  عليه السلام: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد سمعت جبرئيل عليه السلام  يقول للنبي يا محمد عرفه أنه تهتك الحرمة وهي حرمة الله وحرمة رسوله وعلى أنْ تخضب لحيته من رأسه بدم)، قال أمير المؤمنين عليه السلام: (فصعقت حين سمعت الكلمة من جبرئيل عليه السلام حتى سقطت على وجهي وقلت نعم قبلت ورضيت وإن انتهكت الحرمة وعطلت السنن ومزق الكتاب وهدمت الكعبة وخضبت لحيتي من رأسي بدم صابراً محتسباً أبداً حتى أقدم عليك)، ثم دعا رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة والحسن والحسين G وأعلمهم مثلما أعلم أمير المؤمنين  عليه السلام، فقالوا مثل قوله فختمت الوصية بخواتيم من ذهب لم تمسه النار ودفعت إلى أمير المؤمنين  عليه السلام.

وروى المفيد أنّ النبي ثقل وحضره الموت وأمير المؤمنين  عليه السلام  حاضر عنده فلما قرب خروج نفسه قال له: (يا علي ضع رأسي في حجرك فقد جاء أمر الله تعالى فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك وأمسح بها وجهك ثم وجهني إلى القبلة وتولَ امري وصل عليَّ أول الناس ولا تفارقني حتى تواريني في رمسي)، فأخذ علي  عليه السلام  رأسه فوضعه في حجره فأغمي عليه فانكبت عليه فاطمة I تنظر في وجهه وتقول:

و أبيض يستسقي الغمام بوجهه
 

 

ثمال اليتامى عصمة للأرامل
 

 

ففتح رسول الله عينه وقال بصوت ضئيل: (يا بني هذا قول عمك ابو طالب لا تقوليه ولكن قولي: ]وَمَا مُحَمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ اَفَائِنْ مَاتَ أو قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى اَعْقَابِكُمْ[،فبكت طويلاً فأومأ إليها بالدنو منه فدنت منه فأسر إليها شيئاً تهلل وجهها له ثم قبض  صلى الله عليه وآله وسلم ويد أمير المؤمنين  عليه السلام  تحت حنكه ففاضت نفسه منها فرفعها إلى وجهه فمسحه بها ثم وَجَهّهُ وغمضه ومد عليه أزاره واشتغل بالنظر في أمره.

بيان وفاته وكيفية غسله وتكفينه ودفنه والصلاة عليه المشهور بين العامة والخاصة

إنّ وفاته كانت في يوم الاثنين وأكثر الخاصة أنّ ذلك في اليوم الثامن والعشرين من صفر وأكثر العامة أنّ ذلك في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول وبعضهم أوله وبعضهم ثامنه وبعضهم عاشره وبعضهم ثامن عشره ولاخلاف أنّ عمره كان ثلاث وستين سنة وأنّه بعد مضي عشر سنين من الهجرة .

روى الصدوق في الأمالي عن ابن عباس قال: لما مرض النبي وعنده أصحابه قام إليه عمار فقال: فداك أبي وأمي يا رسول الله من يغسلك منا إذا كان ذلك منك قال: (ذاك علي بن أبي طالب  عليه السلام لأنه لايهم بعضو من أعضائي إلاَّ أعانته الملائكة على ذلك)، فقال له: فداك أبي وأمي يا رسول الله ومن يصلي عليك منا إذا كان ذلك منك قال: (رحمك الله)، ثم قال لعلي: (يابن أبي طالب إذا رأيت روحي قد فارقت جسدي فاغسلني وانق غسلي وكفني في طمري هاتين أوفي بياض مصر وبرد يماني ولا تغال في كفني واحملوني حتى تضعوني على شفير قبري فأوّل من يصلي علي الجبار جل جلاله من فوق عرشه ثم جبرئيل وميكائيل واسرافيل في جنود الملائكة ثم الحافون بالعرش ثم سكان أهل سماء فسماء ثم جل أهل بيتي ونسائي الأقربون فالأقربون يؤمون إيماءً ومسلّمون تسليماً لا يؤذي بصوت نادبة ولا مرفه)، ثم قال: (يا بلال هلم علي بالناس)، فاجتمع الناس وخرج متعصباً بعمامة متوكئاً على فرسه حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (معاشر أصحابي أي نبي كنت لكم ألم أجاهد بين أظهركم ألم تنكسر رباعيتي ألم يعفر جبيني ألم تسل الدماء على حر وجهي حتى كنفت لحيتي ألم أكابد الشدة والجهد مع جهال قومي ألم أربط حجر المجاعة على بطني)،قالوا بلى يا رسول الله لقد كنت يا رسول الله صابراً و عن منكر بلاء الله ناهياً فجزاك الله عنا افضل الجزاء،قال: (وأنتم فجزاكم الله)، ثم قال: (إنّ الله حكم واقسم أنْ لا يجوزه ظلم ظالم فناشدتكم بالله اي رجل منكم كانت له قبل محمد مظلمة فليقتص منه فالقصاص في دار الدنيا احب الي من القصاص في دار الاخرة على رؤوس الأشهاد الملائكة والأنبياء)، فقام إليه رجل من أقصى القوم يقال له سوادة  بن قيس فقال له: فداك أبي وأمي يا رسول الله إنك لما أقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فأصاب بطني فلا أدري أعمداً أم خطأ، فقال: (معإذ الله أنْ أكون تعمدت)،ثم قال: (يابلال قم إلى منزل فاطمة وأتني بالقضيب الممشوق)، فخرج بلال وهو ينادي في سكك المدينة(معاشر الناس من ذا الذي يعطي القصاص من قبل نفسه قبل يوم القيامة) وطرق بلال الباب على فاطمة وهو يقول: يا فاطمة قومي فوالدك يريد القضيب الممشوق فأقبلت فاطمة I وهي تقول: (يا بلال ما يصنع والدي بالقضيب وليس هذا يوم القضيب)،فقال بلال: يا فاطمة أما علمت أنّ والدك قد صعد المنبر وهو يودع أهل الدين والدنيا فصاحت فاطمة I وقالت: (واغماه  لغمك يا أبتاه،من للفقراء والمساكين وابن السبيل يا حبيب الله وحبيب القلوب)، ثم ناولت بلالاً القضيب فخرج حتى ناوله رسول الله فقال رسول الله: أين الشيخ)؟ فقال: ها أنا ذا يا رسول الله بأبي أنت وأمي، قال: (تعال فاقتص مني حتى ترضى)،فقال الشيـــــخ: فاكشف لي عن بطنك يا رسول الله فكشف عن بطنه فقال الشيح: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أتأذن لي أنْ أضع فمي على بطنك،فإذن له فقال: أعوذ بموضع القصاص من بطن رسول الله من النار،فقال رسول الله: (يا سوادة بن قيس أتعفو أم تقتص)،قال: بل أعفو يا رسول الله فقال: (اللهم أعف عن سوادة بن قيس كما عفا عن نبيك محمد)،ثم قام فدخل بيت أم سلمة وهو يقول: (رب سلم أمة محمد من النار ويسر عليهم الحساب)، فقالت أم سلمة: (ما لي أراك مغموماً متغير اللون ؟) فقال: (نعيت ألي نفسي فسلام لك في الدنيا فلا تسمعي بعد هذا اليوم صوت محمد أبداً)،فقالت أم سلمة(واحزناه حزناً لا تدركه الندامة عليك يا محمداه)،ثم قال: (ادعوا لي حبيبة قلبي وقرة عين فاطمة)،ثم اغمي عليه فجاءت فاطمةI وهي تقول: (نفسي لنفسك الفداء ووجهي لوجهك الوفاء)، فقال لها: (يا ابنتي إنّي مفارقك فسلام عليك مني)، قالت: (يا أبتاه فأين الملتقى يوم القيامة؟)،قال: (عند الحساب)، قالت: فإن لم ألقك عند الحساب؟ قال: (عند الشفاعة)، قالت: (فإنْ لم ألقك)، قال:(عند الصراط جبرئيل عن يميني وميكائيل عن شمالي والملائكة من خلفي وقدامي ينادون ربِّ سلم أمة محمد من النار)، قالت فاطمة I: (فأين والدتي؟) قال: (في قصر له أربعة أبواب إلى الجنة)، ثم أغمي عليه فدخل بلال وهو يقول(الصلاة يرحمك الله)، فخرج رسول الله وصلى بالناس وخفف الصلاة ثم قال: (ادعوا لي علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد)، فجاءا فوضع  صلى الله عليه وآله وسلم يده على عاتق علي والأخرى على أسامة ثم قال: (انطلقا بي إلى منزل فاطمة)، فجاءا به حتى وضع رأسه في حجرها فإذا الحسن والحسين يبكيان وهما يقولان: (أنفسنا لنفسك الفداء ووجوهنا لوجهك الوقاء)، فسمع صوتهما فقال: (من هذان يا علي؟)، قال: (هذان ابناك)،فعانقهما وقبلهما، وكان الحسن عليه السلام أشد بكاءً من الحسين فقال: (كف يا حسن فقد شققت علي)، فنزل ملك الموت عليه السلام وقال: السلام عليك فقال: (و عليك السلام يا ملك الموت لي إليك حاجة)، قال: وما حاجتك يا نبي الله؟ قال: (أنْ لا تقبض روحي حتى يجيئني حبيبي جبرئيل فيسلم علي وأسلم عليه)، فخرج ملك الموت وهو يقول:يا محمداه فاستقبله جبرئيل فقال: يا ملك الموت هل قبضت روح محمد؟ قال: لا يا جبرئيل سألني أنْ لا أقبض روحه حتى يلقاك  ويسلم عليك وتسلم عليه فقال: يا ملك الموت أما ترى أبواب السماء قد تفتحت لروح محمد؟ أما ترى الحور العين قد تزينت لروح محمد؟ ثم نزل جبرئيل عليه السلام فقال: السلام عليك يا أبا القاسم، فقال: (وعليك السلام حبيبي جبرئيل ادن مني فدنا منه) فنزل ملك الموت فقال له جبرئيل يا ملك الموت احفظ وصية الله في محمد وكان جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره وملك الموت آخذ بروحه فلما كشف عن وجه رسول الله نظر إلى جبرئيل فقال له: (عند الشدائد تخذلني) فقال: يا محمد إنك ميت وإنهم ميتون كل نفس ذائقة الموت.

قال ابن عباس: إنّ رسول الله كان في ذلك المرض يقول: (ادعوا إلي حبيبي) فجعل يدعو له رجل بعد رجل فيعرض عنه فقيل لفاطمة:(امض إلى علي فما نرى رسول الله يريد غيره)، فبعثت فاطمة إلى علي عليه السلام فلما دخل فتح رسول الله عينيه وتهلل وجهه ثم قال: (إليَّ يا علي) . فما زال يدنيه حتى أخذ بيده وأجلسه عند رأسه ثم أغمى عليه فجاء الحسن والحسين يصيحان ويبكيان حتى وقعا على رسول الله فأراد علي عليه السلام أن ينحيهما عنه فأفاق رسول الله ثم قال: (يا علي دعني اشمهما ويشماني وأتزود منهما ويتزودان مني أما أنّهما سيظلمان بعدي ويقتلان ظلماً فلعنة الله على من يظلمهما)، يقول ذلك ثلاثاً ثم مد يده إلى علي فجذبه إليه حتى أدخله تحت ثوبه الذي كان عليه ووضع فاه على إذنه وجعل يناجيه طويلاً حتى خرجت روحه الطيبة صلوات الله عليه وآله وسلم فانسل علي من تحت ثيابه وقال: (عظم الله أجوركم في نبيكم فقد قبضه الله إليه)، فارتفعت الأصوات بالصيحة والبكاء فقيل لأمير المؤمنين  عليه السلام :ما الذي ناجاك به رسول الله حين أدخلك تحت ثيابه قال:(علمني ألف باب يفتح من كل باب ألف باب).

وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: (لما حَضَرَتْ رسول الله الوفاة استإذن عليه رجل فخرج إليه علي فقال: ما حاجتك قال أريد الدخول على النبي قال: لست تصل إليه فما حاجتك، قال: لا بد من الدخول على النبي، فدخل علي واستاذن النبي فأذن له فدخل وجلس عند رأس النبي ثم قال: يا رسول الله إنّ الله أرسلني إليك ليخيرك بين لقائه أو الرجوع إلى الدنيا قال: (وأي رسول أنت)، قال (أنا ملك الموت أرسلني الله إليك)) فقال له النبي: (أمهلني حتى ينزل جبرئيل فاستشيره)، فنزل جبرئيل فقال: (يا رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم الآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى لقاء الله خير لك)، فقال لقاء ربي خير لي فامضِ لما امرتَ به، فقال جبرئيل لملك الموت: (لا تعجل حتى أعرج إلى ربي وأهبط فقال ملك الموت لقد صارت نفسه في موضع لا أقدر على تأخيرها فعند ذلك قال جبرئيل: هذا آخر هبوطي إلى الدنيا إنما كنت أنت حاجتي فيها).

وعن الإمام الباقر عليه السلام قال: (قال الناس كيف الصلاة عليه؟ فقال علي عليه السلام: إنّ رسول الله أمامنا حياً وميتاً فدخل عليه عشرة عشرة فصلوا يوم الاثنين وليلة الثلاثاء حتى الصباح ويوم الثلاثاء حتى صلى عليه كبيرهم وصغيرهم وفتاهم وضواحي المدينة بغير امام). وكفن رسول الله في ثلاثة أثواب برد أحمر حبرة وثوبين أبيضين صحاريين قيل كيف صُلِّي عليه؟ قال: (سُجّي بثوب وجُعل وسط البيت فإذا دخل قوم داروا به وصلوا عليه ودعوا له ثم يخرجون ويدخل آخرون)،ثم دخل علي عليه السلامالقبر فوضعه على يديه وأدخل معه الفضل ابن العباس، فقال رجل من الأنصار وهو الأوس بن الخولي أنشدكم أنْ تقطعوا حقنا فقال له علي عليه السلام: (ادخل) فدخل معهما فسألته انّى وضع السرير فقال عند رجل القبر وسُلَّ منه سَلاً وعائشة في الحجرة لا تعلم قد أخذ جبرئيل ببصرها ولما قبض رسول الله بات آل محمد طول الليلة حتى ظنوا إن لا سماء تظلهم ولا أرض تقلهم لأنّ رسول الله وتر الأقربين والأبعدين فبينما هم كذلك إذ أتاهم آت يسمعون كلامه ولا يرونه فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته إنْ في الله عزاء من كل شدة ودركاً لما فات، كل نفس ذائقة الموت، إنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زُحزح عن النار وأُدخل الجنة فقد فاز، وما متاع الحياة الدنيا إلاَّ متاع الغرور إنّ الله اختاركم وفضلكم وطهركم وجعلكم أهل بيت نبيه واستودعكم علمه وأورثكم كتابه وجعلكم تابوت علمه وعصا عزه وضرب لكم مثلاً من نوره وعصمكم من الزلل وامنكم من الفتن فتعزوا بعزاء الله فإنّ الله لن ينزع منكم رحمته ولن يزيل عنكم نعمته فانتم أهل الله عز وجل الذين بهم تمت النعمة وائتلفت الفرقة واجتمعت الكلمة وأنتم أولياء الله فمن تولاكم فاز ومن ظلم حقكم زهق،مودتكم من الله واجبة في كتابه على عباده المؤمنين ثم الله على نصركم إذ يشاء قدير، فاصبروا لعواقب الأمور فإنّها إلى الله تصير قد قبلكم من نبيه وديعة واستودعكم أوليائه المؤمنين في الأرض فمن أدى أمانته أتاه صدقه، فأنتم الأمانة المستودعة ولكم المودة الواجبة والطاعة المفروضة وقد قبض رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أكمل لكم الدين وبيّن لكم سبيل المخرج فلم يترك لجاهل حجة، فمن جهل أو تجاهل أو أنكر أو نسي أو تناسى فعلى الله حسابه والله من وراء حوائجكم واستودعكم الله والسلام عليكم. قال الرأوي: وسألت أبا جعفر فممن أتتهم التعزية فقال: من الله. وقال الصادق عليه السلام: (سمت إليهودية النبي في ذراع وكان النبي  صلى الله عليه وآله وسلم  يحب الذراع والكتف ويكره الورك لقربها من المبال ولما أُتي بالشواء أكل من الذراع ما شاء الله ثم قال: الذراع يا رسول الله إني مسموم فتركه وما زال ينتفض به سُمّه حتى مات).

 

وسُئل أحد الأئمة هل أغتسل علي حين غسّل رسول الله عند موته؟ فأجابه: النبي طاهر مطهر ولكن أمير المؤمنين فعل وجرت السنة به.

 

بسم الله الرخمن الرحيم

وبه نستعين

أحوال مولانا أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب عليه السلام

أولاً: ولادته عليه أفضل الصلاة والسلام

 المشهور انّه عليه السلام ولد في مكة المعظمة في البيت الحرام يوم الجمعة الثالث عشر من رجب بعد عام الفيل بثلاثين سنة، ولم يولد في البيت الحرام أحد قبله ولا بعده وكان عمر النبي  صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك الحين ثمانياً وعشرين سنة وهو أول هاشمي ولد بين هاشميين في الإسلام، وأخوته الثلاثة طالب وعقيل وجعفر لأن أباهم أبو طالب بن عبد المطلب بن هاشم، وأمهم فاطمة بنت أسد بن هاشم.

وقد روى المحدثون من أهل السنة والشيعة عن النبي  صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: (خلقت أنا وعلي بن أبي طالب من نور واحد نسبح الله يمنة العرش قبل أن يخلق الله آدم بأربعة وعشرين ألف عام فلما خلق الله آدما   عليه السلام جعل الله عز وجل ذلك النور في صلبه ولقد ركب نوح  عليه السلام السفينة ونحن في صلبه ولقد قذف إبراهيم  عليه السلام في النار ونحن في صلبه فنجاه الله تعالى من النار، فلم يزل ينقلنا الله عز وجل من أصلاب طاهرة إلى أرحام طاهرة حتى انتهى بنا إلى عبد المطلب فقسمنا نصفين فجعلني في صلب عبد الله وجعل علياً في صلب أبو طالب، وإنّ الله تعالى قد حكم أن محبي ومحب علي بن أبي طالب لا يدخل النار وأنّ عدوي وعدو علي لايدخل الجنة، وإنّ الله تعالى خلق الملائكة بأيديهم أباريق من فضة الجنة وتلك ألاباريق مملوءة من ماء الحياة وهي عين في جنة الفردوس فإذا أراد أحد من آباء شيعتنا أن يقارب في الوقت الذي ير يد الله إنعقاد النطفة فيه جاء ملك وألقى قليلاً من ذلك الماء في الماء الذي يشربه فيختلط ذلك الماء بنطفته فينعقد في قلب المولود محبتي ومحبة علي وفاطمة والحسن والحسين)، ثم قال: (الحمد لله الذي جعل محبة علي والإيمان به سبباً لدخول الجنة والنجاة من النار) .

 وعن الإمام الصادق  عليه السلام: (أنّه لما ولد النبي  صلى الله عليه وآله وسلم فُتح لآمنة بصرها فرأت بياض فارس وقصور الشام فجاءت فاطمة بنت أسد إلى أبي طالب ضاحكة مستبشرة فأعلمته بما رأت آمنة فقال لها أبو طالب: (أوتعجبين من هذا اصبري سِبتاً فستحبلين بمثله إلا النبوة ويكون وصيه ووزيره)، والسبت ثلاثون سنة.

 وقال النبي  صلى الله عليه وآله وسلم لجابر بن عبد الله الأنصاري N في حديث طويل وقد سأله عن ميلاد أمير المؤمنين  عليه السلام:(يا جابر من قبل انْ يقع علي في بطن أمه أنّه كان في زمان رجل عابد يقال له المثرم بن رعيب وكان قد عَبَدَ الله مئة وتسعين سنة ولم يسأله حاجة فسأل ربه أنْ يريه ولياً فبعث الله تبارك وتعالى بأبي طالب اليه فلما أنْ بصر به المثرم قام إليه فقبل رأسه وأجلسه وجلس بين يديه فقال: من أنت يرحمك الله ؟، قال: رجل من تهامة، فقال: أمن مكة؟، قال: نعم، قال: ممن ؟، فقال: من عبد مناف قال: من أي عبد مناف؟، قال: من بني هاشم، فوثب إليه الراهب وقبل رأسه ثانية، وقال: الحمد لله الذي أعطاني مسألتي ولم يمتني حتى أراني وليه، ثم قال: ابشر يا هذا فإنّ العلي الأعلى قد ألهمني فيه بشارتك، قال أبو طالب: ما هو ؟، قال: ولد يخرج من صلبك هو ولي الله تبارك وتعالى وهو إمام المتقين ووصي رسول رب العالمين فإن أدركت ذلك الولد فأقرأه مني السلام وقل له: إنّ المثرم يقرأ عليك السلام وهو يشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له وإنّ محمداً عبده ورسوله وإنك وصيه حقاً، بمحمد تتم النبوة وبك تتم الوصية، قال فبكى أبو طالب وقال له: ما اسم هذا المولود ؟ قال: اسمه علي، فقال أبو طالب: إني لا أعلم حقيقة ما تقوله إلاّ ببرهان بين ودلالة واضحة، قال المثرم: فما تريد أن أسأل الله لك أنْ يعطيك في مكانك هذا؟، قال أبو طالب: أريد طعاماً من الجنة في وقتي هذا، فدعا الراهب فما استتم دعاءه حتى أُتي بطبق فواكه الجنة رطبا ًوعنباً ورماناً فتناول أبو طالب منه رمانة ونهض فرحاً مسروراً من ساعته حتى رجع إلى منزله فأكلها فتحولت ماءً في صلبه فجامع فاطمة بنت أسد فحملت بعلي وارتجت الأرض وزلزلت بهم أياماً حتى لقيت قريش من ذلك أمراً عظيما من شدة الخوف وفزعوا إلى آلهتهم وأتوا أبا قبيس فلما اجتمعوا في ذروة أبي قبيس جعل يرتج ارتجاجاً حتى تدكدكت بهم صم الصخور وتناثرت وتساقطت الالهة على وجوهها فقالوا: لا طاقة لنا بما حل بنا فصعد أبو طالب الجبل وهو غير مكترث بما هم فيه فقال: أيها الناس إنّ الله تبارك وتعالى قد أحدث في هذه الليلة حادثة وخلق فيها خلقاً إنْ لم تطيعوه وتقروا بولايته وتشهدوا بإمامته لم يسكن ما بكم ولا يكون لكم بتهامة مسكن، فقالوا: يا أبا طالب إنا نقول بمقالتك فبكى أبو طالب ورفع إلى الله عز وجل يديه وقال: إلهي وسيدي ومولاي أسألك بالمحمدية المحمودة وبالعلوية العالية وبالفاطمية البيضاء ألا تفضلت على تهامة بالرأفة والرحمة فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة، لقد كانت العرب تكتب هذه الكلمات فتدعوا بها عند شدائدها في الجاهلية وهي لا تعلمها ولا تعرف حقيقتها فلما كانت الليلة التي ولد فيها أمير المؤمنين أشرقت السماء بضيائها وتضاعف نور نجومها وأبصرت قريش من ذلك عجباً فهاج بعضها في بعض وقالوا: قد احدث في السماء حدث، وخرج أبو طالب وهو يتخلل مكة وأسواقها ويقول: يا أيها الناس تمت حجة الله، وأقبل الناس يسألونه عن علة ما يرونه من إشراق السماء وتضاعف نور النجوم فقال لهم: ابشروا فقد ظهر ولي الله وبه يكمل خصال الخير ويختم به الوصيين وهو إمام المتقين وناصر الدين وقامع المشركين ومغيظ المنافقين وزين العابدين ووصي رسول رب العالمين إمام هدىً ونجم علاً ومصباح دجىً ومبيد الشرك والشبهات وهو اليقين نفسه ورأس الدين، فلم يزل يكرر هذه الكلمات والألفاظ إلى أنْ أصبح، وغاب عن قومه أربعين صباحاً، قال جابر: يا رسول الله إلى أين غاب؟، قال: إنّه مضى بطلب المثرم كان قد مات في جبل اللكام فاكتم يا جابر فإنّه من أسرار الله المكنونة وعلومه المخزونة أنّ المثرم كان قد وصف لأبي طالب كهفاً في جبل اللكام وقال: إنك تجدني هناك حياً أو ميتاً فلما مضى أبو طالب إلى ذلك الكهف ودخل إليه وجد المثرم جسداً ملفوفاً في مدرعة مسجى بها إلى قبلته فإذا هناك حيتان أحدهما بيضاء  والأخرى سوداء وهما يدفعان عنه الأذى فلما أبصرتا بأبي طالب غربتا في الكهف ودخل أبو طالب إليه فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته فأوحى الله تعالى بقدرته إلى المثرم فقام قائماً يمسح وجهه وهو يقول: أشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له وأنّ محمداً عبده ورسوله وأنّ علياً ولي الله والإمام بعد نبي الله، فقال أبو طالب: البشرى فإنّ علياً قد طلع إلى الأرض، فقال: وما علامة تلك الليلة التي طلع فيها، قال: أبو طالب: لما مضى من الليل الثلث أخذ فاطمة ما يأخذ النساء عند الولادة فقلت لها: ما لك يا فاطمة، قالت: إني أجد اضطرابًا، فـقرأت عليها الاسم الذي فيه النجاة فسكنت فقلت لها: إني انهض فآتيك بنسوة من صويحباتك يعيننك على أمرك في هذه الليلة، فقالت: رأيك يا أبا طالب، فلما قمت لذلك إذا أنا بهاتف هتف من زاوية البيت: امسك يا أبا طالب فإنّ ولي الله لا تمسه يد خاطئة وإذا أنا بأربع نسوة يدخلن عليها وعليهن ثياب كهيئة الحرير الأبيض ورائحتهن أطيب من المسك الأذفر فقلن لها: السلام عليك يا ولية الله فأجابتهن ثم جلسن بين يديها ومعهن جونة من فضة فآنسنها حتى ولد أمير المؤمنين فلما ولد انتهيت إليه فإذا هو كالشمس الطالعة وقد سجد على الأرض وهو يقول: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله وأشهد أنّ علياً وصي محمد رسول الله وبمحمد يختم النبوة وبي تتم الوصية وأنا أمير المؤمنين، فأخذته واحدة منهن من الأرض ووضعته في حجرها فلما نظر علي إلى وجهها ناداها بلسان طلق السلام عليك يا أماه فقالت: وعليك السلام يا بني، فقال: ما خبر والدي قالت: في نعم الله يتقلب وصحبته يتنعم فلما سمعت ذلك: قلت يا بني الست بأبيك؟ قال: بلى ولكني وإياك من صلب آدم وهذه أمي حواء فلما سمعت ذلك غطيت نفسي بردائي وألقيت نفسي في زاوية البيت حياء منها ثم دنت أخرى ومعهاحونة يعني –ظرف من الغالية- فأخذت علياً فلما نظر في وجهها قال: السلام عليك يا اختاه قالت: وعليك السلام يا أخي قال: فما خبر عمي قالت: بخير وهو يقرأ عليك السلام فقلت: يا بني أي أخت هذه وأي عم هذا فقال هذه مريم ابنة عمران وعمي عيسى ابن مريم وطيبته بطيب كان في الجونة فأخذته أخرى منها فأدرجته في ثوب كان معها قال أبو طالب فقلت: لو طهرناه لكان أخف عليه وذلك أنّ العرب كانت تطهر أولادها فقالت: يا أبا طالب إنّه ولد طاهرٌ مطهرٌلايذيقه حر الحديد في الدنيا إلاّ على يد رجل يبغضه الله ورسوله وملائكته والسماوات والأرض والجبال والبحار وتشتاق إليه النار فقلت: من هذا الرجل؟ فقلن: ابن ملجم المرادي لعنه الله وهو قاتله في الكوفة سنة ثلاثين من وفاة محمد  صلى الله عليه وآله وسلم، قال أبو طالب: ثم غبن عني النسوة فقلت في نفسي لو عرفت المرأتين الأخيرتين فألهم الله علياً فقال: يا أبي أما المرأة الأولى فكانت حواء وأما الثانية مريم بنت عمران التي أحصنت فرجها وأما التي أدرجتني في الثوب فآسيا بنت مزاحم وأما صاحبة الحونة فأم موسى فالحق الآن بالمثرم وبشره وخبره بما رأيت فإنه في كهف كذا في موضع كذا فخرجت حتى أتيك بأمر ولدي أبشرك به وبما عاينت وشاهدت من ابني فبكى المثرم ثم سجد شكراً لله ثم تمطى فقال: غطني بمدرعتي فغطيته بمدرعته فإذا هو ميت كما كان فأقمت ثلاثاً أكلم فما أجاب فاستوحشت لذلك وخرجت الحيتان فقالتا: السلام عليك يا أبا طالب فأجبتهما ثم قالتا: الحق بأهلك و بولي الله فإنك أحق بصيانته وحفظه من غيرك فقلت لهما من أنتما ؟ قالتا: نحن عمله الصالح خلقنا الله من خيرات عمله فنحن نذب عنه الأذى إلى أنْ تقوم الساعة فإذا قامت الساعة كان أحدنا قائده والأخرى سائقه ودليله إلى الجنة ثم انصرف أبو طالب إلى مكة).

وقد روى جماعة ممن شاهد فاطمة I حيث أخذها الطلق بأمير المؤمنين أقبلت إلى البيت الحرام فقالت: ربي إني مؤمنة بك وبما جاء من عندك من رسل وكتب وإني مصدقة بكلام جدي إبراهيم الخليل وإنّه بنى البيت العتيق فبحق الذي بنى البيت وبحق هذا المولود الذي يكلمني في بطني ويؤنسني الذي أعلم أنه آية من آياتك وعصمتك إلاّ ما يسرت علي ولادتي، قال الراوي: فرأيت البيت وقد انفتح عن أظهره ودخلت فاطمة، وغابت عن أبصارنا والتزق الحائط فرمنا أنْ نفتح باب البيت فلم ينفتح فعلمنا أنّ ذلك أمر من الله ثم خرجت  في اليوم الرابع وبيدها أمير المؤمنين  عليه السلام وقالت: إنّي فضلت على من تقدمني من النساء فإني دخلت بيت الله الحرام وولدت فيه فأكلت من ثمار الجنة وأرزاقها ولما أردت الخروج هتف بي هاتف: يا فاطمة سميه علي فهو علي والله العلي الأعلى يقول: إني شققت اسمه من اسمي وأدبته بأدبي ووقفته على غامض علمي وهو الذي يكسر الأصنام في بيتي وهو الذي يؤذن فوق ظهره ويقدسني ويمجدني فطوبى لمن أحبه وأطاعه وويل لمن خالفه وعصاه، فلما وقع نظر أبو طالب على ولده قام فرحاً مستبشرفقال علي  عليه السلام: (السلام عليك يا أبة)، ولما دخل الدار دخل رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم فاهتز له أمير المؤمنين عليه السلام وضحك في وجهه وقال: (السلام عليك يا رسول الله)، ثم تنحنح وقال: بسم الله الرحمن الرحيم ]قَداَفْلَحَ اْلمُؤْمِنُونَ  * اَلذَّينَ هُمْ في صَلاَتِهْمِ خَاشِعُونَ[، فقال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم(قد أفلحوا بك وأنت والله أميرهم أمير المؤمنين تميرهم من علومك فيمتارون وأنت والله دليلهم بك يهتدون)، ثم قال رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة: (اذهبي فبشري عمي حمزة بولادته)، فقالت: إذا ذهبت فمن يرضعه؟ قال  صلى الله عليه وآله وسلم: لاعليك انا أرويه، قالت فاطمة: أنت ترويه، قال: نعم . فوضع رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم لسانه في فيه فانفجرت من لسانه اثنتا عشرة عيناً قال: (فسمي ذلك اليوم يوم التروية) . ولما كان من غد دخل رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم على فاطمة فلما أبصر علي  عليه السلام برسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم سلم عليه وضحك في وجهه وأشار إليه انْ خذني إليك واسقني بما سقيتني بالأمس فأخذه رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم ففرحت بذلك فاطمة فقالت:عرفه ورب الكعبة. فسمي ذلك اليوم يوم عرفة فلما كان الثالث وهو العاشر من ذي الحجة أذن أبو طالب أذاناً في الناس جامعاً إلى وليمة ابنه علي  عليه السلام ونحر ثلاثمائة من الإبل وألف رأس من الغنم والبقر واتخذ له وليمة عظيمة وقال: (هلموا وطوفوا بالبيت سبعاً سبعاً وادخلوا وسلموا على ولدي) ففعل الناس ذلك وجرت به السنة وكان عمر الرسول  صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ثلاثين سنة وكان يحبه حباً شديداً ويقول لأمه: (اجعلي مهده بقرب فراشي)، وكان رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم يلي أكثر أمره وتربيته ويوجره اللبن عند شربه ويحرك له مهده عند نومه ويناغيه عند يقظته ويحمله على رقبته وصدره ويقول: (هذا أخي ووصيي ووليي وناصري وصفيي وأميني وصهري وزوج كريمتي وأميني على وحيي وخليفتي) . وكان يحمله دائماً ويطوف به صلى الله على الحامل والمحمول.

 

ثانياً:شهادة الإمام علي بن أبي طالب  عليه السلام

المشهور أنه ضُرب الجمعة لتسع عشر ليلة مضت من شهر رمضان عند الفجر. ولقد أخبر رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم بشهادته، كما روى الصدوق وغيره عن الرضا عن آبائهG عن أمير المؤمنين  عليه السلام في خطبة النبي  صلى الله عليه وآله وسلم في فضل شهر رمضان بعد كلام قال علي  عليه السلام: (فقمت وقلت يا رسول الله ما أفضل الأعمال في هذا الشهر)، فقال: (يا أبا الحسن الورع عن محارم الله عز وجل)، ثم بكى فقلت: (ما يبكيك يا رسول الله) ؟ فقال: ( أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر، كأني بك وأنت تصلي لربك وقد انبعث اشقاها عاقر ناقة صالح فضربك ضربة على قرنك فخضب منها لحيتك)، فقلت: يا رسول الله وذلك في سلامة من ديني؟ فقال  صلى الله عليه وآله وسلم: (في سلامة من دينك)، ثم قال: (يا علي من قتلك فقد قتلني ومن أبغضك فقد أبغضني ومن سبَّك فقد سبني لأنك مني كنفسي روحك من روحي وطينتك من طينتي، إنّ الله تبارك وتعالى خلقني وإياك واصطفاني وإياك فاختارني للنبوة واختارك للإمامة فمن أنكر إمامتك فقد أنكر نبوتي، يا علي أنت وصيي وأبو ولديَّ وزوج ابنتي وخليفتي في أمتي في حياتي وبعد موتي، أمرك أمري ونهيك نهيي، أقسم بالذي بعثني بالنبوة وجعلني خير البرية إنك الحجة لله على خلقه وأمينه على سره وخليفته في عباده).

ولما ورد ابن ملجم على أمير المؤمنين  عليه السلام مع الوفد الذين وفدوا عليه للبيعة جعل أمير المؤمنين يطيل النظر إليه ثم أخذ عليه البيعة مرتين أو ثلاثاً، فلما أدبر عنه دعاه أمير المؤمنين  عليه السلام فتوثق منه وأكد عليه انْ لا يغدر ولا ينكث فقال له ابن ملجم: ما رأيتك فعلت هذا بأحد غيري فقال  عليه السلام:                    

أريد حياته ويريد قتلي
 

 

عذيرك من خليك من مراد
 

 

(امض يا ابن ملجم والله ما أرى أنك تفي بما قلت)، ثم قال: (هذا والله قاتلي) ثم قال: (أرأيتك إن سألتك عن شيء هل أنت مخبرني عنه؟)، قال: نعم، وحلفه عليه، فقال  عليه السلام: (أكنت يوما تلاعب الصبيان وتقوم عليهم فكنت إذا جئت فروا منك وقالوا قد جاءنا ابن راعية الكلاب)، قال: اللهم نعم، فقال  عليه السلام: (ولقد مررت برجل راهب فنظر إليك وأحدّ النظر فقال: أشقى من عاقر ناقة صالح).قال نعم، قال: (ولقد أخبرتك أمك أنها حملت بك وهي حائض)، فقال نعم ولو كنت كاتمك شيئاً لكتمتك هذا، ثم قال عليه السلام: (سمعت رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنّ قاتلك يشبه اليهود بل هو يهودي) .

وخطب علي عليه السلام في شهر رمضان فقال في خطبته: (أنّه قد أتاكم شهر رمضان وفيه تدور رحى الإسلام ألاّ وإنكم حاجوا العام صفاً واحداً وآية ذلك أني لست فيكم)، وكان يفطر في هذا الشهر ليلة عند الحسن وليلة عند الحسين وليلة عند زوج ابنته عبد الله بن جعفر وكان لا يزيد على ثلاث لقم فقيل له في ذلك فقال: (أحب أنْ يأتني أمر الله وأنا خميص البطن وإنما هي ليلة أو ليلتان) .

قالت أم كلثوم: لما كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان قدمت لأبي عند الإفطار طبقا فيه قرصان من خبز الشعير وقصعة فيها لبن وملح جريش فلما فرغ من صلاته أقبل على فطوره ثم قال: (يا بنية أتقدمين لونين لي في طبق واحد تريدين أنْ يطول وقوفي بين يدي الله تعالى أريد أنْ أتبع أخي وإبن عمي رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم فانه ما قدم إليه أدامان في طبق واحد إلى أنْ قبضه الله ثم يا بنية إنّ الدنيا في حلالها حساب وفي حرامها عقاب يا بنية ما من رجل طاب مطعمه وملبسه إلاّ طال وقوفه بين يدي الله تعالى يوم القيامة ولقد أخبرني حبيبي رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم إن جبرئيل  عليه السلام نزل ومعه مفاتيح كنوز الأرض فقال يا محمد إنّ الله يقرأ عليك السلام ويقول إنْ شئت سيرت معك جبال تهامة ذهباً وفضة وخذ مفاتيح كنوز الأرض وما ينقصك من حقك يوم القيامة، فقال: يا جبرئيل ثم ما يكون من بعد ذلك، قال: الموت، فقال: لا حاجة لي في الدنيا دعني أجوع يوماً وأشبع يوماً فاليوم الذي أجوع فيه أتفرغ فيه إلى ربي وأسأله واليوم الذي أشبع فيه أحمد ربي وأشكره، فقال له جبرئيل: (وفقت لكل خير يا محمد)، ثم قال: يا بنية والله لا أتناول شيئاً حتى ترفعين أحدهما)، قالت: فرفعت اللبن فأكل من الخبز والملح وحمد الله ثم قام إلى صلاته ولم يزل تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً ويتضرع ويبتهل إلى الله تعالى ثم يخرج ساعة بعد ساعة وينظر في الكواكب ويقلب طرفه إلى السماء ثم تلا سورة يـــس ثم نام قليلاً وانتبه من النوم مرعوباً فجمع أولاده وأهله وقال لهم: (إني مفارقكم في هذا الشهر وقد رأيت في هذه الليلة رؤياً أهالتني، إني رأيت رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  في منامي وهو يقول: يا أبا الحسن أنت قادم إلينا عن قريب سيخضب لحيتك أشقى هذه الأمة من دم رأسك وإني مشتاق إلى لقائك وأنت قادم إلينا في العشرة الأخيرة من هذا الشهر فهلم إلينا فالذي عندنا لك خير وأبقى).

فلما سمع أهله ضجوا بالبكاء والنحيب فأمرهم بالسكوت ثم أقبل يوصيهم بالخير وينهاهم عن الشر ثم يخرج ساعة بعد ساعة ينظر إلى الكواكب ويقلب طرفه السماء وهو يقول: (والله لا كَذبتُ ولا كُذّبتْ إنها الليلة التي وعدني بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يعود إلى صلاته وهو يكرر: اللهم بارك لي في الموت)، ويكثر من قول: (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم)، ويصلي على النبي  صلى الله عليه وآله وسلم ويستغفر الله كثيراً.

قالت أم كلثوم: فلما رأيت ما عرض لأبي من القلق والاضطراب لم يأخذني النوم وقلت: يا أبتاه لم حرمت على نفسك النوم في هذه الليلة ولم لا تسترح يا أبة ؟ فقال: (يا بنية إني كثيراً ما قاتلتُ الشجعان وقاسيت الأهوال ولم يحصل لي رعب واضطراب مثل هذه الليلة، ثم قال: إنا لله وإنا إليه راجعون)، فقلت: يا أبة لم أراك تنعى إلينا نفسك في هذه الليلة ؟، فقال: (يا بنية قد قرب الأجل وانقطع الأمل)، قالت أم كلثوم: فلما سمعت ذلك بكيت، فقال: (يا بنية لا تبكي فإني ما أخبرتك إلاّ بما عهد إلي حبيبي رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم غفا قليلاً ثم أنتبه وقال: (يا بنية إذا قرب الوقت فأعلميني)، ثم جعل يتضرع إلى الله ويدعو فلما قرب وقت الصلاة قدمت إليه وضوءه فقام وجدد وضوءه ولبس ثيابه فلما توجه إلى المسجد وصار في صحن الدار كان في الدار و قد اهدي إلى أخي الحسن فلما رأينه رفرفن بأجنحتهن وصحن في وجهه فقال: (لا إله إلاّ الله صوارخ وصوائح تلحقها نوائح وسيظهر قضاء الله غداً)، فقلت: يا أبة لم تتفأل بالشر؟ فقال: (ليس منا أهل البيت أحد يتفأل بالسوء ولا يؤثر السوء فينا ولكن جرى الحق على لساني)، ثم قال: (يا بنية بحقي عليك إلاّ ما أطلقتيه فقد حبسني ما ليس له لسان فأطعميه واسقيه وإلاّ فخلي سبيله يأكل من حشيش الأرض)، فلما وصل إلى الباب وهو مغلق عالجه فانحل مئزره وشده وهو يقول:      
 

أُشدد حيازيمك للموت فإنّ الموت لاقيكا
و لا تغتر بالدهر و إنْ كان يواتيكا

 

 

و لا تجزع من الموت إذا حل الموت بواديكا
كما أضحك الدهر كذلك يبكيكا

 

 

ثم قال: (اللهم بارك لي في الموت وبارك لي في لقائك)، قالت أم كلثوم: وكنت أمشي خلفه فلما سمعت قلت واغوثاه يا أبتاه مالي أراك تنعى نفسك منذ الليلة ؟ فقال: (يا بنية إنّها علائم ودلائل للموت يتبع بعضها بعضاً)، ثم فتح الباب وخرج وقالت أم كلثوم فأتيت إلى الحسن فقلت: يا أخي قد كان من أمر أبيك الليلة كيت وكيت وقد خرج فقم وألحقه قبل أن يدخل المسجد فلحقه الحسن فقال: (يا أبتاه ما أخرجك في هذه الليلة إلى المسجد)، فقال: (يا بني لرؤيا  رأيتها في هذه الليلة أهالتني)، قال: (خيراً رأيت وخيراً يكون يا أبة فقصها)، فقال: (يا بني رأيت كأن جبرئيل عليه السلام قد نزل من السماء على جبل أبي قبيس فتناول منه حجرين ومضى بهما إلى الكعبة وضرب أحدهما على الآخر فصارا كالرميم ثم ذراهما في الهواء فما بقى بمكة ولا بالمدينة بيت إلاّ ودخله من ذلك الرماد شيء)، فقال الحسن: يا أبتاه فما تأويله ؟، فقال: (يا بني إنْ صدقت رؤياي فأنّ أباك مقتول ولا يبقى بمكة ولا بالمدينة بيت إلاّ ويدخله غم من أجلي)، فقال الحسن: وهل ترى متى يكون ذلك يا أبتاه ؟ فقال: (يا بني إنّ الله تعالى يقول:]وَمَا تَدْري نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَاَ تَدْري نَفْسٌ بِاَيِّ اَرْضٍ تَمُوتُ[، ولكن عهد إلي حبيبي رسول الله أنّه يكون في العشرة الأواخر من شهر رمضان يقتلني عبد الرحمن بن ملجم المرادي لعنه الله)، فقال: (يا أبتاه إذا علمت منه ذلك فاقتله)، فقال: (يا بني لا يجوز القصاص قبل الجناية)، ثم قال: (يا بني ارجع إلى فراشك)، فقال الحسن: (يا أبتاه أريد أنْ امضي معك إلى المسجد)، فقال: (بحقي عليك يا بني ألا ما رجعت إلى فراشك لئلا يتنغص عليك نومك ولا تعصني في ذلك)، قال فرجع الحسن فوجد أخته أم كلثوم خلف الباب فدخل وجلسا يتحدثان وهما محزونان، وسار أمير المؤمنين حتى دخل المسجد والقناديل قد أخمد ضوؤها فصلى في المسجد ركعتان وعقب بعدها ثم أنّه عليه السلام علا المأذنة وتنحنح وجعل أصبعه في أذنه وأذن، وكان إذا أذن لم يبق في الكوفة بيت إلا ودخله صوته، وكان اللعين ابن ملجم قد بات في المسجد ومعه شبيب بن بحيرة وكان من أشجع الناس وورد ابن مجالد وقد كانت قطام شرطت لهم شرائط ولابن ملجم أنْ تتزوج به وكانت معتكفة في المسجد الأعظم فدخلوا عليها وقالوا: قد اجتمع رأينا على قتل هذا الرجل، فدعت لهم بحرير فعصبت به صدورهم وتقلدوا أسيافهم ومضوا وجلسوا مقابل السدة التي كان يخرج منها أمير المؤمنين إلى الصلاة وقد كانوا قبل ذلك ألقوا إلى الأشعث بن قيس لعنه الله ما في نفوسهم من العزيمة وواطأهم على ذلك وحضر معهم لمعونتهم في تلك الليلة وكان حجر بن عدي الكندي رضوان الله عليه في تلك الليلة في المسجد فسمع الأشعث لعنه الله يقول: يا ابن ملجم النجا النجا لحاجتك فقد فضحك الفجر، فأحس حجر بما أراد الأشعث فقال له: قتلته يا أعور؟ وخرج مبادراً ليمضي إلى أمير المؤمنين ليخبره الخبر فخالفه في الطريق ثم إنّ أمير المؤمنين لما نزل عن المأذنة جعل يسبح لله ويقدسه ويكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم  ومر على قوم نيام في المسجد وفيهم ابن ملجم فقال: (الصلاة  الصلاة) حتى انتهى إليه وهو مكبوب على وجهه فقال: (قم إلى الصلاة ولا تنم هكذا فإنه نوم الشياطين) ثم قال: (لقد أضمرت امراً عظيماً تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هذا ولو شئت لاخبرتك بما اخفيته تحت ثيابك)، ثم أنّه تقدم إلى المحراب ودخل في الصلاة وأطال ركوعه وسجوده كما هي عادته فجاء اللعين ابن ملجم ووقف حذاء الاسطوانة التي كان يصلي عندها أمير المؤمنين وأمهله حتى صلى الركعة الأولى وسجد السجدة الأولى فلما رفع رأسه منها رفع اللعين سيفه وضربه وتعمد بالضربة على رأسه الشريف فوقعت الضربة في الموضع الذي ضربه عمرو بن عبد ود العامري، فشقت الضربة رأسه إلى موضع سجوده وقال(بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله فزت ورب الكعبة)، فلما سمع أهل المسجد صوته أسرعوا إلى المحراب وكانت الضربة مسمومة وقد جرى السم في بدنه ورأسه وكان قد ضربه اللعين شبيب بن بحيرة فأخطأه ووقعت الضربة في الطاق، أحاط الناس بأمير المؤمنين عليه السلام وهو يشد رأسه بمئزره والدم يجري على لحيته ووجهه الشريف وهو يتلو: ]مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفيهَا نُعيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَاَرَةً اُخْرى[ ,(أتى أمر الله وصدق رسول الله)، وزلزلت الأرض وماجت البحار ورجفت السماء واصطكت أبواب الجامع وضجت الملائكة في السماء بالدعاء وهبت ريح عاصف مظلمة سوداء ونادى جبرئيل بين السماء والأرض بصوت يسمعه كل مستيقض تهدمت والله أركان الهدى وانفصمت العروة الوثقى وانطمست أعلام التقى قتل ابن عم المصطفى قتل الوصي المجتبى قتل علي المرتضى قتله أشقى الأشقياء, فسمعت أم كلثوم نعي جبرئيل فلطمت خدها وشقت جيبها وصاحت: وا أبتاه وا علياه وا محمداه فانتبه من صوتها كل من في الدار وخرج الحسن والحسين فسمعا الناس يضجون وينوحون ويقولون وا إماماه وا أمير المؤنيناه والله لقد قتل إمام العابدين والمجاهدين الذي لم يسجد لصنم قط قتل أشبه الخلق بالنبي فدخلا المسجد باكين قائلين: (وا أبتاه وا علياه ليت الموت أعدمنا الحياة ولانرى يومك هذا). فاقبلا إلى المحراب فوجدا  أباهما طريحاً في المحراب وأبو جعدة وجماعة يعالجوه للصلاة وهو لا يستطع فلما رأى ولده الحسن جعله في موضعه وأمره أن يصلي بالناس وصلى أمير المؤمنين جالساً مومياً للصلاة والدم يجري على لحيته الشريفة ووجهه وهو يميل يميناً وشمالاً فلما فرغ الحسن من الصلاة وضع رأس أبيه في حجره وهو يقول: (يا أبتاه كسرت ظهري كيف أستطيع أن أراك في هذه الحالة), ففتح أمير المؤمنين عينيه في وجهه وقال: (يا بني لا غم على أبيك  بعد هذا اليوم ولا جزع اليوم ألقى جدك محمد المصطفى وجدتك خديجة الكبرى وأمك الزهراء وإنّ الحور العين ينتظرن أباك ويترقبن قدومه ساعة ساعة فلا بأس عليك يا بني لا تبك فقد بكت ملائكة السماء لبكائك) , ودخل الناس المسجد فرأوا أمير المؤمنين قد وضع رأسه في حجر الحسن والدم يسيل على وجهه الشريف ولونه قد مال من الصفرة إلى البياض وهو ينظر إلى آفاق السماء يسبح لله ويقدسه ويقول: (إلهي أسألك مرافقة الأنبياء والأوصياء وأعلى درجات الجنة) , ثم غشي عليه فبكى الحسن وجعلت دموعه تتساقط على خديه فسقط من دموعه قطرة على وجه أمير المؤمنين ففتح عينيه فوجده باكياً فقال: (ما هذا البكاء يا بني لا خوف ولا جزع على أبيك بعد اليوم يا بني لا تبك علي فإنك تقتل مسموماً ويقتل أخوك الحسين بالسيف هكذا وتلحقان بجدكما وأبيكما) ,ثم قال له الحسن: (من قتلك ؟) فقال: (قتلني ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله)، فقال: (يا أبتاه من أي طريق مضى ؟) ,فقال: (لا يمضي أحد في طلبه فإنّه سيطلع عليكم من هذا الباب)، وأشار إلى باب كندة فاشتغل الناس بالنظر إلى باب كندة وقد غص المسجد بالعالم ما بين باك وباكية ونادب ونادبة وقد سرى السم في رأس أمير المؤمنين فإذا بالصيحة قد ارتفعت وقد جاءوا باللعين ابن ملجم فوقع الناس بعضهم على بعض وهو مكتوف مكشوف الرأس والناس هذا يلطمه وهذا يضربه وهذا يلعنه ويبصقون في وجهه ويعضون لحمه بأسنانهم ويقولون: يا عدو الله أهلكت الأمة وقتلت خير الناس واللعين ساكت لا يتكلم وبين يديه رجل يقال له حذيفة النخعي وبيده سيف مسلول وهو يرد الناس عن قتله فأوقفوه عند الحسن فلما نظر إليه قال له: (يا ملعون قتلت أمير المؤمنين وإمام المسلمين هذا جزاؤه منك حين آواك وقربك وأدناك وآثرك على غيرك، هل كان بئس الإمام لك حتى تجازيه هذا الجزاء يا شقي الأشقياء) , وضجّ الناس بالبكاء والعويل ثم التفت الحسن وقال: كيف ظفرت بعدو الله وأين لقيته ؟ فقال: يا مولاي حديثي عجيب وذلك أني كنت نائماً وزوجتي إلى جنبي وسمعت ناعياً ينعى أمير المؤمنين وهو يقول انهدمت والله أركان الهدى وانطمست والله أعلام التقى وانفصمت والله العروة الوثقى قتل ابن عم المصطفى قتل الوصي المجتبى قتل علي المرتضى قتله أشقى الأشقياء فأيقظتني زوجتي فقالت: أأنت نائم وإمامك قد قتل؟ فانتبهت فزعاً وقلت: ما هذا الكلام فض الله فاكِ لعل الله قد ألقاه في سمعك فإن أمير المؤمنين  عليه السلام ليس لأحد عنده تبعة ولا طلبة وإنّه لليتيم كالأب الرحيم وللأرملة كالزوج العطوف ومع ذلك فمن يقدر على قتله وهو كالأسد الضرغام والبطل الهمام فأكثرت علي الكلام وقالت: إني سمعت مالم تسمع وما أظن في الكوفة بيتاً إلاّ وقد دخله ذلك النعي، فبينما هي وأنا في مراجعة الكلام وإذا بصيحة عظيمة وقائل يقول قتل أمير المؤمنين فأحس قلبي بالشر وأخذت سيفي وسللته ونزلت من الدار فلما صرت في وسط الحارة وإذا بعدو الله يجول فيها يطلب مهرباً وقد انسدت الطرق في وجهه فقلت: يا ويلك من أنت في وسط الطريق تمر وتجيء؟ فتسمى بغير اسمه وانتمى إلى غير نسبه فقلت له من أين أقبلت ؟ قال من منزلي قلت والى أين تريد؟ قال: الحيرة قال: سمعت صيحة عظيمة وقائلاً يقول قتل أمير المؤمنين فهل عندك من ذلك خبر ؟ قال لا,قلت: لم لا تمض معي حتى نتحقق الخبر ؟ قال: أنا ماضٍ في أمر أهم منه فقلت له: يا ويلك وأي أمر أهم من قتل أمير المؤمنين ثم قلت: يا ويلك لعلك أنت قاتل أمير المؤمنين وإمام المسلمين إذن والله مالك عند الله من خلاف وهممت عليه بسيفي أن أعلوه فزاغ عني فانكشف سيفه فرايته يبرق فقلت يا ويلك ما هذا السيف تحت ثيابك لعلك قاتله ؟ فاراد أن يقول لا فقال: نعم فرفعت سيفي وضربته على ساقه فوقع لحينه ووقعت عليه وصرخت صرخة شديدة فخرج أ هل الحارة فأعانوني عليه حتى أوثقته وجئتك به فهاهو ذا بين يديك جعلني الله فداك ,فقال الحسن: (الحمد لله الذي نصر وليه على عدوه)، ثم انكب الحسن على أبيه يقبله ففتح عينيه وهو يقول: (ارفقوا بي يا ملائكة ربي)، فقال الحسن: (هذا عدو الله وعدوك ابن ملجم لعنه الله قد أمكن الله منه وقد حضر بين يديك) ففتح أمير المؤمنين عينيه وقال بضعف وانكسار صوت: (يا هذا لقد جئت شيئاً عظيماً وارتكبت أمراً جسيماً أبئس الإمام كنت لك حتى جازيتني بهذا الجزاء ألم أكن شفيقاً أوثرك على غيرك وأحسن إليك وزدت في عطائك وقد كنت أعلم إنّك قاتلي لا محالة ولكن رجوت بذلك الاستظهار عليك يا شقي الاشقياء) , قال فدمعت عينا ابن ملجم لعنه الله وقال: يا أمير المؤمنين افأنت تنقذ من في النار فقال: (صدقت)، ثم التفت إلى الحسن وقال: (يا بني ارفق بأسيرك وارحمه واشفق عليه ألا ترى إلى عينيه قد صارتا في أم رأسه وقلبه يرجف خوفاً)، فقال الحسن: (يا أبتاه قد قتلك هذا اللعين وفجعنا وأنت تأمرنا بالرفق به ؟) فقال: (يا بني نحن أهل بيت الرحمة والمغفرة فأطعمه مما تأكل واسقه مما تشرب فإنْ أنا مت فاقتص منه بأنْ تقلته ثم تحرقه بالنار ولا تمثل بالرجل فإنّي سمعت جدك رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إياكم والمثلة ولو بالكلب العقور)، فإنْ أنا عشت فأنا أعلم ما أفعل به وأنا أولى بالعفو  فنحن أهل بيت لا نزداد على المذنب إلينا  إلا عفواً وكرماً) .

قال محمد بن الحنفية ثم إنّ أبي قال: (احملوني إلى منزلي)، فحملناه إليه وهو مدنف([1]) والناس حوله قد أشرفوا على الهلاك من البكاء والعويل فالتفت الحسن إلى أبيه وهو باك حزين فقال: (يا أبت من لنا بعدك وإنّ مصابنا بك مثل مصابنا برسول الله كأننا ادخرنا البكاء لك ياأبتاه)، فقربه أمير المؤمنين  عليه السلام إليه وأدناه ونظر إلى عينيه مقروحتين من البكاء فمسح الدموع من عينيه ووضع يده على صدره وقال عليه السلام: (يا بني أسكن الله قلبك بالصبر وعظم أجرك وأجر إخوتك بمصابكم بي وأسكن الله اضطرابك ودموع عينيك فإنّ الله يؤجركم بقدر مصابكم)، ثم حمل إلى موضع مصلاه في حجرته وأقبلت زينب وأم كلثوم تندبانه وتقولان: (من للصغير حتى يكبر ومن للكبير بين الملأ، يا أبتاه حزننا عليك طويل وعبرتنا لا ترقى) فضج الناس بالبكاء والعويل من وراء الحجرة  وفاضت دموع أمير المؤمنين على خديه وجعل يقلب طرفه في أهل بيته ثم دعى الحسن والحسين وجعل يقبلهما ثم أغمي عليه ساعة طويلة ثم أفاق، فلما أفاق ناوله الحسن قعباً من لبن فشرب منه قليلاً ثم نحاه عن فمه وقال عليه السلام: (احملوه إلى أسيركم بحقي عليكم طيبوا طعامه وشرابه وارفقوا به إلى حين موتي) .

قال محمد بن الحنفية: وبتنا ليلة عشرين مع أبي وقد نزل السم إلى بدنه الشريف وكان يصلي تلك الليلة من جلوس ولم يزل يوصينا بوصاياه ويعزينا عن نفسه فلما أصبح استأذن الناس عليه فأذن لهم فدخلوا وأقبلوا يسلمون عليه وهو يرد عليهم السلام ثم قال عليه السلام: (أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني وخففوا سؤالكم لمصيبة إمامكم)، قال فبكى الناس عند ذلك بكاءً شديداً واشفقوا أنْ يسألوه تخفيفاً عنه فقام إليه حجر بن عدي الطائي وقال:                

فيا أسفي على المولى التقي
 

 

أبي الأطهار حيدرة الزكي
 

 

فلما نظر إليه قال عليه السلام: (كيف بك يا حجر إذا دعيت إلى البراءة مني فما عساك أن تقول)، قال: والله يا أمير المؤمنين لو قطعت بالسيف إرباً إرباً وأضرمت لي النار وألقيت فيها لآثرت ذلك على البراءة منك فقال عليه السلام: (وفقت لكل خير يا حجر وجزاك الله عن أهل بيت نبيك خيراً)، ثم تناول شربة من لبن فشربها وقال عليه السلام: (هذا آخر شرابي من الدنيا) .

ولما كانت ليلة إحدى وعشرين جمع أبي أولاده أهل بيته ثم قال عليه السلام لهم: (الله خليفتي عليكم وهو حسبي و نعم الوكيل)، وأوصاهم بما أوصاه رسول الله به ونحن ننظر إليه وإلى يديه ورجليه قد احمرتا جميعاً فكبر ذلك علينا وآيسنا منه ثم عرضنا عليه الأكل فأبى ورشح جبينه عرقاً وهو يمسحه بيده فقلت له: يا أبت أراك تمسح جبينك فقال  عليه السلام: (يا بني إن المؤمن إذا نزل به الموت عرق جبينه وسكن أنينه)، ثم نادى أولاده كلهم بأسمائهم صغيراً وكبيراً وهو يقول: (الله خليفتي عليكم)، وهم يبكون ثم قال عليه السلام: (إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  في منامي قبل الكائنة بليلة فشكوت إليه ما أنا فيه من النكر والأذى من هذه الأمة فقال: ادع الله عليهم فقلت: اللهم أبدلهم بي شراً مني وأبدلني بهم خيراً منهم فقال: قد استجاب الله دعائك وإن الله سينقلك إلينا بعد ثلاثة أيام، وقد مضت الثلاثة يا أبا محمد أوصيك بأبي عبد الله خيراً فأنتما مني وأنا منكما)، ثم التفت إلى أولاده من غير فاطمة وأوصاهم أن لا يخالفوا أولاد فاطمة ثم قال عليه السلام: (أحسن الله لكم العزاء وإني منصرف عنكم وراحل في ليلتي هذه ولاحق بجدكما رسول الله كما وعدني) ثم قال للحسن والحسين: (غسلاني وكفناني وحنطاني واحملاني على سريري واحملا مؤخره  تكفيا مقدمه  فإذا وضع المقدم فضعا المؤخر فإنكما  تنتهيان إلى قبر محفور  ولحد  مشقوق وساجة منقورة مكتوب عليها بالسريانية بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما حفره نوح لعلي وصي محمد قبل الطوفان بسبعمائة عام، فالحداني وأشرجا علي اللبن وارفعا  لبنة من عند الرأس فانظرا ما تسمعان)، فأخذا اللبنة من عند الرأس بعدما اشرجا عليه اللبن فإذا ليس في القبر شيء وإذا بهاتف يقول: أمير المؤمنين كان عبداً صالحاً فألحقه الله عز وجل نبيه وكذلك يفعل بالأوصياء، ثم إنه عليه السلام أسبل يديه ومد رجليه وقال: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنّ محمداً عبده ورسوله)، ثم قضى نحبه فضج أهله بالبكاء ثم إن الحسن أخذ بتجهيزه كما أمر وحملاه ليلاً إلى الموضع المشار إليه كما أمر فكان كما ذكر وساووا قبره مع الأرض مخافة الخوارج ولم يزل قبره مخفياً حتى أظهره الصادق عليه السلام أوائل الدولة العباسية.

وقد روى جماعة أن ليلة وفاته لم يرفع من وجه الأرض حجر إلا وجد تحته دماً عبيطاً, ولما رجع الحسن من دفن أمير المؤمنين عليه السلام وقد اجتمع الناس لقتل ابن ملجم لعنه الله أخرجه الحسن فقال اللعين للحسن عليه السلام: إني أريد انْ أسرك بكلمة فأبى وقال: (إنّه يريد أن يعض أذني) فقال ابن ملجم لعنه الله:(لو أمكنني منها لأخذتها من صماخه).

 

وقد روى الراوندي والأربلي عن ابن الرفاء قال: كنت بالمسجد الحرام فرأيت الناس مجتمعين حول مقام إبراهيم عليه السلام فقلت: ما هذا ؟ قالوا: شيخ أسلم فأشرفت عليه فإذا بشيخ كبير عليه جبة صوف وقلنسوة صوف عظيم الخلقة فسمعته يقول: كنت قاعداً في صومعتي فأشرفت منها فإذا بطائر كالنسر قد سقط على شاطئ البحر على صخرة فتقيأ ربع إنسان ثم طار فتفقدت الطائر فعاد فتقيأ ربع إنسان إلى أن فعل ذلك أربع مرات فدنت الأرباع فإذا هو رجل قائم ينبح مثل الكلاب وأنا أتعجب منه عندئذ انحدر الطائر فأخذ ربعاً منه ثم طار ثم عاد وأخذ ربعاً آخر حتى فعل ذلك أربع مرات فبقيت متفكراً فتحسرت أن لا أكون قد لحقته وسألته من هو فبقيت أتفقد الصخرة حتى رأيت الطير قد أقبل فتقيأ ربع إنسان فقمت بإزائه فلم أزل حتى تقيا الربع الرابع ثم طار فدنت الأرباع فصار رجلاً قائماً فدنوت منه فسألته من هو فسكت عني فقلت له: بحق من خلقك فقال اللعين: أنا ابن ملجم فدنوت وقلت: وأي شيء عملت ؟ قال: قتلت علي بن أبي طالب فوكل الله تعالى إلي هذا الطائر يقتلني في كل يوم قتلة فبينما هو يكلمني إذ انقض الطائر فأخذ ربعه ثم طار وعاد فأخذته أرباعاً فسألت عن علي بن أبي طالب فقيل لي: وصي محمد فأسلمت, فلما قتل الحسن ابن ملجم لعنه الله استوهبت جثته أم الهيثم النخعية فأحرقتها بالنار.

وكان موضع قبر الإمام علي عليه السلام مخفياً إلى زمان هارون الرشيد كما روي أنّه خرج يوماً إلى الصيد أرسل الصقور والكلاب على الظباء بجانب الغريين فجادلتها ساعة ثم لجأت الظباء إلى الأكمة فرجعت الكلاب والصقور عنها فسقطت في ناحية فلما هبطت الضباء من الأكمة نهضت الكلاب والصقور إليها فرجعت الظباء إلى الأكمة فانصرفت عنها الكلاب والصقور ففعلوا ذلك مراراً فتعجب هارون من ذلك وسأل شيخاً من بني أسد هناك ما هذه الأكمة ؟ فقال لي الأمان ؟ قال نعم قال: فيها قبر الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام فتوضأ هارون وصلى ودعا, ولقد أظهره الصادق عليه السلام وبنى عليه هارون قبراً ومن أراد مزيد الاطلاع فليلاحظ فرحة الغري للسيد ابن طاووس  قدس سره  .

j

وبه نستعين

أحوال سيدة النساء فاطمة الزهراءI

الأول: بيان ولادتها وأسمائها

المشهور في ولادتها أنها في العشرين من جمادي الآخرة لسنتين من البعثة يوم الجمعة، وفي الكافي عن الإمام الباقر عليه السلام: (أن ولادتها بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخمس سنين وتوفيت ولها ثمانية عشر سنة وخمسة وسبعون يوماً)، وأهل السنة تروي أنّ مولدها قبل البعثة بخمس سنين.

وروى القمي عن الصادق عليه السلام قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر تقبيل فاطمة) فأنكرت ذلك عائشة فقال رسول صلى الله عليه وآله وسلم:(يا عائشة أنه لما أسري بي إلى السماء دخلت الجنة فأتاني جبرئيل من شجرة طوبى وناولني من ثمارها فأكلت، فحوّل الله ذلك ماءً في ظهري فلما هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة، فما قبلتها إلاّ وجدت رائحة شجرة طوبى).

روى الصدوق في الأمالي عن الصادق عليه السلام قال: (إن خديجة لما تزوج بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هجرتها نسوة مكة فكن لا يدخلن إليها ولا يسلمن عليها ولا يتركن امرأة تدخل عليها فاستوحشت من ذلك فلما حملت بفاطمة كانت فاطمة تحدثها في بطنها وتصبرها وكانت تكتم ذلك من رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم فدخل يوماً فسمع خديجة تحدث فاطمة) فقال صلى الله عليه وآله وسلم  :(يا خديجة من تحدثين؟)، قالت: الجنين الذي في بطني يحدثني ويؤنسني، قال: صلى الله عليه وآله وسلميا خديجة إنّ جبرائيل يخبرني أنها أنثى وأنها النسلة الطاهرة، وإنّ الله سيجعل نسلي منها وسيجعل من نسلها أئمة يجعلهم خلفاء في أرضه بعد انقضاء وحيه), فلم تزل خديجة على ذلك إلى أنْ حضرت ولادتها،

 

فوجهت إلى نساء قريش وبني هاشم أنْ تعالين لتلين مني ما تلي النساء من النساء فأرسلن أنت عصيتنا وتزوجت بيتيم آل أبي طالب فقير لا مال له فلسنا نجيء إليك فاغتمت خديجة فبينما هي كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة سمر طوال كأنهن من بني هاشم ففزعت لما رأتهن فقالت إحداهن: لا تحزني يا خديجة إنا رسل الله إليك، ونحن أخواتك أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم، وهذه مريم بنت عمران، بعثنا الله إليك لنلي منك ما يلي النساء من النساء فجلست واحدة عن يمينها وأخرى عن يسارها والثالثة بين يديها والرابعة خلفها فوضعت فاطمة طاهرة مطهرة فلما سقطت إلى الأرض أشرق منها النور حتى دخل بيوتات مكة ولم يبق في شرق الأرض وغربها موضع الا اشرق فيه ذلك النور ودخل عشر من الحور العين منهن من معها طشت من الجنة وابريق، وفي الابريق ماء من الكوثر واخرجت خرقتين بيضاويتين، اشد بياضاً من اللبن واطيب ريحاً من المسك والعنبر فلفتها بواحدة وقنعتها بالثانية ثم استنطقتها فنطقت فاطمة الزهراء بالشهادتين وقالت:(أشهد أنْ لا إله الا الله وان ابي رسول الله وان بعلي سيد الاوصياء وولدي سادات الاسباط)، ثم سلمت عليهن وسمت كل واحدة باسمها واقبلن يضحكن اليها وتباشرت الحور العين وبشر اهل السماء بعضهم بعضاً بولادة فاطمة Iوحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك وقالت النسوة خذيها يا خديجة بورك فيها وفي نسلها فتناولتها فرحة مستبشرة والقمتها ثديها فكانت تنمو في اليوم كما ينمو الصبي في الشهر وكانت تنمو في الشهر كما ينمو الصبي في السنة.

ثانياً: معاجزها و مناقبها

روى بعض أهل السنة قال: أقبلت فاطمة تمشي مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمفلما رآها قال:(مرحباً بابنتي مرتين), ثم قال: (أما ترضين أن تأتي يوم القيامةوأنت سيدة نساء هذه الأمة).

وقال سلمان المحمدي:كانت فاطمة جالسة وقدامها رحى تطحن بها شعيراً وقد جرحت يداها وعلى عمود الرحى دم سائل والحسين( عليه السلام)في ناحية الدار يتضور من الجوع فقلت: يا بنت رسول الله دُبِرت (1) كفّاك وهذه فضة هنا فقالت: أوصاني رسول الله أنْ تكون الخدمة عليها يوماً وعلي يوماً فكان أمس يوم خدمتها،قال سلمان: فقلت لها إني مولى عتاقة أما تأمرينني أنْ أطحن الشعير أو أسكت الحسين  عليه السلام فقالت: (أنا بتسكيته أرفق منك)، فطحنت شيئاً من الشعير فإذا أنا بإقامة الصلاة فمضيت وصليت مع رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم فلما فرغت قلت لعلي  عليه السلام ما رأيت فبكى وخرج ثم عاد فتبسم فسألته عن ذلك فقال: (دخلت على فاطمة وهي مستلقية لقفاها والحسين نائم على صدرها وقدامها الرحى تدور من غير يد)، فتبسم رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم وقال: (يا علي ما علمت أنّ لله ملائكة سياره يخدمون محمداً وآل محمد).

وروى الشيخ والعياشي وغيرهما عن الإمام الباقر عليه السلام  وأبي سعيد الخدري أنه أصبح علي بن أبي طالب عليه السلام ذات يوم ساغباً أي جائعاً فقال عليه السلام:يا فاطمة هل عندك شئ تغذيني؟ فقالت: (لا والذي أكرم أبي بالنبوة وأكرمك بالوصية ما أصبح الغداة عندي شيء وما كان شيء أطعمناه منذ يومين إلاّ شيء كنت أؤثرك به على نفسي وعلى إبنيَّ هذين)، فقال علي عليه السلام : يا فاطمة ألاّ أخبرتني فأبغيكم شيئاً) فقالت: (يا أبا الحسن إني لاستحي أن أكلّف نفسك مالا تقدر عليه) فخرج علي من عند فاطمة واثقاً بالله بحسن الظن فاستقرض ديناراً فبينما الدينار في يده يريد أنْ يبتاع لأهله ما يصلحهم فتعرض له المقداد في يوم شديد الحر قد لوحته الشمس من فوقه وآذته من تحته فلما رأى علي بن أبي طالب انكسر شأنه قال عليه السلام: (يا مقداد ما أزعجك هذه الساعة عن رحلك)،قال يا أبا الحسن خل سبيلي ولا تسألني عما ورائي فقال عليه السلام : يا أخي أنه لا يسعني أن تجاوزني حتى أعلم علمك)، فقال له: يا أبا الحسن رغبة إلى الله وإليك تخلي سبيلي ولا تكشفني عن

 

حالي فقال له عليه السلام : يا أخي أنه لا يسعك أن تكتمني حالك)،فقال يا أبا الحسن أما إذا أبيت فوالذي أكرم محمداً بالنبوة وأكرمك بالوصية ما أزعجني عن رحلي إلاَّ الجهد وقد تركت عيالي يتضورون من الجوع فلما سمعت بكاء العيال لم تحملني الأرض فخرجت مهموماً وراكباً رأسي هذه حالتي وقصتي فانهملت عينا علي بالدموع فقال له عليه السلام: (أحلف بالذي حلفت ما أزعجني إلاَّ الذي أزعجك من رحلك فقد استقرضت ديناراً أؤثرك به على نفسي فدفع الدينار إليه) ,ورجع حتى دخل المسجد فسجد النبي فصلى فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء فلما قضى رسول الله المغرب مر بعلي عليه السلام وهو في الصف الاول فغمزه برجله فقام علي معتقباً خلف رسول الله حتى لحقه على باب المسجد فسلم عليه فرد عليه السلام فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(يا أبا الحسن هل عندك شيء نتعشاه فسكت أمير المؤمنين لا يرد جواباً وهو مطرق إلى الأرض حياء من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يعلم عن أمر الدينار ومن أين أخذه وأين وجهه وقد كان أوحى الله إلى نبيه أن يتعشى الليلة عند علي فلما نظر رسول الله إلى سكوته فقال: (يا أبا الحسن مالك لا تقول لا فأنصرف أو تقول نعم فأمضي معك), فقال عليه السلام:(حباً وتكرماً فاذهب بنا)، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يد علي ابن أبي طالب عليه السلام فانطلقا حتى دخلا على فاطمة وهي في مصلاها قد فضت صلاتها وخلفها حقنية تفور دخاناً فلما سمعت كلام رسول الله في رحلها خرجت من مصلاها فسلمت عليه فرد عليها السلام ومسح بيده على رأسها وقال لها صلى الله عليه وآله وسلم:(يا أبنتاه،كيف أمسيت رحمك الله،عشينا غفر الله لك وقد فعل)، فأخذت الحقنية فوضعتها بين النبي وعلي فلما نظرعلي عليه السلام وشم ريحه رمى فاطمة ببصره رمياً شديداً، فقالت له فاطمةI:(سبحان الله ما أشحَّ نظرك وأشدّه هل أذنبت فيما بيني وبينك ذنباً أستوجب به السخطة), قال علي عليه السلام:(وأي ذنبٍ أصبته أعظم من هذا أليس عهدي إليك اليوم الماضي وأنت تحلفين بالله مجتهدة ماأطعمني طعام منذ يومين)، قال: فنظرت إلى السماء فقالت:(إلهي يعلم في سماءه ويعلم في أرضه أني لم أقل إلاّ حقاً),فقال لها: (يا فاطمة أنى لك هذا الطعام الذي لم أر مثل لونه قط ولم أشم مثل ريحه قط وما أكلت أطيب منه قط؟)،قال فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفه الطيبة بين كتفي علي فغمزها فقال: (يا علي هذا بدل دينارك وهذا جزاء دينارك من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب),ثم استعبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باكياً وقال: (الحمد لله الذي أبى لكم أن تخرجا من الدنيا حتى يجريكما مجرى زكريا ومريم بنت عمران) ]كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّاَ المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَامَرْيَمُ اَنّى لَكِ هذَا قَاَلَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ اِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ[.

ثالثـًاً: زواجها:

 قال المفيد وابن طاووس وأكثر علمائنا أنّ تزويجها كان في ليلة الخميس ليلة أحدى وعشرين من المحرم سنة ثلاث من الهجرة وقد روى الخاصة والعامة عن أمير المؤمنين عليه السلام وأم سلمة وسلمان قالوا: انه لما أدركت فاطمةI بنت محمد مدرك النساء خَطَبها أكابر قريش من أهل الفضل والسابقة في الإسلام والشرف والمال وكان كلما ذكرها رجل من قريش لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعرض عنه بوجهه حتى كان الرجل يظن أنّ في رسول الله وحي من السماء ولقد خطبها منه أبو بكر و عمر فقال صلى الله عليه وآله وسلم : (أمرها إلى ربها)،وإنّ أبا بكر وعمر وسعد بن معاذ الأنصاري كانوا ذات يوم جالسين في المسجد فتذاكروا أمر فاطمة وأنه قد خطبها الاشراف من رسول الله فقال صلى الله عليه وآله وسلم : (إنّ أمرها إلى ربها إنْ شاء أنْ يزوجها زوجها وإنّ علياً لم يخطبها ولم يذكرها ولا أراه يمنعه من ذلك إلاّ قلة ذات يده وإنه يقع في نفسه أنّ الله ورسوله انما يحبسانها عليه فهل لكم في القيام إلى علي فتذكروا له ذلك فان منعه قلة ذات يده واسيناه)، فخرجوا من المسجد والتمسوا علياً في منزله فلم يجدوه وكان ينضح ببعير له الماء على نخل رجل من الأنصار بأجره فانطلقوا نحوه فلما نظر إليهم قال عليه السلام (ماوراءكم وما الذي جئتم به)،فقال أبو بكر: يا أبا الحسن إنّه لم تبق خصلة من خصال الخير إلاّ ولك فيها سابقة من رسول الله بالمكان الذي عرفت من القرابة والصحبة وقد خطب الأشراف من قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: أمرها إلى ربها إن شاء زوجها فما يمنعك أنْ تذكرها لرسول الله وتخطبها منه قال فتغرغرت عينا علي بالدموع وقال عليه السلام:(يا أبا بكر لقد هيجت مني ساكناً وأيقظتني لأمر كنت عنه غافلاً والله إنّ فاطمة لموضع رغبة وما مثلي قعد عن مثلها غير أنه يمنعني من ذلك قلة ذات اليد)،فقال أبو بكر: لا تقل هذا يا أبا الحسن فإن الدنيا وما فيها عند الله ورسوله كهباءً منثوراً،قال ثم إنّ علي بن أبي طالب عليه السلام حل ناضحه وأقبل يقوده إلى منزله فشده فيه ولبس نعله وأقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان رسول الله في منزل زوجته أم سلمة فدق الباب فقالت أم سلمة: من بالباب،فقال لها رسول الله قبل أن يقول علي أنا: (قومي فافتحي له الباب وأمريه بالدخول فهذا رجل يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله) فقالت:فداك أبي وأمي ومن هذا الذي تذكر فيه هذا وأنت لم تره فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(مه فهذا رجل ليس بالخرق ولا بالنزق هذا أخي وابن عمي وأحب الخلق إلي)، فقالت أم سلمة: فقمت مبادرة أكاد أن اعثر بمرطي (1)،ففتحت الباب فإذا أنا بعلي بن أبي طالب عليه السلام والله ما دخل حين فتحت الباب حتى علم أني قد رجعت إلى خدري، ثم أنّه دخل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (السلام عليك يا رسول الله)، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم(وعليك السلام يا أبا الحسن اجلس)، قالت أم سلمة: فجلس علي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعل ينظر إلى الأرض كأنه قصد الحاجة وهو يستحي أنْ يبديها فهو مطرق إلى الأرض حياءً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت أم سلمة: فكأن النبي علم ما في نفسه فقال له: (إني أرى أنك أتيت لحاجة فقل حاجتك وابد ما في نفسك فكل حاجة لك عندي مقضية)،قال علي عليه السلام:(فقلت فداك أبي وأمي إنك لتعلم أنك أخذتني من أبي طالب وفاطمة بنت أسد وأنا صبي فغذيتني بغذائك وأدبتني فكنت أفضل من أبي طالب وفاطمة بنت أسد في البر والشفقة وإنّ الله هداني بك وعلى يديك واستنقذني مما كان عليه غيري من الحيرة والضلالة والشرك وإنك والله يا رسول الله ذخري وذخيرتي في الدنيا والآخرة يا رسول الله وقد أحببت مع ما شد الله به عضدي بك أن يكون لي بيت وأن تكون لي زوجة أسكن إليها وقد أتيتك خاطباً راغباً أخطب إليك ابنتك فاطمة فهل أنت مزوجي يا رسول الله ؟) قالت أم سلمة: فرأيت وجه رسول الله يتهلل فرحاً وسروراً ثم تبسم في وجه علي عليه السلام فقال صلى الله عليه وآله وسلم(يا أبا الحسن فهل معك شيئاً أزوجك به)، فقال علي عليه السلام: (ما يخفى عليك من أمري شيء وأنا املك سيفي ودرعي وناضحي(2) وما أملك شيئاً غير هذا)، فقال صلى الله عليه وآله وسلمله(أما سيفك فلا غنى لك عنه وناضحك تنضح به على نخلك ولكني قد زوجتك بالدرع يا أبا الحسن أبشرك), قلت: (نعم فداك أبي وأمي (فقال لي صلى الله عليه وآله وسلم: (أبشر يا أبا الحسن فإن الله عز وجل قد زوجك فاطمة من السماء من قبل أن أزوجك في الأرض ولقد هبط إلي من قبل أن تأتني ملك له وجوه شتى وأجنحة شتى لم أر قبله من الملائكة مثله، فقال السلام عليك ورحمة الله وبركاته أبشر يا محمد باجتماع الشمل وطهارة النسل قلت وما ذاك فقال يا محمد أنا سبطائيل الملك الموكل باحدى قوائم العرش سألت ربي أن يأذن لي في بشارتك وهذا جبرائيل في أثري يخبرك بكرامة الله فما استتم كلامه حتى هبط جبرائيل علي فقال: السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا نبي الله، ثم إنّه وضع حريرة بيضاء في يدي من حرير الجنة وفيها سطران مكتوبان بالنور فقلت حبيبي جبرائيل ما هذه الحريرة وما هذه الخطوط فقال يا محمد إنّ الله عز وجل اطلع إلى الأرض اطلاعه فاختارك من خلقه فاتبعك برسالته، ثم اطلع إلى الأرض ثانية فاختار لك منها أخا ووزيراً فزوِّجه ابنتك فاطمة فقلت حبيبي جبرائيل ومن هذا الرجل فقال لي أخوك في الدنيا وابن عمك بالنسب علي بن أبي طالب وإنّ الله أوحى إلى الجنات أن تَزَخْرَف فتزخرفت الجنات وإلى شجرة طوبى حُمل الحلي والحلل وتزينت الحور العين وأمر الله الملائكة أن يجتمع في السماء الرابعة عند البيت المعمور فهبط من فوقها إليها وصعد من تحتها إليها وأمر الله عز وجل رضوان فنصب منبر الكرامة على باب البيت المعمور وهو الذي خطب عليه آدم يوم عرض الأسماء على الملائكة فأوحى إلى أحد ملائكته يقال له راحيل أن يعلو ذلك المنبر وأن يحمد بمحامده ويمجده بتمجيده وأن يثني عليه بما هو أهله وليس في الملائكة أحسن منطقاً ولا أحلى لغةً من راحيل الملك فعلا المنبر وخطب في البيت المعمور في جمع من أهل السماوات السبع بهذه الخطبة فقال:(الحمد لله الأول قبل أولية الأولين الباقي بعد فناء العالمين نحمده إذ جعلنا ملائكة روحانيين وبربوبيته مذعنين وله على ما أنعم علينا شاكرين منجينا من الذنوب وسترنا من العيوب وأسكننا في السماوات وقربنا السرادقات وحجب عنا النهم والشهوات وجعل نهمتنا وشهوتنافي تسبيحه وتقديسه الباسط رحمته الواهب نعمته جل عن إلحاد أهل الأرض من المشركين وتعالى بعظمته عن افك الملحدين، ثم قال بعد كلام - اختار الملك الجبار صفة كرمه وعبد عظمته لأمَتِه سيدة النساء بنت خير النبيين وسيد المرسلين وإمام المتقين فوصل حبله بحبل رجله من أهله صاحبه المصدق دعوته المبادر إلى كلمته على الوصول بفاطمة البتول بنت الرسول، قال جبرائيل ثم أوحى الله إلي أن أعقد عقد النكاح فاني قد زوجت أمتي فاطمة عبدي علي بن أبي طالب فعقدت عقدة النكاح وأشهدت على ذلك الملائكة أجمعين وكتب شهادتهم في هذه الحريرة وقد أمرني ربي أن أعرضها عليك وأن أختمها مسك وأن أدفعها إلى رضوان وإن الله عز وجل لما أشهد الملائكة على تزويج فاطمة من علي أمر شجرة طوبى أن تنثر حملها من الحلي والحلل فنثرت ما فيها فالتقطت الملائكة والحور العين وإن الحور العين ليتهادين ويفتخرن به, يا محمد إن لله أمرني أن آمرك أن تزوج علي من فاطمة وتبشرها بغلامين زكيين نجيبين, فوالله يا أبا الحسن ما عرج الملك من عندي حتى دققت الباب إلاّ وأني منفذ فيك أمر ربي امض يا أبا الحسن أمامي فإني خارج إلى المسجد ومزوجك على رؤوس الناس)، قال عليه السلام: (فخرجت مسرعاً وأنا لا أعقل فرحاً فاستقبلني أبو بكر وعمر وقالا ما وراءك فقلت زوجني رسول الله ابنته وأخبرني إن الله زوجنيها من السماء وهذا رسول الله خارج في أثري ليظهر ذلك بحضرة الناس فأظهرا الفرح ورجعا إلى المسجد)، فما توسطناه حتى لحق بنا رسول الله وإنّ وجهه ليتهلل فرحاً وسروراً فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (يابلال)،قال لبيك،قال صلى الله عليه وآله وسلم:(اجمع المهاجرين والأنصار)، فجمعهم ثم رقى إلى المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(يا معاشرالمسلمين إن جبرائيل أتاني آنفاً وأخبرني أن ربي عز وجل أنه جمع الملائكة عند البيت المعمور وأنه أشهدهم جميعا أنّه زوج أمته فاطمة بنت رسول الله من عبده علي وأمرني أن أزوّجه في الأرض واشهدكم على ذلك)، ثم جلس وقال لعلي: (قم فاخطب لنفسك)، فقام فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي وقال عليه السلام:(الحمد لله شكراً لانعمه وأياديه ولا إله إلا الله شهادة تبلغه وترضيه وصلى الله على محمد صلاة تولفه وتحطيه والنكاح مما أمر الله عز وجل ورضيه ومجلسنا هذا مما قضاه الله وأذن فيه وقد زوجني رسول الله ابنته وجعل صداقها درعي هذا وقد رضيت بذلك فاسألوه واشهدوا)،فقال المسلمون لرسول ال:له زوجته؟ قال): صلى الله عليه وآله وسلمنعم)، فقالوا بارك الله لهما وعليهما وأنصرف رسول الله إلى أزواجه.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: أنه لما خطب أمير المؤمنين عليه السلام فاطمة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(قال: يا علي أنه قد ذكرها قبلك رجال فذكرت لها ذلك فرأيت الكراهة في وجهها ولكن على رسلك حتى أخرج إليك فدخل إليها فقامت وأخذت رداءه ونزعت نعليه وأتته بوضوء فوضأته بيدها وغسلت رجليه ثم قعدت فقال لها يا فاطمة قالت لبيك ما حاجتك قال إن علي بن ابي طالب( عليه السلام) من قد عرفت قرابته وفضله واسلامه واني قد سألت ربي أن يزوجك خير خلقه وأحبهم إليه وقد ذكر من أمرك شيئاً فما ترين فسكتت ولم تدل وجههاولم ير فيه رسول الله كراهة فقام وهو يقول: الله أكبر سكوتها إقرارها)، فآتاه جبرائيل فقال:يا محمد زوجها علي بن أبي طالب فإن الله تعالى قد رضيه لها ورضيها له قال علي عليه السلام(فزوجنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).

قال الصادق عليه السلام قال علي عليه السلام: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(قم فبع الدرع، فقمت وبعته فأخذت الثمن فسكبت الدراهم في حجره فلم يسألني كم هي ولا أنا أخبرته ثم قبض قبضة ودعا بلال فأعطاه وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ابتع لفاطمة طيبا)،ثم قبض من الدراهم بكلتا يديه فاعطاه أبا بكر وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(ابتع لفاطمة ما يصلحها من ثياب وآثاث البيت)، وأردفه بعمار بن ياسر وعدة من أصحابه فحضروا السوق وكانوا يعترضون الشيء مما يصلح فلا يشترونه حتى يعرضوه على أبي بكر فان استصلحه اشتروه فكان مما اشتروه قميص بسبعة دراهم وخمار بأربعة دراهم وقطيفة سوداء خيبرية وسرير مزمل أي ملفوف بشرائط وهو الخوص المفتول وفراشين من خيش(1) مصر حشوا أحدهما وحشوا الآخر من جز الغنم وأربع من مرافق من آدم الطائف حشوهما اذخر(2)وستر من صوف وحصير هجري ورحاء لليد ومخضب من نحاس وسقاء من أدم وقعب للبن وشن للماء ومطهره مؤقته وجرة خضراء وكيزان خزف حتى إذا كمل الشراء حمل أبو بكر بعض المتاع وحمل أصحاب رسول الله الباقي فلما عرض المتاع على رسول الله ونظر إليه بكى وجرت دموعه ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: (اللهم بارك لقوم جل آنيتهم الخزف), قال علي عليه السلام:(ولما زوجني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة بحضور جميع الصحابة مكثت بعد ذلك شهراً لا أعاود رسول الله في أمر فاطمة استحياءً مني،وإني كنت إذا مكثت بعد ذلك شهراً خلوت مع رسول الله) يقول: (ما أحسن زوجتك وأجملها أبشرفقد زوجتك سيدة النساء)،(فلما كان بعد شهر دخل علي أخي عقيل) وقال:يا أخي ما فرحت بشئ كفرحي بتزويجك فاطمة يا أخي فما بالك لا تسأل رسول الله يدخلها عليك فتقر عيوننا باجماع شملكما قال علي عليه السلام:(والله يا أخي إني لأحب ذلك ولكن الحياء يمنعني) فقال عقيل:أقسمت عليك ألاّ قمت معي فقمنا نريد رسول الله فلقينا في طريقنا أم أيمن مولاة رسول الله فذكرنا ذلك لها فقالت: لا تفعل ودعنا نحن نتكلم فان كلام النساء في هذا الأمر أحسن وأوقع بقلوب الرجال،ثم انثنت راجعة فدخلت إلى أم سلمة فأخبرتها بذلك وأعلمت نساء النبي فاجتمعن عند رسول الله وكان في بيت عائشة وقلن فديناك بأبائنا وأمهاتنا يا رسول الله إنا قد اجتمعنا لأمر وإن خديجة في الأحياء أقرت عينها قالت أم سلمة فلما ذكرنا خديجة بكى رسول الله وقال: (خديجة وأين مثل خديجة صدقتني حين كذبني الناس ووازرتني على دين الله وأعانتني عليه بما لها إنّ الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب الزمرد لا صخب فيه ولا نصب)، قالت أم سلمة: فديناك بآبائنا وأمهاتنا إنك لم تذكر من خديجة أمر إلا وقد كانت كذلك غير أنها قد مضت إلى ربها فهنأها الله بذلك وجمع بيننا وبينها في جنة يا رسول الله هذا أخوك في الدنيا وابن عمك في النسب علي بن أبي طالب يحب أن تدخل عليه زوجته وتجمع شمله فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(يا أم سلمة فما بال علي لا يطلب مني زوجته فقد كنا نتوقع منه ذلك)، فقالت: يمنعه الحياء منك قالت أم أيمن:فقال صلى الله عليه وآله وسلملي: (انطلقي إلى علي فآتيني به) فخرجت فإذا علي ينتظرني فلما رآني قال عليه السلام: ما ورائك، قلت: أجب رسول الله فدخلت وقمن أزواجه فدخلن البيت وجلس علي بين يديه مطرقاً حياء منه فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أتحب أن أدخل عليك زوجتك)،فقال عليه السلاموهو مطرق: (أجل يا رسول الله) فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(يا أبا الحسن أدخلها عليك في ليلتنا هذه أم في ليلة غد إنْ شاء الله)، فقام فرحاً مسروراً, ثم التفت الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى النساء فقال: (مَن ها هنا)،فقالت أم سلمة:أنا أم سلمة وهذه زينب وهذه فلانة وفلانة فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(هيؤا لابنتي وابن عمي في حُجَري بيتاً)،فقالت أم سلمة: في أي حجرة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(في حجرتك)، وأمر نساءه أن يزين ويصلحن من شأنها قالت أم سلمة: فسألت فاطمة هل عندك طيب ادخرتيه لنفسك فأتت بقارورة فسكبت منها في راحتي فشممت منها رائحة ما شممت مثلها قط فقلت:ما هذا فقالتI:(كان دحية الكلبي يدخل على رسول الله فيقول: يا فاطمة هاتي الوسادة فاطرحيها لعمك فاطرح له الوسادة فيجلس عليها فإذا نهض سقط من بين ثيابه شئ فيأمرني أبي بجمعه)، فسأل علي رسول الله عن ذلك فقال (هو عنبر يسقط من أجنحة جبرائيل)، قال علي عليه السلام ثم قال لي رسول الله: (يا علي اصنع لأهلك طعاماً فاضلا)، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم:(من عندي الخبز واللحم وعليك التمر والسمن, فاشتريت تمراً وسمناً فحسر رسول الله عن ذراعيه وجعل يشدخ التمر في السمن حتى جعله حليساً وبعث إلينا كبشاً سميناً فذبح وخبز لنا خبزاً)، ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم:(يا علي ادع من أحببت، فأتيت المسجد وهو مشحون بالصحابة فما أحببت أن أدعوا قوماً وأدع قوماً فصعدت على ربوة هناك وناديت أجيبوا إلى وليمة فاطمة فأقبل الناس ارسالاً فاستحيت من رسول الله من كثرة الناس وقلة الطعام فعلم ما في داخلي فقال لي صلى الله عليه وآله وسلم: إني سادعوا الله بالبركة قال عليه السلام: فأكل القوم عن آخرهم ودعوا لي بالبركة وهم أكثر من أربعة الآف رجل ولم ينقص من الطعام شئ،ثم دعا رسول الله بالصحاف فملئت ووجه بها إلى منازل أزواجه،ثم أخذ صحيفة وجعل فيها طعاماًوقال صلى الله عليه وآله وسلم: هذا لفاطمة وهذا لبعلها),حتى إذا انصرفت الشمس للغروب قال صلى الله عليه وآله وسلم:(يا أم سلمة هلمي  فاطمة),فأنطلقت فأتت بها وهي تسحب أذيالها وقد تصببت عرقاً حياءً من رسول الله فعثرت فقال رسول الله: (أقالك الله العثرة في الدنيا والآخرة)،فلما وقفت بين يدي النبي كشف النبي عن وجهها حتى رأها علي ثم أخذ يدها فوضعها في يد علي وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (بارك الله لك فيها يا علي نعم الزوجة فاطمة، ويا فاطمة نعم البعل علي انطلقا إلى منزلكما ولا تحدثا أمراً حتى آتيكما), قال علي عليه السلام:(فأخذت بيدها وأنطلقت بها حتى جلست في جانب الصُفّة وجلست فاطمة في جانبها وهي مطرقة إلى الأرض حياءً مني وأنا مطرق إلى الأرض حياءً منها) ,ثم جاء رسول الله فقال: (من هاهنا فقلنا أدخل يا رسول الله مرحباً بك زائراً فدخل وجلس وأجلس فاطمة إلى جانبه) ثم قال: (يا فاطمة آتيني بماء) فأتته فأخذ جرعة فتمضمض بها ثم مجها في القعب ثم صب منه على رأسها ثم قال: (أقبلي), فلما أقبلت نضح منه بين ثديها ثم قال: (أدبري فادبرت فنضح منه بين كتفيها) ثم قال: (اللهم أبنتي وأحب الخلق إلي اللهم اجعله لك ولياً وبك حفياً وبارك له في أهله) ثم قال: (يا علي ادخل بأهلك بارك الله لك قال علي عليه السلام):(ومكث رسول الله ثلاثاً لا يدخل علينا فلما كان صبيحة اليوم الرابع جاءنا ليدخل علينا فصادف في حجرتنا أسماء) فقال صلى الله عليه وآله وسلملها: (ما وقوفك هنا وفي الحجرة رجل)،فقالت:فداك أبي وأمي إن الفتاة إذا زفت إلى زوجها تحتاج الى امرأة تتعاهدها وتقوم بحوائجها فأقمت هنا لأقض حوائج فاطمة فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(قضى الله لك حوائج الدنيا والاخرة)،قال علي عليه السلام:(وكانت غداة قره(1) وكنت أنا وفاطمة تحت العباء فلما سمعنا كلام رسول الله لأسماء ذهبنا لنقوم فقال صلى الله عليه وآله وسلم: بحقي عليكما لا تفترقا حتى أدخل عليكما، فرجعنا إلى حالنا فدخل وجلس عند رءوسنا وأدخل رجليه فيما بيننا وأخذت أنا رجله اليمنى وضممتها إلى صدري وجعلنا ندفي رجليه من القرحتى إذا دفيناهما قال صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي ائتني بكوز من ماء، فأتيته به فتفل فيه وقرأ عليه آيات من كتاب الله ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: يا علي اشربه واترك منه شيئاً، ففعلت ذلك فرش الباقي على رأسي وصدري وقال( صلى الله عليه وآله وسلم): اذهب الله عنك الرجس وطهرك تطهيراً وقال: ائتني بماء جديد فاتيته ففعل كما فعل وسلمه إلى ابنته،وقال:اشربي واتركي منه قليلاً، ففعلت فرش الباقي على صدرها ورأسها وقال: أذهب الله عنك الرجس وطهرك تطهيرا، وأمرني بالخروج من البيت وخلا بابنته وقال( صلى الله عليه وآله وسلم):كيف أنت يا بنية وكيف وجدت زوجك،قالت يا أبتي خير زوج إلاّ إنّه دخل عليَّ نسوة من قريش وقلن زوَّجك رسول الله من فقيرٍ لا مال له فقال: صلى الله عليه وآله وسلم يا بنية ما أبوك بفقير ولا بعلك بفقير ولقد عرضت علي خزائن الأرض من الذهب والفضة فاخترت ما عند ربي يا بنية ما آلوك نصحاً ولقد زوجتك أقدمهم سلماً وأكثرهم علماً وأعظمهم حلماً،ثم صاح بي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ادخل بيتك والطف بزوجتك وارفق بها فإن فاطمة بضعة مني يؤلمني ما يؤلمها ويسرني ما يسرها استودعكم الله واستخلفه عليكما، قال علي عليه السلام:فوالله ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها الله عز وجل إليه ولا أغضبتني ولا عصت لي أمراً ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان)، ثم قام رسول الله لينصرف فَطَلَبتْ منه خادماً لأنها لا قابلية لها على الخدمة فقال لها صلى الله عليه وآله وسلم:(يا فاطمة أولاً تريدين خيراً من الخادم)،فقالت: (بلى)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(تسبحين الله عز وجل في كل يوماً ثلاثاً وثلاثين مرة وتحمدينه ثلاثاً وثلاثين مرة وتكبرينه أربعاً وثلاثين مرة فدونك مئة باللسان وألف بالميزان يا فاطمة إن قلتيها في صبيحة كل يوم كفاك الله ما أهمك من أمر الدنيا والآخرة).

 

رابعاً: بكاؤها وشهادتها

روي عن الإمام الصادق  عليه السلام أنه قال: (البكاؤون خمسة آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة، وعلي بن الحسين صلوات الله عليهم).

أما فاطمة فبكت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى تأذى أهل المدينة فشكوا ذلك إلى أمير المؤمنين عليه السلام فبنى لها بيتاً خارج المدينة وسماه ببيت الأحزان بعد أن كانت تخرج فتستظل بشجرة عن حرارة الشمس وتبكي عندها فقطعوا الشجرة فكانت تجلس في الشمس وتبكي إلى أن بنى لها أمير المؤمنين البيت المعروف فكانت تخرج إليه أول النهار فإذا جاء الليل جاء إليها أمير المؤمنين وأخذ بيدها وردها إلى البيت، وعن ابن عباس قال: لما حضرت رسول الله الوفاة بكى فقلنا ما يبكيك يا رسول الله فقال:(أبكي لذريتي ما يصنع بهم شرار أمتي كأني بفاطمة وقد ظلمت بعدي وهي تنادي يا أبتاه فلا يعينها أحد)،فسمعت فاطمة فبكت فقال لها رسول الله: (لا تبكي يا بنية)، فقالتJ:(لست أبكي بما يصنع بي من بعدك ولكن أبكي لفراقك)، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(أبشري بسرعة اللحاق بي يا بنت محمد فانك أول من يلحق بي من أهل بيتي ولا تمكثين من بعدي إلاّ اثنين وسبعين يوماً ونصف ولا تلحقي بي حتى تحفّي بثمار الجنة)، فضحكت فاطمة،وعن الصادق عليه السلام أيضا: (أنها عاشت بعد أبيها لم تُرَ كاشرة ولا ضاحكة).

 وروى الصدوق قال: لما قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلمامتنع بلال عن الأذان وإن فاطمةJقالت يوماً:(إني أحب أن أسمع صوت مؤذن أبي)، فبلغ ذلك بلالاً فأخذ في الأذان فلما قال:الله أكبر ذكرت فاطمة أباها وأيامه فلم تتمالك من البكاء فلما بلغ إلى قوله أشهد أن محمداً رسول الله شهقت فاطمةوسقطت لوجهها وغشي عليها فقال الناس: أمسك يا بلال فقد فارقت ابنة رسول الله الدنيا فقطع بلال أذانه فلما أفاقت سألته أن يتم أذانه فلم يفعل وقال لها: يا سيدة النساء إني أخشى عليك مما تنزليه بنفسك.

 وروى الصدوق بسنده عن ابن عباس قال: بينما رسول الله جالس إذ أقبل الحسن فلما رآه بكى ثم قال: (إلي إلي)،فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليمنى ثم أقبل الحسين فلما رآه بكى ثم قال: (إلي إلي)،فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليسرى ثم أقبلت فاطمة فلما رأها بكى ثم قال: (إلي إلي يا بنية)،حتى أجلسها بين يديه ثم أقبل أمير المؤمنين فلما رآه بكى ثم قال: (إلي إلي يا أخي)،فما زال يدنيه حتى أجلسه إلى جانبه الأيمن،فقال له أصحابه: يا رسول الله ما ترى أحداً من هؤلاء إلاّ بكيت أما فيهم من تسر برؤيته فقال صلى الله عليه وآله وسلم:(والذي بعثني بالنبوة واصطفاني على جميع البرية إني وإياهم لأكرم الخلق على الله عز وجل وما على الأرض نسمة أحب إلي منهم أما علي بن أبي طالب فإنه أخي وشقيقي وصاحب الأمر بعدي وصاحب لواءي في الدنيا والآخرة حوضي وشفاعتي وهو مولى كل مسلم وإمام لكل مؤمن وقائد لكل تقي وهو وصيي وخليفتي على أهلي وأمتي في حياتي وبعد موتي محبّه محبّي ومبغضه مبغضي وبولايته صارت أمتي مرحومة وبعداوته صارت المخالفة له ملعونة وإني بكيت حين أقبل لأني ذكرت غدر الأمة به بعدي ثم لا يزال الأمر به حتى يضرب على قرنه ضربة تخضب منها لحيته في أفضل الشهور شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن واما ابنتي فاطمة فانها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين وهي بضعة مني وهي نور عيني وهي ثمرة فؤادي وهي روحي التي بين جنبي وهي الحوراء الانسية متى قامت في محرابها بين يدي ربها جل جلاله زهى نورها لملائكة السماء كما يزهو نور الكواكب لأهل الأرض فيقول الله عز وجل لملائكته انظروا إلى أمَتي فاطمة سيدة اماءي قائمة بين يدي ترتعد فرائصها من خيفتي وقد أقبلت على عبادتي بقلبها أشهدكم إني منعت شيعتها من النار وإني لما رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي كأني بها وقد دخل الذل بيتها وانتهكت حرمتها وغصب حقها ومنعت إرثها وكسر جنبها وهي تنادي وامحمداه فلا تجاب وتستغيث فلا تغاث فلا تزال بعدي محزونة مكروبة تتذكر انقطاع الوحي عن بيتها مرة وتتذكر فراقي اخرى وتستوحش إذاجنهّا الليل لفقد صوتي الذي كانت تسمعه إذا تهجدت بالقرآن ثم ترى نفسها ذليلة بعد أن كانت في أيامي عزيزة فعند ذلك يؤنسها الله تعالى بالملائكة فتناديها بما نادت به مريم ابنة عمران فتقول الملائكة إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ثم يبتدؤها الوجع فتمرض فيبعث الله تعالى إليها مريم أبنة عمران تمرضها وتؤنسها في علتها فتقول عند ذلك يا رب إني سئمت الحياة فألحقني بأبي فيلحقها الله عز وجل بي فتكون أول من يلحقني من أهل بيتي فتقدم علي محزونة مكروبة مغمومة مغصوبة مقتولة فأقول عند ذلك: اللهم العن من ظلمها وعاقب من غصبها وذلل من أذلها وخلد في النار من ضرب جنبها حتى لقت والدها فتقول الملائكة عند ذلك آمين وأما الحسن فإنه ابني وقرة عيني وضياء قلبي وثمرة فؤادي وهو سيد شباب أهل الجنة وحجة الله على الأمة أمره أمري وقوله قولي من تبعه فإنه مني ومن عصاه فليس مني وإني لما نظرت إليه تذكرت ما يجري عليه من الذل بعدي فلا يزال الامر به حتى يقتل بالسم ظلماً وعدواناً فعند ذلك تبكي عليه ملائكة السبع الشداد ويبكيه كل شيء حتى الطير في جو السماء والحيتان في جوف الماء فمن بكاه لم تَعْمَ عينه يوم تعمى العيون ومن حزن عليه لم يحزن قلبه يوم تحزن القلوب ومن زاره في بقيعه ثبتت قدمه يوم تزل فيه الأقدام، وأما الحسين فإنه مني وهو ابني وولدي وخير الخلق بعد أخيه وهو إمام المسلمين ومولى المؤمنين وخليفة رب العالمين وغياث المستغيثين وكهف المستجيرين وحجة الله على خلقه أجمعين وهو سيد شباب أهل الجنة وباب نجاة الأمة أمره أمري وطاعته طاعتي من تبعه فإنه مني ومن عصاه فليس مني وإني لما رأيته تذكرت ما يصنع به بعدي كأني به وقد استجار بحرمي وبقبري فلا يجار فاضمه في منامه إلى صدري وآمره بالرحلة عن دار هجرتي وأبشره بالشهادة فيرتحل منها إلى أرض مقتله ومصرعه أرض كرب وبلاء وقتل وفناء تنصره عصابة من المسلمين اولئك من سادات شهداء أمتي يوم القيامة كأني أنظر إليه و قد رمي بسهم فخر عن فرسه صريعاً ثم يذبح كما يذبح الكبش مظلوماً)،ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبكى من حوله وارتفعت أصواتهم بالضجيج ثم قام وهو يقول: (اللهم إني اشكو إليك ما يلقى أهل بيتي بعدي ثم دخل منزله).

وروي أنّها ما زالت بعد أبيها معصبة الرأس ناحلة الجسم منهدة الركن باكية العين محترقة القلب يغشى عليها ساعة بعد أخرى وتقول لولديها: (أين جدكما الذي كان يكرمكما ويحملكما مرة بعد مرة اين أبوكما الذي كان أشد الناس شفقة عليكما فلا يدعكما تمشيان على الأرض ولا أراه يفتح هذا الباب أبداً ولا يحملكما على عاتقه كما لم يزل يفعل ذلك بكما)، ثم مرضت ومكثت أربعين ليلة فلما نعيت إليها نفسها دعت أم أيمن واسماء بنت عميس ووجهت خلف علي فأحضرته وقالتJ:(يا ابن عم إنه قد نعيت إلى نفسي وإنني لا أرى مابي إلاّ أنني لاحقة بأبي ساعة بعد ساعة وأنا أوصيك باشياء في قلبي)،فـقال لها علي عليه السلام: (وصّني بما أحببت يا بنت رسول الله) فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت فقالت J : ( يا ابن عم ما عهدتني كاذبة ولا خائنة ولا خالفتك منذ عاشرتني)، فقال معاذ الله إنني أعلم بالله وأبرَ وأتقى وأكرم وأشد خوفاً من الله أن أوبخك بمخالفتي قد عزّ علي مفارقتك وتفقدك إلاّ إنه أمر لا بد منه والله جددني على مصيبة رسول الله وقد عظمت وفاتك وفقدك فإنا لله وإنا إليه راجعون من مصيبة ما أفجعها وآلمها وأمضها وأحزنها هذه والله مصيبة لا عزاء لها ورزية لا خلف لها)، ثم بكيا جميعاً ساعة وأخذ علي رأسها وضمها إلى صدره ثم قال عليه السلام: (أوصيني بما شئت فإنك تجديني أمضي فيها كما أمرتيني وأختار أمرك على أمري) فقالتJ: (جزاك عني خيراً يا بن عم أوصيك أولاً أن تتزوج بعد بابنة إمامة فإنها تكون لولدي مثلي فإن الرجال لابد لهم من النساء ثم قالت J: يا بن عم وأوصيك ثانياً أن تتخذ لي نعشاً رأيت الملائكة صوروا صورته)،فقال عليه السلام صفيه لي) فوصفته له فأتخذه لها وهو أول نعش حمل على وجه الأرض ثم قالتJ: (أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني وأخذوا حقي فإنهم عدوي وعدو رسول الله ولا تترك أن يصلي علي أحد منهم ولامن أتباعهم وأدفني ليلاً إذا هدأت العيون ونامت الأبصار).

وروى العياش قال دخلت أم سلمة على فاطمةJفقالت لها:كيف أصبحت عن ليلتك يا بنت رسول الله فقالت J:(أصبحت بين كمد وكرب فَقَدُ النبي وظُلْم الوصي, هُتِك والله حجابه من أصبحت إمامته مقضية على غير ما شرع الله في التنزيل وسنها النبي في التأويل ولكنها أحقاد بدرية وثارات أُحدية كانت عليها قلوب أهل النفاق متكتمة لأمكان الوثبة)، وفي رواية أنّها قالتJلأسماء عند قرب وفاتها:(ائتني بماء فاتتها به فاغتسلت أحسن غسل وقالت هاتي طيبي الذي أتطيب به وهاتي ثيابي التي أصلي فيها وائتني ببقية حنوط والدي الذي نزل به جبرائيل من الجنة فقسم أبي أثلاثاً ثلث لعلي وثلث لي في موضع كذا فضعيه عند رأسي)، ثم تمسحت بثوبها وقالتJ: (انتظريني هنيهة وادعيني فان أجبتك وإلاّ فأعلمي إني قدمت على ربي)، قالت أسماء: فانتظرتها هنيهة ثم ناديتها فلم تجبنِ فناديت يابنت محمد المصطفى يا بنت أكرم من حملته النساء يا بنت خير من وطأ الحصى يا بنت من كان قاب قوسين أو أدنى فلم تجب فكشفت الثوب عن وجهها فإذا بها قد فارقت الدنيا فوقعت عليها أقبلّها وأقول يا فاطمة إذا قدمت على أبيك فاقرأيه عن أسماء بنت عميس السلام فبينما هي كذلك إذ دخل الحسنانHفقالا: (يا أسماء ما ينيم أمنا في هذه الساعة)،فقالت:ياابنَيْ رسول الله ليست أمكما نائمة بل قد فارقت الدنيا فوقع عليها الحسن يقبلها ويقول: (يا أماه كلميني قبل أن تفارق روحي بدني) وأقبل الحسين يقبل رجليها ويقول: (يا اماه أنا ابنك الحسين كلميني قبل أن ينصدع قلبي فاموت)،فقالت لهما أسماء: يا بني رسول الله اذهبا وانطلقا إلى أبيكما فاخبراه بموت أمكما فخرجا حتى إذا كانا قريباً من المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء فابتدرهما جميع الصحابة وقالوا ما يبكيكما يا بني رسول الله لا أبكى الله أعينكما لعلكما نظرتما إلى موقف جدكما فبكيتما شوقاً إليه قالاH:(أوليس قد ماتت أمنا فاطمة)،قال فوقع علي على وجهه يقول عليه السلام:(بمن العزاء يا بنت محمد كنت بك اتعزى ففيم العزاء بعدك) ثم قال عليه السلام  :  

لِكلّ اجتماعٍ من خليلين فرقةٌ
وان افتقادي فاطماً بعد احمدٍ
 

 

وكل الذي دون الفراق قليلُ
دليلٌ على ان لايدوم خليـــلُ
 

 

وصاح أهل المدينة صيحة واحدة واجتمعت نساء بني هاشم في دارها وصرخوا صرخة واحدة كادت المدينة أن تتزعزع من صراخهن وهن يقلن يا سيدتاه يا بنت رسول الله وأقبل الناس مثل عرف الفرس إلى علي وهو جالس والحسن والحسين بين يديه يبكيان فبكى الناس لبكائهما وخرجت أم كلثوم وعليها برقعة وهي تجر بذيلها متجللة برداء عليها تسحبه وتقول: يا أبتاه يا رسول الله الآن حقاً فقدناك فقداً لا لقاء أبداً واجتمع الناس وهم يضجون وينتظرون خروج الجنازة فيصلون عليها فخرج أبو ذر وقال:انصرفوا فان ابنة رسول الله قد أُخر إخراجها في هذه العشية فقام الناس وانصرفوا فلما أن هدأت العيون ومضى شطر من الليل اخرجها علي والحسن والحسين وعمار والمقداد وأبو ذر وعقيل والزبير وسلمان وبرير ونفر من بني هاشم فصلوا عليها ودفنوها في جوف الليل وسوى علي حول قبرها قبوراً سبعة حتى لا يعرف قبرها.

وروى عن الحسين عليه السلام:(أنّ علياً لما دفنها وأخفى موضع قبرها فلما نفض يده من تراب القبر هاج به الحزن فأرسل دموعه على خديه وحوّل وجهه إلى قبر رسول الله) فقال عليه السلام:(السلام عليك يا رسول الله مني ومن ابنتك وحبيبتك وقرة عينك وزائرتك والبائتة في الثرى ببقيعك المختار لها الله سرعة اللحاق بك قلَّ يا رسول الله عن صفيّتك صبري وضعف عن سيدة النساء تجلّدي إلاّ إن في التأسي بسننك والحزن الذي حل بي لفراقك موضع التعزي ولقد وسدتك في ملحود قبرك بعد أن فاضت نفسك على صدري فإنا لله وإنا إليه راجعون قد استُرجعت الوديعة وأخذت الرهينة واختلست الزهراء فما اقبح الخضراء والغبراء, يا رسول الله أمّا حزني فسرمد وأمّا ليلي فمسهد لا يبرح الحزن من قلبي أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم كمد مبرح وهم مهيج سرعان ما فرّق الله بيننا وإلى الله اشكو وستنبأك ابنتك بتظاهر أمتك علي وعليها فاستخبرها الحال فكم من غليل معتلج بصدرها لم تجد إلى بثه سبيلاً وستقول ويحكم الله والله خير الحاكمين سلام عليك يا رسول الله سلام مودع لا سائمٍ ولا قالٍ فإن انصَرف فلا عن ملاله وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين والصبر أيمن وأجمل ولولا غلبة المستولين علينا لجعلت المقام عند قبرك لزاماً والتلبث عنده معكوفاً ولأعولت أعوال الثكلى على جليل الرزية فبعين الله تدفن ابنتك سراً ويهتضم حقها قهراً ويمنع ارثها جهراً ولم يطل العهد ولم يخل منك الذكر فإلى الله يارسول الله المشتكى وفيك اجمل العزاء فصلوات الله عليها وعليك ورحمة الله وبركاته).

 

وروى ابن شهرآشوب في المناقب، أنهم لما ساروا بفاطمة إلى القبر المبارك خرجت يدان من القبر شبيهتان بيدي النبي فتناولتها.

الأشهر بين الإمامية الذي دلت عليه الأخبار الكثيرة أّن عمرها الشريف وقت وفاتها ثمانية عشرة سنة وقيل ثلاثون وفيه أقوال أخر ما بين الثمانية عشر إلى الثلاثين والله أعلم والاختلاف في موضع قبرها مشهور معلوم لعن الله الظالمين لها,اللهم بحقها وحق ابيها وبعلها وبنيها صلّ على محمد وآله واحشرنا معها وأدخلنا في شفاعتها وأمتنا على حبها وحب أبيها وبعلها وبنيها.

j

وبه نستعين

بيان أحوال ثاني أئمة الهدى وقرة عين المصطفى

 وثمرة فؤاد المرتضى وفلذة كبد الزهراء

الحسن المجتبى عليه آلاف التحية والثناء 

 أولاً: في ولادته

المشهور بين علمائنا أنّ ولادته عليه السلام كانت في السنة الثالثة بعد الهجرة وكنيته أبو محمد وأبو القاسم وألقابه السيد والسبط والأمين والحجة والبر والتقي والزكي والمجتبى والزاهد.

وروى الصدوق في العلل والامالي عن علي بن الحسين عليه السلام، أنه لما ولدت فاطمة الحسن عليه السلام قالت لعلي عليه السلام سمَّه: فقال عليه السلام: (ما كنت لأسبق باسمه رسول الله), فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأُخرج إليه في خرقة صفراء فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (ألم أنهكم أن تلفوه في خرقة صفراء؟ ثم رمى بها وأخذ خرقة بيضاء فلفه فيها)، ثم قال  صلى الله عليه وآله وسلم  لعلي: (هل سميته؟) فقال: (لا ما كنت لأسبقك باسمه) فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (وما كنت لأسبق ربي باسمه), فأوحى الله إلى جبرائيل عليه السلام: أنّه قد ولد لمحمد ابن فاهبط فأقرأه السلام وهنأه وقل له أنّ عليا منك بمنزلة هارون من موسى فسمه باسم ابن هارون قال: وما كان اسم ابن هارون؟ قال: (شبر), قال: لسان عربي قال: سَمّهِ الحسن.

وفي العيون عن الرضا عليه السلام قال: غنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عق للحسن عليه السلام يوم السابع بكبشين أملحين وأعطى القابلة فخذا ودينارا وحلق رأسه وتصدق بوزن الشعر ورقا وطلى رأسه بالخلوق وقال: ياأسماء الدم فعل الجاهلية، وأنه سماه يوم السابع حسنا ولم يكن بين الحسن و الحسين إلاّ الحمل.

وروي أنّ فاطمة ولدت الحسن والحسين من فخذها الأيسر وإنّ مريم ولدت المسيح من فخذها الأيمن وقال رسول الله عليه السلام: (إنّ كان يوم القيامة زين عرش رب العالمين بكل زينة ثم يؤتى بمنبرين من نور طولهما مئة ميل فيوضع أحدهما عن يمين العرش والآخر عن يسار العرش ثم يؤتى بالحسن والحسين فيقوم الحسن على أحدهما والحسين على الآخر يزين الرب تبارك وتعالى بها عرشه كما تزين المرأة قرطاها).

وروى العامة والخاصة أن فاطمة أتت بابنيها الحسن والحسين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شكواه التي توفي فيها فقالت: يا رسول الله هذان ابناك فَوَرِّثهما شيئا فقال: (أما الحسن فإن له هيبتي وسؤددي وأما الحسين فإن له جودي وشجاعتي وقال الحسن والحسين خير أهل الارض بعدي وبعد أبيهما وأمهما أفضل نساء أهل الأرض).

وروى عن الرضا عليه السلام قال: عري الحسن والحسين وأدركهما العيد فقالا لأمهما: قد زينوا صبيان المدينة إلاّ نحن فمالك لاتزينينا فقالت إنّ ثيابكما عند الخياط فإذا أتى بهما زينتكما فلما كانت ليلة العيد أعادا القول على أمهما فبكت ورحمتهما فقالت لهما مثل ما قالت في المرة الأولى فردا عليها فلما أخذ الظلام قرع الباب قارع فقالت فاطمة من هذا؟ فقال يا بنت رسول الله انا الخياط جئت بالثياب ففتحت الباب فإذا رجل ومعه ثياب العيد! فقالت فاطمة والله لم أر رجلاً أهيب منه فناولها منديلا مشدودا ثم انصرف، فدخلت فاطمة وفتحت المنديل فإذا فيه قميصان ودراعتان وسروالان ورداءان وعمامتان وخفان أسودان معقبان بحمرة! فايقظتهما وألبستهما ودخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلموهما مزينان فحملهما وقبلهما ثم قال لفاطمة(رأيت الخياط)؟ قالت: نعم يا رسول الله والذي أنفذته من الثياب أتى بها فقال: (يا بينة ما هو خياط إنما هو رضوان خازن الجنات) قالت فاطمة ( فمن أخبرك يا رسول الله) قال: (ما عرج حتى جائني وأخبرني بذلك).

وروى عن ابن عباس قال: بينما نحن عند رسول الله، إذ أقبلت فاطمة تبكي، فقال لها النبي(ما يبكيك؟) فقالت: يا رسول الله إنّ الحسن والحسين خرجا ما ادري أين سلكا؟ فقال: (لا تبكي فداك أبوك فإن الله خلقهما وهو أرحم بهما اللهم إن كان أخذا في بر فاحفظهما وإن كان اخذا في بحر فسلمهما), فهبط جبرائيل فقال: يا أحمد لا تغتم ولا تحزن هما فاضلان في الدنيا، وفاضلان في الآخرة، وأبوهما خير منهما وهما في حظيرة بني النجار نائمين ووكل الله بهما ملكا يحفظهما. قال ابن عباس فقام رسول الله وقمنا معه حتى أتى حظيرة بني النجار فإذا الحسن معانق الحسين وإذا الملك قد غطاهما بأحد جناحيه. فحمل النبي الحسن واخذ الملك الحسين والناس يرون أنه حاملهما فقال له ابو بكر وأبو أيوب الأنصاري يا رسول الله الا تخفف عنك بأحد الصبيين فقال: (دعاهما فإنهما فاضلان في الدنيا، فاضلان في الآخرة، وأبوهما خير منهما ثم قال: والله لأشرفكما اليوم بما شرفكما الله به فخطب فقال: ايها الناس ألا أخبركم بخير الناس جداً وجدة؟) قالوا: بلى يا رسول الله قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الحسن والحسين فإن جدهما رسول الله وجدتهما خديجة بنت خويلد، ألا أخبركم بخير الناس أباً وأماً؟) قالوا: بلى يا رسول الله قال: (الحسن والحسين أبوهما علي بن ابي طالب وأمهما فاطمة بنت محمد، ألا أخبركم بخير الناس عماً وعمة؟) قالوا: بلى يا رسول الله قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الحسن والحسين عمهما جعفر ابن أبي طالب وعمتها أم هاني بنت ابي طالب، ألا أخبركم بخير الناس خالٍ وخالة؟) قالوا: بلى يا رسول الله قال صلى الله عليه وآله وسلم: (الحسن والحسين خالهما القاسم ابن رسول الله وخالتهما زينب بنت رسول الله ألا أنّ أباهما في الجنة، وأمهما في الجنة، وجدهما في الجنة، وجدتهما في الجنة،وخالهما في الجنة، وخالتهما في الجنة، وعمهما في الجنة، وعمتهما في الجنة، وهما في الجنة، من احبهما في الجنة، ومن أحب من أحبهما في الجنة).

قال وروى الصدوق في الأمالي عن الصادق عليه السلام قال: مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم المرضة التي عوفي منها فعادته فاطمة ومعها الحسن والحسين، قد أخذت الحسن بيدها اليمنى واخذت الحسين بيدها اليسرى، وهما يمشيان وفاطمة بينهما فدخلا منزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقعد الحسن إلى جنب رسول الله الايمن وقعد الحسين إلى جنب رسول الله الايسر فاقبلا يغمزان بينهما من بدن الرسول فما أفاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نومه فقالت فاطمة: للحسن والحسين حبيبيَّ إن جدكما نائم فانصرفا ساعتكما هذه ودعاه حتى يفيق وترجعان إليه، فقالا: لسنا ببارحين في وقتنا فاضطجع الحسن على عضد رسول الله الأيمن والحسين على عضده الأيسر فغفيا وانتبها قبل ان ينتبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد كانت فاطمة لما ناما انصرفت إلى منزلها فقالا لعائشة: ما فعلت أمنا قالت: لما نمتما رجعت إلى منزلها فخرجا في ليلة ظلماء مدلهمة ذات برق ورعد وقد أرخت السماء غرائلها فسطع لهما نور فلم يزالا يمشيان في ذلك النور والحسن قابض بيده اليمنى على يد الحسين اليسرى وهما يتماشيان ويتحدثان حتى أتيا حديقة بني النجار فلما بلغا الحديقة حارا فبقيا لا يعلمان أين يأخذان فقال الحسن للحسين إنا قد حرنا وبقينا على حالتنا هذه وما ندري أين نسلك فلا عليك ان تنام في وقتنا هذا حتى تصبح فقال له الحسين دونك يا أخي فافعل ما ترى واضطجعا جميعا واعتنق كل منهما الآخر وناما فانتبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من نومته التي نامها فطلبهما من منزل فاطمة فلم يكونوا فتفقدوهما فقام قائما وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (إلهي هذان شبلاي خرجا من المجاضه والمجاعة اللهم أنت وكيلي عليهما),فسطع للنبي نور فلم يزل

 

يمشي في ذلك النور حتى أتى حديقة بني النجار فإذا هما نائمان قد اعتنق كل منهما الآخر وقد تقشعت السماء فوقهما كطبق فهي تمطر كأشد ما يكون مطرا ما رأته الناس وقد منع الله المطر عنهما في البقعة التي هما نائمان لا تمطر عليها قطره وقد اكتشفتهما حية لها شفرات كآجام القصب، ولها جناحان جناح قد غطت به الحسن، وجناح قد غطت به الحسين، فلما ابصرهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم تنحنح فانسابت الحية وهي تقول: اللهم إني أشهدك واشهد ملائكتك إن هذين شبلا نبيك قد حفظتهما عليه ودفعتهما إليه صحيحين سالمين. فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (فمن أنت)؟ قالت: أنا رسول الجن إليك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (واي الجن) ,قالت: (جن نصيبين نفر من بني مليح نسينا آية من كتاب الله فبعثوا أبي إليك لتعلمنا ما نسينا من كتاب الله فلما بلغتُ إلى هذا الموضع سمعتُ مناديا ينادي أيتها الحية هذان شبلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاحفظيهما من الآفات والعاهات ومن طوارق الليل والنهار، فقد حفظتهما وسلمتهما إليك صحيحين سالمين)، وأخذت الحية الآية وانصرفت فاخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحسن عليه السلام فوضعه على عاتقه الأيمن، ووضع الحسين عليه السلام على عاتقه الأيسر، وخرج علي عليه السلام فلحق برسول الله وقال له بعض أصحابه بأبي أنت وأمي ادفع إلي أحد شبليك أخفف عنك فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (امض فقد سمع الله كلامك وعرف مقامك) وتلقاه آخر فقال له كذلك(فرد عليه كما رد على الأول).

فتلقاه علي عليه السلام فقال: (بابي أنت وأمي ادفع إليّ أحد شبلي وشبليك حتى أخفف عنك) فالتفت النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحسن عليه السلام فقال: (هل تمضي إلى كتف أبيك), فقال: (لا والله غن كتفك لأحب إلي من كتف أبي) ثم التفت إلى الحسين عليه السلام فقال: (ياحسين هل تمضي إلى كتف أبيك), فقال عليه السلام: (لا والله ياجداه إن كتفك لأحب إلي من كتف أبي) فأقبل بهما إلى منزل فاطمة وقد ادخرت لهما تميرات فوضعتها بين أيديهما فأكلا وشبعا وفرحا فقال لهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (قوما فاصطرعا) فقاما ليصطرعا وقد خرجت فاطمة في بعض حوائجها فدخلت فسمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول(إيه يا حسن شد على الحسين فاصرعه) فقالت له: يا أبه واعجباه أتشجع الكبير على الصغير؟ فقال لها:(يا بنيه أما ترضين أن أقول ياحسن شد على الحسين فاصرعه، وهذا حبيبي جبرائيل يقول إيه ياحسين شد على الحسن فاصرعه).

ثانياً كيفية شهادته

 المشهور بين الإمامية أنه عليه السلام استشهد في آخر صفر وقيل في سابعه وقيل في الثامن والعشرين منه سنة أربعين من الهجرة وكان عمره سبعا وأربعين سنة وقيل تسعاً وأربعين.وروى الكلبي عن الصادق عليه السلام: (أنه قبض وهو ابن سبع وأربيعن في عام خمسين وعاش بعد رسول الله أربعين سنة).

وروى الشيخ في الأمالي والسيد المرتضى في عيون المعجزات وغيرهما عن ابن عباس أن معاوية بذل لجعدة بنت الأشعث زوجة أبي محمد عشرة آلاف دينار وقطعات كثيرة من شعب سوراء وسواد الكوفة وحمل إليها سماً فجعلته في طعام فلما وضعته بين يديه قال عليه السلام: (إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله على لقاء سيد المرسلين وأبي سيد الوصيين وأمي سيدة نساء العالمين وعمي جعفر الطيار في الجنة وحمزة سيد الشهداء) ودخل عليه أخوه الحسين عليه السلام فقال عليه السلام: (كيف تجدك ياأخي) فقال عليه السلام: (أجدني في أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا وأعلم إني لا أسبق أجلي وإني وارد على أبي وجدي على كره مني لفراقك وفراق إخوتك وفراق الأحبة واستغفر الله من مقالتي هذه وأتوب إليه بل على محبة مني للقاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي أمير المؤمنين وأمي فاطمة وعمي جعفر وحمزة وفي الله عز وجل خلف من كل هالك وعزاء من كل مصيبة ودرك من كل مافات رأيت ياأخي كبدي في الطشت ولقد عرفت من ذهابي ومن أين أتيت) فقال له الحسين عليه السلام: من سقاك السم فقال له الحسن عليه السلام: (ما أنت صانع به ياأخي) فقال الحسين عليه السلام: (أقتله والله) فقال عليه السلام: (لا أخبرك به أبدا حتى نلقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن اكتب ياأخي ما أوصى به الحسن بن علي إلى أخيه الحسين بن علي وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنه يعبده حق عبادته لا شريك له في الملك ولا ولي له من الذل وأنه خلق كل شيء فقدره تقديراً وأنه أولى من عُبد وأحق من مُجد من أطاعه رشد ومن عصاه غوى ومن تاب إليه اهتدى فإني أوصيك ياحسين بمن خلَّفتُ من أهلي وولدي وأهـل بيتك خيراً أن تصفح عن مسيئهم وتقبل من محسنهم وتكون لهم خلفا ووالداً وأن تدفنني مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإني أحق به وببيته ممن أدخل بيته بغير إذنه ونحن مأذون لنا في التصرف فيما ورثناه من بعده فإن أبت عليك الإمرأة فأنشدك الله بالقرابة التي قرّب الله منك والرحم الماسة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لاتهرق في أمري محجمة من دم حتى نلقى رسول الله فنهتضم إليه ونخبره بما كان من الناس إلينا بعده) فلما فرغ الحسين من شأنه وحمله ليدفنه مع رسول الله ركب مروان بن الحكم نعليه وأتى عائشة فقال لها: ياأُماه إن الحسين يريد أن يدفن أخاه الحسن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والله إن دُفن ليذهبن فخر أبيك وصاحبه عمر إلى يوم القيامة قالت: فما أصنع يامروان قال ألحقي به وامنعيه من أن يدفن معه قالت: وكيف ألحقه؟ قال: اركبي بغلتي هذه, فنزل عن بغلته فركبتها وكانت توز الناس وبني أمية على الحسين وتحرضهم على منعه مما هو به فلما قربت من قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكانت قد وصلت جنازة الحسن فرمت بنفسها عن البغلة وقالت: والله لا يدفن الحسن هاهنا أو تُجز هذه وأومت بيدها الى شعرها ورموا بالنبال جنازة الحسن عليه السلام حتى سل منها سبعون نبلة فأراد بنو هاشم المجادلة فقال الحسين عليه السلام: الله الله لاتضيعوا وصية أخي واعدلوا به إلى البقيع فإنه أقسم عليَّ إن أنا مُنعت من دفنه مع جده أن لا أخاصم فيه أحدا وان أدفنه في البقيع مع أمه والله لولا عهد الحسن عليه السلام إلي أن لا أهرق في أمره محجمة من دم لعلمتم كيف تأخذ سيوف الله منكم مأخذها وقد نقضتم العهد بيننا وبينكم وأبطلتم ما اشترطنا لأنفسنا ومضوا بالحسن عليه السلام فدفنوه بالبقيع مع أمه. وفي رواية مع جدته فاطمة بنت أسد.

وروى الراوندي عن الصادق عليه السلام: أنّ الحسن عليه السلام قال: لأهل بيته (إني أموت بالسم كما مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا ومن يفعل ذلك(قال عليه السلام امرأتي جعيدة بنت الأشعث بن قيس فان معاوية يدس إليها ويأمرها بذلك) قالوا خرجها من منزلك وباعدها من نفسك،(قال كيف أخرجها ولم تفعل بعد شيئا ولو أخرجتها ما قتلني غيرها وكان لها عذر عند الناس) فما ذهبت الأيام حتى بعث إليها معاوية مالا جسيما ووعدها بأن يعطيها مئة ألف درهم ويزوجها من يزيد وحمل إليها شربة سم لتسقيها الحسن عليه السلام فانصرف إلى منزله وهو صائم فأخرجت وقت الإفطار وكان يوما حارا شربة لبن وقد ألقيت فيها السم فشربها وقال عليه السلام: (قتلتيني ياعدوة الله, قتلك الله والله لا تصيبين منى خلفا ولقد غرك وسخر منك معاوية ولم يف والله يجزيك) فمكث يومان ثم مضى روحي له الفداء.فغدر بها معاوية ولم يف لها بما عاهدها عليه).

 وروى الطبرسي في الاحتجاج عن رجل قال: أتيت الحسن بن علي عليه السلام فقلت: يا أبن رسول الله أذللت رقابنا وجعلتنا معشر الشيعة عبيدا ما بقي معك رجل فقال( عليه السلام): (ومم ذلك؟) قلت بتسليمك الأمر إلى معاوية قال عليه السلام: (والله ماسلمت الأمر إليه إلا إني لم أجد أنصارا ولو وجدت أنصارا لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه ولكني عرفت أهل الكوفة وتلونهم ولا يصلح لي ما كان فاسدا إنهم لاوفاء لهم ولاذمة في قول ولافعل إنهم لمختلفون ويقولون لنا: أنّ قلوبهم معنا وإنّ سيوفهم علينا)، قال الراوي فبينما هو يكلمني إذ تنخم الدم فدعى بطشت فحمل من بين يديه ملئان مما خرج من جوفه من الدم فقلت ما هذا ماهذا يابن رسول الله إني لاراك وجعا فقال عليه السلام: (أجل دس إيى هذا الطاغية من سقاني سما فقد وقع على كبدي فهو يخرج قطعا كما ترى) قلت أفلا تتداوى قال عليه السلام: (قد سقاني مرتين وهذه الثالثة لا أجد لها دواء ولقد رقي إلىّ أنه كتب إلى ملك الروم يسأله أن يوجد إليه من السم القتّال شربة،فكتب إليه ملك الروم أنه لا يصلح لنا في ديننا أن نعين على قتال من لايقاتلنا فكتب إليه إن الذي أريد ان اسقيه السم هذا ابن الرجل الذي خرج بأرض تهامه قد خرج يطلب ملك أبيه وأنا أريد أن أدس إليه من يسقيه ذلك فأريح العباد والبلاد منه، ووجه إليه بهدايا وألطاف فوجه إليه ملك الروم بهذه الشربة التي دس بها فسُقيتها واشترط عليه في ذلك شروطا).

وروى الأربلي في كشف الغمة عن عمران بن أسحق قال: دخلت ورجل على الحسن بن علي عليه السلام نعوده فقال عليه السلام: (يا فلان سلني قبل أن لاتسألني) قال: قلت بل يعافيك الله ثم نسألك فقال عليه السلام: (قد ألقيت طائفة من كبدي وإني قد سقيت السم مرارا فلم أسق مثل هذه المرة) ثم دخلت عليه من الغد وهو يجود بنفسه والحسين عليه السلام عند رأسه فقال عليه السلام: (ياأخي من تتهم) فقال عليه السلام: (لتقتله؟) قال عليه السلام: (نعم) قال عليه السلام: (إن يكن الذي اظن فأنه تعالى أشد بأسا وأشد تنكيلا ولا يكن فما أُحب أن يُقتل بي بريء ثم قضى  عليه السلام  ).

وروى الكليني عن الباقر عليه السلام قال: (لما احتضر الحسن عليه السلام قال للحسين( عليه السلام): (يا أخي إني أوصيك بوصية فاحفظها إذ أنا مت فهيأني ثم وجهني إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأحدث به عهدا ثم اصرفني إلى أمي فاطمة ثم رد بي فادفني بالبقيع وأعلم أنه سيصيبني من الحميراء ما يعلم الناس من صنعها وعداوتها لله وللرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعداوتها لنا أهل البيت) فلما قبض الحسن عليه السلام وضع على سريره وانطلق به إلى مصلى رسول الله الذي كان يصلي فيه على الجنائز فصلى على الحسن عليه السلام فلما أن صلى عليه حُمل فاُدخل المسجد فلما وقف على قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلغ عائشة الخبر وقيل لها أنهم قد أقبلوا بالحسن عليه السلام ليدفن مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخرجت مبادرة على بغل مسرج فكانت أول امرأة ركبت في الإسلام سرجا فوقفت وقالت(نحوّ ابنكم عن بيتي فانه لايدفن فيه شيء ولايهتك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجابه) فقال لها الحسين عليه السلام: (قديما هتكت أنت وأبوك حجاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأدخلت بيته من لا يحب رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم) قربه وإن الله يسألك عن ذلك يا عائشة إنّ أخي أمرني أن أُقربه من رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم) ليحدث به عهدا واعلمي أنّ أخي أعلم الناس بالله وأعلم بتأويل كتابه من أن يهتك على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سره لأن الله يقول في محكم كتابه  ]يَاَاَيُّهَا الَّذينَ امَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيّ الاَّ اَن يُؤْذَنَ لَكُمْ[ وقد أدخلتُ إلى بيت رسول الله( صلى الله عليه وآله وسلم) بغير إذنه وقد قال عز وجل ]يَاَاَيُّهَا الَّذينَ امَنُوا لاَ تَرْفَعُوا اَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيّ[  ولعمري لقد ضُربتْ المعاول لأبيك وفاروق عند أذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد قال الله عز وجل ]اِنَّ الَّذينَ يَغُضُّونَ اَصْواتَهم عِنْدَ رَسُولِ اُولئِك الَّذينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُم لِلتَّقْوى [ ولعمري لقد أدخل أبوك وفاروقه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقربهما منه ألاذى وما رعيا من حقه ما أمر الله به على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله حرم على المؤمنين أمواتا ما حرّم منهم أحياء والله يا عائشة لو كان هذا الذي كرهتيه من دفن الحسن عند أبيه وجده جائز فيما بيننا وبين الله لعلمت أنه سيدفن وإن زعم معطسك(1)؟) قال ثم تكلم محمد بن الحنفية فقال: يا عائشة يوما على جمل ويوما على بغل فما تملكين نفسك ولاتملكين الأرض عداوة لبني هاشم فأقبلت عليه وقالت: يا ابن الحنفية هؤلاء الفواطم يتكلمون فما كلامك،فقال لها الحسين وأنت تبعدين محمدا من الفواطم فوالله لقد ولدته ثلاث فواطم فاطمة بنت عمران بن عابد وفاطمة بنت أسد بن هاشم وفاطمة بنت زائدة بن الأصم فقالت: نحوّ ابنكم واذهبوا فإنكم قوم خصمون قال فمضى إلى قبر أمه ثم أخرجه ودفنه بالبقيع.

وروى الصدوق في الأمالي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث قال فيه عن الحسن عليه السلام: (وإني لما نظرت إليه تذكرت ما يجري عليه من الذل بعدي فلا يزال الأمر به حتى يقتل بالسم ظلما وعدواناً فعند ذلك تبكي الملائكة والسبع الشداد لقتله ويبكيه كل شيء فمن بكاه لم تعم عينه يوم تعمى العيون).

 

j

وبه نستعين

بيان أحوال الإمام الثالث أبو عبد الله الحسين عليه السلام

روى الفاضل المجلسي عليه الرحمة قال: روى الشيخ المفيد والسيد ابن طاوس وغيرهما .. أنه لما مات معاوية في النصف من رجب سنة ستين من الهجرة، تولى الأمر بعده ابنه يزيد لعنه الله، فكتب إلى الوليد بن عتبة بن أبى سفيان، وكان على المدينة والياً،أن يأخذ له البيعة من أهلها، وخاصة على الحسين عليه السلام ، ولم يرخص له في التأمين، وقال: وإن أبى عليك فاضرب عنقه، وأبعث إليّ برأسه، فاحضر الوليد مروان واستشاره فقال: إنه لا يقبل، ولو كنت مكانك لضربت عنقه، فقال الوليد: ليتني لم أكن شيئا مذكوراً، وأنفذ الوليد إلى الحسين عليه السلام في جوف الليل فاستدعاه فعرف عليه السلام الذي أراد فدعا جماعة من مواليه،وأمرهم بحمل السلاح، وقال عليه السلام لهم: (إن الوليد قد استدعاني في هذا الوقت، ولست آمن أن يكلفني فيه أمراً لا أُجيبه إليه، وهو غير مأمون فكونوا معي، فإذا دخلت فاجلسوا على الباب، فإن سمعتم صوتي قد علا فادخلوا عليه لتمنعوه عني)، فسار الحسين عليه السلام إلى الوليد، فوجد عنده مروان بن الحكم، فنعى إليه الوليد معاوية فاسترجع الحسين عليه السلام ثم قرأ عليه كتاب يزيد وما أمر فيه من البيعة فقال الحسين عليه السلام: (إني لاأراك تقنع ببيعتي ليزيد سرا، حتى أبايعه جهرا، فيعرف الناس ذلك). فقال الوليد: أجل فقال الحسين عليه السلام: (فتصبح وترى رأينا في ذلك)، فقال له الوليد: انصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس فقال له مروان: لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لاقدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل، ولا يخرج من عندك حتى يبايع، أو تضرب عنقه، فوثب الحسين عليه السلام عند ذلك وقال: (أنت يابن الزرقاء تقتلني أم هو كذبت والله وأثمت).

ثم أقبل الحسين عليه السلام على الوليد قائلاً: إنا أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي، بنا فتح الله،وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلق بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن تصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالبيعة والخلافة وخرج يمشي ومعه مواليه حتى أتى منزله فقال مروان للوليد: عصيتني لا والله لا يمكّنك مثلها من نفسه أبدا فقال الوليد: ويح غيرك يا مروان إنك اخترت لي التي فيها هلاك ديني ودنياي والله ما أحب أن لي ما طلعت عليه الشمس، وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وإني قتلت حسينا عليه السلام، سبحان الله، أقتل حسينا إنْ قال لا أبايع والله إني لا أظن إنّ امرءاً يحاسب بدم الحسين لخفيف الميزان عند الله يوم القيامة فقال مروان: فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت، يقول هذا وهو غير الحامد له على رأيه وخرج الحسين من منزله تلك الليلة، وأقبل إلى قبر جده، فقال عليه السلام: (السلام عليك يا رسول الله، أنا الحسين بن علي بن فاطمة وابن فرخك، وابن فرختك، وسبطك الذي خلفتني في أمتك، فأشهد عليهم، يا نبي الله أنهم خذلوني وضيعوني ولم يحفظوني وهذه شكواي إليك إلى يوم ألقاك!), ثم صف قدميه فلم يزل راكعا وساجدا، وأرسل الوليد إلى منزله لينظر أخرجَ من المدينة أم لا فلم يصبه في منزله فقال: الحمد لله خرج ولم يبتلني بدمه قال: ورجع الحسين إلى منزله عند الصبح فلما كانت الليلة الثانية خرج إلى القبر أيضا وصلى ركعات فلما فرغ من صلاته جعل يقول عليه السلام: (اللهم هذا قبر نبيك محمد وأنا ابن بنت نبيك وقد حضرني من الأمر ما قد علمت، اللهم إني أُحب المعروف وأنكر المنكر، وأنا أسألك يا ذا الجلال والإكرام بحق القبر ومن فيه، ألا اخترت لي ما هو لك رضى، ولرسولك رضى)، ثم جعل يبكي عند القبر حتى إذا كان قريبا من الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى، فإذا هو برسول الله قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمنيه وعن شماله وبين يديه حتى ضم الحسين إلى صدره وقبل ما بين عينيه وقال صلى الله عليه وآله وسلم:(حبيبي يا حسين كأني أراك عن قريب من ملأ بدمائك مذبوحا بأرض كربلاء من عصابة من أمتي وأنت مع ذلك عطشان لا تسقى، وظمآن لاتروى، وهم مع ذلك يرجون شفاعتي لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة، حبيبي يا حسين إن أباك وأمك وأخاك قدموا علي وهم مشتاقون إليك وإن لك في الجنان الدرجات العلى لن تنالها إلاَّ بالشهادة)، فجعل الحسين في منامه ينظر إلى جده ويقول عليه السلام:(ياجداه لا طاقة لي في الرجوع إلى الدنيا فخذني إليك وأدخلني معك في قبرك) فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لابد لك من الرجوع إلى الدنيا حتى ترزق الشهادة وما كتب الله لك فيها من الثواب العظيم فأنك وأباك وأخاك وعمك تحشرون يوم القيامة حتى تدخلوا الجنة في زمرة واحدة)، فانتبه الحسين عليه السلام من نومه فزعا مرعوبا فلما رجع إلى منزله وقص رؤياه على أهل بيته وبني عبد المطلب فلم يكن في مشرق الأرض ومغربها ذلك اليوم قوم أشد غما من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا أكثر باك ولا باكية وتهيأ الحسين عليه السلام للخروج من المدينة ومضى في جوف الليل إلى قبر أمه فودعها ثم مضى إلى قبر أخيه الحسن عليه السلام ففعل مثل ذلك ثم رجع إلى منزله وقت الصبح وأقبل إليه أخوه محمد بن الحنفية فقال:يا أخي أنت أحب الخلق إلي وأعزهم علي ولست والله ادخر النصيحة لأحد من الخلق وليس أحد أحق بها منك لأنك مزاج مائي ونفسي وروحي وبصري وكبير أهل بيتي ومن وضعتُ طاعته في عنقي لأن الله قد شرفك علي وجعلك من سادات اهل الجنة تنحّ ببيتك عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت ثم ابعث رسلك إلى الناس وادعهم إلى نفسك فإنْ بايعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك وإن اجتمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولاعقلك ولاتذهب بعروتك ولا فضلك إني أخاف أن تدخل مصرا من هذه الأمصار فتختلف الناس بينهم فطائفة معك وأخرى عليك فيقتلون فتكون لأول الأسنة غرضا فإذا خير هذه الأمة كلها نفسا وأبا وأما أضيعها دما وأذلها أهلا فقال الحسين عليه السلام: (فأين أنزل يا أخي) قال: انزل مكة فإنْ اطمأنّت بك الدار فذاك وإن يكن الأخرى خرجت إلى اليمن فإنهم أنصار جدك وأبيك وهم أرأف الناس وأرقهم قلوبا واوسع الناس بلادا فإن اطمأنت بك الدار وإلاّ لحقت بالرمال وشعوب الجبال من بلد إلى بلد حتى تنظر مايؤل إليه أمر الناس ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين فقال الحسين عليه السلام: (ياأخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى ما بايعت يزيد بن معاوية)، فقطع محمد بن الحنفية الكلام وبكينا جميعا ساعة ثم قال عليه السلام: (يا أخي جزاك الله خيرا فقد نصحت وأشرت بالصواب وأنا عازم على الخروج إلى مكة وقد تهيأت إلى ذلك أنا وإخوتي وبنوا إخوتي وشيعتي أمرهم أمري ورأيهم رأيي وأما أنت يا أخي فلا عليك ألا ان تقيم بالمدينة فتكون لي عينا لا تخفي عني شيئا من أمورهم) ثم دعا الحسين عليه السلام بدواة وبياض (وكتب هذه الوصية لأخيه محمد):

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما أوصى به (الحسين بن علي) إلى أخيه محمد بن الحنفية: (أنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله جاء بالحق من عنده وإن الجنة والنار حق وإن الساعة آتية لا ريب فيها وإن الله يبعث من في القبور وإني لم اخرج أشرا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن رد علي أصبر حتى يقض الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير  المالكين وهذه وصيتي يا أخي إليك وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب).

ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى أخيه محمد ثم ودعه وخرج في جوف الليل وأقبلت نساء بني عبد المطلب فاجتمعن للنياحة ولما بلغهن ان الحسين عليه السلام يريد الشخوص من المدينة حتى مشى فيهن الحسين فقال عليه السلام:(أنشدكن الله أن تبدين هذا الامر معصية لله ولرسوله) قلن له نساء بني عبد المطلب: فلمن نستبقي النياحة والبكاء فهو عندنا اليوم فإن فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعليا وفاطمةJ والحسن عليه السلام ورقية وزينب وأم كلثوم فننشدك جعلنا الله فداك من الموت يا حبيب الأبرار من أهل القبور وأقبلت بعض عماته تبكي وتقول: أشهد ياحسين لقد سمعت الجن ناحت بنوحك وهم يقولون:

وإن قتيل الطف من آل هاشم
 

 

أذلّ رقابا من قريش فذلّت
 

 

وأتته أم سلمة وقالت: يابني لاتُحزنّي بخروجك إلى العراق فإني سمعت جدك يقول: (يقتل ولدي الحسين بأرض العراق في أرض يقال لها كرب وبلاء)، فقال لها عليه السلام: (ياأماه وأنا والله اعلم بذلك وإني لمقتول وليس لي من هذا بُدّ وإني والله أعلم ذلك وأعرف اليوم الذي فيه اقتل وأعرف من يقتلني وأعرف البقعة التي فيها أدفن وإني أعرف من يقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي وإن أردت ياأماه أن أريك حفرتي ومضجعي ثم أشار إلى جهة كربلاء فانخفضت الأرض حتى أراها مضجعة ومدفنه وموضع عسكره وموقفه ومشهده)، فعند ذلك بكت أم سلمة بكاء شديدا وسلمت أمرها إلى الله فقال عليه السلام: (يا أماه قد شاء الله أن يراني مقتولا مذبوحا ظلما وعدوانا وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشردين وأطفالي مذبوحين مأسورين مظلومين مقيدين وهم يستثغيثون فلا يجدون ناصرا ولامعينا) قال: وخرج من تحت ليلة متوجها إلى مكة ليومين بقيا من رجب ومعه بنوه وبنو أخيه وأخوته وجل أهل بيته فخرج منها خائفا يترقب قال عليه السلام: (رب نجني من القوم الظالمين)، ولزم الطريق الأعظم فقال له أهل بيته: لو تنكبت الطريق كيلا يلحقك الطلب فقال لهم عليه السلام: (والله لا أُفارق حتى يقضي الله ما هو قاض)،ولقيه أفواج من الملائكة المسومين بأيديهم الحراب فسلموا عليه وقالوا ياحجة الله على خلقه بعد جده وأبيه وأخيه إن الله أمد جدك بنا في مواطن كثيرة وإن الله أمدّك بنا فقال لهم عليه السلام: (الموعد حفرتي وبقعتي التي فيها أُُدفن وهي كربلاء فإذا وردتها فآتوني فقالوا ياحجة الله مُرنا نسمع ونطع فهل تخشى من عدو يلقاك فنكون معك فقال لا سبيل لهم علي ولا يلقوني بكريهة أو أصل إلى بقعتي)، وأتته أفواج من مسلمي الجن. فقالوا ياسيدنا نحن شيعتك وأنصارك فمرنا بأمرك وما تشاء فلو أمرتنا بقتل كل عدو لك وأنت بمكانك لكفيناك ذلك فجزاهم  الحسين عليه السلام خيرا وقال لهم أوما قرأتم كتاب الله المنزل على جدي] أينَمَا تَكُونُواْ يُدرِككُّمُ المَوتُ وَلَو كُنتُم فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدةٍ[، وإذا أقمت بمكاني فبماذا يبتلى هذا الخلق وبماذا تختبرون ومن ذا يكون ساكن حفرتي في كربلاء وقد اختارها الله لي يوم دحى الأرض وجعلها معقلا لشيعتنا وتكون لهم أمانا في الدنيا والآخرة ولكن تحضرون يوم السبت وهو يوم عاشوراء الذي في آخره أُقتل ولا يبقى مطلوب من أهلي وبني أخي وأخوتي وأهل بيتي ويُسار برأسي إلى يزيد)، فقالت الجن نحن والله ياحبيب الله وابن حبيبه لو لا ان أمرك طاعة وأنه لايجوز لنا مخالفتك لقتلنا جميع أعدائك قبل أن يصلوا إليك فقال عليه السلام: نحن والله أقدر عليهم منكم ولكن ليهلك من هلك عن بينه ويحيى من أحيا عن بينه ودخل مكة لثلاثة مضين من شعبان وهو يقرأ]  وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلقَاءَ مَديَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ[، وجعل أهلها ومن بها من المعمرين يترددون إليه ولما بلغ أهل الكوفة هلاك معاوية أرجفوا بيزيد وعرفوا خبر الحسين عليه السلام وامتناعه من بيعة يزيد وخروجه.

 اجتمعت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي فذكروا هلاك معاوية فحمدوا الله وأثنوا عليه فقال سليمان: إنّ معاوية قد هلك وإن حسينا قد نقض على القوم بيعته وقد خرج إلى مكة وأنتم شيعته وشيعة أبيه فان كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدي عدوه فاكتبوا إليه وإن خفتم الفشل والوهن فلا تغروا الرجل من نفسه قالوا لا بل نقاتل عدوه ونقتل أنفسنا دونه فكتبوا إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم

 للحسين بن علي عليه السلام من سليمان بن صرد والمسيّب بن نجبة ورفاعة بن شداد البجلي وحبيب بن مظاهر والمؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة سلام عليك فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو أمّا بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزا على هذه الأمة فابتزها على أمرها وغصبها فيئها وتأمر عليها بغير رضى منها ثم قتل خيارها واستبقى شرارها وجعل مال الله دولة بين أغنيائها وجبابرتها فبعدا له كما بعدت ثمود وأنه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جُمعة ولا نخرج معه إلى عيد ولو قد بَلَغنا إنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إنْ شاء الله.

 ثم سرحوا بالكتاب مع عبد الله بن مسمع الهمداني وعبدالله بن والٍ وأمروهما بالنجاء فخرجا مسرعين وقدما على الحسين عليه السلام بمكة لعشر مضين من شهر رمضان ثم سرحوا قيس بن مسهر الصيداوي وعبد الله بن شداد وعمارة بن عبد الله السلولي بعد يومين ومعهم نحو من مئة وخمسين صحيفة من الرجل والاثنين والأربعة وهو مع ذلك يتأبى ولا يجيبهم حتى ورد عليه في يوم واحد ستمائة كتاب وتواترت الكتب حتى اجتمع عنده في ثوب متفرقة اثني عشر ألف كتاب ثم لبثوا يومين وسرحوا إليه هاني بن هاني السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي وكتبوا إليه: إلى الحسين بن علي من شيعته المؤمنين والمسلمين أما بعد: فحي هلا فإن الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك فالعجل العجل ثم العجل العجل والسلام.

 كتب شبث بن ربعي وحجار بن أبجر ويزيد بن الحارث وعروة بن قيس وعمران بن الحجاج ومحمد بن عمرو التميمي أما بعد:فقد اخضر الجباب وأينعت الثمار فإذا شئت فأقبل على جندٍ لك مجندة والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وعلى أبيك من قبلك.وتلاقت الرسل كلها عنده فقرأ عليه السلام الكتب وسأل الرسل عن الناس ثم كتب عليه السلام ومعه هاني بن هاني وسعيد بن عبد الله وكانا الرسل:

بسم الله الرحمن الرحيم

(من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين أما بعد فإن هانياً وسعيداً قدما عليّ بكتبكم وكانا آخر الرسل وقد فهمت كل الذي قصصتم وذكرتم ومقالة جلكم أنه ليس علينا إمام فأقبل لعل الله يجمعنا بك على الحق والهدى وأنا باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل فإن كتب إليّ أنه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى منكم على منكم مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم فاني أقدم إليكم وشيكا إن شاء الله فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب القائم بالقسط الدائن بدين الحق الجالس نفسه على ذلك والسلام) ثم دعا الحسين عليه السلام مسلم بن عقيل وكان مبرزاً من بينإاخوانه وأقرانه بالشجاعة والسخاوة ومميزا بمزيد العلم ووفور العقل وحسن التدبير وأرسله إلى الكوفة ليأخذ البيعة عليهم فروى المفيد أنّه سرحه مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبد الله السلولي وعبد الرحمن بن عبد الله الازدي وأمره بالتقوى وكتمان أمره واللطف فإنْ رأى الناس مجتمعين مستوسقين عجل إليه بذلك فأقبل مسلم حتى أتى المدينة فصلى في مسجد رسول الله وودع من أحب من أهله واستأجر دليلين من قيس فأقبلا يتنكبان الطريق فَضَلاّ فأصابهما عطش شديد معجزا عن السير فأومآ له على سنن الطريق بعد انْ لاح لهما فسلك مسلم عليه السلام ذلك الطريق ومات الدليلان عطشا فأقبل مسلم عليه السلام حتى دخل الكوفة ونزل في دار المختار وأقبلت الشيعة تختلف إليه وكلما اجتمع جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين عليه السلام وهم يبكون فبايعه منهم ثمانية عشر ألفا فكتب مسلم عليه السلام إلى الحسين عليه السلام يخبره ببيعة ثمانية عشر ألفا ويأمره بالقدوم وكثر اختلاف الشيعة حتى ظهر أمر مسلم فبلغ النعمان بن بشير ذلك وكان واليا على الكوفة وجرى بينه وبين عبد الله الحضرمي حليف بني أمية كلام فكتب عبد الله إلى يزيد لعنه الله: أما بعد فإنّ مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة وبايعه الشيعة فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعث رجلا قويا ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك والنعمان رجل ضعيف وهو يتضعف وكتب إليه عمر بن سعد مثل ذلك وغيرهما فلما وصلت الكتب استشار سرجونا فقال له لو نُشر لك معاوية لما عدّى عبيد الله بن زياد وهذا كتابه على الكوفة فضم له الكوفة إلى البصرة ودعا يزيد لعنه الله مسلم بن عمر الباهلي وكتب إلى عبيد الله: أمّا بعد فإنه كُتِب إلي من شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل فيها يجمع الجموع ليشق عصا المسلمين فسِر حين تقرأ كتابي حتى تأتي الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه والسلام فلما قدم الرسول على عبيد الله البصرة وأوصله الكتاب والعهد تجهز من وقته وخرج في غده وخلّف أخاه عثمان وأقبل ابن زياد إلى الكوفة ومعه مسلم بن عمر الباهلي وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته حتى دخل الكوفة ممايلي النجف وعليه عمامة سوداء وهو متلثم فقالت امرأة: الله اكبر ابن رسول الله ورب الكعبة فتصايح الناس وقالوا: إنا معك أكثر من أربعين ألفا وازدحموا حتى أخذوا بذنب دابته وكان الناس قد بلغهم إقبال الحسين عليه السلام وهم يقولون مرحبا بك يابن رسول الله قدمت خير مقدم خسا ابن زياد ذلك فقال مسلم بن عمر والباهلي لما أكثروا تأخّرَ هذا الأمير عبيد الله ابن زياد وسار حتى وافى القصر ليلا فأغلق النعمان باب القصر واطلع من شرفة القصر وهو يظنه الحسين عليه السلام فقال: أنشدك الله ألا تنحيت وما أنا بمسلم إليك أمانتي ومالي في قتالك من ارب، فجعل لا يكلمه فقال ابن زياد: افتح لا فتحت فقد طال ليلك فسمعها إنسان فقال: ابن مرجانه ورب الكعبة ففتح له النعمان فدخل وضربوا الباب في وجوه الناس فانفضوا فلما أصبح نادى في الناس الصلاة جامعة فاجتمع الناس فخرج وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أمّا بعد فإن أمير المؤمنين أمرني بإنصاف مظلومكم واعطاء محرومكم والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم كالوالدين وسوطي وسيفي على من ترك أمري وخالف عهدي فليتق امرؤ على نفسه الصدق ينبي عليك لا الوعيد ثم نزل، وأخذ الغوغاء الناس أخذاً شديدا ولما سلموا سمع بمجيء عبيدالله بن زياد إلى الكوفة ومقالته خرج من دار المختار ودخل دار هاني على تستر واستخفاء وجعل الشيعة يتوددون إليه، وتواصوا بالكتمان، حتى بايعه خمسة وعشرون ألفاً،وكان شريك قد نزل دار هاني، فقال لمسلم: إن ابن زياد يعودني وأنا مطاوله الحديث فاخرج إليه بسيفك واقتله وعلامة ذلك أنْ أقول اسقوني ماء ونهاه هاني فلما دخل ابن زياد على شريك وسأله عن وجعه، وطال سؤاله، ورأى أن أحدا لا يخرج إليه، فخشى أن يفوته فأخذ يقول:

ما الانتظار بسلمى أن يحييها
 

 

كأس المنية بالتعجيل اسقوها
 

 

فتوهم ابن زياد وخرج، قال أبو الفرج فلما خرج مسلم قال له شريك ما منعك من قتله قال: خصلتان كراهية هاني أن يُقتل في داره وحديث سمعته عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه لايفتك مؤمن فقال له هاني: لو قتلته لقتلك فاسقا فاجرا كافرا وقيل تعلقت به امرأة هاني قالت: نشدتك الله إن قتلته في دارنا وبكت في وجهه فقال هاني: يا ويلها الذي فرت منه وقعت فيه وقتلت نفسها ولما طال ليل ابن زياد من مسلم بن عقيل دعا معقلا مولاه وقال له: خذ هذه الثلاثة آلاف درهم واطلب مسلماً والتمس أصحابه وأعطهم هذه الدراهم فانهم يطمئنون إليك لو فعلت ذلك فجاء معقل حتى جلس إلى مسلم بن عوسجة في المسجد الأعظم فقال: ياعبد الله إني رجل من أهل الشام أنعم الله عليّ بحب أهل البيت، وتباكى له، ومعي هذه الثلاثة آلاف درهم واردت لقاء رجل بلغني أنه قدم الكوفة يبايع للحسين عليه السلام ولا أعرف أحداً يدلني عليه وإني لجالس في المسجد إذ سمعت نفرا من المؤمنين يقولون: هذا رجل له علم بأهل هذا البيت فأتيتك لتقبض مني المال وتدخلني على صاحبك فإني أخ من إخوانك وثقة عليك وإن شئت أخذت له البيعة مني فقال ابن عوسجة: أحمد الله على لقائك وقد سرني لينصر الله تعالى بك أهل بيت نبيه ولقد سائني معرفه ذلك قبل أن يتم الأمر مخافة هذا الطاغية وسطوته ثم أخذ بيعته وأكد عليه المواثيق المغلظة بالمناصرة والكتمان ثم قال: اختلف ألي أياما ثم أدخله على مسلم وأخذ البيعة وأمر أبا ثمامه الصائدي بقبض المال منه وكان هو الذي يقبض المال ويشتري لهم السلاح فجعل معقل يختلف فهو أول داخل وآخر خارج وكان يخبر ابن زياد وقتا فوقتا وخاف هاني من ابن زياد على نفسه فانقطع عن حضور مجلسه وتمارض فقال ابن زياد ومالي لا أرى هانيا فقالوا هو شاك فقال لو علمت بمرضه لعدته فدعا محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجة وعمرو بن الحجاج الزبيدي فقال لهم: قد بلغني إن هانياً يُرى وهو يجلس على باب داره فالقوه ومروه أن لا يدع ماعليه من حقنا فإني لا أحب أن يفسد عندي مثله من الأشراف فأتوه حتى وقفوا عليه عشية وهو جالس على باب داره وقالوا له ما يمنعك من لقاء الأمير فانه قد ذكرك وقال:لو علمت أنّه شاك لعدته والإبطاء والجفاء لا يحتمله السلطان أقسمنا عليك إلا ركبت معنا فدعا بثيابه فلبسها ثم دعا بغلته فركبها حتى إذ أدنى من القصر حست نفسه ببعض الذي كان فقال لحسان يابن الأخ إني والله لخائف من هذا الرجل فما ترى فقال: ياعم والله ما أتخّوف عليك ولم تجعل على نفسك سبيلا فجاء هاني فلما دخل وطلع على ابن زياد قال:

أتتك بخائن رجلاي تسعى
 

 

يقـــود النفــــس منها للهوان
 

 

 

فلما دنا من ابن زياد التفت إلى شريح وقال:

أريد حياته ويريــــد قتــــلي
 

 

عذيرك من خليلك من مراد
 

 

فقال: هاني وما ذاك أيها الأمير قال: إيه ياهاني ماهذه الأمور التي تربص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك وظننت أن ذلك يخفى عليّ قال:مافعلت وما هو عندي قال: بلى قد فعلت فلما أكثر بينهما الكلام وأبى هاني إلاّمجاهدته ومناكرته دعا ابن زياد معقلا فجاء حتى وقف بين يديه قال أتعرف هذا قال: نعم وعَلِم هاني أنه كان عينا فسقط في يده ساعة ثم راجعته نفسه فقال:اسمع مني وصدّق مقالتي فوالله مادعوته إلى منزلي ولا علمت بشيء من أمره حتى جائني يسألني النزول فاستحيت من رده وداخلني من ذلك ذمام فضيفته وآويته وقد كان من أمره ما بلغك فان شئت أنْ أعطيك عهدا موثقا مغلظا أن لاأبغيك ولا غائلة وآتيك حتى أضع يدي في يدك وإن شئت أعطيتك رهينة فانطلق إليه وآمره أن يخرج من داري فاخرج من ذمامه وجواره فقال ابن زياد والله لا تفارقني أبدا حتى تأتيني به قال: والله لا أجيئك به أبدا أجئيك بضيفي تقتله فقال: والله لتأتيني به قال: والله لاآتيك به فلما اكثر بينهما الكلام خلا مسلم بن عمرو الباهلي بهاني وقال له: ياهاني أنشدك الله أن تقتل نفسك وأن تدخل البلاء في عشيرتك فوالله إني لأنفس بك عن القتل إن هذا ابن عم القوم وليسوا بقاتليه ولاضائريه فادعه إليهم فانه ليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة إنما تدفعه إلى السلطان فقال هاني: إن عليَّ في ذلك لخزي وعار،أدفع جاري وضيفي وأنا في صحيح أسمع وأرى شديد الساعدين كثير الأعوان والله لو لم يكن لي ناصر ولا معين لم أدفعه حتى أموت دونه فأخذ يناشده وهو يقول: والله لا أدفعه أبدا فسمع ابن زياد فقال: أدنوه مني فقال: والله لتأتيني به أو لأضربن عنقك فقال هاني: إذا والله تكثر البارقة حول دارك فقال له: والهفاه عليك أبا البارقة تخوفني فاستعرض وجهه بالقضيب فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه وسالت الدماء على وجهه ولحيته ونثر لحم خده وجبينه على لحيته حتى كُسر القضيب وضرب هاني على قائم سيف شرطي فجاذبه الرجل ومنعه فقال ابن زياد اليوم قد حلّ دمك جروه فجروه وألقوه في بيت وأغلقوا عليه بابه وجعلوا عليه حرسا وبلغ عمرو بن الحجاج إن هانيا قُتل فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر ونادى أنا عمرو بن الحجاج وهذه فرسان مذحج ووجوهها لم تخلع طاعة ولم تفارق جماعة وقد بلغهم إن صاحبهم قتل فاعظموا ذلك فقال ابن زياد لشريح أدخل على صاحبهم وأعلمهم أنّه حي لم يقتل فدخل شريح ونظر إليه فقال هاني: يالله للمسلمين أهلكت عشيرتي أين أهل الدين أين أهل المصر والدماء تسيل على لحيته إذ سمع الصيحة فقال:أظنها أصوات مذحج إن دخل عليّ عشرة استنقذوني منه فلما سمع شريح كلامه فقال: إني دخلت على صاحبكم ونظرت إليه وأمرني أن ألقاكم وأعرفكم أنه حي وإن الذي بلغكم من قتله باطل فقال عمرو بن الحجاج وأصحابه أما إذا لم يقتل فالحمد لله ثم انصرفوا وخرج ابن زياد وصعد المنبر ومعه أشراف الناس فقال أيها الناس أمّا بعد فاعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم ولا تفرقوا فتهلكوا وتذلوا وتقتلوا وتجوعوا وتحرموا إنّ أخاك من صدق وقد أعذر من أنذر ثم نزل وقد دخلت النظارة المسجد وهم يقولون قد جاء ابن عقيل فقام عبيد الله مسرعا ودخل القصر وأغلق بابه قال عبد الله بن حازم: أنا والله رسول ابن عقيل إلى القصر لأنظر ما فعل هاني فكنت أول داخل الدار على مسلم بالخبر فأمرني أن أنادي بأصحابه وكانوا قد ملئوا الدور حوله فناديت يا منصور أمت فتنادى أهل الكوفة واجتمعوا فما لبثوا إلا قليلاً حتى امتلأ المسجد والسوق ومازالوا يتواثبون حتى المساء فضاق بأبن زياد أمره وكان أكثر عمله امساك باب القصر وليس معه إلا عشرون رجلا من أشراف الناس وثلاثون رجلا من الشرطة وأهل بيته وخاصته وجعل الناس يشرفون عليهم ويرمونهم بالحجارة ويفترون على ابن زياد وأمه وبعث عبيد الله إلى الأشراف فجمعهم فاشرفوا على الناس ومنّوا أهل الطاعة بالزيادة والكرامة وخوّفوا أهل المعصية بالحرمان والعقوبة وجنود الشام وقالوا أيها الناس الحقوا بأهليكم ولاتعجلوا الشر وهذه جنود الشام قد أقبلت وقد أعطى الله الأمير العهد لئن أقمتم على حربه ولم تنصرفوا عشيتكم أنْ يحرم ذريتكم العطاء وأن يأخذ البريء بالسقيم والشاهد بالغائب حتى لا يبقى بقية من أهل الباطل وهو وبال ما جنت أيديها فلما سمع الناس ذلك أخذوا يتفرقون فكانت المرأة تأتي ولدها وأخاها وتقول انصرف الناس يكفونك فما زالوا يتفرقون حتى أمسى مسلم بن عقيل وصلى المغرب وما معه إلا ثلاثون نفرا فخرج متوجها إلى أبواب كنده فلم يبلغ الأبواب إلا ومعه عشرة فلما خرج من الباب وإذا ليس معه إنسان يدله على الطريق ولا على منزله فمضى على وجهه متلبدا في أزقة الكوفة حتى وقف على باب امرأة يقال لها طوعه أم ولد كانت للأشعث ابن قيس فاعتقها فسلم عليها ابن عقيل فردت فقال: يا أمة الله أسقيني ماء فسقته وجلس مسلم على الباب ودخلت المرأة ثم خرجت فقالت:ياعبد الله ألم تشرب الماء قال بلى قالت: فاذهب إلى أهلك فسكت ثم أعادت مثل ذلك فسكت ثم قالت في الثالثة يا سبحان الله ياعبد الله قم إلى اهلك عافاك الله فإنّه لايصلح لك الجلوس على باب داري ولا أحلّه لك فقام وسلم وقال: يا أمة الله ليس لي في هذا المصر أهل ولاعشيرة فهل لك في أجر ومعروف ولعلي مكافئك بعد اليوم قالت:يا عبد الله وما ذاك قال: أنا مسلم بن عقيل كذبني هؤلاء القوم وغرّوني وأخرجوني قالت: أنت مسلم قال: نعم قالت: أدخل فدخل إلى بيت في دارها غير البيت الذي تكون فيه وفرشت له وعرضت عليه العشاء فلم يتعشى فلم يكن بأسرع من أن جاء ابنها فرآها تكثر الدخول والخروج إلى البيت فالحّ عليها فأعلمته بعد ان أخذت عليه العهود والمواثيق بالكتمان فلما أصبح وشى بالخبر إلى ابن زياد فقال ابن زياد لمحمد بن الأشعث قم فأتني به الساعة فقام وبعث معه قومه وعبيد الله بن العباس السلمي في سبعين رجلا من قيس حتى أتى الدار فلما سمع مسلم وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال علم أنه قد أتى فخرج إليهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار ثم عادوا إليه فشدّ عليهم يضربهم بسيفه حتى أخرجهم منها وأختلف هو وبكر بن حمدان الأحمري بضربتين فضرب بكر فم مسلم فقطع شفته العليا وأسرع السيف في السفلى وفصلت له ثنيتاه وضرب مسلم رأسه بالسيف ضربة منكرة وثنّاه بأخرى على حبل العاتق فكادت تطلع إلى جوفه فلما رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق البيت يرمونه بالحجارة ويلهبون النار بأطنان القصب ويرمونها عليه فخرج إليهم مصلتاً سيفه في السكة وكان من قوته أنه يأخذ الرجل فيرمي به فوق البيت فقتل منهم جماعة كبيرة فنادى محمد بن الاشعث: لك الأمان يامسلم لا تقتل نفسك فلم يلتفت مسلم إلى ذلك ولم يزل يقاتل وهو يقول:

أقسمت أن لا أقتل الا حرا
 

 

وإنْ رأيت الموت شيئا نكرا
 

أخــــــــاف أن أكــــــذب او أعـــــــّـرّا

 

 

   فقال له ابن الاشعث: إنك لن تكذب ولن تغر ولا تخدع إنّ القوم بني عمك وكان قد أثخن بالحجارة فقال مسلم: وايّ أمان للغدرة الفجرة وتكاثروا عليه وعجز عن القتال فأسند ظهره إلى جنب تلك الدار وأعاد ابن الأشعث لك الأمان يامسلم فقال:آمن أنا فقال:نعم، ثم قال للقوم الذين معه إلى الأمان قالوا: نعم، قال مسلم عليه السلام: لو لم تؤمنوني ما وضعت يدي في أيديكم، فأُتي ببغلة فحمل عليها وأجتمعوا حوله ونزعوه سيفه فدمعت عيناه وقال عليه السلام: هذا أول الغدر منكم أين أمانكم إنا لله وإنا إليه راجعون ثم بكى ثم قال لابن الاشعث:ياعبد الله إني أراك ستعجز عن أماني فهل عندك خبر تستطيع أن تبعث من عندك رجلا إلى الحسين عن لساني يبلّغه ما جرى فإني لا أراه إلاّ وقد خرج اليوم وهو خارج غداً ويقول له: إرجع فداك أبي وأمي بأهل بيتك لايغرنك أهل الكوفة فإنهم أصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت والقتل إن أهل الكوفة قد كذبوك وليس للمكذوب رأي وإن ابن عقيل في أيدي القوم أسير لايرجو أن يمسي حتى يقتل فقال ابن الأشعث لأفعلن هذا والله ولأعلمن ابن زياد أني قد آمنتك، وانتُهِي بأبن عقيل إلى باب القصر وقد اشتد به العطش ورأى قلة باردة فقال مسلم: أسقوني من هذا الماء فقال له مسلم بن عمرو الباهلي أتراها ما أبردها لا والله لاتذوق منها أبدا حتى تذوق الحميم في نار جهنم فقال له مسلم: ما أجفاك وأقطعك واقسى قلبك أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم وبعث عمرو بن حُريث غلامه فأتاه بقلة عليها منديل وقدح فصب فيه ماء فقال اشرب فأخذ كلما شرب امتلأ القدح دما من فمه ولا يقدر أن يشرب ففعل ذلك مرتين فلما ذهب في الثالثة ليشرب سقطت ثناياه في القدح فقال: الحمد لله لو كان من الرزق المقسوم لشربته وخرج رسول ابن زياد قام بإدخاله فلما دخل قال ابن زياد (لعنه الله): ياعاق ياشاق خرجت على إمامك وشققت عصا المسلمين وألقحت الفتنة فقال مسلم: كذبت إنما شق عصا المسلمين معاوية وابنه يزيد وأما الفتنة فإنما ألقحها أنت وأبوك زياد عبد بني علاج وأنا أرجو أن يرزقني الله الشهادة على يد شر بريته فقال ابن زياد: إيه ياابن عقيل أتيت الناس وهم جمع فشتت وفرقت أمرهم وحملت بعضهم على بعض فقال مسلم: كلا لست أتيت لذلك ولكن أهل المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعوا إلى الكتاب فقال ابن زياد: وما أنت وذاك يافاسق ولم لاتعمل ذلك بالمدينة وأنت تشرب الخمر قال مسلم: أنا اشرب الخمرأما والله إن الله ليعلم إنك غير صادق وأنت أحق بالشرب مني وأولى بها من يلغ في دماء المسلمين ولغا فقال ابن زياد قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام فقال له مسلم: أما إنك أحق من أن تحدث في الإسلام ما لم يكن فأقبل ابن زياد يشتمه ويشتم عليا والحسن والحسين وعقيلا واخذ مسلم لا يكلمه ثم قال ابن زياد: أين هذا الذي ضرب ابن عقيل رأسه بالسيف فدعي له بكرا بن حمدان الاحمدي لعنه الله فقال له ابن زياد فاصعد فلتكن أنت الذي تتولى قتله فصعد به إلى أعلى القصر وهو يكبر الله ويهلله ويستغفره ويصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويقول:اللهم أحكم بيننا بالحق وبين قوم غرونا وكذبونا وخذلونا وأشرف به على موضع الخدائين وضربت عنقه ورموه من أعلى القصر ثم أمر ابن زياد لعنه الله بإخراج هاني إلى السوق وضرب عنقه فأَتي به إلى مكان من السوق يباع فيه الغنم وهو مكتوف فجعل يقول: وامذحجاه ولامذحج لي اليوم يامذحجاه يامذحجاه ثم جذب يده من الوثاق فنزعها وقال:أما من عصا أو سكين أو حجارة أو عظم يحاجز به رجل عن نفسه فوثبوا إليه فشّدوه وثاقا فضربه مولى لعبيد الله يقال له رشيد بالسيف فقتله وهو يقول: إلى الله المعاد اللهم إلى رحمتك ورضوانك ثم بعث ابن زياد برأسيهما إلى يزيد فلما ورد الرأسان على يزيد لعنه الله فرح فرحا شديدا وأمر أن يصلبان على باب دمشق وأعاد الجواب يشكره على فعله ويخبره إن حسينا عليه السلام قد توجه نحو العراق فضع المناظر والمراصد وكان خروج الحسين من مكة يوم خروج مسلم من الكوفة وهو يوم التروية يوم الثامن في ذي الحجة وقد أحل من إحرامه فجعلها عمرة مفردة مخافة أنْ يؤخذ فإن يزيد بن معاوية أنفذ عمر بن سعد وولاه أمر الموسم وبعث معه عسكر عظيم وأمره على الحاج وأمره أنْ يقبض الحسين عليه السلام سراً وإنْ لم يتمكن منه قتله غيلة ودس مع الحاج ثلاثين رجلا من شياطين بني أمية وأمرهم بقتل الحسين عليه السلام فلما علم عليه السلام ذلك أحل من إحرامه فلما عزم الحسين عليه السلام على الخروج إلى العراق قام خطيبا في أصحابه فقال عليه السلام: (الحمد لله ماشاء الله ولا حول ولاقوة الا بالله وصلى الله على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خط الموت على ولد (آدم) مخط القلادة على جيد الفتاة وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف وخير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملان مني أكراشا جوفاء وأجربة سغباء لامحيص عن يوم خط بالقلم رضى الله رضانا أهل البيت نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين لن تشذ عن رسول الله لحمته وهي مجموعة له في حظيرة القدس تقربهم عينه ولينجز لهم وعده إلاّ من كان فينا باذلا مهجته موطنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا فإني راحل مصبحا إنْ شاء الله تعالى)،وجاءهُ أخوه محمد بن الحنفية في الليلة التي أراد الخروج في صبيحتها من مكة فقال: يا أخي إنّ أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك وأخاف أنْ يكون حالك كحال من مضى فإن رأيت أن تقيم في الحرم فإنّك أعز من في الحرم وأمنعه فقال عليه السلام: (قد خفت أن يغتالني يزيد في الحرم فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت) فقال محمد: فسر إلى اليمن أو بعض نواحي البر فانك امنع الناس به ولا يقدر عليك فقال عليه السلام: (أنظر فيما قلت)،فلما كان وقت السحر أرتحل الحسين عليه السلام فبلغ ذلك محمدا فأتاه وأخذ بزمام ناقته وكان قد ركبها فقال: يا أخي ألم تعدني النظر فيما قلت قال عليه السلام: (بلى) قال:فما حداك على الخروج عاجلا قال: (أتاني رسول الله بعد ما فارقتك فقال يا حسين أخرج فان الله شاء أن يراك قتيلا)، فقال محمد: إنا لله وإنا إليه راجعون فما معنى حملك هؤلاء النسوة معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال فقال عليه السلام:(إن الله قد شاء أن يراهن سبايا)، وجاءه عبد الله بن العباس وعبد الله بن الزبير فأشارا عليه بالإمساك فقال:(إنّ رسول الله قد أمرني بأمره وأنا ماضٍ فيه)، فخرج ابن عباس وهو يقول: وا حسيناه .

وعن الفرزدق قال: (حججت بأمي سنة ستين فلما دخلت الحرم لقيت الحسين بن علي خارجا من مكة معه أسيافه وأتراسه فقلت:لمن هذا القطار فقيل للحسين عليه السلام فأتيته وسلمت عليه ودخلت وقلت:أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب بأبي أنت وأمي يابن رسول الله ما أعجلك عن الحج فقال: (لو لم اعجل لأُخِذت) ثم قال عليه السلام لي:(من أنت) قلت: رجل من العرب فوالله مافتشني عن أكثر من ذلك ثم قال عليه السلام: (أخبرني عن الناس خلفك) قلت: الخبير سألت، قلوب الناس معك وسيوفهم عليك والقضاء ينزل من السماء والله يفعل ما يشاء قال عليه السلام: (صدقت لله الأمر من قبل ومن بعد وكل يوم ربنا هو في شأن إن نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر وإنْ حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد من كان الحق نيته والتقوى سيرته فقلت له أجل بلغك الله ما تحب وكفاك ما تحذر وسألته عن أشياء من نذور ومناسك فأخبرني بها وحرك راحلته وقال السلام عليك)، ثم افترقنا وألحقه عبد الله بن جعفر بأبنيه عون ومحمد وكتب على أيديهما: أما بعد فإني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي هذا فإني مشفق عليك من هذا الوجه الذي توجهت له أنْ يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك وإنْ هلكت اليوم طفيء نور الأرض فإنّك علم المهتدين ورجاء المؤمنين ولاتعجل بالسير فأني في أثر الكتاب والسلام وصار إلى عمر بن سعد وسأله أن يكتب إلى الحسين عليه السلام أمانا ويمنيه ليرجع عن وجهه فكتب إليه كتابا يمنيه في الصلة ويؤمنه على نفسه وانفذه مع يحيى بن سعيد وعبد الله بن جعفر فلحقا به ودفعا إليه الكتاب وجهدا به في الرجوع فقال عليه السلام: (إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام وأمرني بأمر أنا ماضٍ فيه) فلما يئس عبد الله بن جعفر أمر ابنيه عونا ومحمد بلزومه والسير معه والجهاد بين يديه ثم سار عليه السلام وإذا برجل من أهل الكوفة يكنى أبا هرة الازدي قد أتاه فسلم عليه ثم قال: ياابن رسول الله ماالذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدك فقال الحسين عليه السلام: (ويحك ياأبا هره إن بني أمية أخذوا مالي فصبرت وشتموا عرضي فصبرت وطلبوا دمي فهربت وأيم الله لتقتلني الفئة الباغية وليلبسنهم الله ذلاً شاملا وسيفا قاطعا وليسلطن عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قوم سبأ)، ولما بلغ عبيد الله إقبال الحسين عليه السلام إلى الكوفة بعث الحصين بن نمير صاحب شرطته حتى نزل القادسية ونظم الخيل ما بين القادسية إلى ضفان والي القطقطانية وقال للناس هذا الحسين يريد العراق ولما بلغ الحسين عليه السلام الحاجز بعث قيس بن مسهر الصيداوي وقيل أخاه من الرضاعة عبد الله بن يقطر إلى أهل الكوفة ولم يكن له علم بخبر مسلم وكتب معه إليهم.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

(من الحسين بن علي عليه السلام إلى إخوانه المؤمنين والمسلمين سلام عليكم فإني أحمد الله الذي لا اله إلا هو أما بعد فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبرني بحسن رأيكم واجتماع ملأكم على نصرنا والطلب بحقنا فسألت الله ان يحسن لنا الصنع وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر وقد شخصت إليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين من ذي الحجة يوم التروية فإذا قدِم عليكم رسولي انكمشوا في امركم وجدوا فإني قادم إليكم في أيامي هذه والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته).

فأقبل قيس بالكتاب فأعترضه الحصين بن نمير فأخرج قيس الكتاب ومزقه وحمله الحصين إلى ابن زياد فلما مثل بين يديه قال له:من أنت قال:أنا رجل من شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام وابنه الحسين عليه السلام قال:فلماذا خرقت الكتاب؟ قال: لئلا تعلم ما فيه قال:وممن الكتاب وإلى من؟ قال: من الحسين بن علي عليه السلام إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم فقال: والله لاتفارقني حتى تخبرني بأسمائهم وتصعد المنبر فتلعن الحسين وأباه وأخاه وإلاّ قطعتك إربا إربا فقال: أما القوم فلا أخبر بأسمائهم وأما اللعن فأفعل فصعد المنبير فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأكثر من الترحم على علي وولده ثم لعن عبيد الله بن زياد وعتاة بني أمية عن آخرهم ثم قال: أيها الناس:أنا رسول الحسين عليه السلام إليكم وقد خلفته في موضع كذا فأجيبوه فرمي من فوق القصر مكتوفا فتكسرت عظامه فأتاه عبد الملك اللخمي فذبحه فعيب عليه فقال: أردت أن أريحه وأقبل الحسين من الحاجز فلقي الأعراب فسألهم فقالوا: لا والله لا ندري بشيء غير إنا لا نستطيع أن نلج ولا نخرج وكان عبيد الله بن زياد أمر فأُخذ مابين واقصة إلى طريق الشام وإلى طريق البصرة فلا يدعون أحدا يخرج ولا يلج ثم نزل الخيمة وأقام بها يوما وليلة فلما أصبح أتته أخته زينبI فقالت: ياأخي سمعت البارحة هاتفا يقول:

ألا ياعين فاحتفلي بجهــــــــد
على قوم تسوقهم المنايـــــــــا

 

 

فمن يبكي على الشهداء بعدي
بمــقــدار إلى انحيــــاز وعـــدى

 

 

   فقال الحسين عليه السلام:(يا أختاه كل الذي قضى فهو كائن)، وسار عليه السلام فلما نزل الثعلبية ممسياً جاءه عبد الله بن سليمان والمنذر بن المشمل الأسديان حين نزل فسلما عليه ثم قالا له: يرحمك الله إن معنا خبرا إنْ شئت حدثناك به سرا وإن شئت علانية فقال عليه السلام:(مادون هؤلاء سر)، فقلنا:رأينا راكبا عشاء أمس مقبلا من الكوفة وهو رجل منا ذو صدق ورأ] وعقل فاستبرئنا خبره فأخبرنا أنه لم يخرج من الكوفة حتى قُتل مسلم وهاني ورآهما يجرّان بأرجلهما في السوق فقال عليه السلام: (إنا لله وإنا إليه راجعون رحمة الله عليهما يردد ذلك مرارا)،فقالا له: ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك ألا انصرفت من مكانك هذا فإنه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة بل نتخوف عليك ان يكونوا عليك فنظر إلى بني عقيل وقال عليه السلام: (ما ترون فقد قتل مسلم)،فقالوا: والله لا نرجع أو نصيب ثأرنا أو نذوق ما ذاق فأقبل علينا وقال عليه السلام: (لاخير في العيش بعد هؤلاء) فقلنا: خار الله لك ثم سار عليه السلام حتى نزل شرافا فلما كان السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء وأكثروا ثم ساروا حتى انتصف النهار فبينما هو يسير إذ كبّر رجل من أصحابه فقال عليه السلام:(الله أكبر لم كبّرت؟)، فقال:رأيت النخل قال جماعة: والله مارأينا في المكان نخلة قط فقال الحسين عليه السلام: فما ترون؟فقالوا: والله نرى أسنة الرماح وأذان الخيل فقال عليه السلام: ( وأنا والله أرى ذلك) ثم قال: (مالنا ملجأ نلجأ إليه نجعله في ظهورنا ونستقبل القوم بوجهٍ واحد)،فقلنا: هذا ذو جشب إلى جنبك فإن سبقت إليه فهو كما تريد فما كان بأسرع من أن طلقت علينا هوادي الخيل فتبيناها وعدلنا ذات اليسار فلما رأونا عدلنا عدلوا إلينا كأن أسنتهم اليعاسيب وكان راياتهم أجنة الطير فاستبقنا إلى ذي جشب فسبقناهم إليه وأمر الحسين عليه السلام بأبنيته فضربت وجاء القوم زهاء ألف فارس مع الحر بن يزيد الرياحي حتى وقف وخيله مقابل الحسين عليه السلام في حر الظهيرة فقال الحسين عليه السلام لأصحابه: (أسقوا القوم وأرووهم من الماء ورشفوا الخيل ترشيفا) ففعلوا فاقبلوا يملئون القصاع والطساس ثم يدنونها من الفرس فإذا عبّ فيه ثلاثا أو أربعا أو خمسا عزل وسقى أخر حتى أتوا عن آخرها قال علي بن الطعان المحاربي: كنت في آخر من جاء من الناس فلما رأى الحسين عليه السلام مابي  من العطش قال عليه السلام: (أنخ الراوية) والراوية عندنا السقاء ثم قال عليه السلام: (أنخ الجمل يابن الأخ) فأنخته فقال عليه السلام: (اشرب) فجعلت كلما أشرب سال الماء فقال عليه السلام: (أنخت السقاء) فلم أفهم فقام عليه السلام وخنته بيده وشربت وسقيت فرسي ثم قال الحر: السلام عليك يابن رسول الله ورحمة الله وبركاته فقال الحسين عليه السلام: (وعليك السلام من أنت يا عبد الله) قال أنا الحر بن يزيد فقال عليه السلام:(ياحر أَلنا أم علينا) فقال الحر: والله يابن رسول الله لقد بعثت لقتالك وأعوذ بالله أن احشر في قبري وناصيتي مشدودة إلى رجلي ويدي مغلولة إلى عنقي وأكبب على حر وجهي في النار يابن رسول الله أين تذهب فإنك مقتول فقال عليه السلام:

سأمضي فما بالموت عار على الفتى
فـإن عـشـت لم أندم وإن متُ لم أُلــم

 

 

إذا ما نــوى حقــا وجاهــد مسـلما
كفى بـــك ذلاً أن تعيــــش مذممــــا

 

 

ولم يزل الحر موافقا للحسين عليه السلام حتى حضرت صلاة الظهر فأمر الحسين الحجاج بن مسروق أن يؤذن فلما حضرت الإمامة خرج  الحسين عليه السلام في إزار ورداء ونعلينْ فحمد الله وأثنى عليه ثم قال عليه السلام: (أيها الناس وإني لم آتكم حتى اتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم أن اقدم علينا فليس لنا إمام لعلّ الله أن يجمعنا نحن وإياكم على الهدى والحق فإن كنتم على ذلك فقد جئتكم فأعطوني ما أطمأن إليه من عهودكم ومواثيقكم وإن كنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي جئت منه فسكتوا ولم يتكلموا)،  فقال عليه السلام للمؤذن: (أقم) فأقام ثم قال عليه السلام للحر: (أتريد أن تصلي بأصحابك)، فقال: لابل تصلي أنت ونصلي بصلاتك فصلى بهم الحسين عليه السلام ثم دخل خيمته واجتمع عليه أصحابه وانصرف الحر إلى مكانه ودخل خيمة قد ضربت له واجتمع إليه خمسمائة من أصحابه وعاد الباقون إلى صفهم وأخذ كل فارس بعنان فرسه وجلس في ظله فلما كان وقت العصر أمر الحسين عليه السلام أصحابه فتهيؤا للمسير ثم نادى مناديه بالعصر فأقام فاستقدم الحسين عليه السلام فصلى بالقوم جميعا فلما سلم انصرف إليهم بوجهه الشريف فحمدالله وأثنى عليه وقال عليه السلام أما بعد: (أيها الناس فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله عنكم ونحن أهل بيت محمد أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدعين ما ليس لهم السائرين فيكم بالجور والطغيان فإن أبيتم إلاّ الكراهة لنا والجهل بحقنا وكان رأيكم الآن غير الذي أتتني كتبكم وقدمت به عليّ رسلكم انصرفت عنكم)، فقال الحر: أنا والله ماأدري ماهذه الكتب التي تذكر فقال الحسين عليه السلام: (يا عقبة بن سمعان اخرج الخرجين الذين فيهما كتب القوم إليّ)، فأخرج خرجين مملؤين صحفاً فنثرت بين يديه فقال له: لسنا من هؤلاء الذين كتبوا إليك وقد أمرنا أنا إذا لقيناك لا نفارقك حتى نقدمك الكوفة على ابن زياد فقال له الحسين عليه السلام: (الموت أدنى إليك من ذلك) ثم قال عليه السلام لأصحابه: (قوموا فاركبوا) فركبوا وانتظروا حتى ركب نساءه، ثم قال عليه السلام لأصحابه: (انصرفوا فمال القوم بينهم وبين الانصراف) فقال الحسين عليه السلام للحر: (ثكلتك أمك ما تريد) فقال الحر: أما لو غيرك يقولها لي من العرب وهو على مثل الحال التي أنت ما تركت ذكر أمه بالثكل كائنا من كان ولكن والله مالي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما نقدر عليه فقال عليه السلام:(فما تريد) قال:أُريد أن أنطلق بك إلى ابن زياد فقال الحسين عليه السلام: (اذاً والله لا أتبعك)،فقال الحر: إذا ًوالله لا أدعك وتوادا القول مرارا ثم قال الحر: إني لم أؤمر بقتالك فإذا أبيت فخذ طريقا لا يردك إلى المدينة ولا يدخلك الكوفة يكون بيني وبينك نصفا حتى أكتب إلى الأمير فلعل الله أن يعافيني من أن أبتلي بشيء من أمرك فتياسر عن طريق العذيب والقادسية وسار الحسين عليه السلام وأصحابه في ناحية والحر وأصحابه في ناحية وخفق عليه السلام وهو على فرسه خفقة ثم انتبه وهو يقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون الحمد لله رب العالمين) يكررها ثلاثا فقال له ابنه علي يا أبه مم حمدت واسترجعت فقال عليه السلام: (يابني عزَّلي فارس على فرس وهو يقول القوم يسيرون والمنايا تسير بهم إلى الجنة فعلمت أن أنفسنا نُعيت إلينا)،فقال: يا أبه لا أراك الله سوءا أولسنا على الحق قال عليه السلام:(بلى والذي إليه مرجع العباد) فقال: أما إذا فلا نبالي أن نموت محقين فقال له الحسين عليه السلام: (جزاك الله من ولد خيرما جزى ولداً عن والده) فلما أصبح نزل وصلى بهم ثم عجل الركوب وأخذ ذات اليسار فيأتيه الحر فيرده رداً شديداً فجعل إزو رارهم نحو الكوفة فامتنعوا عليه حتى انتهى إلى نينوى.

وإذا راكب فوقفوا جميعا ينتظرونه فلما انتهى إليهم وسلم على الحر وأصحابه ودفع له كتابا فإذا فيه أما بعد: فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي هذا ويقدم عليك رسولي وأنزله بالعراء على عين ماء ولا كلاء وقد أمرت رسولي أن لايفارقك حتى يأتيني بانفاذك امري والسلام فأخذهم الحر بالنزول على ماء ولا في قرية فقال له الحسين عليه السلام: (دعنا ويحك ننزل هاهنا أو هذه يعني نينوى والغاضرية) قال:لا والله لا استطيع ذلك قد بعث عليَّ عيناً فقال زهيربن القين يا أبن رسول الله إن قتال هؤلاء أهون علينا من قتال من ما يأتينا من بعدهم فقال الحسين عليه السلام: (ما كنت لأبدأهم بقتال) فقال زهيرٌ: فسر بنا يا ابن رسول الله حتى ننزل كربلاء فنكون هناك على شاطيء الفرات فإذا قاتلونا قاتلناهم واستعنا الله عليهم قال: فدمعت عينا الحسين عليه السلام وقال: (اللهم إني أعوذ بك من الكرب والبلاء) ثم أقبل على أصحابه وقال عليه السلام: (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه مادّرت معائشهم فاذا مُحصوا بالبلاء قلّ الديانون) ثم قال عليه السلام: (أهذه كربلاء) قالوا: نعم يا ابن رسول الله فقال عليه السلام: (هذا موضع كرب وبلاء هاهنا مناخ ركابنا ومحط رحالنا ومقتل رجالنا ومسفك دمائنا)، فنزلوا فيها يوم الخميس الثاني من المحرم ونزل الحر وأصحابه بحذائه وكتب الحسين عليه السلام كتابا إلى أشراف الكوفة ممن كان يظن أنه على رأيه.

بسم الله الرحمن الرحيم

(من الحسين بن علي إلى سليمان بن صرد والمسيّب بن نجية ورفاعة بن شداد وعبد الله بن وال وجماعة المؤمنين أما بعد.

فإنكم تعلمون أني أحق بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله، وقد أتتني كتبكم وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم، أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فان وفيتم لي أصبتم حظكم ورشدكم، ونفسي مع أنفسكم، وولدي وأهلي مع أهليكم وولدكم، ولكم بي أسوة، وإن لم تفعلوا، أو نقضتم عهودكم، فلعمري، ما هي منكم بمنكر، لقد فعلتموها، بأبي، وأخي، وابن عمي، والمغرور من أغتربكم، فحظكم أخطأتم ونصيبكم ضيعتم ومن نكث فإنما ينكث على نفسه وسيفي الله عنكم والسلام).

فقام هلال بن نافع البجلي وقال: سيدي من نكث عهده وخلع بيعته فلن يضر إلاّ نفسه والله مغنٍ عنه فسر بنا راشدا معافاً مشرقا إن شئت أو مغرباً نحو الله ما أشفقنا من قدر الله ولاكرهنا لقاء ربنا وإنا على نياتنا ومصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك.

وكتب الحر إلى ابن زياد يخبره بنزول الحسين بكر بلاء فكتب ابن زياد إلى الحسين عليه السلام أما بعد:

يا حسين فقد بلغني نزولك بكربلاء وقد كتب إليّ أمير المفسدين يزيد لعنه الله أن لا أتق شر الزئير ولا أشبع من الخمر أو ألحقك باللطيف الخبير أو ترجع إلى حكمي وحكم يزيد بن معاوية والسلام.

ثم ندب أصحابه إلى الخروج فأول من أجابه عمراً بن سعد وقد كان والي الري فخرج في أربعة آلاف وأتبعه شمراً بن ذي الجوشن في أربعة آلاف واتبعهما بالحصين بن نمير السكوني والمازني ويزيد بن ركاب الكلبي ونصر باثني عشر ألفاً ثم ندب شبث بن ربعي فتمارض ثم أجابه وخرج ولم يزل يرسل بالعساكر حتى اكتمل عند ابن سعد ثلاثون ألفا ما بين فارس وراجل وكتب إلى ابن سعد أما بعد.

فإني لم أجعل لك علة في كثرة الخيل والرجال فانظر ولا أصبح ولا أمسي إلاّ وخبرك عندي غدوة وعشية وأرسل ابن سعد إلى الحسين يسأله عما أقدمه وما جاء به وما يريد فقال عليه السلام كتب أهل هذه البلاد وأتتني به رسلهم يسألوني القدوم ففعلت فإما إذا كرهتموني فأنا منصرف عنكم وكتب ابن سعد إلى ابن زياد لعنه الله يخبره بذلك فقال ابن زياد:

الآن وقد علقت مخالبنا به
 

 

يرجو النجاة ولات حين مناص
 

 

 وجعل ابن زياد يستحث عمراً بن سعد لستة أيام من المحرم لحرب الحسين وزحف ابن سعد بخيله حتى نزلوا على شاطئ الفرات ومنعوهم من الماء حتى أخذ العطش بهم فأخذ الحسين عليه السلام فأسا وجاء وراء خيمة النساء فخطا تسع عشرة خطوة نحو القبلة ثم حفر هناك فنبعت عين ماء عذبه فشرب الحسين عليه السلام وشرب الناس وملؤا أسقيتهم ثم غارت فلم ير لها أثر فأرسل ابن زياد إلى ابن سعد (أما بعد..فقد بلغني إن الحسين يحفر الآبار ويصيب الماء فانظر وأمنعهم من ذلك ما أستطعت وضيق عليهم غاية التضييق ولا تدعهم يذوقوا الماء كما فعلوا بالزكي عثمان فضيق ابن سعد عليهم غاية التضييق فلما اشتد العطش بهم دعا الحسين عليه السلام أخاه العباس عليه السلام وضم إليه ثلاثين فارسا وعشرين راجلا وبعث معه عشرين قربة وأقبلوا في جوف الليل فقال عمر بن الحجاج وكان في أربعة آلاف فارس من أنتم فقال هلال ابن عم لك جئت أشرب من هذا الماء فقال اشرب هنيئا فقال هلال ويحك أنا اشرب والحسين ومن معه وعياله وأطفاله يموتون عطشاً فقال صدقت ولكن أُمرْنا بأمر لابد أن تنتهي إليه فصاح هلال بأصحابه فدخلوا الفرات وصاح عمرو بالناس فاقتتلوا قتالا شديدا فكان القوم يقاتلون وقوم يملؤون القرب حتى ملؤوها ورجعوا ولم يقتل منهم أحد ولذلك سمي العباس السقاء وشرب الحسين عليه السلام وأصحابه وأنفذ الحسين عليه السلام إلى ابن سعد أني أريد أن ألقاك فاجتمعا ليلا وتناجيا طويلا ثم رجع عمر إلى مكانه وكتب إلى ابن زياد أما بعد.

فان الله قد أطفأ النائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الأمة هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى أو أن يسير إلى ثغر من الثغور فيكون رجلا من المسلمين له مالهم وعليه ما عليهم أو أن يأتي يزيد فيضع يده في يده فيرى فيه رأيه وفي هذا لك رضاً وللأمة صلاح فلما قرأ ابن زياد الكتاب قال هذا كتاب ناصح مشفق على قومه فقام إليه شمر بن ذي الجوشن لعنه الله فقال: أتقبل هذا منه وقد نزل بأرضك وأتى جنبك والله لئن رحل من بلادك ليكونن أولى بالقوة ولتكونن أولى بالعجز والضعف فلا تعطه هذه المنزلة ولكن يُعرض عليه النزول على حكمك فإن عاقبت فأنت أولى بالعقوبة وإن عفوت كان ذلك لك فقال نِعْمَ ما رأيت وكتب إلى ابن سعد أني لم أبعثك إلى الحسين لتكف عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السلامة والبقاء ولا لتعتذر ولا لتكون له عندي شفيعا انظر فإن نزل الحسين وأصحابه على حكمي واستسلموا فابعث بهم إليّ مسلما وإن أبوا فازحف إليهم حتى تقتلهم وتمثل بهم فانهم لذلك مستحقون وإن قتلت حسينا فأوطيء الخيل صدره وظهره فانه عاتٍ ظلوم فان أنت مضيت لأمرنا جزيناك جزاء السامع المطيع وإن أبيت فاعتزل عملنا وجندنا وخل بين شمر والعسكر فإنّا قد أمرناه بأمرنا والسلام فأقبل شمر بالكتاب فلما قرأه قال له مالك لاقرب الله دارك وقبح ما قدمت به والله أني لأظنك نهيته عما كتبت به إليه وأفسدت علينا أمرا رجونا أن يصلح لا يستسلم والله حسين إنّ نفس أبّيه بين جنبيه فقال شمر أخبرني ما أنت صانع أتمضي لأمر أميرك وتقاتل عدّوه وإلا فخلّ بيني وبين الخيل والعسكر فقال لا ولاكرامة أنا أتولى ذلك فدونك فكن أنت على الرجالة ونهض عمر بن سعد إلى حرب الحسين عشية الخميس لتسع مضين من المحرم ونادى يا خيل الله اركبي وابشري بالجنة فركب الناس وزحفوا نحوهم بعد العصر بساعة والحسين عليه السلام أمام بيته محتب بسيفه إذ خفق برأسه خفقه فسمعت أخته زينب الصيحة فدنت من أخيها وقالت يا أخي أما تسمع الأصوات قد اقترب العدو منا فرفع الحسين رأسه وقال عليه السلام: (أني رأيت رسول الله الساعة وهو يقول يا حسين إنك رائح إلينا عن قريب) فلطمت زينب وجهها ونادت بالويل والثبور فقال لها الحسين عليه السلام: (ليس لك الويل يا أختاه اسكتي يرحمك الله لا يشمت القوم بنا) ثم قال لأخيه العباس: (يا أخي اركب أنت حتى تلقاهم وتقول لهم ما لكم وما بدى لكم فأتاهم العباس في عشرين من أصحابه) فقال لهم ذلك قالوا: قد جاءنا أمر الأمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه أو نناجزكم الحرب فقال لا تعجلوا ثم رجع إلى أخيه الحسين فأخبره فقال عليه السلام: (يا أخي ارجع إليهم إن استطعت أن تؤخرهم هذه العشية إلى غداة غد لعلنا نصلي لربنا الليلة وندعوه ونستغفره فهو يعلم إني احب الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار) فمضى العباس إلى القوم وسألهم ذلك فتوقف ابن سعد فقال له عمر بن الحجاج يا سبحان الله لو أنهم من الترك أو الديلم وسألونا مثل ذلك لأجبناهم فكيف وهم آل محمد فاستحيا عمر بن سعد ونادى مناديه قد أحلنا حسينا وأصحابه إلى غداة غد ورجع العباس إلى أخيه وأخبره ثم إن الحسين جمع أصحابه قرب المساء، قال زين العابدين وكنت آنذاك مريضاً فدنوت منه لا سمع فسمعت أبي يقول: (أثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السراء والضراء اللهم إني أحمدك على أنْ أكرمتنا بالنبوة وعلمتنا القرآن وفهمتنا في الدين وجعلت لنا أبصاراً وأسماعاً وأفئدة فاجعلنا من الشاكرين أما بعد.

فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيراً من أصحابي ولا أهل بيت أبر وأوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني خيرا ألا وأني لا أظن إن لنا يوما من هؤلاء إلاّ وقد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم حرج حتى ولا ذمام وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا وتفرقوا في سواده فإن القوم يطلبونني ولو ظفروا بي لذهلوا عن غيري) فقال له أخوته وأبناؤه وأبناء أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر لم نفعل ذلك لنبقى بعدك لا أرانا الله ذلك أبدا، فقال الحسين عليه السلام:(يابني عقيل حسبكم من القتلى بمسلم فاذهبوا أنتم فقد أذنت لكم)، فقالوا سبحان الله ما يقول الناس وما نقول إنا تركنا شيخنا وسيدنا وبني عمومتنا خير العمومة ولم نرم معهم بسهم ولم نطفي برمح ولم نضرب بسيف ولا ندري ما صنعوا لا والله لا نفعل ذلك ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلنا ونقاتل معك حتى نرد موردك فقبح الله العيش بعدك يا أبا عبد الله وقام مسلم بن عوسجة وقال أنحن نخلي عنك وبماذا نعتذر إلى الله في إداء حقك لا والله حتى أطعن في صدورهم برمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ولو لم يكن لي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة! والله لا نخليك حتى يعلم الله قد حفظنا غيبة رسول الله فيك! أما والله لو علمت أني أقتل ثم أحي ثم أحرق ثم أذري ويفعل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك! فكيف لا أفعل ذلك وإنما هي قتلة واحدة ثم الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا، وقام زهير بن القين فقال والله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أُقتل هكذا ألف مرة وإن الله يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن هؤلاء الفتية الصفوة من أهل بيتك، وقيل لمحمد بن بشر قد أُسِر ابنك في ثغر الري فقال عند الله احتسبه ونفسي ما أحب أن يؤسر وأبقى بعده فرقّ له الحسين فقال عليه السلام: (رحمك الله أنت في حل من بيعتي فاعمل في فكاك ابنك) فقال: أكلتني السباع حيا إن فارقتك فعند ذلك أخبرهم بإنكم جميعا في غد تقتلون ولا يفلت منكم أحد ثم أراهم منازلهم في الجنة فكانوا يتسابقون إليها وبات الحسين عليه السلام وأصحابه ولهم دوي كدوي النحل ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد قالت فاطمة بنت الحسين عليه السلام وأما عمتي زينب فإنّها قائمة في محرابها تستغيث إلى ربها فوالله ما هدأت لنا عين ولا سكنت لنا عبرة، قال علي بن الحسين عليه السلام إني جالس في الليلة التي قتل أبي في صبيحتها وعندي عمتي زينب تمرضني إذ اعتزل ابي في خباء له وعنده جون مولى أبي ذر الغفاري وهو يعالج سيفه ويصلحه وابي يقول:

 

يا دهــر أف لك من خليـل
من صــاحب وطالب قتيــل
وكــل حــي سالـك سبيلــي
 

 

كم لك بالإشراق والأصيـــــــل
والـدهـــر لا يقنــــع بالبـديــــل
وإنمــا الأمــــــر إلى الجـــليـــل
 

 

  فأعادها مرتين أو ثلاثا حتى فهمتها وعلمت ما أراد فخنقتني العبرة فرددتها ولزمت السكوت وعلمت أنّ البلاء قد نزل وأما عمتي زينب فلما سَمعت ما سمعت وهي امرأة ومن شأن النساء الرقة والجزع فلم تملك نفسها  فوثبت تجر ثوبها وهي حاسرة لعظم المصاب ذهلت وقالت: واثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة اليوم ماتت أمي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن يا خليفة الماضي وثمال الباقي فنظر إليها الحسين عليه السلام وقال: (يا أختاه لا يذهبن بحلمك الشيطان) وترقرقت عيناه بالدموع قالت: يا أخي ردنا إلى حرم جدنا قال (لو ترك القطا لنام) فقالت: يا ويلتاه أتغتصب نفسك اغتصابا فذلك أقرح لقلبي وأشد على نفسي ثم لطمت وجهها وأهوت إلى جيبها فشقته وخرت مغشيا عليها فقام إليها الحسين عليه السلام فصب على وجهها الماء وقال لها عليه السلام: (يا أختاه اتقي الله وتعزي بعزاء الله وأعلمي إن أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون وإن كل شيء هالك إلاّ وجهه تعالى الذي خلق الخلق بقدرته ويبعث الخلق ويعودون وهو فرد وحده وكان أبي خيرا مني وأمي خيرا مني وأخي خيرا مني ولي ولكل مسلم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسوة حسنة فعزاها بهذا ونحوه ثم قال: يا أختاه إني أقسمت عليك فأبري قسمي إذا أنا قتلت فلا تشقّي عليّ جيبا ولا تخمشي عليّ وجها ولاتدعي بالويل والثبور) ثم جاء بها حتى أجلسها عندي فقالت زينب: يا أخي هذا كلام من أيقن بالقتل فقال عليه السلام: (نعم يا أختاه) فقالت زينب: واثكلاه هذا الحسين ينعى نفسه إليّ وبكت النسوة ولطمن الخدود وشققن الجيوب وجعلت أم كلثوم تنادي وا محمداه واعلياه وا إماماه وا أخاه وا حسيناه وا ضيعتنا بعدك ابا عبد الله ثم أمر عليه السلام أن تقرن البيوت بعضها ببعض وأن يدخلوا الأطناب بعضها في بعض ليقاتلوا القوم من وجه واحد وأمر أن تحفر حفيرة وراء البيوت شبه الخندق وحشيت حطبا وقصبا ولما كان وقت السحر خفق الحسين عليه السلام برأسه ثم استيقظ فقال: (رأيت كلاباً قد شدت عليّ لتنهشني وفيها كلب أبقع اشدها عليّ وأظن إن الذي يتولى قتلي رجل أبرص أشده عليّ ثم رأيت جدي رسول الله ومعه جماعة وهو يقول يا بني أنت شهيد آل محمد وقد استبشر بك أهل السماوات فليكن إفطارك عندي الليلة عجل ولا تتأخر فهذا ملك قد نزل من السماء ليأخذ دمك في قارورة خضراء)، فهذا ما رأيت وقد أزف الأمر واقترب الرحيل من هذه الدنيا ولاشك في ذلك.

قال علي بن الحسين عليه السلام: لما أصبحت الخيل على أبي عليه السلام رفع يديه وقال: (اللهم أنت ثقتي في كل كرب ورجائي في كل شدة وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة، كم من كرب يضعف عنه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدو وأنزلته بك وشكوته إليك رغبة مني إليك عمن سواك ففرجته وكشفته بك فأنت ولي كل نعمة وصاحب كل حسنة ومتنهى كل رغبة)، وأقبل القوم يجولون حول بيت الحسين عليه السلام فيرون الخندق في ظهورهم والنار تضطرم في الحطب فنادى شمر يا حسين أتعجل بالنار قبل يوم القيامة فقال الحسين عليه السلام: (من هذا كأنه الشمر) قالوا: نعم،قال له يا أبن راعية المعزى أنت أولى بها صليا، ورام مسلم أن يرميه بسهم فمنعه الحسين عليه السلام وقال: (إني أكره أن أبدأهم بقتال) وعبأ عمر بن سعد أصحابه فجعل على ميمنته عمر بن الحجاج وعلى ميسرته شمر بن ذي الجوشن وعلى الخيل عروة بن قيس وعلى الرجاله شبث بن ربعي وأعطى الراية دريداً مولاه فعن الصادق عليه السلام أنهم كانوا ثلاثين ألفا وعبأ الحسين عليه السلام أصحابه وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا وأعطى رايته أخاه العباس وجعلوا البيوت في ظهورهم فعند ذلك دعا الحسين عليه السلام براحلته فركبها ونادى بأعلى صوته: (يا أهل العراق وجلهم يسمعون أيها الناس اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما يحق لكم عليّ وحتى اُعذر فيكم فإن أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم فاجمعوا أمركم ورائكم ثم لايكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون إن ولي ربي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين) .

ثم حمد الله وأثنى عليه وذكره بما هو أهله وصلى على النبي وعلى الملائكة والأنبياء فلم يسمع متكلم قط قبله ولابعده أبلغ منه ثم قال أما بعد.

(فانسبوني من أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يصلح لكم قتلي وانتهاك حرمتي الست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه وأول مؤمن مصدق لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما جاء من عند ربه أوليس حمزة سيد الشهداء عم أبي أوليس جعفر الطيار عمي أولم يبلغكم ما قال رسول الله لي ولأخي هذان سيدا شباب أهل الجنة فان صدقتموني فيما أقول وهو الحق والله ما تعمدت الكذب مذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله وإن كذبتموني فإن فيكم من لو سألتموه عن ذلك أخبركم سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري وأبا سعيد الخدري وسهل بن سعد الساعدي وزيد بن الأرقم وأنس بن مالك سمعوا هذه المقالة من رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم  لي ولأخي أما في هذا حاجز لكم في سفك دمي) فقال شمر هو يعبد الله على حرف إنه كان يدري ما تقول فقال حبيب إني أراك تعبد الله على سبعين حرفا وأنا اشهد أنك صادق فيما تقول قد طبع الله على قلبك ثم قال الحسين (فإن كنتم في شك من هذا أفتشكون أني ابن بنت نبيكم فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم ويحكم أتطلبوني بقتل منكم قتلته أو مال لكم استهلكته أو بقصاص جراحة) فأخذوا لا يكلمونه فنادى عليه السلام:(يا شبث بن ربعي ويا حجار بن أبجر ويا قيس بن الاشعث ويا يزيد بن الحرث ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثمار واخضر الجناب وإنما تقدم على جند لك مجندة) فقال له قيس بن الأشعث:ما ندري ما تقول ولكن إنزل على حكم بني عمك فإنهم لن يروك إلاّ ما تحب فقال عليه السلام:(لاوالله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرلكم إقرار العبيد) ثم نادى عليه السلام (يا عباد الله إني عذت بربي وربكم أن ترجمون أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب)، ثم أناخ راحلته وأمر عطية بن سمعان أن يعقلها وأقبل القوم يزحفون نحوه فلما رأى الحر بن يزيد أن القوم صمموا على حرب الحسين عليه السلام قال لابن سعد أي عمر أمقاتل أنت هذا الرجل قال: أي والله  أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيادي قال: أفما لكم فيما عرضه عليكم رضىً قال عمر أما لو كان الأمر لي لفعلت ولكن أميرك قد أبى ذلك، فأقبل الحر حتى وقف من الناس موقفا ومعه رجل من قومه يقال له قره فقال: ياقرة هل سقيت فرسك اليوم قال:لا، قال: فما تريد أن تسقيه قال قره: فظننت والله أنه يريد يتنحى ولا يشهد القتال فكره أن أراه حين يصنع ذلك قلت: أنا منطلق أسقيه فوالله لو أطلعني على الذي يريد لخرجت معه ثم اعتزل المكان الذي كان فيه فاخذ يدنو من الحسين عليه السلام قليلا قليلا فقال له المهاجر: ما تريد أتريد أن تحمل فلم يجبه وأخذه مثل الأفكل فقال له المهاجر: إن أمرك لمريب والله ما رأيت منك في موقف مثل هذا ولو قيل من أشجع أهل الكوفة لما عدوتك فما هذا الذي أرى منك فقال له: إني أخيّر نفسي والله بين الجنة والنار فوالله لا أختار على الجنة شيئا ولو قطعت واُحرقت ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين عليه السلام وجاز عسكر ابن سعد واضعا يده على رأسه، وهو يقول:اللهم إليك أنيب فتِب علي فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيك ثم قال للحسين عليه السلام جعلت فداك أنا صاحبك سايرتك في الطريق وجعجعت بك في هذا المكان وما ظننت أن القوم يردون ما عرضته عليهم ولا يبلغون منك هذه المنزلة والله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت وأنا تائب إلى الله تعالى مما صنعت فهل ترى لي من توبة فقال الحسين عليه السلام: (نعم يتوب الله عليك) فانزل فقال:أنا لك فارسا خير مني راجلا أقاتلهم على فرسي ساعة وإلى النزول ما يصير إليه آخر أمري فقال له الحسين عليه السلام (فاصنع ما بدا لك يرحمك الله) فاستقدم أمام الحسين عليه السلام ونادى:يا أهل الكوفة لامكم الهبل دعوتم هذا العبد الصالح حتى إذا أتاكم سلمتموه وزعمتم أنكم قاتلي أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه أمسكتم بكلكله، وأحطتم به من كل جانب لتمنعوه التوجه إلى بلاد الله العريضة فصار كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعا ولا يدفع عنها ضرا وحلئتموه ونسائه وأهله عن الماء المباح تشربه اليهود والنصارى والمجوس وتلغ فيه خنازير السواد وكلابها وهاهم قد صرعهم العطش بئسما خلفتم محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في ذريته لا أقالكم الله يوم الضماء فحمل عليه رجال يرمونه بالنبل فأقبل حتى وقف أمام الحسين ونادى عمر بن سعد يا دريد ادن رايتك فادناها ثم وضع سهما في كبد قوسه ورمى به نحو عسكر الحسين عليه السلام وقال: اشهدوا لي أني أول من رمى فرمى أصحابه كلهم فلم يبق من أصحاب الحسين عليه السلام الا أصاب سهم من سهام القوم فعند ذلك قال الحسين عليه السلام لأصحابه: (قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لابد منه فان هذه السهام رسل القوم إليكم)، فتقدم الحر وقال للحسين عليه السلام كنت أول خارج عليك فأذن لي لأكون أول قتيل بين يديك وأول من يصافح جدك غدا فأذن له عليه السلام فتقدم إلى البراز وقاتل قتالا شديدا حتى قتل أربعين فارسا وراجلا ولم يزل يقاتل حتى عرقب فرسه فطعنه رجل من القوم فخر صريعا، ومشا إليه الحسين عليه السلام وبه رمق فجعل الحسين عليه السلام يمسح الدم عن وجهه ويقول: (أنت الحر كما سمتك أمك، وأنت الحر في الدنيا وسعيد والآخرة)، وحمل عمر بن سعد على ميمنة أصحاب الحسين عليه السلام فيمن كان معه فجثوا له على الركب واترعوا الرماح نحوهم فلم تقدم خيلهم على الرماح فذهبت الخيل لترجع فرشقهم أصحاب الحسين عليه السلام بالنبل فصرعوا منهم رجالا وجرحوا أخرين وبرز برير بن خضر وكان من عباد الله الصالحين وهو يقول اقتربوا مني يا قتلة المؤمنين اقتربوا مني يا قتلة أولاد البدريين اقتربوا مني يا قتلة أولاد رسول رب العالمين وذريته الباقين فلم يزل يقاتل حتى قتل ثلاثين رجل فبرز إليه يزيد بن معقل فقال لبرير: أشهد إنك من المضلين فقال برير: هلم فلندع الله إن يلعن الكاذب منا وأن يقتل المحق المبطل فتصاولا فضرب يزيد بريراً ضربة خفيفة لم تحمل شيئا وضربه برير ضربة قدت المغفرو وصلت غلى دماغه فسقط قتيلا وحمل بجير فقتل بريرا ثم برز وهب بن حباب الكلبي وكانت أمه معه فقالت: قم يابني فانصر ابن بنت رسول الله فقال: أفعل ولا أقصر فبرز ولم يزل يقاتل حتى قتل جماعة ثم رجع إلى أمه وامرأته وقال يا أماه أرضيت عني قالت: لا أو تقتل بين يدي أبي عبد الله عليه السلام فقالت امرأته بالله لا تفجعني فقالت أمه يابني لا تقبل قولها فقاتل فيكون شفيعا إليك جده يوم القيامة، فرجع ولم يزل يقاتل، حتى قتل اثني عشر راجلا، وتسعة عشر فارسا، ثم قطعت يداه فاخذت أمرأته عمودا وأقبلت نحوه وهي تقول: فداك أبي وأمي قاتل دون الطيبين حرم رسول الله فأقبل كي يردها إلى الفسطاط فأخذت بجانب ثوبة وقالت: لن أعود أو أموت معك فقال الحسين عليه السلام: (جزيتم من أهل بيت خيرا أرجعي إلى النساء رحمك الله)،وجعل وهب يقاتل، حتى قتل، فذهبت أمرأته لتمسح الدم عن وجهه، فضربها ملعون بعمود من حديد، وقتلها، وهي أول امرأة قتلت في عسكر الحسين وأحتز رأسه ورمي به نحو عسكر الحسين، فأخذت أمه الرأس ومحت الدم عنه وقبلته، ورمت به نحو عسكر ابن سعد، فأصابت به رجلا فقتلته، ثم شدت بعمود فسطاط فقتلت رجلين فقال لها الحسين: (ارجعي يا أم وهب أنت وأبنك مع جدي) فرجعت وهي تقول اللهم لا تقطع رجائي فقال لها الحسين (لا يقطع الله رجائك يا أم وهب).

قال علي بن الحسين (لما اشتد الامر بأبي نظر إليه من كان معه فإذا هو بخلافهم فيهم لأنهم كلما اشتد الأمر تغيرت ألوانهم ووجلت قلوبهم وكان أبي وبعض من معه تشرف ألوانهم وتسكن نفوسهم فقال بعضهم انظروا لا يبالي بالموت فقال أبي:صبرا بني الكرام فما الموت إلاّ تعبر بكم عن البؤس والضراء إلى الجنات الواسعة والنعيم الدائم فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر إن أبي حدثني عن جدي إن الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم، وجسر هؤلاء إلى جحيمهم)، وصاح عمروا بن الحجاج بالناس، يا حمقاء أتدرون لمن تقاتلون تقاتلون فرسان أهل المصر والبصائر! وقوم مستميتين لا يبرز منكم لهم أحد إلا قتلوه على قلتهم! والله لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم ونادى يا أهل الكوفة الزموا طاعتكم ولا ترتابوا بقتل من مرق عن الدين وخالف الإمام فقال الحسين عليه السلام: (يا ابن الحجاج أعليّ تحرض الناس أنحن مرقنا عن الدين وأنتم تبتم عليه والله لتعلمنّ أينا المارق عن الدين ومن هم أولى بصلي النار).

وقاتلوهم حتى انتصف النهار واشتد القتال من وجه واحد لتقارب الأبنية بعضها من بعض فأرسل ابن سعد الرجال ليقوضوها فلم يقدروا فنادى شمر عليَّ بالنار وقال ابن سعد إحرقوها فقال الحسين عليه السلام: (دعوهم ليحرقوها فإنهم إن فعلوا ذلك لم يجوزوا إليكم)، فقال شبث: ويلك يا أبن سعد أفزعنا النساء ثكلتك أمك فاستحيا وأخذوا لايقاتلونهم إلاّ من وجه واحد فلما رأى ذلك أبو ثمامة الصيداوي رحمه الله قال يا أبا عبد الله نفسي لنفسك الفداء هؤلاء اقتربوا منك ولا والله لاتقتل حتى اُقتل دونك وأحب أن ألقى الله ربي وقد صليّت هذه الصلاة فرفع الحسين عليه السلام رأسه وقال: (ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين نعم هذا أول وقتها سلوهم ان يكفوا عنا حتى نصلي لربنا)،فقال الحصين: إنها لا تقبل منك فقال حبيب: زعمت لا تقبل الصلاة من ابن رسول الله وتقبل منك يا ختار ثم قال الحسين عليه السلام: لزهير بن القين وسعيد بن عبد الله أن تقدّما أمامي كي أصلي الظهر فتقدما أمامه في نحو من نصف أصحابه فصلى صلاة الخوف واستهدف لهم سعيد بن عبد الله الحنفي يرمونه بالسهام وكلما أخذ النبل الحسين يمينا وشمالا قام بين يديه حتى سقط إلى الأرض وهو يقول: اللهم أبلغ نبيك عني السلام وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح فإني أردت نصرة ذريته ثم مات وجاء عبد الله وعبد الرحمن الفقاريان فقالا: السلام عليك يا ابا عبد الله إنا جئنا لنقتل بين يديك وندفع عنك فقال عليه السلام:(مرحبا بكما ادنوا مني) فدنوا منه وهما يبكيان قال عليه السلام: (ما يبكيكما يابني أخي فوالله إني لأرجو أن تكونا بعد ساعة قريري العين)، فقالا: جعلنا فداك والله ما على أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك أبا عبد الله نراك قد أحيط بك ولا نقدر على الدفع عنك فقال عليه السلام:(جزاكما الله يابني أخي بوجدكما من ذلك ومواساتكما إياي أحسن جزاء السابقين)،ثم قالا: السلام عليك ياابن رسول الله فقال عليه السلام: (وعليكما السلام ورحمة الله وبركاته) فقاتلا حتى قتلا ثم برز عمر بن خالد الصيداوي وقال: يا أبا عبد الله قد هممت أن الحق بأصحابي وكرهت أن أتخلف فأراك وحيدا فريدا من أهلك قتيلا فقال عليه السلام: (تقدم فإنا لاحقون بك عن ساعة) فقاتل حتى قتل ثم برز زهير بن القين وقاتل قتالا شديدا حتى قتل مئة وعشرين رجلا فشد عليه الشعبي وأعانه المهاجر فقتلاه فقال عليه السلام: (زهير لايبعدك الله يازهير ولعن قاتلك)،ثم نادى عمر بن سعد بالناس احملوا من كل جانب فوالله لو قاتلوكم مبارزة لقتلوكم عن آخركم فحملت الخيل والرجالة حملة واحدة فانجلت الغبرة وإذا بمسلم بن عوسجة صريعا فمشى إليه وبه رمق ومعه حبيب أبشر يامسلم فقال بشرك الله بخير يا أخي فقال حبيب: لولم أعلم أني في الأثر لأحببت أن ترمي إليّ بما أهمك فقال: أوصيك بهذا خيرا قاتل دونه يا حبيب فقال:لا نعمنك عينا ثم فاضت نفسه وبالغ حبيب في القتال فقاتل قتالا شديدا حتى قتل اثنين وستين رجلا فحمل عليه رجل من تميم فطعنه فذهب ليقوم فضربه الحصين على رأسه بالسيف وأخذ رأسه التميمي وعلقه في عنق فرسه فهذا مقتله عليه السلام ولم يزل يلـيه الرجل فيقول السلام عليك يا أبا عبد الله وهو يقول عليه السلامLونحن خلفك) حتى لم يبق معه إلاّ أهل بيته فجعل يودع بعضهم بعضا فأول من برز علي بن الحسين الأكبر وهو يومئذ ابن ثمانية وعشرين سنة فلما رآه عليه السلام قد برز أرخى عينه بالبكاء ورفع سبابته إلى السماء وقال عليه السلام: (اللهم اشهد على هؤلاء القوم فقد برز إليهم غلام أشبه الناس خلقا ومنطقا برسولك3 وكنا إذا اشتقنا إلى نبيك نظرنا إلى وجهه اللهم امنعهم بركات الأرض وفرقهم تفريقا ومزقهم تمزيقا واجعهلم طرائق قددا ولا ترضِ الولاة عنهم أبدا فانهم دعونا لينصرونا ثم عدوا علينا يقاتلوننا)،ثم صاح عليه السلام بعمر بن سعد مالك (قطع الله رحمك كما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله) ثم تلى عليه السلام:  ]إنَّ اللهَ اصطَفَى ءَادَمَ وَنُوحاً وَءَالَ إبرَاهيمَ وءَالَ عِمرَانَ عَلَى العَالَمِينَ* ذُرّيَّةَ بَعضُهَا مِن بَعضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[ ثم حمل علي بن الحسين عليه السلام وهو يقول: (أنا علي بن الحسين) فلم يزل يقاتل حتى جنح الناس من كثرة من قتل فروي أنه قتل على عطشه مئة وعشرين رجلا ثم رجع إلى أبيه وقد أصابته جراحات كثيرة وهو يقول: ياأبه العطش قد قتلني وثقل الحديد أجهدني فهل من شربة ماء أتقوى بها على الأعداء فبكى الحسين عليه السلام وقال: (يابني يعز على محمد وعليَّ وعلى أبيك أن تدعوهم فلا يجيبوك وتستغيث بهم فلا يغيثوك يابني هات لسانك) فاخذ بلسانه فمصه ودفع إليه خاتمه الشريف وقال عليه السلام:(امسكه في فيك وأرجع إلى قتال عدوك فإني أرجو أنك لاتمسي حتى يسقيك جدك بكأسه الأوفى شربة لا تظمأ بعدها أبدا) فرجع ولم يزل يقاتل حتى قتل تمام المائتين ثم ضربه منقذ بن مره العبدي على مفترق رأسه ضربة صرعته وضربه الناس بأسيافهم فاعتنق فرسه فحمله الفرس إلى عسكر الأعداء فقطعوه إربا إربا فلما بلغت روحه التراقي قال: رافعا صوته (ياأبتاه هذا جدي رسول الله قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لاأظمأ بعدها أبدا وهو يقول العجل العجل فان لك كأسا مذخورة حتى تشربها الساعة) فصاح الحسين عليه السلام وقال: (قتل الله قوما قتلوك ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول على الدنيا بعدك العفا)،قال حميد بن مسلم لعنه الله: فكأني أنظر إلى امرأة خرجت مسرعة تنادي بالويل والثبور وتقول ياحبيباه يا ثمرة فؤاداه يانور عيناه فسألت عنها فقيل هي عمته زينب فجاءت وانكبت عليه فجاء الحسين فاخذ بيدها وردها إلى الفسطاط وأقبل بفتيانه وقال عليه السلام: (احملوا أخاكم) فحملوه حتى وضعوه عند الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه وبرز عبد الله بن مسلم فقاتل حتى قتل ثمانية وتسعين رجلا في حملات ثلاث ثم رماه عمرو بن صبيح الصيداوي بسهم فوضع الغلام يده على جبهته يتقي السهم فأصاب كفه فسمرها إلى جبهته فلم يستطيع تحريكها ثم انحنى عليه آخر فطعنه في قلبه فقتله ثم برز من بعده محمد بن مسلم فقتل جماعة ثم قتل ثم خرج جعفر بن عقيل فقتل خمسة عشر فارسا ثم قُتل ثم خرج عبد الرحمن بن عقيل فقتل سبعة عشر فارسا ثم قتل ثم خرج عبد الله بن عقيل فقتل جماعة ثم قتل ثم خرج محمد بن عبد الله بن جعفر فقاتل حتى قَتل عشرة رجال ثم قتل وخرج أخوه عون فقاتل حتى قتل ثمانية عشرة راجلا وثلاثون فوارس ثم قتل ثم خرج القاسم بن الحسن عليه السلام وهو غلام صغير لم يبلغ الحلم فلما نظر إليه الحسين عليه السلام قد برز اعتنقـه وجعلا يبكيـان حتى غشي عليهما فلمـا أفاقا فاستأذن عمه في المبارزة فأبى الحسين عليه السلام أن يأذن له فلم يزل الغلام يقبل يديه ورجليه حتى أذن له فخرج ودموعه تسيل على خديه وهو يقول:

إن تنكروني فأنا نجل الحسن
 
 
سبط النبي المصطفى و المؤتمن
 
 

وكان وجهه كفلقة قمر فقاتل قتالا شديدا حتى قتل على صغره خمسة وثلاثين رجلا فحمل عليه عمر بن سعد الازدي فلما ولى راجعا ضربه بالسيف على رأسه فوقع الغلام لوجهه ونادى يا عماه يا عماه فجاء الحسين عليه السلام كالصقر المنقض وشد شدة الليث فضرب عمر بالسيف فاتقاها بيده فقطعها من المرفق فصاح ثم تنحى عنه وحملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوا عمر من الحسين عليه السلام فاستقبلته الخيل بصدورها وجرحته بحوافرها حتى مات لعنه الله فانجلت الغبرة وإذا بالحسين عليه السلام قائم على رأس الغلام وهو يفحص برجليه والحسين عليه السلام يقول: (يعز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك أو يجيبك فلا يغني عنك شيئا، بُعدا لقوم قتلوك).

ثم احتمله ورجلا الغلام تخطان الأرض وقد وضع الحسين صدره على صدره فجاء به وألقاه بين القتلى من أهل بيته ثم قال عليه السلام: (صبرا يا بَني عمومتي صبرا يا أهل بيتي لا رأيتم هوانا بعد هذا اليوم أبدا)  ثم خرج أبو بكر بن الحسن عليه السلام فقاتل حتى قتل ثم خرج عبد الله بن الحسن عليه السلام فقتل أربعة عشر رجلا ثم قتل ثم خرج أبو بكر بن علي عليه السلام فقاتل قتالا شديدا حتى قتل ثم خرج أخوه عمر بن علي عليه السلام وجعل يضرب القوم ضربا بسيفه حتى قتل ثم برز من بعده أخوه عثمان بن علي عليه السلام فرماه خولي بسهم فخر صريعا واحتز رأسه رجل من بني إبان ثم برز جعفر بن علي وله من العمر تسعة عشر سنة فقاتل قتالا شديدا فرماه خولي بسهم فأصاب شفيقته فقتله فلما رآى العباس عليه السلام مصرع إخوته ووحدة أخيه خرج يطلب الرخصة من أخيه وكان يكنى بأبي الفضل وأمه أم البنين وهو أكبر ولدها وكان يقال له السقاء وقمر بني هاشم وكان رجلا وسيما جميلا يركب الفرس المطهم ورجلاه يخطان الأرض وكان لواء الحسين عليه السلام معه فقال: ياأخي هل من رخصة فبكى الحسين عليه السلام وقال:(يا أخي أنت صاحب لوائي) فقال العباس عليه السلام: يا أخي قدضاق صدري وسئمت الحياة وأريد أن أطلب ثأري من هؤلاء المنافقين فقال الحسين عليه السلام:(فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلا من الماء) فذهب العباس إلى القوم ووعظهم فلم ينفع ورجع إلى أخيه فأخبره وسمع الأطفال ينادون العطش، العطش فركب فرسه وأخذ رمحه والقربة وقصد نحو الفرات فأحاط به أربعة آلاف فارس ممن كان موكلا بالفرات ورموه بالنبال فقتل منهم ثمانين رجلا حتى دخل الماء فلما أراد أن يشرب من الماء غرفة ذكر عطش أخيه وأهل بيته فرمى الماء من يده وملأ القربة وحملها على كتفه الأيمن وتوجه إلى الخيمة فقطعوا عليه الطريق وأحاطوا به من كل جانب فحاربهم محاربة الأبطال وهو يقول:

لا أرهـب المـوت إذا المـوت رقا
نفسي لسبط المصطفى الطهر وقا

 

 

حتى اُواري في المصاليب لقا
إني أنا العباس أغدو بالسقــــا

 

ولا أخــــــاف الشــر يــوم الملتــقى
 

فكمن له زيد بن ورقاء من وراء نخلة وأعانه حكيم بن الطفيل السنبسي فضربه على يمينه فبراها فاخذ السيف بشماله وهو يقول:

والله إن قـطـعتموا يميـني
وعن إمام صادق يقينـــــي
 

 

إني أحامي أبدا عن ديني
نجـــل النبي الطاهر الأمين
 

 

فقاتل قتالا شديدا حتى ضعف عن القتال فكمن له الحكم بن الطفيل الطائي من وراء نخلة وضربه على شماله فقال:

 
يانفس لاتخش من الكفـــار
 
 
وابـشـري بـرحمـة الجـبــار
 
مــــع النــبي الطاهــــر المختــــــار
ولو قـطعوا بسيفـهم يســــاري
 
 
فاصلهــم يــــارب حــر النار
 
 

قال فحمل القربة بأسنانه ليوصل الماء إلى عطاشى أهل البيت فجاء سهم فأصاب القربة فأريق ماؤها ثم جاءه سهم آخر فأصاب صدره فانقلب عن سرجه ونادى أدركني أبا عبد الله فإذا بالحسين عليه السلام كالصقر المنقض فلما رآه صريعا على شاطئ الفرات بكى وقال عليه السلام: (الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي) وخرج غلام من تلك الأبنية وفي أذنيه درتان وهو مذعور فجعل يلتفت يمينا وشمالا وقرطاه يتذبذبان على خديه فحمل عليه هاني بن ثبيت فقتله فصارت شهربازر تنظر إليه ولا تتكلم كالمدهوشة فعند ذلك نادى الحسين عليه السلام: (هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله هل من موحد يخاف الله فينا هل من مغيث يرجو الله في اغاثتنا) فأرتفعت أصوات النساء بالبكاء وخرج علي بن الحسين زين العابدين وكان مريضا لايقدر أن يحمل سيفه وأم كلثوم تنادي خلفه يابني ارجع فقال: ياعمتاه دعيني أقاتل بين يدي ابن رسول الله فقال الحسين عليه السلام: (ياأم كلثوم خذيه لئلا تبقى الأرض خالية من نسل آل محمد فمنعته وأدخلته الخيمة ثم إن الحسين تقدم إلى باب الخيمة) وقال عليه السلام: (ناولوني علياً، أين الطفل الرضيع حتى أودعه) فناولته الصبي فجعل يقبله وهو يقول (ويل لهؤلاء القوم إذا كان جدك محمد المصطفى خصمهم) فرماه حرملة بن كاهل بسهم فذبحه في حجر أبيه فتلقى الحسين عليه السلام دمه حتى امتلأت كفه ثم رمى به إلى السماء ثم قال:هوّن عليّ ما نزل بي إنه بعين الله) قال الباقر عليه السلام: (فلم يسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض) ثم قال عليه السلام: (اللهم لا يكون عليك أهون من فصيل صالح اللهم إن كنت حبست عنا النصر فاجعل ذلك لما هو خير لنا عندك)،ثم ألقاه بين القتلى وقيل نزل عن فرسه وحفر له بجفن سيفه ورحله بدمه ونادى عليه السلام: (يا سكينة،يا فاطمة، يا زينب، يا أم كلثوم ورمله عليكن مني السلام) فنادته سكينة يا أبه استسلمت للموت فقال عليه السلام:(كيف لا يستسلم من لا ناصر له ولا معين) فقالت: يا أبه ردنا إلى حرم جدنا فقال عليه السلام:(هيهات لوترك القطا لنام) فتصارخت النساء فسكّتهن الحسين عليه السلام فلما هم بالركوب تعلقت الأطفال بأطراف ثيابه فنادى عليه السلام:(حبسيهن يا زينب) ونادى شمر لعنه الله اهجموا على الرجل ما دام مشغولا بنفسه وحرمه والله لأن فرغ لكم لاتمتاز ميمنتكم من ميسرتكم فرموه بالسهام حتى تخالفت السهام بين أطناب الخيم وشقت بعض إزار بعض النساء فاُرعبن ودخلن الخيمة وجعلن ينظرن إلى أبي عبد الله فحمل على القوم وسيفه مصلت في يده آيسا من الحياة عازما على الموت فدعا الناس إلى البراز فلم يزل يقتل كل من دنا إليه من عيون الرجال حتى قتل منهم مقتلة عظيمة ثم حمل على الميمنة وهو يقول:

الموت خير من ركوب العار
 
 
والعار أولى من دخول النار
 
 

ثم حمل على الميسرة وهو يقول:  

أنا الحســـــين بن علي آليـــت ألاّ  أنثنـــــي
 

 

أحمي عيالات أبي امضي على دين النبي
 

 

قال بعض الرواة فوالله مارأيت مكثورا قط قتل ولده وأهل بيته وصحبه أربط جأشا منه وإن كانت الرجال لتشد عليه فيشد عليها بسيفه فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شد فيها الذئب وقد تكملوا ثلاثين ألفا فينهزمون من بين يديه كأنهم الجراد ثم يرجع إلى مركزه وهو يقول عليه السلام: (لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) ونادى عمر بن سعد بقومه الويل لكم أتدرون لمن تقاتلون هذا ابن الأنزع البطين هذا ابن قتال العرب فاحملوا عليه حملة رجل واحد فحملوا من كل جانب وكانت الرماة أربعة آلاف فرموه بالسهام وحالوا بينه وبين رحله فصاح عليه السلام: (ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لاتخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربا كما تزعمون)، فناداه الشمر ما تقول ياابن فاطمة،قال عليه السلام: (أقول أنا الذي اُقاتلكم وتقاتلونني والنساء ليس عليهن جناح فامنعوا عتاتكم وجهالكم عن التعرض لحرمي ما دمت حيا). فقال شمر: لك هذا ياابن فاطمة ثم صاح بقومه إليكم عن حرم الرجل فاقصدوه فلعمري لهو كفو كريم، فقصده القوم وهو مع ذلك يطلب شربة من الماء ثم حمل على الأعور السلمي وعمر بن الحجاج وكانا في أربعة آلاف رجل على الشريعة ففرقهم وأقحم الفرس في الفرات فلما ولغ الفرس برأسه قال:أنت عطشان وأنا عطشان والله لا ذقت حتى تشرب فرفع الفرس رأسه فقال الحسين عليه السلام: (اشرب فأوما يشرب) فمد يده وغرف من الماء غرفة فنادى رجل من القوم يا أبا عبد الله أتتلذذ بشرب الماء وقد هتك حرمك فرمى الماء من يده وحمل على القوم فكشفهم فرآى الخيمة سالمة فعلم إنها كانت حيلة ثم ودع عليه السلام عياله ثانيا وأمرهن بالصبر ولبس أزرهن وقال عليه السلام: (استعدوا للبلاء واعلموا إن الله حافظكم وحاميكم وسينجيكم من شر الاعداء ويجعل عاقبتكم إلى خير ويعوضكم عن هذه الرزية أنواع الكرامة فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص قدركم)،ثم حمل على القوم كالليث المغضب وجعل لا يلحق منهم أحدا إلاّ بعجه بسيفه فقتله وكانت السهام تأخذه من كل ناحية يمينا وشمالا وهو يقيها بصدره ونحره ويقول عليه السلام: (يا أمة السوء بئسما خلفتم محمدا في ذريته أما أنكم لن تقتلوا بعدي عبدا من عباد الله فتهابوا قتله بل يهون علكيم عند قتلكم إياي وايم والله إني لأرجو ان يكرمني ربي بالشهادة بهوانكم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون) فصاح به الحصين بن مالك وبماذا ينتقم لك منا يا ابن فاطمة قال عليه السلام:(يلقي بأسكم بينكم ويسفك دماءكم ثم يصب عليكم العذاب الأليم) فوقف ليستريح ساعة وقد ضعف عن القتال.

عن الإمام الباقر عليه السلام قال: إنّه كان أصابه جراحات كثيرة فروي ثلاثمائة وبضع وعشرون جراحة وقيل ألف وتسعمائة جراحة وكلها كانت في مقدمه الشريف فبينما هو واقف إذ أتاه حجر فوقع في جبهته الشريفة فسالت الدماء على وجهه ولحيته فأخذ الثوب ليمسح الدم عن وجهه فأتاه سهم محدد مسموم له ثلاث شعب فوقع في صدره وقيل في قلبه فقال الحسين عليه السلام: (بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ورفع رأسه إلى السماء وقال اللهم إنك تعلم أنهم يقتلون رجلا ليس على وجه الأرض ابن نبي غيره)،ثم أخذ السهم فنزعه من قفاه فانبعث الدم كالميزاب فوضع يده على الجرح فلما امتلأت رمى به إلى السماء فما رجع من ذلك الدم قطرة وما عرفت الحمرة في السماء حتى رمى الحسين عليه السلام بدمه ثم وضع يده ثانيا ولما امتلأت لطخ به رأسه ولحيته الشريفة وهو يقول:(هكذا أكون حتى ألقى جدي رسول الله وأنا مخضب بدمي ثم نزل عن جواده إلى الأرض وكلما أتاه رجل انصرف عنه كراهية أن يلقى الله بدمه)، ثم أحاطوا به فخرج عبد الله بن الحسن وهو غلام من عند النساء يشتد حتى وقف إلى جنب عمه ولحقته زينب لتحبسه فقال الحسين عليه السلام: (احبسيه يا أختاه) فأبى الغلام وقال:والله لا أفارق عمي وامتنع امتناعا شديدا فأهوى أبجر بن كعب وقيل حرملة إلى الحسين بالسيف فقال له الغلام: ويلك يا ابن الخبيثة أتقتل عمي فضربه بالسيف فأطبق يده إلى الجلد، فإذا هي معلقة فنادى الغلام يا عماه وقيل يا أماه فأخذه الحسين فظمه إلى صدره وقال عليه السلام: (يا ابن أخي اصبر على ما نزل بك واحتسب في ذلك الحين فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين)،فرماه حرملة بسهم فذبحه وهو في حجر عمه ثم إنّ شمرا حمل على فسطاط الحسين قطعه برمحه وقال عليّ بالنار أحرقه على من فيه ونادى الحسين عليه السلام:(آتوني بثوب لا يرغب فيه أحد أجعله تحت ثيابي لئلا أجرد منه) فأتى بتبان فقال عليه السلام: (لاذاك لباس من ضربت عليه الذلة)، فأخذ ثوبا خلقا فمزقه وجعله تحت ثيابه فلما قتل جرده منه ثم استدعى عليه السلام:بسروايل حبره تأزرها ولبسها فلما قتل سلبها ابجر بن كعب وكانت يدا أبجر تيبسان في الصيف وينضحان في الشتاء دما وقيحا إلى أنْ أهلكه الله وجاء مالك بن النسر فشتم الحسين عليه السلام وضربه بالسيف على رأسه وعليه برنس فامتلأ البرنس دما فقال له الحسين عليه السلام: (لا أكلت بيمنك ولا شربت بها وحشرك الله مع الظالمين)،ثم ألقى البرنس ولبس قلنسوة واعتم عليها ولبثوا هنيهة ثم أحاطوا به من كل جانب ونادى شمر ما تنتظرون بالرجل فرماه الحصين بن غنيم في فيه، وأبو أيوب بسهم في حلقه، وضربه ضربة بالسيف فأبان كفه اليسرى، وطعنه سنان في صدره، وصالح بن وهب في خاصرته، فوقع على الأرض على خده الأيمن، ودني عمر بن سعد من الحسين عليه السلام وخرجت زينب في تلك الحال من الفسطاط، وهي تنادي، وا سيداه وا أخاه وا أهل بيتاه ليت السماء انطبقت على الأرض وليت الجبال تدكدت على السهل ثم قالت:يا ابن سعد أيقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه فصرف بوجهه عنها ودموعه تسيل على وجهه ولحيته المشؤومة فلم يجبها ثم نادت ويحكم أما فيكم مسلم فلم يجبها أحد قال هلال بن نافع:إني أوقعت مع أصحاب عمر بن سعد إذ خرج صارخ أبشر أيها الأمير فهذا شمر قد قتل الحسين فخرجت بين الصفين فوقفت عليه وإنه ليجود بنفسه فوالله ما رأيت قتيلا مضمخا بدمه أحسن منه ولا أنور وجها ولقد شغلني نور وجهه وجمال هيبته عن الفكرة في قتله فاستسقى في تلك الحالة ماء فسمعت رجلا يقول لا تذوق الماء حتى ترد الحامية فسمعته يقول عليه السلام: (أنا أرد الحامية بل أرد على جدي رسول الله، وأسكن معه في داره في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأشرب من ماء غير آسن وأشكو إليه ما ركبتم مني وفعلتم بي) فغضبوا بأجمعهم حتى كأن الله لم يجعل في قلب أحدهم من الرحمة شيئا فاحتزوا رأسه الشريف وانه ليهلكهم وارتفعت في السماء غبرة شديدة منكرة سوداء مظلمة فيها ريح حمراء لا يرى فيها غبر ولا نور حتى ظن القوم أنّ العذاب قد جاءهم! فلبثوا ساعة، وارتجت الأرض، وكسفت الشمس، ثم انكشفت لوجود زين العابدين عليه السلام ،ثم تمرغ الفرس بدمه وقصد الخيام وهو يصهل ويقول في صهيله: الظليمة، الظليمة من أمة قتلت ابن بنت نبيها، فلما سمعوا أخواته وبناته خرجن، فإذا ليس عليه أحد، رفعن أصواتهن بالبكاء والعويل،وجعلن ينادين، وا محمداه واجداه وا أبا القاسماه فوالله لا أنسى زينب بنت علي وهي تندب أخاها بصوت يذيب القلب:يا محمدا هذا حسين بالعراء يا جداه محزوز الرأس من القفاء مسلوب العمامة والرداء، فأبكت كل عدو وصديق حتى رأينا دموع الخيل تنحدر على حوافرها ثم أقبلوا على سلبه فأخذ درعه عمر بن سعد وأخذ قميصه إسحق بن خويه وأخذ عمامته الأخنس وأخذ نعليه الأسود بن خالد وأخذ قطيفة كانت له من خز الأشعث بن قيس وأخذ سيفه جمع بن الخلق الأزدي وأخذ خاتمه بحدل بن سليم فقطع أصبعه من الخاتم وتسابق القوم على نهب بيوت آل الرسول حتى جعلوا ينزعون ملحفة المرأة الهاشمية من على ظهرها، قال حميد بن مسلم فانتهينا إلى علي بن الحسين عليه السلام وهو منبسط على فراشه وهو شديد المرض ومع الشمر جماعة من الرجال فقالوا: ألا نقتل هذا العليل فقلت: سبحان الله أنقتل الصبيان وجاء عمر بن سعد فصاحت النساء في وجهه وتصارخن وسألته في علي بن الحسين فنادى في أصحابه لاتدخلوا بيوت هؤلاء ولاتعرضوا لهذا العليل ثم أخرجوا النساء من الخيمة وأضرموا فيها النار فخرجن بنات رسول الله سبايا يمشين في أسر الذلة ثم نادى عمر بن سعد لعنه الله من ينتدب للحسين فيوطئ الخيل صدره وظهره فانتدب إليه عشرة فوارس فداسوا صدره وظهره بحوافر خيولهم، قال أبو عمر الزاهدي فنظرنا في هؤلاء العشرة فوجدناهم أولاد زنا ألاّ لعنة الله على الظالمين من الأولين والآخرين إلى يوم الدين.

 

j

وبه نستعين

بيان بعض أحوال الإمام الرابع زين العابدين

روى المفيد وغيره أن مولد علي بن الحسين عليه السلامكان بالمدينة سنة ثمان وثلاثين من الهجرة فبقي مع جده أمير المؤمنين عليه السلام سنتين ومع عمه الإمام الحسن عليه السلام اثنى عشر سنة ومع أبيه الحسين عليه السلام ثلاث وعشرين سنة، وبعد أبيه أربعة وثلاثين سنة وأمه بنت يزدجر بن شهريار بن كسرى وأسمها شهربانويه. فولدت للحسين عليه السلام فاطمة الكبرى وزين العابدين.

روى الراوندي رحمه الله عن الإمام الباقر عليه السلامقال: لما قدمت ابنة يزدجر على عمر وأُدخلت المدينة استشرفت لها عذارى المدينة وأشرق المجلس بضوء وجهها ورأت عمر فقالت: (أمر وزان) فغضب عمر وقال: شتمتني هذه العلجة وهم بها فقال له علي عليه السلام: (ليس لك إنكار على مالا تعلمه) فأمر أن ينادي عليها فقال له علي عليه السلام: (لايجوز بيع بنات الملوك وإن كنّ كافرات ولكن أعرض عليها ان تختار رجلا من المسلمين فزوجها منه ويحسب صداقها عليه من عطائه من بيت المال يقوم مقام الثمن فعرض عليها أن تختار فوضعت يدها على رأس الحسين أو على منكبه)،فقال لها عليه السلام : (جه نام داري اي كيرك) يعني ما أسمك ياجارية قالت: جهان شاه فقال: (بل شهربانويه) فقالت: تلك اختي فقال عليه السلام: (راست كتفي) أي صدقت ثم ألتفتَ إلى الحسين عليه السلام: (فقال يابني احتفظ بها وأحسن فستلد لك خير أهل الأرض في زمانه بعدك وهي أم الأوصياء، الذرية الطيبة).

فولدت الإمام علي بن الحسين عليه السلام وماتت في نفاسها به وإنما اختارت الحسين عليه السلام لأنها رأت فاطمة وأسلمت قبل أن يأخذها عسكر المسلمين فذكر إنها قالت: رأيت في النوم قبل ان يرد عسكر المسلمين كان محمد صلى الله عليه وآله وسلم دخل دارنا وقعد مع الحسين عليه السلام وخطبني له وزوجني منه فلما أصبحت كان ذلك يؤثر في قلبي وما كان لي خاطر غير هذا فلما كان في الليلة الثانية رأيت فاطمة عليها السلام قد أتتني وعرضت عليّ الإسلام فأسلمتُ ثم قالت لي: إن الغلبة تكون للمسلمين وإنك تصلين قريبا إلى ابني الحسين سالمة لا يصيبك بسوء أحد قالت فكأن الحال إني خرجت إلى المدينة فما مستني يد إنسان أبدا.

وكنيته الشريفة أبو محمد وأبو الحسن وأبو بكر وألقابه كثيرة اشهرها زين العابدين ،وسيد العابدين ، والزكي والامين، وذوالثفنات، ونقش خاتمه (خزي وشقي قاتل الحسين).

وروى عن الصادق عليه السلام : أن علي بن الحسين عليه السلام بكى على أبيه عشرين سنة وفي رواية أربعين سنة، ما وضع بين يديه طعام إلا بكى وكان إذا أتي بشراب بكى  عليها حتى يتضاعف ذلك الماء حتى قال مولى له: جعلت فداك يا ابن رسول الله إني أخاف أن تكون من الهالكين قال عليه السلام: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله واعلم من الله ما لا تعلمون، إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاَّ وخنقتني العبرة).

وعن الزهري قال: شهدت علي بن الحسين عليه السلام يوم حمله عبد الملك بن مروان من المدينة إلى الشام مثقلا بالحديد ووكل به حفاظا فاستأذنتهم في التسليم عليه والتوديع له فأذنوا لي فدخلت عليه والقيود في رجليه والغل في يديه فبكيت وقلت: يا سيدي وددت أني مكانك فقال عليه السلام: (يا زهري أو تظن هذا الذي في عنقي يكربني أما لو شئت ما كان فإنّه وإنْ بلغ بك وبأمثالك من الهم والحزن ما بلغ إلاَّ أنه ليذكرني عذاب الله) ثم أخرج يديه من الغـل ورجليه من القيد وقال عليه السلام: (يا زهري لا جزت معهم على ذا منزلين من المدينة) قال الزهري: فما لبثنا إلاَّ أربع ليال حتى قدم الموكلون به يطلبونه فما وجدوه فكنت فيمن سألهم عنه فقال لي بعضهم : إنّا نرى الجن تخدمه وتطيعه وإنه لنازل ونحن حوله لا ننام نرصده إذ أصبحنا فما وجدنا بين محمله إلاَّ حديدة فقدمت بعد ذلك على عبد الملك فسألني عنه فأخبرته بما قال الحرس فقال: إنه قد جاءني في يوم فقده الأعوان فدخل عليّ وقال: ما أنا وأنت فقلت:أقم عندي قال: لا أحب ثم خرج فوالله لقد امتلأ ثوبي منه جنفه فقال الزهري له : ليس علي بن الحسين حيث أنه مشغول بنفسه فقال: حبذا شُغل مثله.

 

وروى القمي عن الإمامين الباقر والرضاH قال: لما أُحضرت علي بن الحسين عليه السلام الوفاة أغمي عليه ثلاث مرات فقال عليه السلام في المرة الأخيرة: (الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض تتبؤا من الجنة حيث تشاء فنعم أجر العاملين). وروى أنّه قرأ إذا وقعت الواقعة وإنا فتحنا قبل الآية المذكورة، ثم قبض صلوات الله عليه بسم قد دسه إليه طاغية زمانه هشام بن عبد المك أو الوليد بن عبد الملك على ما يظهر من الأخبار واختلف في يوم وفاته فقيل في ثامن عشر من المحرم وقيل في التاسع والعشرين منه سنة أربع وتسعين وقال ابن شهر آشوب في يوم الحادي عشرمن المحرم أو الثاني عشر منه سنة خمس وتسعين، والمشهور أن عمره الشريف سبع وخمسون وقيل ثمانية وخمسون سنة والله أعلم بالصواب لعن الله الظالمين من الأولين والآخرين.

 

j

وبه نستعين

بيان نبذة من أحوال الإمام محمد بن علي الباقر عليه السلام

باقر علوم الأولين والآخرين

ولد عليه السلام بالمدينة سنة سبع وخمسين من الهجرة يوم الجمعة من رجب، وكنيته أبو جعفر، وأشهر ألقابه باقر العلم والشاكر والهادي. وعن الصادق عليه السلام قال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ذات يوم لجابر بن عبدالله الانصاري: (يا جابر إنّك ستبقى بعدي حتى تلقى ولدي محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر فإذا رأيته ولقيته فاقرأه مني السلام وكان نقش خاتمه (العزة لله جميعا)، وعن الرضا عليه السلام إنّ نقشه كان:

ظني بالله حسن
و بالوصي ذي المنن
 

 

و بالنبي المؤتمن
و بالحسين و الحسن
 

 

وأمه فاطمة بنت الحسن وهو أول علوي تولد بين علويين وكنيتها أم عبد الله.

وروي عن الصادق  عليه السلام قال: الأوصياء إذا حملت بهم أمهاتهم أصابتها فترة شبه الغشية فأقامت في ذلك يومها أو ليلتها ثم ترى في منامها رجلا يبشرها بغلام عليم حليم فتفرح لذلك ثم تنتبه من نومها فتسمع من جانبها الأيمن في جانب البيت صوتا يقول: حملت بخير وتصيرين إلى خير وجئت بخير أبشري بغلام حليم وتجد خفة في بدنها ثم تجد بعد ذلك اتساعا في جنبها وبطنها فإذا كان لتسع من شهرها سمعت في البيت حسا شديدا فإذا كانت الليلة التي تلد فيها ظهر لها في البيت نوراً تراه ولا يراه غيرها إلاَّ أبوه فإذا ولدته، ولدته قاعدا وتفسحت له حتى يخرج متربعا ثم يستدير بعد وقوعه إلى الأرض فلا يخطئ القبلة حتى كانت بوجهه ثم يعطس ثلاثا يشير بإصبعيه بالتحميد ويقع مسروراً مختونا ورباعياته من فوق وأسفل وناباه وضاحان من بين يديه مثل سبيكة الذهب نوراً. ويقوم يومه وليلته تسيل يداه ذهبا وكذلك الأنبياء إذا ولدوا وإنما الأوصياء قطع من الأنبياء.

قال الصادق عليه السلام: لما حج هشام بن عبد الملك سنة من السنين وكان قد حج في تلك السنة محمد الباقر عليه السلاموابنه جعفر عليه السلام فقال جعفر بن محمد: (الحمد لله الذي بعث محمدا بالحق نبيا وأكرمنا به فنحن صفوة الله على خلقه وخيرته من عباده وخلفائه فالسعيد من أتبعنا والشقي من عادانا وخالفنا) فأخبر مسيلمة أخاه بما سمع، فلم يعرض لنا حتى انصرفنا وانصرف إلى دمشق فأنفذ بريدا إلى عامل المدينة بأشخاص أبي وأشخاصي فلما وردنا إلى دمشق حجبنا ثلاثا ثم أذن لنا في اليوم الرابع فدخلنا وإذا به قد قعد على سرير الملك وجنده الخاصة وقوف بين يديه على أرجلهم سماطان متسلمان وقد نصب البرجاس خداه وأشياخ قومه يرمونه فلما دخلنا قال: يا محمد ارم مع أشياخ قومك القرص فقال له أبي: (إني قد كبرت عن الرمي فإن رأيت أن تعفيني) فقال: وحق من أعزنا بدينه، ونبينا محمد لا أعفيك، ثم أومأ إلى شيخ من بني أمية أن أعطه قوسك فتناول أبي عند ذلك قوس الشيخ ووضع سهما في كبد القوس ورمى وسط القرص ثم رمى ثانية فشق فواق سهمه إلى نصله ثم تابع الرمي حتى شق تسعة أسهم بعضها في جوف بعض وهشام يضطرب في مجلسه فلم يتمالك أن قال أجدت يا أبا جعفر أنت أرمى العرب والعجم كلا زعمت إنك كبرت عن الرمي ثم أدركته ندامة على ما قال. وكان هشام لم يكن أحل قتل أبي فهم به وأطرق إلى الأرض إطراقة ليتروى فيها وأنا وأبي واقفان حذاه مواجهين له فلما طال وقوفنا غضب أبي فهم به وكان أبي إذا غضب نظر إلى السماء نظر غضبان يرى الناظر الغضب في وجهه فلما نظر هشام إلى ذلك من أبي قال له إلي يامحمد فصعد أبي إلى السرير وأنا أتبعه فلما دنا من هشام قام إليه فاعتنقه واقعده عن يمينه ثم اعتنقني وأقعدني عن يمين أبي ثم أقبل على أبي بوجهه فقال: يا محمد لا تزال العرب والعجم يسودها قريش ما دام فيهم مثلك، لله درك مَنْ علّمك هذا الرمي وفي كم تعلمته؟ فقال أبي: (تعاطيته أيام حداثتي ثم تركته) فقال: ما رأيت مثل هذا الرمي وما ظننت أحدا يرمي مثل هذا الرمي! أيرمي جعفر مثل رميك؟ فقال أبي: (نحن نتوارث الكمال والتمام الذين أنزلها الله على نبيه في قوله تعالى ]اَلْيَوْمَ اَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَاَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضِيتُ لَكُمْ اْلاِسلاَمَ ديناً[، والأرض لا تخلو من يكمل هذه الأمور التي يقصر عنها غيرنا) قال فلما سمع ذلك من أبي انقلبت عينه اليمنى فأحولت وأحمر وجهه وكان ذلك علامة غضبه ثم أطرق هنيهة ثم رفع رأسه فقال لأبي: ألَسنا بني عبد مناف؟ نسبنا ونسبكم واحد. فقال أبي عليه السلام: (نحن كذلك ولكن الله جل ثناؤه اختصنا من مكنون سره وخالص علمه بما لم يخص به أحدا غيرنا) فقال: أليس الله جل ثناؤه بعث محمدا من شجرة بني عبد مناف إلى الناس كافة أبيضها وأسودها وأحمرها فمن أين ورثتم ما ليس لغيركم ورسول الله مبعوث إلى الناس كافة وذلك كما قال الله تعالى ] ولِلّهِ مِيراثُ السَّمَواتِ والأَرْضِ[ فمن أين ورثتم هذا العلم وليس بعد محمد نبي ولا أنتم أنبياء؟ فقال عليه السلام: (من قوله تعالى لنبيه  ]لا تُحَرِكْ بِهِ لسَانَكَ لِتَعْجَل بِهِ[ الذي لم يحرك به لسانه لغيرنا أمره الله تعالى أن يخصنا به دون غيرنا فلذلك  كان يناجي أخاه عليا من دون أصحابه فأنزل الله في ذلك ]وَتـعِيهَا أُذُنٌ واعِيَةٌ[ فقال صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: (سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي) فلذلك قال علي عليه السلام بالكوفة: (علمني رسول الله ألف باب من العلم يفتح لي من كل باب ألف باب خصه رسول الله من مكنون سره بما يخص أمير المؤمنين أكرم الخلق عليه فكما خص الله نبيه خص نبيه أخاه عليا من مكنون سره بما لم يخص به أحدا من قومه حتى صار إلينا فتوارثناه من دون أهلنا)، فقال هشام: إنّ عليا كان يدعي علم الغيب والله لم يطلع على غيبه أحداً فقال أبي : (إن الله تعالى أنزل على نبيه القرآن بَيّن فيه كل شيء ما كان وما يكون إلى يوم القيامة قال الله تعالى] وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْـيَاناً لِكُّلِ شَيءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلمُسْلمينَ[، وقال عز وجل] وَكُلّ شَيءٍ أحْصَيَّناهُ في إِمَامٍ مُبِينٍ[، وقال عز وجل  ]ما فَرَّطْنَا في الْكِتَابِ مِنْ شَيءٍ[، وأوحى إلى نبيه أن لا يبقي في غيبه وسره ومكنون علمه شيء إلاَّ يناجي به عليا فأمره أن يؤلف القرآن من بعده ويتولى غسله وتكفينه وتحنيطه من دون قومه. وقال حرام على أصحابي وأهلي أن ينظروا إلى عورتي غير أخي فإنه قاضي ديني ومنجز موعدي وهو مني وأنا منه له ما لي وعليه ما علي ثم قال لأصحابه: علي بن أبي طالب يقاتل على تأويل  القرآن كما قاتلت على تنزيله ولم يكن عند أحد تأويل القرآن بتمامه وكماله إلاَّ عند علي ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم أقضاكم علي.

وقال عمر بن الخطاب: لولا علي لهلك عمر يشهد له عمر ويحمده غيره، فأطرق هشام طويلا ثم رفع رأسه وقال: سل حاجتك فقال أبي: (خلفت عيالي وأهلي مستوحشين لخروجي) فقال: قد آنس الله وحشتهم برجوعك إليهم فلا تقم سر من يومك فاعتنقه أبي ودعا له وفعلت أنا كفعل أبي ثم نهضنا وخرجنا وإذا ميدان ببابه وفي آخر الميدان أناس قعود عددٌ كثير فقال أبي (من هؤلاء)؟ فقال الحجاب: القسيسون والرهبان وهذا عالم يقعد في كل سنة يوما واحدا يستفتونه فلف أبي رأسه بفاضل ردائه وفعلت أنا مثله فأقبل نحوهم حتى قعد وقعدت وراءه ورفع الخبر إلى هشام فأمر بعض غلمانه أن يحضروا الموضع فينظروا ما يصنع أبي واقبل عدد من المسلمين فأحاطوا بنا، وأقبل عالم النصارى قد شد حاجبه بحريرة صفراء حتى توسطنا ثم قام إليه جميع القسيسين والرهبان مسلّمين عليه فجاؤا به إلى صدر المجلس فقعد فيه وأحاط به أصحابه فأدار نظره ثم قال لأبي: أمنّا أم من هذه الأمة المرحومة فقال أبي: (بل من هذه الأمة المرحومة)، فقال: من علمائها أم  جهالها؟ فقال له أبي (لست من جهالها)، فاضطرب اضطرابا شديدا ثم قال: من أين ادعيتم أنّ أهل الجنة يطعمون ويشربون ولا يحدثون ولا يبولون وما الدليل على ذلك من شاهد لا يجهل؟ فقال أبي: (الجنين في بطن أمه يطعم ولا يحدث) قال: فاضطرب النصراني اضطرابا شديدا ثم قال: هلا زعمت أنك لست من علمائها؟ فقال أبي: (قلت لك لست من جهالها)، وأصحاب هشام يسمعون ثم قال لأبي: أسألك فقال له أبي سل فقال: من أين ادعيتم أنّ فاكهة الجنة ابداً غضة طرية موجودة غير معدومة عند جميع أهل الجنة وما الدليل على ذلك من شاهد لا يجهل؟ فقال له أبي: (إن أبداً يكون غضا طريا موجودا غير معدوم عند جميع أهل الدنيا لا ينقطع) فاضطرب اضطرابا شديدا فقال: هلا زعمت أنك لست من علمائها فقال أبي: (إنما قلت لست من جهالها)، ثم قال: أخبرني عن ساعة لا من ساعات الليل ولا من ساعات النهار؟ فقال أبي (هي الساعة التي بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس يهدأ فيها المبتلى ويرقد فيها الساهر ويفيق فيها المغمى عليه جعلها الله في الدنيا رغبة للراغبين وفي الآخرة للعاملين لها دليلا واضحا وحجة بالغة على الجاحدين المتكبرين التاركين لها). قال: فصاح النصراني صيحة ثم قال: بقيت مسألة واحدة والله لا أسألك عن مسألة لا تهتدي إلى الجواب عنها أبدا فقال له أبي: (سل فإنك حانث في يمينك)، فقال: أخبرني عن مولودين ولدا في يوم واحد وماتا في يوم واحد عمر أحدهما خمسون سنة وعمر آخر مائة وخمسون سنة في دار الدنيا؟ فقال له أبي: (ذلك عزير وعزيرة ولدا في يوم واحد فلما بلغا مبلغ الرجال خمسة وعشرين سنة مر عزير على حماره راكبا على قرية إنطاكية وهي خاوية على عروشها فقال: أنى يحي الله هذه بعد موتها؟ وكان قد اصطفاه وهداه فلما قال ذلك غضب الله عليه فأماته الله مائة عام ثم بعثه على حماره بعينه وطعامه وشرابه وعاد إلى داره وعزيرة أخوه لا يعرفه فاستضافه فأضافه وبعث إليه ولد أخيه عزيرة وولد ولده وقد شاخوا وعزير شاب في سن خمسة وعشرين سنة فلم يزل عزير يذكر أخاه وولده وقد شاخوا وهم يذكرون ما يذكرهم ويقولون ما أعلمك بأمره قد مضت عليه السنون ويقول لهم عزيرة وهو شيخ كبير ابن مائة وخمس وعشرين سنة ما رأيت شابا في سن خمس وعشرين سنة أعلم بما كان بيني وبين أخي أيام شبابي منك فمن أهل السماء أنت أم من أهل الأرض؟ فقال عزير: يا عزيرة أنا أخوك عزير سخط الله علي بقول قلته بعدما اصطفاني وهداني فأماتني مائة عام ثم بعثني لتزدادوا بذلك يقينا أنّ الله على كل شيء قدير وها هو ذا حماري وطعامي وشرابي الذي خرجت به من عندكم أعاده الله تعالى كما كان فعندها أيقنوا فأعاشه الله تعالى بينهم خمسا وعشرين سنة ثم قبضه الله تعالى وأخاه في يوم واحد) فنهض عالم النصارى عند ذلك وقاموا النصارى على أرجلهم وقال لهم: جئتموني بأعلم مني وأقعدتموه معكم حتى هتكني وفضحني لا والله لا أكلمكم بكلمة واحدة ولا قعدت لكم إنْ عشت سنة فتفرقوا.

وقيل أسلم وأصحابه على يديه فلما انصرف أبي إلى المنزل وافاه رسول هشام بالجائزة لما بلغه من الخبر وأمرنا أن ننصرف من ساعتنا إلى المدينة لما رأى من اضطراب الناس. وفي رواية أنه أمر بحبس الإمام فافتتن الناس فيه فقيل له:إن قلوب الناس قد تعلقت به فأمر باشخاصه راجعا إلى المدينة وكتب إلى عامل مدين أن ابن أبي تراب الساحر بن محمد بن علي وجعفر بن محمد الكاذبين فيما يظهران من الإسلام وردا عليَّ ولما صرفتهما إلى المدينة مالا إلى القسيسين والرهبان من كفار النصارى وأظهرا لهما دينهما فمرقا من الإسلام إلى الكفر ودين النصارى فكرهت أن أنكل بها لقرابتهما فإذا قرأت كتابي هذه فنادِ في الناس برأت الذمة ممن يشاريهما ويبايعهما أو يصافحهما أو يسلم عليهما فانهما قد أرتدا عن الإسلام ورأى أمير المؤمنين أن يقتلهما ودوابهما وغلمانهما ومن معهما بشر قتلة فلما شارفنا مدينة مدين قدّم أبي غلمانه ليرتادوا لنا منزلا ويشتروا لدوابنا علفا ولنا طعاما فأغلقوا الباب وقالوا لا نزول لكم  عندنا ولا بيع ولا شراء يا كفار  يا مشركين يا مرتدين يا كذابين يا شر الخلائق أجمعين وشتمونا وذكروا علي بن أبي طالب عليه السلام، فوقف غلماننا على الباب حتى انتهينا إليهم فليَّن أبي لهم القول وقال عليه السلام: (اتقوا الله فلسنا كما بلغكم ولا نحن كما يقولون فاسمعونا) ثم قال لهم: (فهبنا كما تقولون افتحوا الباب وشاورونا وبايعونا كما تشاورون وتبايعون النصارى) فقالوا: أنتم اشر من اليهود والنصارى لأنّ هؤلاء يؤدون الجزية وأنتم لا تؤدون الجزية فقالوا لا نفتح ولا كرامة لكم حتى تموتوا على ظهور دوابكم جياعا فوعظهم أبي فازدادوا عتوا ونشوزا فانثنى أبي برجله عن سرجه ثم قال لي: (مكانك يا جعفر لا تبرح) ثم صعد الجبل المطل على مدينة مدين وأهل مدين ينظرون إليه فلما صار في أعلاه استقبل بوجهه المدينة ثم وضع إصبعيه في أذنيه ونادى بأعلى صوته ] وَاِلى مَدْيَنَ اَخَاهُمْ شُعَيْباً.. الى قوله   بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ اِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنينَ[، (نحن والله بقية الله في أرضه) فأمر الله تعالى ريحا سوداء مظلمة فهبت وحملت صوت أبي وطرحته في أسماع الرجال والصبيان والنساء فما بقى أحد من الرجال والنساء إلاَّ صعد السطوح فصعد فيمن صعد شيخ كبير السن فنظر إلى أبي في أعلى الجبل فنادى بأعلى صوته: اتقوا الله يا أهل مدين فانه قد وقف الموقف الذي وقف فيه شعيب حين دعا على قومه فإنْ أنتم لم تفتحوا الباب جاءكم العذاب، وإني أخاف عليكم وقد أعذر من أنذر ففزعوا وفتحوا الباب وأنزلونا، وكتب بجميع ذلك إلى هشام وارتحلنا في اليوم الثاني فكتب هشام الى عامله ان ياخذ الشيخ فيقتله وكتب إلى عامله بمدينة الرسول أن يحتال في سم أبي في طعام أو شراب.

وروى في الكافي عن الصادق عليه السلام قال: (إنّ أبي مرض مرضا شديدا حتى خفنا عليه فبكى بعض أهله عند رأسه فنظر إليهم وقال عليه السلام: إني لست بميت من وجعي هذا فبرء ومكث ما شاء الله أن يمكث فينا صحيح ليس به بأس قال  عليه السلام: يا بني إن الذين أتياني في وجعي ذاك بأني لست ميت قد أتياني فأخبراني إني ميت في يوم كذا فمات في ذلك اليوم وكتب أبي في وصيته أن أكفنه في ثلاثة أثواب أحدها رداء له حبرة كان يصلي فيه يوم الجمعة وثوب أخر وقميص فقلت لأبي: لم تكتب هذا فقال  عليه السلام: أخاف أن يغلبك الناس وإن يقولوا كفنه في أربعة أو خمسة فلا تفعل وعممني بعمامة ولا تعد العمامة من الكفن وارفع قبري أربع أصابع ورشه بالماء وأوقف لي من مالي كذا وكذا للنوادب يندبنني بمنى عشر سنين أيام منى).

وعن زراره أنّ الإمام الباقر أوصى بثمانمائة درهم لمأتمه وكان يرى ذلك من السنة لأن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم قال: اتخذوا لآل جعفر طعاما فقد شغلوا والمشهور أنّ وفاته كانت في السنة الرابعة عشرة بعد المائة من الهجرة وهو ابن سبع وخمسين سنة في سابع ذي الحجة، وقيل في شهر ربيع الأول وقيل في شهر ربيع الآخر وروى ابن طاووس أنه قتل مسموما لعن الله الظالمين لهم من الأولين والآخرين إلى يوم الدين.

 

j

وبه نستعين

بيان نبذة من أحوال الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام

كان يكنى أبو عبد الله وأبو إسماعيل وأبو موسى وألقابه الصادق، والفاضل، والطاهر، والقائم، والكافل، والمنجي، وكان نقش خاتمه(الله وليّ وعصمتي من خلقه) وفي رواية(أنت ثقتي فاعصمني من خلقك)، وفي الكافي، أنه ولد في سنة ثلاث وثمانين وقبض في شوال سنة ثمان وأربعين ومئة وله خمس وستون سنة، وقيل في نصف رجب وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر.

وعن زراره عن الباقر عليه السلام قال: للإمام عشر علامات يولد مطهرا، مختونا، ويقع من بطن أمه على راحتيه، رافعا صوته بالشهادتين، ولا يجنب تنام عينه ولا ينام قلبه، ولا يتثآب ولا يتمطى ويرى من خلفه كما يرى من أمامه ونجوه كرائحة المسك والأرض موكلة بستره وابتلاعه وإذا لبس درع رسول الله كانت عليه وفقا وإذا لبسها غيره من الناس طويلهم وقصيرهم زادت عليه شبرا.

وروى الصدوق أنّ المنصور أرسل إلى جعفر بن محمد ليقتله وطرح له سيفا ونطعا وقال: يا ربيع إذا أنا كلمته ثم ضربت بإحدى يدي على الأخرى فاضرب عنقه، فلما دخل الإمام عليه نظر إليه من بعيد وتحرك المنصور من على فراشه وقال: مرحبا وأهلا بك يا أبا عبد الله ما أرسلنا إليك إلاّ رجا ء أن نقضي دينك ونقضي ذمامك، ثم سأله مسائل لطيفة عن أهل بيته وقال: قد قضى الله حاجتك ودينك وأخرج جائزتك يا ربيع لا تمضين ثلاثة أيام حتى يرجع جعفر إلى أهله فلما خرج قال له ربيع: يا أبا عبد الله رأيت السيف والنطع إنما كانا وضعا لك فأي شيء رأيتك تحرك به شفتيك فقال عليه السلام: (نعم يا ربيع لما رأيت الشر في وجهه قلت حسبي الرب من المربوبين وحسبي الخالق من المخلوقين وحسبي الرازق من المرزوقين حسبي الله رب العالمين حسبي من هو حسبي، حسبي من لم يزل حسبي، حسبي الله لا إله إلاَّ هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم). قال الربيع: ثم سألت المنصور وقلت يا أمير المؤمنين لقد كنت أشد الناس عليه غيظا فما الذي أرضاك عنه؟ قال: يا ربيع لما حضر بالباب رأيت تنينا عظيما يقرض بأنيابه وهو يقول بلسان الآدميين إنْ أنت اشكت ابن رسول الله لأفصلن لحمك من عظمك فأفزعني ذلك وفعلت به ما رأيت.

وعن محمد بن عبيد الأسكندري قال: كنت من جملة ندماء المنصور وخواصه وصاحب سره فدخلت عليه يوما فرأيته مغتما وهو يتنفس نفسا باردا فقلت: ما هذه الفكرة يا أمير المؤمنين فقال لي: يا محمد لقد هلك من أولاد فاطمة مقدار مائة وقد بقى سيدهم وإمامهم فقلت له من ذاك قال: جعفر بن محمد الصادق فقلت يا أمير المؤمنين رجل انحلته العبادة وقد اشتغل بالله  عن طلبه الملك والخلافة فقال: يا محمد قد علمت أنك تقول بإمامته ولكن الملك عقيم وقد آليت على نفسي ألاّ أمسي أو أفرغ منه قال محمد:فو الله لقد ضاقت علي الأرض برحبها ثم دعأ سيافا فقال له: إذا أنا أحضرت أبا عبدالله الصادق وشغلته بالحديث ووضعت قلنسوتي عن رأسي فاضرب عنقه.

ثم أحضر الإمام فاستقبله في الدار وهو يحرك شفتيه فلم أدر ما قرأ فرأيت القصر يموج كأنه سفينة في لجج البحار ورأيت المنصور يمشي بين يديه حافيا مكشوف الرأس قد اصطكت أسنانه وارتعدت فرائصه يحمر ساعة ويصفر أخرى وأخذ بعضد الإمام وأجلسه على سريره وجثا بين يديه كما يجثو العبد بين يدي مولاه ثم قال له:ما الذي جاء بك في هذه الساعة فقال الإمام عليه السلام:(جئتك يا أمير طاعة لله عز وجل ولرسوله ولأمير المؤمنين أدام الله عزه) فقال المنصور: ما دعوتك والغلط من الرسول ثم قال سل حاجتك فقال عليه السلام: (أسألك أن لا تدعوني بغير شغل) قال لك ذلك ثم انصرف أبو عبدالله عليه السلام سريعا فحمدت الله عزوجل كثيرا ودعا أبو جعفر المنصور بالمراويح ولم ينتبه إلاّ في نصف الليل فلما انتبه كنت عند رأسه فسره ذلك وقال:لا تخرج حتى أقضي صلواتي فأحدثك فلما قضى صلواته، أقبل عليَّ وقال لما أحضرت أبا عبدالله عليه السلام وهممت السوء به رأيت تنينا قد حوى جميع داري وقصري وقد وضع شفته العليا في أعلاها والسفلى في أسفلها وهو يكلمني بلسان طلق ذلق عربي مبين: يا منصور إنّ الله تعالى جل جلاله قد بعثني إليك وأمرني إنْ أنت أحدثت في الصادق عليه السلام حدثا فأنا ابتلعك ومن في دارك جميعا فطاش عقلي وارتعدت فرائصي واصطكت أسناني.

وروى الصدوق عليه الرحمة في العيون أنه لما بنى المنصور الأبنية ببغداد جعل يطلب العلويين طلبا شديدا ويجعل من ظفر بهم في الاسطوانات المبنية بالجص والآجر فظفر ذات يوم بغلام حسن الوجه عليه شعر أسود من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام فنقله إلى البنّاء الذي كان يبني مع جملة من العلويين وقال للبناء إذا أصبح الصباح وبقي منهم أحد ليفارقن رأسك بدنك فبنى البناء على جميعهم فلما شرع في البناء على العلوي المذكور جعل يئن في قلب موجوع فقال له البناء: يا غلام ما سبب أنينك فقال: والله ما أئن لنفسي ولكن لي أم لا تملك سواي حبستني زمانا في الدار فلما غلبها النوم خرجت فأخذت فدخلته رقة على ذلك العلوي

 

فرحمه وترك في الاسطوانة فرجة يدخل منها الروح وقال للغلام: لا بأس عليك فاصبر فإني سأخرجك من هذه الاسطوانة في جوف الليلة القابلة فلما جن الليل جاءه البناء فأخرجه وقال له اتق الله في دمي ودم العملة الذين معي وغيب شخصك ثم أخذ شعره بآلات الجصاصين وقال له: انج بنفسك ولا تعرض بدمك ودمي قال الغلام فإن كان الأمر هكذا فعرف أمي سلامتي ليقل جزعها وبكاؤها وعرفه مكان أمه ثم هرب الغلام على وجهه وأعطاني علامة لها فانتهيت إليها في الموضع الذي دلني إليه فسمعت دويا كدوي النحل من البكاء فعلمت أنها أمه فدنوت منها وعرفتها الخبر وأعطيتها شعر ابنها والعلامة وعرفتها سلامته فشهقت شهقات متتابعة وغشي عليها.

وروى الكليني عليه الرحمة عن أبي أيوب قال: بعث إلي أبو جعفر المنصور في جوف الليل فدخلت عليه وهو جالس على كرسي وبين يديه شمعة وفي يده كتاب فلما سلمت عليه رمى الكتاب إلي وهو يبكي وقال: هذا كتاب محمد بن سليمان يخبرنا أن جعفر بن محمد قد مات فإنّا لله وإنا إليه راجعون ثلاثا وأين مثل جعفر ثم قال لي: اكتب فكتبت مصدر الكتاب ثم قال: اكتب إنْ كان أوصى إلى رجل بعينه فقدمه واضرب عنقه قال: فرجع الجواب أنّه قد أوصى إلى خمسة أحدهم أبو جعفر المنصور ومحمد بن سليمان وعبدالله وموسى أبناء جعفر وحميدة فقال المنصور: ليس إلى قتل هؤلاء سبيل.

والمشهور أنّ وفاته عام ثمانية وأربعين ومئة وعمره عليه السلام قيل خمس وستون سنة وقيل ثمان وستون سنة وذكر ابن بابويه أنّ المنصور قد سمّه. وروي أنّه أغمي عليه عند موته فلما أفاق قال عليه السلام: (أعطوا الحسين بن الحسن(ابن علي الأصغر ابن الإمام زين العابدين) وهو الأفطس سبعين دينارا واعطوا فلانا كذا) فقيل له أتعطي رجلا حمل عليك بالشفرة يريد أن يقتلك قال عليه السلام: (أتريد أن لا أكون من الذين قال الله تعالى في حقهم ] وَالَّذينَ يَصِلُونَ مَااَمَرَ اللهُ بِهِ اَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ[ إنّ الله خلق الجنة فطيبها وطيب ريحها وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة ألفي عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم).

والأشهر أنّ وفاته في شوال وقيل في النصف من رجب مسموما مظلوما لعن الله الظالمين لهم من الأولين والآخرين.

j

وبه نستعين

بيان نبذة من أحوال الإمام موسى بن جعفر عليه السلام

كنيته أبو الحسن وأبو إبراهيم وأبو علي وأبو إسماعيل وأشهرها الأول وألقابه الشريفة الكاظم، والصابر، والصالح، والامين، وأشهرها الأول وأمه أم ولد اسمها حميدة البربرية ويقال لها حميدة المصفاة ونقش خاتمه(حسبي الله) وقيل(الملك لله وحده)، وموضع ولادته بالإبواء وهو منزل بين مكة والمدينة وقد ولد عليه السلام في صفر من السنة التاسعة والعشرين بعد المئة.

روي عن ابن عكاشة أنه قال: دخلت على أبي جعفر وعنده أبو عبد الله فقلت له لأي شيء لأتزوج أبا عبد الله فقد أدرك التزويج وبين يديه صرة مختومة فقال عليه السلام: (سيجيء نخاس من بربر ينزل دار ميمون فتشتري له بهذه الصرة جارية)، قال: فأتى لذلك ما أتى فدخلنا يوما على أبي جعفر عليه السلام فقال: (ألا أخبركم عن النخاس الذي ذكرته لكم قد قدم فأذهبوا واشتروا بهذه الصرة جارية)، فأتينا النخاس فقال: قد بعتُ ما كان عندي إلاَّ جاريتين احداهما أمثل من الأخرى فأخرجهما فقلنا بكم تبيع هذه الجارية المتماثلة؟ قال: بسبعين دينارا فقلنا فأحسن قال: لا أنقصها عن السبعين،فقلنا نشتريها منك بهذه الصرة ما بلغت ولاندري ما فيها وكان عنده رجل ابيض الرأس واللحية قال: فكوا الخاتم وزنوا فقال النخاس لا تفكوا فإنها إن نقصت حبة من السبعين لم أبايعكم قال الشيخ: زنوا قال الراوي ففككنا ووزنا الدنانير فإذا هي سبعون ديناراً فأخذنا الجارية وأدخلناها على أبي جعفر عليه السلام وجعفر قائم بين يديه فأخبرنا أبا جعفر بما كان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال عليه السلام لها: (ما أسمك، قالت: حميدة،فقال عليه السلام: حميدة في الدنيا محمودة في الآخرة، اخبريني أبكر أم ثيب؟ قالت: بكر فقال عليه السلام: كيف ولايقع شيء في يد النخاسين ألا افسده، قالت: كان يجيء فيقعد مني مقعد الرجل من المرأة فيسلط الله عليه رجلا أبيض اللحية والرأس ولايزال يلطمه حتى يقوم عني ففعل معي مرارا وفعل الشيخ به مرارا فقال: (يا أبا جعفر خذها إليك فستلدلك خير أهل الأرض).

وقال الصادق عليه السلام: (حميدة مصفاة من الأدناس كسبيكة الذهب ما زالت الأملاك تحرسها حتى وصلت إلى كرامة من الله لي وللحجة من بعدي).

وروى أنها رأت في المنام قبل أن يشتريها كأن القمر قد نزل فاستقر في حجرها.

عن أبي البصير قال حججنا مع أبي عبد الله في السنة التي ولد فيها ابنه موسى فلما نزلنا الإبواء ووضع لنا الغداء وكان يكثر الطعام ويجيده فبينما نحن نأكل إذ أتاه رسول حميدة فقال له: تقول حميدة إني قد أنكرت نفسي وقد وجدت ما كنت أجد عند ولادتي فقام أبو عبد الله عليه السلامفرحا مسرورا فلم يلبث أن عاد إلينا حاسرا عن ذراعيه ضاحكا فقلنا أضحك الله سنك وأقر عينك فقال عليه السلام: (وهب الله فلاحا وهو خير من يراه الله في خلقه وقد أخبرتني حميدة بما كنت أعلم به منها فذكرت أنه لما سقط إلى الأرض رافعاً رأسه إلى السماء فأخبرتها أنّ تلك إمارة رسول الله وإمارة الوصي من بعده) ثم قال عليه السلام: (يا أبا محمد انه لما كانت الليلة التي علق فيها بابني هذا أتاني في المنام كما أتى جدي وأبي فسقاني كما سقاهم وامرني بالجماع كما أمرهم فقمت من نومي فرحا مسروا فجامعت فعلق بابني هذا المولود فدونكم فهو والله صاحبكم من بعدي إن نطفة الإمام إذا سكنت في الرحم أربعة اشهر وأنشأ فيه الروح بعث الله إليه ملكا فكتب على عضده الأيمن((وتمت كلمة ربك صدقا وعدلاً لا مبدل لكلماته)) وإذا وقع من بطن أمه وقع واضعا يديه على الأرض رافعا رأسه إلى السماء فإذا وضع يديه على الأرض فإن مناديا ينادي من بطنان العرش من الأفق الأعلى باسمه واسم أبيه يا فلان بن فلان أثبت ثلاثاً لعظيم خلقتك،أنت صفوتي من خلقي وموضع سري وعيبة علمي وأميني على وحيي وخليفتي في أرضي ولمن تولاك أوجبت رحمتي وفتحت جناتي وأحللت جواري ثم وعزتي وجلالي لأصلين من عاداك أشد عذابي وإن وسعت عليهم في الدنيا سعة رزقي،قال عليه السلام: فإذا انقضى صوت المنادي أجابه وهو واضعا يديه على الأرض رافعا رأسه إلى السماء أشهد الله أنّه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلاَّ هو العزيز الحكيم قال عليه السلام: فإذا قال ذلك أعطاه الله العلم الأول والعلم الأخر واستحق زيارة الروح في ليلة القدر قلت: والروح ليس هو جبرائيل قال عليه السلام: الروح خلق عظيم أعظم من جبرائيل إن جبرائيل لمن الملائكة والروح خلق أعظم من الملائكة أليس الله تعالى يقول ]تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكةُ والرُّوحُ فِيهَا[ .

وروى أنه أطعم الناس ثلاثة أيام في ولادة ابنه فرحا وسرورا بولادته.

وروى ان الرشيد قال يوما لبعض ثقاته أتعرفون لي رجلا من آل أبي طالب ليس بواسع الحال يعرّفني ما أحتاج إليه؟ فدل على علي بن إسماعيل بن جعفر بن محمد عليه السلام. وفي رواية محمد بن إسماعيل فحمل إليه يحيى بن خالد مالا وكان موسى بن جعفر عليه السلام يأنس إليه ويصله وربماأفضى إليه ببعض أسراره فكتب إليه خالد بالشخوص إلى بغداد فأحس الإمام بذلك فدعاه فقال عليه السلام: (إلى أين يا ابن أخي)،قال: إلى بغداد قال عليه السلام: (ما تصنع) ؟ فقال: عليّ دين وأنا مملق قال عليه السلام: (أنا أقض دينك وأزيدك) فلم يلتفت إلى ذلك فعند ذلك قال له الإمام عليه السلام: (انظر يا ابن أخي لا توتم أولادي)، ثم أمر له بثلاثمائة دينار وأربعة آلاف درهم فلما قام من بين يديه قال أبو الحسن لمن حضره (والله ليسعين في دمي ولييتمن أولادي) فقلنا له جعلنا الله فداك أنت تعلم هذا من حاله وتعطيه وتصله فقال عليه السلام لهم: (نعم حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم أن الرحم إذا قطعت فوصلت قطعها الله)،فخرج ابن إسماعيل حتى اتى يحيى بن خالد فتعرف منه خبر الإمام ورفعه إلى الرشيد فلما دخل على الرشيد سلم عليه بالخلافة وقال: ما ظننت في الأرض خليفتين حتى رأيت عمي موسى بن جعفر يسلم عليه بالخلافة وإنّ الأموال لتحمل إليه من المشرق والمغرب وأن له بيوت أموال فأمر له الرشيد بمائتي ألف درهم فلما رجع إلى أهله عرض له عارض في حلقه فمات في تلك الليلة وقيل:إنّه خرج يتبرز فألقى أمعاءه في بيت الخلاء ولم ينتفع بالمال الذي باع به آخرته،ثم إنّ الرشيد أراد أن يحكّم الأمر لولده عند الخاص فحج في سنة تسع وسبعين ومائة وكتب إلى الأفاق يأمر الفقهاء والعلماء والقراء والأمراء أن يحضروا الموسم في مكة ليأخذ البيعة لولده الأمين وأخذ طريق المدينة فلما أتى المدينة وقف عند قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمكالمخاطب له وقال: بأبي أنت وأمي يارسول الله إني اعتذر إليك من أمر قد عزمت عليه فأني أريد أن أقبض على موسى بن جعفر وأحبسه لأني خشيت أن يلقي بين أمتك حربا يسفك فيها دماءهم فلما كان من الغد أرسل إليه الفضل بن الربيع وهو قائم يصلي في مقام رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم فأمر بالقبض عليه فقطع عليه صلاته وحُمل وهو يبكي ويقول عليه السلام: (إليك أشكو يا رسول الله ما ألقى) وأقبل الناس من كل جانب يبكون ويضجون فلما حُمل إلى الرشيد شتمه وجفاه فلما جن الليل أمر بقبتين فحمل عليه السلام في أحدهما على خفاء وسلمه إلى حسان السروي وأمر أن يسير به إلى البصرة ويدفعه الى عيسى بن جعفر وهو أمير البصرة ووجه القبة الثانية نهارا إلى الكوفة ومعها جماعة ليخفي على الناس خبر الإمام فقدم حسان البصرة قبل التروية بيوم ودفعه إلى عيسى بن جعفر نهارا علانية حتى عرف الناس ذلك وشاع أمره فحبسه عيسى سنة كاملة ثم كتب إلى الرشيد أنْ خذه مني وسلمه إلى من شئت وإلاَّ خليت سبيله فأني اجتهدت بأن أجد عليه حجة فما قدرت على ذلك حتى أني لأتسمع عليه إذا دعا فأقول لعله يدعو عليّ أو عليك فما أسمعه يدعو إلاَّ لنفسه يسأل الرحمة والمغفرة،قال بعض جواسيس عيسى بن جعفر:إنّي كثيرا ما كنت أسمع منه في الحبس: (اللهم إني كثيرا ما كنت أسألك أن توفق لي خلوة وعزلة وفراغ خاطر لعبادتك وإطاعتك فكيف اشكر هذه النعمة وقد استجيب لي دعائي وبلغتني مناي)،ثم أنه لما بلغ الرشيد كتاب عيسى وجهّ منْ تسلمه منه وشخص به إلى بغداد فحبسه عند الفضل بن الربيع ببغداد.

وروى عبد الله القزويني قال: دخلت على الفضل بن الربيع وهو جالس على سطح فقال: ادنُ مني فدنوت منه فقال: انظر ما ترى في الدار فأشرفت فقال: ما ترى قلت ثوبا مطروحا قال: انظر حسنا فتأملت ونظرت فتيقنت قلت: رجل ساجد فقال لي: تعرفه،قلت: لا،قال: هذا مولاك،قلت: ومن مولاي،فقال: تتجاهل عليَّ فقلت: ما أتجاهل ولكني لا أعرف لي مولىً،فقال: هذا أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السلام إني أتفقده الليل والنهار فلم أجده في وقت من الأوقات إلاَّ على الحالة التي أخبرك بها إنّه يصلي الفجر،فيعقب ساعة إلى أن تطلع الشمس ثم يسجد سجدة فلا يزال ساجدا حتى تزول الشمس وقد وكل من يترصد الزوال فلست أدري متى يقول الغلام قد زالت الشمس حتى يثب فيبتدأ بالصلاة من غير أن يجدد وضوءه فأعلم أن لم ينم في سجوده ولا أغفى فلا يزال كذلك حتى يفرغ من صلاته فإذا صلى العصر سجد سجدة فلا يزال ساجدا إلى أن تغيب الشمس فإذا غابت الشمس وثب من سجدته فصلى المغرب من غير أن يجدد وضوء ولا يزال في صلاته وتعقيبه إلى أن يصلي العتمة فإذا صلى العتمة أفطر على شواء يؤتى به ثم يجدد الوضوء ثم يسجد،ثم يرفع رأسه فينام نومة خفيفة،ثم يقوم فيجدد الوضوء فلا يزال يصلي في جوف الليل حتى يطلع الفجر فلست أدري متى يقول الغلام طلع الفجر إذ وثب هو لصلاته فهذا دأبه منذ حول إلى الآن فقلت: اتق الله ولاتحدثن في أمره حدثا يكون فيه زوال نعمتك فقد تعلم أنه لم يفعل أحد بأحد منهم سوء إلاّ كانت نعمته زائلة فقال قد أرسلوا لي غير مره يأمروني بقتله فلم أجبهم وأعلمتهم أني لا أفعل ولو قتلوني وربما أشرف الرشيد عليه فكان يراه ساجدا فيقول للربيع: ياربيع ما ذلك الثوب الذي أراه مطروحا في هذا الموضع في كل يوم،فيقول: يا أمير المؤمنين هذا موسى بن جعفر له كل يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال،فيقول الرشيد: إنّ هذا من رهبان بني هاشم،فيقول له الفضل: فمالك ضيقت عليه في الحبس فيقول هيهات لابد من ذلك إنّ الملك عقيم،ثم لم يزل ينقله من حبس إلى حبس حتى مضت له ثمان سنوات وهو محبوس،ثم نقله إلى حبس السندي بن شاهك فلما حبسه السندي لعنه الله ضيق عليه،ثم بعث إليه الرشيد برطب مسموم وأمر أن يقدمه إليه ويحتم عليه في أكله.

فروى الصدوق عن عمر بن واقد قال: لما ضاق صدر الرشيد من فضل موسى بن جعفر عليه السلام وما كان يبلغه من قول الشيعة فيه بالإمامة دعا بصينيه فوضع فيها عشرين رطبة وأخذ سلكا فغرزه في السم وأدخله في سم الخياط وأخذ رطبة من ذلك الرطب وجعل يردد ذلك السم بذلك الخيط حتى علم أنه قد بلغ السم في الرطبة ما يحتاج إليه ثم جعلها في ذلك الرطب،وقال لخادم له:احمل هذه الصينية إلى موسى بن جعفر وقل له: إن أمير المؤمنين أكل من هذا الرطب وتنغصّ لك وهو يقسم عليك بحقه لما أكلته عن آخره فإني اخترته لك بيدي ولاتتركه يبقى منه شيئا ولا يطعم منه أحدا فأتاه به الخادم وأبلغه الرسالة فقال عليه السلام: (ائتني بخلال)،فناوله خلالاً وقام بازائه وهو يأكل من الرطب، وكانت للرشيد كلبة تعز عليه فجذبت نفسها وخرجت تجر سلاسلها من ذهب وجوهر حتى حاذت الإمام موسى بن جعفر عليه السلام فبادر بالخلال إلى الرطبة المسمومة ورمى بها إلى الكلبة فأكلتها فلم تلبث أن ضربت بنفسها الأرض وعوت وتهرتت قطعة قطعة واستوفى عليه السلام باقي الرطب وحمل الغلام الصينية وجاء بها إلى الرشيد فقال له: قد أكل الرطب عن آخره قال: نعم يا أمير المؤمنين،قال: فكيف رأيته،قال: ما أنكرت عليه شيئا ثم ورد عليه خبر الكلبة إنها قد تهرتت وماتت فقلق الرشيد لذلك قلقا شديدا واستعظمه ووقف عليها فوجدها متهرته بالسم فأحضر الخادم ودعا له بسيف ونطع وقال له: اصدقني عن خبر الرطب وإلاّ قتلتك فأخبره بما فعل الإمام ورميه الرطبة إلى الكلبة فقال الرشيد: ما ربحنا من موسى إلا أن أطعمناه جيد الرطب وضيعنا سمنا وقتلنا كلبنا ما في موسى من حيلة ولم يزل يتربص به الدوائر حتى دس إلى السندي بن شاهك الرطب المسموم وأمره أن يحتم عليه في أكله فقدمه السندي إلى الإمام عند الإفطار يحتم عليه في أكله فأكل منه الإمام عشر رطبات فألح عليه ابن شاهك في زيادة الأكل فقال عليه السلام له: (حسبك يا ابن شاهك قد بلغت ما تحتاج إليه)،ثم جمع السندي بن شاهك لعنه الله سبعين رجلا من فقهاء بغداد وأعيانها وأشرافها وكشف عن الإمام وقال: هذا الإمام موسى بن جعفر لاضرر عليه ولاضيق وها هو صحيح لا مرض فيه،فقال الإمام عليه السلام: (اشهدوا أني صحيح الظاهر ولكني مسموم وسأحمر في هذا اليوم حمرة شديدة منكرة وأصفر في غد صفرة وأبيض بعد غد وأمضي إلى رحمة ربي كما قال).

قال المسيب: كنت موكلا بالإمام عليه السلامفي الحبس فقال لي عليه السلام قبل وفاته بثلاثة أيام: (يا مسيب)،فقلت: لبيك يامولاي،فقال عليه السلام: (إني ضاعن في هذه الليلة إلى المدينة،مدينة جدي رسول الله لأعهد إلى علي ابني ماعهده إليّ أبي وأجعله وصيي وخليفتي وآمره بأمري) قال المسيب فقلت: يا مولاي كيف تأمرني أن أفتح لك الأبواب وأقفالها والحرس على الباب فقال عليه السلام: (يا مسيب ضعف يقينك في الله وفينا)، فقلت: لا يا سيدي،قال عليه السلام: (فمه)؟ قلت: يا سيدي ادع الله أن يثبتني فقال عليه السلام: (اللهم ثبته)،قال المسيب: فسمعته يدعو ثم فقدته من مصلاه فلم أزل قائما على قدمي حتى رأيته قد عاد إلى مكانه وأعاد الحديد إلى رجليه فخررت لله ساجدا لوجهي شاكرا على ما أنعم عليّ من معرفته فقال لي ارفع رأسك يا مسيب واعلم أني راحل إلى ربي في ثالث هذا اليوم قال: فبكيت فقال عليه السلام: (لاتبك يا مسيب إن ابني عليا هو إمامك ومولاك من بعدي فاستمسك بولايته فإنّك لا تضل مالزمته)،فقلت: الحمد لله ثم أن سيدي دعاني في ليلة اليوم الثالث فقال لي عليه السلام: (إني على ما عّرفتك من الرحيل إلى الله فإذا دعوت بشربة من ماء فشربتها ورأيتني قد انتفخت وارتعشت بطني واصفرّ لوني واحمرّ وأبيضّ وأتلوّن ألوانا فخّبر الطاغية بوفاتي)، قال المسيب: فلم أزل أراقب وعده حتى دعا بالشربة فشربها ثم دعاني وقال عليه السلام: (يامسيب إن هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنه يتولى غسلي ودفني وهيهات، هيهات أن يكون ذلك أبدا وإذا قضيت وحملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها ولاترفعوا قبري أكثر من أربع أصابع مفرجات ولاتأخذوا من تربتي شيئا لتتبركوا به فإن كل تربة لنا محرمة ألا تربة أبا عبد الله الحسين عليه السلام فإن الله جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا) قال: ثم رأيت شخصا أشبه الناس به جالسا إلى جانبه وكان عهدي بسيدي الرضا عليه السلام وهو غلام فأردت سؤاله فصاح بي سيدي وقال لي: أليس نهيتك يا مسيب؟ قال المسيب: فلم أزل صابرا كاظما حتى مضى عليه السلام وغاب الشخص فأنهينا الخبر إلى الرشيد بوفاة الإمام فوافي السندي بن شاهك فوالله العظيم لقد رأيتهم بعيني وهم يظنون أنهم يغسلونه وأيديهم لا تصل إليه ويظنون أنهم يحنطونه ويكفنونه وأراهم لا يصنعون به شيئا ورأيت ذلك الشخص يتولى غسله وتحنيطه وتكفينه وهو يظهر المعاونة لهم وهم لا يعرفونه فلما فرغ من أمره قال لي ذلك الشخص: يا مسيب مهما شككت فيّ فلا تشكنّ في ّ فإني إمامك ومولاك وحجة الله عليك بعد أبي، ثم إنّ السندي أخرج جنازة الإمام ووضعها على الجسر ببغداد وأقام المنادين ينادون عليها هذا موسى بن جعفر قد مات حتف أنفه فانظروا إليه فجعل الناس يتفرسون في وجهه وقيل نادى عليه هذا إمام الرافضة قد مات،وقيل نادى عليه بكلام فضيع فخرج سليمان عم الرشيد فسمع الصياح والضوضاء فقال: ماهذا؟ فأخبروه الخبر فقال يفعل هذا بابن رسول الله إنه يوشك أن يفعل به في ذاك الجانب فإذا أعبر به الشط فأنزلوا إليهم وخذوه من أيديهم وإن مانعوكم فاضربوهم وأحرقوا عليهم سوادهم فلما عبر به أخذوه منهم وأقام سليمان عليه المنادين من أراد أن يرى الطيب بن الطيب فليخرج إلى جنازة الإمام موسى بن جعفر فخرج الناس أفواجا،ثم إن سليمان اختفى ومشى خلف جنازته وكفن الإمام في حبرة استعملت عليه بألفي دينار وشق جيبه حتى جاء به إلى مقابر قريش ودفنه حيث قبره الآن وجلس للتعزية.

وروى ثقة الإسلام الكليني في الكافي عن مسافر قال: أمر أبو إبراهيم حين أخرج من المدينة أبو الحسن الرضا عليه السلام أن ينام على بابه في كل ليلة أبدا ما دام بالحياة إلى أن يأتيه خبره،قال: فكنا في كل ليلة نفرش لأبي الحسن الرضا عليه السلامفي الدهليز،ثم يأتي بعد العشاء فينام فإذا أصبح انصرف إلى منزله فمكث على هذا الحال سنين فلما كانت ليلة من الليالي أبطا عنا وفرش له فلم يأت كما كان يأتي فاستوحش العيال وذعروا ودخلنا أمر عظيم من إبطائه فلما كان من الغد أتي الدار ودخل إلى العيال وقصد إلى أم أحمد فقال لها عليه السلام: (هات الذي قد أودعك أبي)،فصرخت ولطمت وجهها وشقت جيبها وقالت: مات والله سيدي فكفها الإمام وقال عليه السلام: (لا تتكلمي بشيء ولا تظهريه حتى يجيء الخبر إلى الوالي) فأخرجت إليه سقطا فيه ألفي دينار وأربعة آلاف دينار فدفعت ذلك إليه أجمع دون غيره وقالت: إنّه قال لي فيما بيني وبينه احتفظي بهذه الوديعة عندك ولا تطلعي عليها أحداً حتى أموت فإذا مضيت فمن أتاك من ولدي فطلبها منك فادفعيها إليه وأعلمي إني قد متّ فلما جاء الخبر إلى الوالي بنعيه فعددنا الأيام فكان في ليلة انقطاع أبي الحسن والمشهور في وفاته أنه في خامس رجب المرجب سنة 183 هجرية،وله يومئذ خمس وخمسون سنة،وقيل سنة 181 هجرية،وقيل سنة 186،لعن الله الظالمين لهم من الأولين والآخرين إلى يوم الدين.

 

 

 

 

بسم الله الرخمن الرحيم

وبه نستعين

بيان نبذة من أحوال الإمام الثامن علي بن موسى الرضا عليه السلام

اسمه علي وكنيته أبو الحسن وألقابه الرضا، والوفي، والفاضل، وأشهرها الرضا.

 

أبوه موسى بن جعفر وأمه أم ولد قيل اسمها،(سكن النوبية) وقيل (أروى) وقيل(نجمة) وقيل(تكتم) وقيل(خيزران) وقيل(صفر) وقيل(شقر) وتكنى أم البنين.

وروى الصدوق في الأمالي والعيون عن علي بن هيثم قال: اشترت حميدة المصفاة أم أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام وكانت من أفضل النساء في عقلها ودينها وإعظامها لمولاتها حميدة المصفاة قيل إنّها ما جلست بين يديها منذ ملكتها إجلالا لها فقالت لابنها موسى: يابني إنّ تكتم جارية مارأيت جارية قط افضل منهاولست أشك أنّ الله تعالى سيطهر نسلها إنْ كان لها نسل وقد وهبتها لك فاستوصي بها خيرا فلما ولدت الرضا عليه السلام سماها الطاهرة قال: وكان الرضا عليه السلام يرتضع كثيرا، فقالت: (أعينوني بمرضعة)، فقيل لها:(انقص درك)؟ قالت: (لا أكذب والله ولكن علي ورد مني صلاتي وتسبيحي وقد نقص منذ ولدت).

روي عن علي بن هيثم قال:(لما اشترت حميدة أم موسى الرضا نجمة، ذكرت حميدة أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام يقول لها:(يا حميدة هبي نجمة لابنك فإنه سيلد له منها خير أهل الأرض فوهبتها له فلما ولدت له الرضا عليه السلام سماها الطاهرة وكانت لها أسماء منها نجمة، وأروى، وسكن، وسمان، وتكتم وهو آخر أساميها وكانت بكرا لما اشترتها حميدة.

وعن هشام بن أحمد قال: قال لي أبو الحسن الأول (يعني الكاظم عليه السلام): (هل علمت أحدا من أهل المغرب قدم)؟ قلت لا، قال عليه السلام: (بلى قد قدم رجل فانطلق بنا نركب إليه)، وركبنا معه حتى انتهينا إلى الرجل فإذا رجل من أهل المغرب ومعه رقيق فقال له عليه السلام: (اعرض علينا)، فعرض علينا تسع جوار كل ذلك يقول أبو الحسن عليه السلام: لا حاجة لي فيها، ثم قال له عليه السلام: (اعرض علينا) قال:ما عندي شيء، قال عليه السلام: (بلى اعرض علينا)، قال: لا والله ما عندي إلا جارية مريضة فقال عليه السلام: (ما عليك أن تعرضها عليّ) فأبى عليه، ثم انصرف ثم أنّه أرسلني من الغد إليه فقال لي عليه السلام: (قل له كم غايتك فيها فإذا قال كذا فقل أخذتها). فأتيته فقال: ما أنقصها من كذا قلت: قد أخذتها وهو لك قال: هي لك ولكن من الرجل الذي كان معك بالأمس؟ قلت: رجل من بني هاشم فقال: من أي بني هاشم؟ فقلت: ما عندي أكثر من هذا فقال: أخبرك عن هذا الوصيف إني اشتريتها من أقصى بلاد المغرب فلقيتني امرأة من أهل الكتاب فقالت: ما هذا الوصيف معك قلت اشتريتها لنفسي فقالت: ما ينبغي أن تكون هذه عندك إنّ هذه الجارية ينبغي أن تكون عند خير أهل الأرض فما تلبث عنده إلا قليلا حتى تلد منه غلاما يدين له الشرق والغرب، قال: فأتيته بها فلم تلبث عنده إلا قليلا حتى ولدت عليا عليه السلام.

وعن ميثم قال: سمعت أمي تقول سمعت نجمة أم الرضا تقول: لما حملت بابني هذا لم أشعر بثقل الحمل وكنت أسمع في منامي تسبيحا وتهليلا وتمجيدا من بطني فيفزعني ذلك ويهولني فإذا انتبهت لم أسمع شيئا فلما وضعته وقع على الأرض رافعا رأسه إلى السماء يحرك شفتيه كأنّه يتكلم فدخل إليّ أبوه موسى بن جعفر عليه السلام فقال لي: (هنيئا لك يا نجمة كرامة ربك)، فناولته إياه في خرقة بيضاء فأذن في أذنه اليمنى وأقام في أذنه اليسرى ودعا بماء الفرات فحنكه به، ثم رده إليّ فقال عليه السلام:(خذيه فانه بقية الله في أرضه)، وولد عليه السلام بالمدينة سنة ثمان وأربعين ومئة من الهجرة ويقال:إنّه ولد لأحدى عشر ليلة خلت من ذي العقدة يوم الجمعة سنة ثلاث وخمسين ومائة بعد وفاة أبي عبد الله عليه السلام بخمس سنوات وقيل يوم الخميس وكان نقش خاتمه(ما شاء الله لا قوة إلاَّ بالله) .

روى الصدوق في الأمالي عن الهروي قال سمعت الرضا عليه السلاميقول: (مامنا إلاَّ مقتول شهيد)، فقيل ومن يقتلك يا ابن رسول الله ؟ قال عليه السلام: (شر خلق الله في زماني يقتلني بالسم ثم يدفنني في دار مضيعة ألا فمن زارني في غربتي كتب الله له أجر مائة ألف شهيد ومائة ألف صدّيق ومائة ألف حاج ومعتمر ومائة ألف مجاهد وجعل في الدرجات العلى من الجنة). ((اللهم ارزقنا زيارته وزيارة آبائه وأبنائه)).

أما كيفية شهادته عليه السلام وسببها فهو أنّ المأمون لما استولى على أطراف العالم وجعل ولي أمره في العراق(عراق العرب) الحسن بن سهل وأقام في بلدة مرو وحدث في أطراف الحجاز واليمن فتنة عظيمة وطمع بعض السادة في الخلافة فاستشار المأمون وزيره الفضل بن السهل ذا الرياسين واستقر رأي المأمون أن يستدعي الرضا عليه السلاممن المدينة ويجعله ولي عهده حتى تطيعه جميع السادة والأشراف ولا يطمعون في أمر الخلافة فأرســـل ابن أبي الضحاك مع جمع من خاصته إلى المدينة ليرغبوا الرضا عليه السلامفي القدوم إلى خراسان فامتنع أولا من اجابتهم، ثم أصروا وألحوا عليه فأجابهم .

وروى الوشا قال: قال لي الرضا عليه السلام: (إني حيث أرادوا بي الخروج من المدينة جمعت عيالي فأمرتهم يبكوا عليّ حتى اسمع وفرقت فيهم اثني عشر ألف دينار ثم إني قلت أما إني لا ارجع إلى عيالي أبدا). وعن محول قال: لما ورد البريد بإشخاص الرضا عليه السلام إلى خراسان كنت أنا بالمدينة فدخل المسجد ليودع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فودعه مرارا كل ذلك يعلوا صوته بالبكاء والنحيب فتقدمت إليه وسلمت عليه فرد عليّ السلام وهونت عليه فقال عليه السلام: (زدني فإني اخرج من جوار جدي رسول الله إلى أرض غربة فأموت في غربة وادفن في جنب هارون)، وكان توجهه إلىخراسان في سنة مائتي بعد الهجرة قال: فخرجت متبعا لطريقه حتى مات بطوس ودفن إلى جنب هارون وكان عمر الجواد عليه السلام حين خروجه على المشهور ثمان سنين ولما توجه إلى خراسان ظهر منه في المنازل من الكرامات والمعجزات والأسرار ما لا يحصى. فحدث الهروي أنّه لما دخل سناباد دخل قبة هارون الرشيد ثم خط بيده إلى جانبه ثم قال عليه السلام: (هذه تربتي وفيها اُدفن وسيجعل الله هذا المكان مُختلف شيعتي وأهل محبتي والله لا يزورني منهم زائر ولا يسلم عليّ منهم مسلم إلا وجب له غفران الله ورحمته بشفاعتنا أهل البيت)، وإن المأمون قال للرضا عليه السلام: يا ابن رسول الله قد عرفت فضلك وزهدك وعلمك وورعك وعبادتك وأراك أحق بالخلافة مني فقال عليه السلام: (بالعبودية لله عز وجل أفتخرو بالزهد إني أرجو النجاة من شر الدنيا وبالورع عن المحارم ارجوا الفوز بالمغانم وبالتواضع في الدنيا أرجو الرفعة عند الله) فقال المأمون: فإني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة, أجعلها لك وأبايعك فقال له الرضا عليه السلام: (إن كانت هذه الخلافة لك وجعلها الله لك فلا يجوز أن تخلع لباسا ألبسكه الله وتجعله لغيرك وإنْ كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك) فقال له المأمون: يا ابن رسول الله لابد لك من قبول الأمر فقال عليه السلام: (لست أفعل طائعا ذلك أبدا) فما زال يجهد به أياما حتى يئس من قبوله فقال: فإن لم تقبل الخلافة ولم تحب مبايعتي لك فكن ولي عهدي لتكون لك الخلافة بعدي فقال الرضا عليه السلام: (والله لقد حدثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أني أخرج من الدنيا قبلك مقتولا بالسم تبكي عليّ ملائكة السماء وملائكة الأرض واُدفن في ارض غربة إلى جنب هارون الرشيد)، فبكى المأمون ثم قال: ياابن رسول الله ومن الذي يقتلك أو يقدر على الاساءة إليك وأنا حي فقال الرضا عليه السلام: (أما إني لو أشاء لقلت لك من الذي يقتلني)، فقال المأمون: يا ابن رسول الله إنما تريد بقولك هذا التخفيف عنك ودفع هذا الأمر عن نفسك بقول الناس إن علي بن موسى زاهدٌ في الدنيا فقال الرضا عليه السلام: (فوالله ما كذبت منذ خلقني ربي وما زهدت في الدنيا للدنيا وإني لأعلم ما تريد)، فقال المأمون: وما أريد، قال عليه السلام: (الأمان على الصدق)، قال: لك الأمان، قال عليه السلام: (تريد أن يقول الناس إن علي بن موسى لم يزهد في الدنيا بل الدنيا زهدت فيه ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا في الدنيا وفي الخلافة)، فغضب المأمون وقال: إنك تواجهني أبدا بما أكره وقد أمنت سطوتي فبالله اقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلا أجبرتك على ذلك فإن فعلت والا ضربت عنقك فقال الرضا عليه السلام : (قد نهاني الله أن ألقي بيدي إلى التهلكة فإن كان الأمر على هذا فافعل ما بدا لك وأنا أقبل ذلك على أن لا أولي أحدا ولا اعزل أحدا ولا أنقص رسما ولا سنة وأكون في الأمر من بعيد مشيرا)، فرضي منه بذلك وجعله ولي عهده على كراهة منه عليه السلام لذلك ولما ولى الرضا عليه السلام العهد رفع يديه إلى السماء وقال: (اللهم إنك قد نهيتني عن الإلقاء بيدي إلى التهلكة وقد أشرفت من قبل المأمون على الموت متى لم أقبل ولاية العهد وقد أكرهت واضطررت كما اضطر يوسف ودانيال إذ قبل كل واحد منهم الولاية من طاغية زمانه، اللهم لا عهد ألا عهدك ولا ولاية إلا من قبلك فَوَقّني لأقامة دينك وإحياء سنة نبيك فانك أنت المولى والنصير ونعم المولى أنت ونعم النصير)، ثم قبل ولاية العهد من المأمون وهو باك حزين، ثم إنّ المأمون رتب في اليوم الثاني مجلسا عظيما ونصب للرضا عليه السلامكرسيا بحذاء كرسيه وجمع الأكابر والأشراف والسادات والعلماء ثم أمر بنه العباس فبايع له أول الناس، ثم بايعه سائر الناس وأعطى الجوائز الكثيرة ووهب لجنده عطاء سنة وأمر الخطباء والشعراء أن يذكروا فضل الرضا عليه السلام وينشدوا في مدحه الأشعار وأعطاهم الجوائز الكثيرة وأمر أن يذكر اسمه على المنابر وأن تضرب الدراهم والدنانير باسمه وأمر الناس أن يلبسوا عوض لباس السواد اللباس الأخضر وعقد للرضا عليه السلام على ابنته أم حبيبة وسمى للجواد عليه السلام بنته أم الفضل وتزوج هو بابنة الحسن بن سهل ولما رأى ما يظهر من الرضا من غرائب العلوم والمعارف والكمال والرفعة والجلال حسده وأضمر له السوء وشرع له في التفكّر.

 

في كيفية قتله

في العيون عن الأنصاري قال: سألت الهروي كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا مع إكرامه ومحبته له وما جعل له من ولاية من بعده فقال: إنّ المأمون إنما كان يكرمه ويحبه لمعرفته بفضله وجعل له ولاية العهد من بعده ليرى الناس أنه رغب في الدنيا فيسقط محله من نفوسهم فلما لم يظهر منه في ذلك إلا ما أزداد به فضلا عندهم ومحلا في نفوسهم جلب عليه المتكلمين من البلدان طمعا في أن يقطعه واحد منهم فيسقط محله من نفوسهم ويظهر نقصه عند العامة فكان الرضا عليه السلام لا يكلم خصم من اليهود والنصارى والصابئين والبراهمة المخالفين له إلا قطعه وألزمه الحجة وكان الناس يقولون والله إنه أحق بالخلافة من المأمون فكان أصحاب الأخبار يرفعون ذلك إليه فيغتاظ من ذلك ويشتد حسده وكان الرضا عليه السلام لا يحابي المأمون من حق وكان يجيبه بما يكره في أكثر أحواله فيغيظه ذلك ويحقده عليه ولا يظهره له فلما أعيته الحيلة في أمره اغتاله فقتله بالسم.

روى الصدوق في الأمالي والعيون عن الهروي قال: بينما أنا واقف بين يدي أبي الحسن الرضا إذ قال لي: (يا أبا الصلت أدخل إلى هذه القبة التي فيها قبر هارون وائتني بتراب من أربع جوانبها).

قال: فمضيت وأتيت به فلما مثلت بين يديه قال عليه السلام: (ناولني هذا التراب وهو من عند الباب), فناولته فأخذه وشمه ورمى به ثم قال عليه السلام: (سيحفر لي هاهنا فتظهر صخرة لو اجتمع عليها كل معول بخراسان لم يتهيأ قلعها) ثم قال لي: في الذي عند الرجل والذي عند الرأس مثل ذلك ثم قال عليه السلام: ناولني هذا التراب فهو من تربتي ثم قال: سيحفر لي هنا في هذا الموضع فتأمرهم أن يجعلوا اللحد ذراعين وشبرا فإنّ الله تعالى سيوسعه ما يشاء وإذا فعلوا ذلك فانك ترى عند رأسي نداوة فتكلم بالكلام الذي أعلمك فانه ينبع الماء حتى يمتلئ اللحد وترى فيه حيتانا صغارا ففتّت لها الخبز الذي أعطيك فإنّها تلتقطه فإذا لم يبق منه شيء خرجت منه حوته كبيرة فالتقطت الحيتان الصغار حتى لا يبقى منها شيء ثم تغيب فإذا غابت فضع يديك على الماء ثم تكلم بالكلام الذي أعلمك فانه ينضب الماء ولا يبقى منه شيء ولاتفعل ذلك إلاّ بحضرة المأمون ثم قال عليه السلام: يا أبا الصلت غداً أدخل على هذا الفاجر فإن أنا خرجت مكشوف الرأس فكلمني وإن أنا خرجت مغطى الرأس فلا تكلمني) قال الهروي: فلما أصبحنا من الغد لبس ثيابه وجلس في محرابه ينظر إذ دخل عليه غلام المأمون فقال: اجب أمير المؤمنين فلبس نعله ورداؤه وقام ومشى وأنا أتبعه حتى دخل على المأمون وبين يديه طبق عنب وأطباق فاكهة وبيده عنقود قد أكل بعضه وبقى بعضه فلما أبصر الرضا عليه السلام وثب إليه فعانقه وقبل ما بين عينيه وأجلسه معه ثم ناوله العنقود قال: يا ابن رسول الله ما رأيت عنبا أحسن من هذا فقال له الرضا: (ربما كان عنباً أحسن من هذا في الجنة) فقال له: كل منه فقال الرضا عليه السلام: (تعفيني عنه) فقال: لابد من ذلك وما يمنعك منه لعلك تتهمنا بشيء فتناول العنقود فأكل منه ثم ناوله الرضا فأكل منه الرضا ثلاث حبات ثم رمى به وقام فقال المأمون إلى أين؟ فقال إلى حيث وجهتني وخرج مغطى الرأس فلم أكلمه حتى دخل الدار فأمر أن يغلق الباب فغلق ثم نام على فراشه ومكثت واقفا في صحن الدار مهموما محزونا فبينما أنا كذلك إذ دخل على شاب حسن الوجه قطط الشعر أشبه الناس بالرضا فبادرت إليه وقلت له من أين دخلت والباب مغلق؟ فقال الذي جاء بي من المدينة أدخلني الدار والباب مغلق فقلت له من أنت؟ فقال أنا حجة الله يا أبا صلت أنا محمد بن علي ثم مضى نحو أبيه فدخل وأمرني بالدخول معه فلما نظر إليه الرضا وثب إليه فعانقه وضمه إلى صدره وقبل ما بين عينيه ثم سحبه سحبا في فراشه واكب عليه محمد بن علي يقبله ويُسارّه بشيء لم أفهمه ورأيت في شفتي الرضا شيئا أشد بياضا من الثلج كأنه زبد ورأيت أبا جعفر يلحسه بلسانه ثم أدخل يده بين ثوبه وصدره فاستخرج منه شيئا شبيها بالعصفور فابتلعه أبو جعفر ومضى الرضا فقال أبو جعفر عليه السلام: (يا أبا الصلت قم فائتني بالمغتسل والماء من الخزانة) فقلت: ما في الخزانة مغتسل ولاماء فقال: (ائته لما أمرتك به) فدخلت الخزانة فإذا فيها مغتسل وماء فأخرجته وشمرت ثيابي لأغسل فقال لي: (تنح يا أبا الصلت فان لي من يعينني غيرك فغسله) ثم قال: (ادخل الخزانة فاخرج لي السفط الذي فيه كفنه وحنوطه) فدخلت فإذا أنا بسفط لم أره في تلك الخزانة قط فحملته إليه فكفنه وصلى عليه ثم قال عليه السلام:(ائتني بالتابوت) فقلت: أمضي إلى النجار حتى يصلح التابوت قال عليه السلام: (قم فان في الخزانة تابوتا) فدخلت الخزانة فوجدت تابوتا لم أره قط فأتيته به فاخذ الرضا بعد ما صلى عليه فوضعه في التابوت وصف قدميه وصلى ركعتين فلم يفرغ منها حتى علا التابوت فانشق السقف فخرج منه التابوت ومضى فقلت: يا ابن رسول الله الساعة يجيئنا المأمون ويطالبنا بالرضا فما نصنع فقال عليه السلام: (اسكت يا أبا الصلت ما من نبي يموت بالمشرق ويموت وصيه بالمغرب إلاَّ جمع الله بينهما وبين أرواحهما وأجسادهما) فما تم الحديث حتى انشق السقف ونزل التابوت فقام واستخرجه من التابوت ووضعه على فراشه كأنه لم يغسل ولم يكفن ثم قال لي: (ياأبا الصلت قم فافتح الباب للمأمون) ففتحت الباب فإذا المأمون والغلمان بالباب فدخل باكيا حزينا وقد شق جيبه ولطم رأسه وهو يقول يا سيداه فجعت بك يا سيدي ثم دخل وجلس عند رأسه وقال خذوا في تجهيزه فأمر بحفر القبر فحفر الموضع فظهر كل شيء على ما وصفه الرضا فقال له بعض جلسائه ألست تزعم أنه إمام قال: بلى قال: لا يكون الإمام إلاّ مقدم الناس فأمر أن يحفر له في القبلة فقلت: أمرني أن أحفر له سبع مراقي وأن أشق له ضريحه فقال: انتهوا إلى ما يأمر به أبو الصلت سوى الضريح ولكن يحفر له ويلحد فلما ظهر مارأى من النداوة والحيتان وغير ذلك قال المأمون: لم يزل الرضا يرينا عجائبه في حياته حتى أراناها بعد وفاته فقال له وزير كان معه أتدري ما أخبرك به الرضا؟ قال: لا قال: أخبركم أن ملككم يا بني العباس مع كثرتكم وطول مدتكم مثل هذه الحيتان حتى إذا فنيت آجالكم وانقطعت آثاركم وذهبت دولتكم سلط الله عليكم رجلا منا فأفناكم عن آخركم قال له: صدقت ثم قال لي: يا أبا الصلت علمني الكلام الذي تكلمت به قلت: والله لقد نسيت الكلام من ساعتي وقد كنت صدقت، فأمر بحبسي ودفن الرضا فحبست سنة وضاق بي الحبس فسهرت ليلة ودعوت الله بدعاء ذكرت فيه محمدا وآل محمد وسألت الله بحقهم على أن يفرج عني فما استتم الدعاء حتى دخل عليّ أبو جعفر عليه السلام فقال: (يا أبا الصلت ضاق صدرك) قلت: أي والله ثم ضرب القيود بيده إلى القيود التي كانت ففكها وأخذ بيدي فأخرجني من الدار والحرس والغلمان يروني فلم يستطيعوا أن يكلموني وخرجت من باب الدار ثم قال لي: (امضِ في ودائع الله فإنك لن تصل إليه ولن يصل إليك أبدا) فقال أبو الصلت: فلم التق مع المأمون إلى هذا الوقت.

روى المفيد والصدوق عن علي بن الحسين الكاتب عن عبدالله بن بشير قال: أمرني المأمون أن أطول أظفاري على العادة ولا أظهر ذلك لأحد ففعلت ثم استدعاني فأخرج إليّ شيئا يشبه التمر الهندي فقال لي: اعجن هذا بيدك جميعا ففعلت ثم قام وتركني فدخل على الرضا وقال عليه السلام : (ما خبرك) قال: أرجو ان أكون صالحا قال له عليه السلام: (إنك بحمد الله صالح فهل جاءك أحد من المتوفقين في هذا الوقت)، قال: لا فغضب المأمون وصاح على غلمانه ثم قال: خذ ماء الرمان الساعة، وفي رواية أنه قال لغلام: هات من ذلك الرمان وكان الرمان في بستان في دار الرضا فقطف منه ثم قال: اجلس فَفَتَّتَ منه في جام قد أمر بغسله ثم قالللرضا: مص منه شيئا فقال: (حتى يخرج أمير المؤمنين) فقال: لا والله إلاَّ بحضرتي ولولا خوفي أن يرطب معدتي لمصصت منه شيئا فمص منه ملاعق فما صليت العصر حتى قام الرضا خمسين مجلسا وزاد الأمر في الليل فأصبح ميتا فكان آخر ما تكلم به قال عليه السلام: (لوكنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وكان أمر الله قدرا مقدورا)، ثم إن المأمون أمر بغسله وتكفينه ومشى خلف جنازته حافيا حاسرا يقول يا أخي لقد ثلم الإسلام بموتك وغلب القدر بتدبيري فيك.

روى الصدوق في العيون عن هرثمة قال: كنت ليلة بين يدي المأمون حتى مضى من الليل أربع ساعات ثم أذن لي في الانصراف فلما مضى من الليل نصفه قرع قارع الباب فأجابه بعض غلماني فقال له: قل لهرثمة اجب سيدك قال: فقمت مسرعا وأخذت على أثوابي وأسرعت إلى الرضا فدخل الغلام بين يدي ودخلت وراءه فإذا أنا بسيدي في صحن داره جالس فقال عليه السلام: (ياهرثمة) فقلت: لبيك يا مولاي فقال عليه السلام: (اجلس) فجلست فقال عليه السلام: (اسمع ياهرثمة هذا أوان رحيلي إلى الله ولحوقي بجدي وآبائي وقد بلغ الكتاب أجله وقد عزم هذا الطاغية على قتلي وسمي في عنب ورمان مفروك فأما العنب فإنه بغمس السلك بالسم وبجذبه بالخيط في العنب وأما الرمان فإنه يطرح السم في كف بعض غلمانه ويفرك بيده ليلطخ ذلك السم وإنه سيدعوني في اليوم المعتل ويقرب إليّ الرمان والعنب ويسألني أكلهما فآكلهما ثم ينفذ الحكم ويحضر القضاء فإذا أنا مت فيقول: أنا أغسله بيدي فإذا قال فقل له عني بينك وبينه إنه قال: لا تتعرض لغسلي ولا لدفني ولا لتكفيني فإنك إن فعلت ذلك عاجله الله من العذاب ما أخره عنك وحلّ بك اليم ما تحذر فإنه سينتهي قال فقلت: نعم يا سيديقال: فإذا خلا بينك وبين غسلي، فيجلس في علو من أبنية مشرفا على موضع غسلي لينظر، فلا تتعرض لشيء من غسلي حتى ترى فسطاطا أبيض قد ضرب في جانب الدار فإذا رأيت ذلك فاحملني في أثوابي التي أنا فيها فضعني من وراء الفسطاط وقف من وراءه ويكون من معك دونك ولا تكشف الفسطاط حتى تراني فتهلك فإنه سيشرف عليك) ويقول: ياهرثمة أليس زعمتم إن الإمام لا يغسله إلا إمام مثله فمن يغسل أبا الحسن وأبنه محمد بالمدينة من بلاد الحجاز ونحن بطوس فإذا قال ذلك فأجبه وقل: إنا نقول إن الإمام لا يجوز أن يغسله إلا إمام مثله فان تعدّى متعد فغسل الإمام لم تبطل إمامة الإمام لتعدّى غاسله ولا بطلت إمامة الإمام الذي بعده بأغلب على غسل أبيه ولو ترك أبو الحسن بالمدينة لغسله ابنه الحسن طاهرا مكشوفا ولا يغسله الآن إلاَّ هو من حيث يخفى فإذا ارتفع الفسطاط فسوف تراني مدرجا في أكفاني فضعني على نعشي واحملني فإذا أراد أن يحفر قبري فانه سيجعل قبر أبيه هارون الرشيد قبلةً لقبري ولن يكون ذلك أبدا فإذا ضربت المعاول نبت عن الأرض ولم يحفر لهم منها شيء ولا مثل قلام ظفر فإذا اجتهدوا في ذلك وصعب عليهم فقل لهم عني إني أمرتك أن تضرب معولا واحدا في قبلة أبيه هارون فإذا ضربت نفذ في الأرض إلى قبر محفور وضريح قائم فإذا انفرج ذلك القبر فلا تنزلني إليه حتى يفور من ضريحه الماء الأبيض فيمتلئ منه ذلك القبر حتى يصير الماء مع وجه الأرض ثم يضطرب فيه حوت بطوله فإذا اضطرب فلا تنزلني إلى القبر إلاَّ إذا غاب الحوت وغار الماء فأنزلني في ذلك القبر وألحدني في ذلك الضريح ولا تتركهم يأتون بتراب يلقونه عليّ فإن القبر ينطبق من نفسه ويمتلئ قال قلت:نعم يا سيدي ثم قال احفظ ما عهدت إليك واعمل به ولا تخالف, قلت:أعوذ بالله أن أخالفك في أمر يا سيدي, قال هرثمة ثم خرجت باكيا حزينا فلم أزل كالحبة على المقلاة لا يعلم مافي نفسي إلاَّ الله ثم دعاني المأمون فلم أزل قائما بين يديه إلى ضحى النهار ثم قال المأمون امضِ يا هرثمة إلى أبي الحسن فاقرأه مني السلام وقل له تصير إلينا أو نصير إليك فإنْ قال لك بل نصير إليه فتسأله عني أن يقدم ذلك قال فجئته فلما طلعت عليه قال لي يا هرثمة قد حفظت ما أوصيتك به قلت بلى قال قدموا نعلي فقدمت نعله فمشى إليه فلما دخل المجلس قام إليه المأمون فعانقه وقبل ما بين عينه وأجلسه إلى جانبه وأقبل عليه يحادثه ساعة من النهار طويلة ثم قال لبعض غلمانه يأتي بعنب ورمان قال هرثمة فلما سمعت ذلك لم استطع الصبر ورأيت النفضة قد عرضت في بدني فكرهت أن يتبين ذلك فيَّ فتراجعت القهقرى حتى خرجت فرميت بنفسي في موضع من الدار فلما قرب زوال الشمس أحسست بسيدي قد خرج من عنده ودخل إلى داره ثم رأيت الأمر قد خرج من المأمون بإحضار الأطباء والمترفقين قلت ما هذا فقيل علة عرضت لأبي الحسن علي بن موسى فكان الناس في شك وأنا على يقين لما أعرف منه قال فلما كان في الثلث الثاني من الليل علا الصياح وسمعت الوجيه من الدار فأسرعت فيمن أسرع فإذا نحن بالمأمون مكشوف الرأس محلول الأزرار قائما على قدميه ينتحب ويبكي قال فوقفت فيمن وقف وأنا أتنفس الصعداء ثم أصبحنا وجلس المأمون للتعزية ثم قام فمشى إلى الموضع الذي فيه سيدنا فقال أصلحوا لنا موضعا فإني أريد أن أغسله فدنوت وقلت له ما قاله سيدي بسبب الغسل والتكفين والدفن فقال لي لست أعرض لذلك, ثم قال: شأنك يا هرثمة فلم أزل قائما حتى رأيت الفسطاط قد ضرب فوقفت من ظاهره وكل من في الدار دوني وأنا اسمع التكبير والتهليل والتسبيح وتردد الأواني وتضوع الطيب وصب الماء قال: فإذا أنا بالمأمون قد اشرف عليّ من بعض أعالي داره فصاح بي يا هرثمة أليس زعمتم إن الإمام لا يغسله إلاّ إمام مثله فأين محمد بن علي ابنه عنه وهو بمدينة الرسول وهذا بطوس بخراسان فقلت له يا أمير المؤمنين إنا نقول إن الإمام لا يجب أن يغسله إلاَّ إمام مثله فإن تعدّى متعدّ وغسل الإمام لم تبطل إمامة الإمام الذي من بعده بأن غلب على غسل أبيه ولو ترك أبو الحسن بالمدينة لغسله ابنه محمد طاهرا ولا يغسله إلاّ هو من حيث يخفى قال فسكت عني ثم ارتفع الفسطاط فإذا بسيدي مدرج في أكفانه فوضعته على نعشه ثم حملناه فصلى عليه المأمون وجميع من حضر ثم جئنا إلى موضع القبر فوجدتهم يحفرون بالمعاول دون قبر هارون ليجعلوه قبلة لقبره والمعاول تنبوا عنه لا تحفر ذرة من تراب الأرض فقال لي ويحك يا هرثمة أما ترى الأرض كيف تمنع من حفر قبر له فقلت له يا أمير المؤمنين إنه قد أمرني أن أضرب معولا واحدا في قبلة قبر أبيك الرشيد ولا أضرب غيره فقال إذا ضربت يا هرثمة فيكون ماذا قلت:إنّه أخبرني أنه لايجوز أن يكون قبر أبيك قبلة لقبره فإن أنا ضربت هذا المعول الواحد نفذ إلى قبر محفور من غير أن تحفره يد، وبان ضريح في وسطه فقال المأمون سبحان الله ما أعجب هذا الأمر ولا عجب من أمر أبي الحسن فاضرب يا هرثمة حتى نرى,قال هرثمة فأخذت المعول بيدي فضربت في قبلة قبر هارون فنفذ إلى قبر محفور وبان ضريح في وسطه والناس ينظرون إليه فقال:انزل إليه يا هرثمة فقلت:يا أمير المؤمنين إنّ سيدي قد أمرني أن لا أنزل إليه حتى ينفجر من أرض هذا القبر ماء أبيض فيمتلئ منه القبر حتى يكون الماء على وجه الأرض ثم يضطرب فيه حوت بطول القبر فإذا غاب الحوت وغار الماء وضعته على جانب ما أمرت به قال هرثمة فانتظرت ظهور الماء والحوت فظهر ثم غاب الحوت وغار الماء والناس ينظرون إليه ثم جعل النعش إلى جانب قبره فغطى قبره بثوب لم أره ولم ابسطه ثم انزل به إلى قبره بغير يدي ولايد أحد من الناس فأشار المأمون إلى من حضر أن هاتوا التراب بأيديكم فاطرحوه فيه فقلت:لا تفعل يا أمير المؤمنين قال فقال:لي ويلك فمن يملأه فقلت:قد أمرني أن لا يطرح أحد عليه التراب وأخبرني أنّه يمتلئ من ذات نفسه ثم ينطبق ويتربع على وجه الأرض فأشارا إلى الناس أن كفوا قال:فرموا ما في أيديهم من التراب ثم امتلأ القبر وتربع على وجه الأرض فانصرف المأمون وانصرفت ودعاني المأمون وخلا بي ثم قال أسألك بالله يا هرثمة ألا ما صدقتني عما أسألك عنه بما سمعته من أبي الحسن فقلت قد أخبرت أمير المؤمنين بما قال لي فقال بالله ألا ما صدقتني عما أخبرك غير الذي قلت فقلت يا أمير المؤمنين فعمّ تسألني فقال يا هرثمة فهل أسرَّ إليك شيئا غير هذا؟ قلت نعم فقال ماهو؟ قلت خبر العنب والرمان قال فأقبل المأمون يتلون ألوانا يصفر مرة ويحمر أخرى ويسوّد أخرى ثم تمدد مغشيا عليه يقول في غشيته ويل للمأمون من الله، ويل له من رسول الله ويل له من علي، ويل له من فاطمة، ويل للمأمون من الحسن، ويل للمأمون من الحسين، ويل للمأمون من علي بن الحسين، ويل للمأمون من محمد بن علي، ويل للمأمون من جعفر بن محمد، ويل للمأمون من موسى بن جعفر ويل للمأمون من علي بن موسى الرضا هذا والله هو الخسران المبين يقول هذا القول ويكرره ثلاثا فلما رأيته قد أطال ذلك ولّيت عنه وجلست ناحية من الدار قال هرثمة:فجلس ودعاني فدخلت عليه وهو جالس كالسكران فقال والله ما أنت أعز عليّ منه ولا جميع من في الأرض والسماء والله لأن بلغني أعدت مما سمعت ورأيت شيئا ليكونن هلاكك فيه قال فقلت: يا أمير المؤمنين إنْ ظهرت على شيء من ذلك مني فأنت في حل من دمي قال لا والله أو تعطيني عهدا وميثاقا على كتمان هذا وترك إعادته فأخذ عليّ العهد والميثاق وأكده فلما وليت عنه صفق بيديه وقال: يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يقولون ما لا يرضي من القول وكان الله بما يعملون محيطا.

والأشهر في تاريخ وفاته أنّه في شهر صفر في السنة الثالثة بعد المائتين من الهجرة وقيل في آخره، وقيل في الرابع عشر منه، وقيل يوم الثلاثاء السابع عشر منه، وقيل في سابعه وقيل في شهر رمضان، وقيل في الثالث والعشرين من ذي القعدة والأشهَر بيننا أنه مضى شهيدا بسم المأمون وذهب السيد علي بن طاووس والأردبيلي طاب ثراهما إلى إنكار ذلك والعلم عند الله عز وجل ثم ما أردنا إيراده من بعض ما أصيب به عليه السلام.

بسم الله الرحمن الرحيم

 

وبه نستعين

بيان نبذة من أحوال الإمام التاسع والنور الساطع حجة الله على العباد مولانا أبي جعفر محمد بن علي الجواد عليه السلام

المشهور من ألقابه وكناه الجواد وله ألقاب أخر كالتقي، والنقي وأبي جعفر والمختار، والمنتجب، والمرتضى، والقانع، والعالم.

ولد  عليه السلام في المدينة المنورة في السنة الخامسة بعد التسعين والمائة بعد الهجرة اتفاقا والأشهر يوم الجمعة في الخامس عشر من شهر رمضان أو التاسع منه، وروي في اليوم العاشر من رجب وأمه أم ولد وقيل اسمها سبيكة، وقيل خيزران، وقيل ريحانة، وقيل سكينة، وقيل مرية وكانت من أهل بيت مارية القبطية أم إبراهيم بن رسول الله.

روى ابن شهرآشوب في المناقب بسنده عن حكيمة بنت الكاظم  عليه السلام قال: لما حضرت ولادة خيزران دعاني الرضا  عليه السلام فقال: (يا حكيمة احضري ولادتها)، وأدخلني والقابلة وإياها وأغلق الباب ووضع مصباحا فلما أخذها الطلق انطفأ المصباح وبين يديها طشت فاغتمت لانطفاء المصباح فبينما نحن كذلك إذ بدر أبو جعفر  عليه السلام في الطشت وإذا عليه شيء كهيئة الثوب يسطع نور وجهه حتى أضاء البيت فأبصرناه فأخذته ووضعته في حجري ونزعت عنه الغشاء  فجاء الرضا  عليه السلام ففتح الباب وقد فرغنا من أمره فأخذه ووضعه في المهد وقال لي: (يا حكيمة الزمي مهده)، فلما كان اليوم الثالث رفع بصره إلى السماء ثم نظر يمنة ويسرة وقال  عليه السلام: (أشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمدا عبده ورسوله)، فقمت ذعرة فزعة فأتيت ابا الحسن فقلت له: قد سمعت من هذا الصبي عجباً فقال  عليه السلام: (ما ذاك)، فأخبرته، فقال عليه السلام: (يا حكيمة ما ترون من عجائبه أكثر).

وروى كليم بن عمر إذ قال: قلت للرضا عليه السلام أدع الله أن يرزقك ولدا فقال عليه السلام: (إنما أُرزق ولدا واحدا وهو يرثني)، فلما ولد أبو جعفر قال  عليه السلام لأصحابه: (قد ولد لي شبيه موسى بن عمران، فالق البحار وشبيه عيسى بن مريم قُدست أمٌ وَلَدَتْه قد خلقت طاهرة مطهرة)، ثم قال الرضا عليه السلام: (ويقتل غصبا تبكي عليه أهل السماء والأرض فغضب الله على عدوه وظالمه فلم يلبث إلاّ يسيرا حتى يعجل الله به إلى عذابه الأليم وعقابه الشديد)، وكان عليه السلام طول ليله يناغيه في المهد وكان عمره الشريف في وقت وفاة والده الرضا تسع سنين، وقيل سبع سنين، وتوقف بعض الشيعة من إمامته لصغر سنه حتى توجه أكابر الشيعة من العلماء والفقهاء والمتكلمين إلى الحج وتشرفوا بلقائه عليه السلام فشاهدوا من علومه وكراماته مما لا يحصى فارتفع الشك.

فقد روى أنّه  عليه السلام سُئل في مجلس واحد ثلاثين ألف مسألة فأجاب وكان عمره عشر سنين ولما طعن الناس في المأمون واتهموه بقتل الرضا عليه السلام أراد أن يبرأ نفسه فلما شخص من خراسان وقدم بغداد كاتب الجواد عليه السلام إلى المدينة يستدعيه في القدوم إلى بغداد معززا مكرما، ولما قدم الإمام عليه السلام بغداد واتفق إن المأمون قبل لقائه خرج إلى الصيد فما اجتاز في الطريق والصبيان يلعبون والجواد  عليه السلام واقف وكان عمره إحدى عشر سنة فلما أقبل المأمون انصرف الصبيان هاربين ووقف الجواد  عليه السلام مكانه فقرب منه المأمون ووقف وقال: يا غلام ما منعك من الهرب كما هرب الصبيان؟ فقال الجواد عليه السلام: (يا أمير المؤمنين لم يكن في الطريق ضيق فأوسعه بذهابي ولم تكن لي جريمة فأخشاها وظني بك حسن إنك لا تضر من لا ذنب له)، فتعجب من كلامه وأعجبه وجهه فقال له: ما اسمك، قال  عليه السلام: (محمد)، قال: ابن من؟ قال  عليه السلام: (ابن علي الرضا)، فترحم على أبيه وضمه إلى صدره وقبّله، ثم توجه إلى الصيد وكان معه بزاة فأرسل بازيا على دراجة فغاب البازي غيبة طويلة، ثم عاد من الجو وفي منقاره سمكة صغيرة وبها بقايا حياة فعجب الخليفة من ذاك غاية العجب، ثم أخذها في يده فلما رجع عاد في طريقه فلما وصل إلى ذلك المكان وجد الصبيان على حالهم فلما رأوه انصرفوا وأبو جعفر  عليه السلام لم ينصرف واقف مكانه فلما دنا منه المأمون قال: يا محمد ما في يدي، فألهمه الله تعالى أن قال  عليه السلام: (يا أمير المؤمنين إن الله تعالى خلق بمشيئته في بحر قدرته سمكا صغارا يرتفع مع الماء في الغيم فتصيدها بزاة الملوك فيختبرون بها سلالة النبوة)، فقال له المأمون: أنت ابن الرضا حقا وجعل يطيل نظره ولم يزل له مكرما حتى عزم على أن يزوجه ابنته أم الفضل.

روى الراوندي قال: لما أراد المأمون أن يزوج ابنته أم الفضل أبا جعفر  عليه السلام بلغ ذلك العباسيين فغلظ عليهم وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الرضا من ولاية العهد فخاضوا في ذلك وكلمه أهل بيته الأدنون فقالوا: ننشدك الله أن تقيم على هذا الأمر الذي عزمت عليه من تزويج ابن الرضا عليه السلام فإنا نخاف أن يخرج به عنا أمر قد ملّكناه الله عزوجل وينزع منا عز قد ألبسناه عز وجل وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديما وحديثا وما كان عليه الخلفاء الراشدون قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم وقد كنا في وهلة من عملك مع الرضا عليه السلام ما عملت فكفانا الله المهم من ذلك فالله الله لا تردنا إلى غم قد انحسر عنا واصرف رأيك عن ابن الرضا  عليه السلام واعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك دون غيره فقال لهم المأمون: أمّا ما بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه ولو أنصفتم القوم لكانوا اولى منكم وأما ما كان يفعله من كان قبلي فقد كان قاطعا للرحم وأعوذ بالله من ذلك والله ما ندمت على ما كان مني من استخلاف الرضا عليه السلام ولقد سألته أن يقوم بالأمر وأنزعه من نفسي فأبى وكان أمر الله قدرا مقدورا وأما أبو جعفر  عليه السلام فقد اخترته لتبريزه على أهل العلم والفضل كافة مع صغر سنه والأعجوبة فيه بذلك وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه فيعلمون إن الرأي ما رأيته فقالوا له: إن هذا الفتى وإن راقك منه هديه وسكوته فإنه صبي لا معرفة له ولا فقه فأمهله ليتأدب ثم اصنع ما تراه بعد ذلك فقال لهم: ويحكم إني أعرف بهذا الفتى منكم وإن أهل هذا البيت علمهم من الله تعالى إلهامي لم تزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الوعايا الناقصة عن حد الكمال فان شئتم فامتحنوا ابا جعفر عليه السلام بما يتبين به ما وصفت لكم من حاله قالوا: قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولانفسنا بامتحانه فخلّ بيننا وبينه لننصب من مسالة بحضرتك بشيء من فقه  الشريعة فإن أصاب في الجواب لم يكن لنا اعتراض في أمره وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أمير المؤمنين فيه وإن عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه فقال لهم المأمون: شأنكم وذلك متى أردتم فخرجوا من عنده واجتمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم وهو يومئذ قاضي الزمان على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب عنها ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك وسألوا المأمون أن يختار لهم يوما للاجتماع فأجابهم إلى ذلك فاجتمعوا في اليوم الذي اتفقوا فيه وحضر معهم يحيى بن اكثم والمأمون وأمر أن يفرش لأبي جعفر  عليه السلام دست ويجعل فيه مسورتان فخرج أبو جعفر عليه السلام وجلس بين المسورتين وجلس يحيى بن اكثم بين يديه والمأمون جالس في دست متصل بدست أبي جعفر  عليه السلام فقال يحيى بن اكثم للمأمون: أيأذن لي أمير المؤمنين أن أسال أبا جعفر عن مسألة؟ فقال له المأمون: استأذنه في ذلك فأقبل عليه يحيى بن أكثم فقال: أتأذن لي جعلت فداك في مسألة؟ فقال عليه السلام : (سل إن شئت)، فقال يحيى بن أكثم: ما تقول جعلت فداك في محرم قتل صيدا فقال أبو جعفر عليه السلام: (قتله في حل أو حرم؟ محلا أو محرما؟ عالما كان المحرم أو جاهلا؟ قتله عمدا أو خطأ؟ حرا كان المحرم أو عبدا؟ صغيرا كان أو كبيرا؟ مبتدأ بالقتل أو معيدا؟ من ذوات الطير كان الصيد أو غيرها؟ من صغار الصيد أم من كبارها؟ مصرا على ما فعل أو نادما؟ في الليل قتله للصيد أو في النهار؟ محرما كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج؟) فتحير يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع وتلجلج حتى عرف أهل المجلس عجزه فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي ثم نظر إلى أهل بيته فقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟ ثم بين لهم أبو جعفر  عليه السلام الجواب عن الشقوق بأجمعها‍‍ ‍‍فقال المأمون: أعلمتم أنّ علم أهل البيت إلهامي من الله تعالى؟ ثم جرت الخطبة العظيمة وعقد له المأمون على ابنته أم الفضل وخرجت الجوائز ووضعت الموائد وبقي الجواد  عليه السلام مدة عند المأمون معززا مكرما وكانت زوجته أم الفضل لا توافقه في أفعالها وأخلاقها وكانت تغار من أم الهادي عليه السلام لأنه كان يميل لها ويرجحها على أم الفضل وهي لم تزل تشكوه إلى أبيها والمأمون لا يصغي إلى شكايتها ولا يتعرض لأذى الإمام  عليه السلام دحضا ورفعا لما وقع مع الرضا  عليه السلام إذ فيه صلاح دنياه.

روى السيد ابن طاووس عن حكيمة قال: لما مات ابن الرضا  عليه السلام أتيت زوجته أم الفضل بنت المأمون فوجدتها شديدة الحزن والجزع تقتل نفسها بالبكاء والعويل فخفت عليها أن تصدع مرارتها فبينما نحن في حديثه وكرمه ووصف خلقه وما أعطاه الله تعالى من الشرف والإخلاص ومنحه العز والكرامة قالت بنت المأمون: الا أخبرك عنه شيء عجيب وأمر جليل فوق الوصف والمقدار قلت: وما ذلك، قالت: كنت أغار كثيراً وأراقبه أبدا فربما يسمعني الكلام فأشكو ذلك إلى أبي فيقول: يا بنية احتمليه فإنه بضعة من رسول الله فبينما أنا جالسة ذات يوم إذ دخلت عليه جارية فسلمت عليه فقلت لها: من أنت، فقالت: أنا من ولد عمار بن ياسر زوجة أبي جعفر  عليه السلام، فدخلني من الغيرة ما لا أقدر على احتماله وهممت أن اخرج وأسيح في البلاد وكاد الشيطان يحملني على الإساءة إليها فكظمت غيظي وأحسنت رفدها وكسوتها فلما خرجت من عندي المرأة نهضت ودخلت على أبي وكان سكرانا فأخبرته الخبر فقال: يا غلام عليّ بالسيف فأتى به وركب وقال: والله لأقتلنه فلما رأيت ذلك، قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون ما صنعت بنفسي وبزوجي وجعلت ألطم حرّ وجهي فدخل عليه أبي حجرته وما زال يضربه بالسيف حتى قطعه قطعا ثم خرج من عنده وخرجت هاربة من خلفه فلم أرقد ليلتي فلما أصبحت أتيت إلى أبي فقلت له: أتدري ما صنعت البارحة، قال: وما صنعت فأخبرته الخبر وأنك قتلت ابن الرضا عليه السلام فبرق عينيه وغشي عليه ثم أفاق بعد ذلك وقال: ويلك ما تقولين؟ قلت: نعم والله يا أبت دخلت عليه ولم تزل تضربه بالسيف حتى قتلته وقطّعته فاضطرب من ذلك اضطرابا شديدا وقال: علي بياسر الخادم فجاء إليه فنظر إليه المأمون وقال: ويلك ما تقول هذه، قال: صدقت يا أمير المؤمنين فضرب بيده على صدره وخده وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون هلكنا والله وعطبنا وافتضحنا إلى آخر الأبد ويلك يا ياسر انظر ما الخبر والقصة وعجل بالخبر فان نفسي تكاد أن تخرج الساعة فخرج ياسر وأنا الطم على وجهي فما كان بأسرع من أن رجع ياسر وهو يقول: البشرى يا أمير المؤمنين، قال: لك البشرى، قال ياسر: دخلت عليه فإذا هو جالس وعليه قميص ودواج وهو يستال فسلمت عليه وقلت: يا ابن رسول الله أحب أن تهب لي قميصك هذا اصلي فيه وأتبرك به وإنما أردت أن انظر إلى جسده هل به أثر السيف فو الله كأنه العاج الذي سمته صفره ما به أثر، فبكى المأمون طويلا وقال: إن هذه لعبرة للأولين والآخرين وتقدم إلى ابنتي وقل لها يقول لك أبوك لئن جئتني بعد هذا اليوم تشكين منه أو خرجتِ بغير إذنه لأنتقمن له منك ثم سر إلى ابن الرضا وأبلغه عني السلام واحمل إليه سيفي الذي كان بيدي البارحة والشهري الذي ركبته البارحة ثم إن المأمون قصد ابن الرضا عليه السلام فأخذه المأمون وضمه إلى صدره ورحب به ونهاه الإمام عن شرب الخمر وتاب على يده عن شربها وعلمه الدعاء المشهور الذي أنقذه الله بسببه منه، وكان المأمون ببركة هذا الدعاء لم يصبه بلاء ما دام حيا وفتح كثيرا من بلدان المسلمين، ثم إن الجواد  عليه السلام لما تنفرّ من معاشرة المأمون استأذنه في الحج فحج بيت الله الحرام ورجع إلى مدينة جده وفي السنة الثامنة عشر بعد المائتين مات المأمون واستولى بعد ذلك المعتصم واستقل بالخلافة ولم يزل يسمع بمعجزات الجواد  عليه السلام وكراماته وعلومه حتى عرض له من الحقد والحسد والعداوة ما لا يوصف ولم يزل يبتغي له الغيلة حتى استدعاه من المدينة إلى بغداد فلما عزم على المسير إلى بغداد أوصى إلى ولده علي الهادي عليه السلام وجعله الخليفة بعده ونصّ عليه بالإمامة بمحضر أكابر الشيعة وثقاة الإمامية ودفع إليه كتبه وسلاحه وآثار الأنبياء والأوصياء وودع الأهل والعيال والأولاد وداع مفارق لا يعود وسار عليه السلام فورد بغداد في اليوم الثامن والعشرين من المحرم في سنة العشرين بعد المائتين.

روى المرتضى في عيون المعجزات قال: لما خرج أبو جعفر  عليه السلام وزوجته ابنة المأمون حاجا خلف أبا الحسن علي ابنه عليه السلام وهو صغير فخلفه في المدينة وسلم إليه المواريث والسلاح ونص عليه بمشهد ثقاته وأصحابه وانصرف إلى العراق ومعه زوجته ابنة المأمون وكان خرج المأمون إلى بلاد الروم فمات بالديرون من بلاد الروم في رجب سنة ثماني عشر ومئتين وذلك في ستة عشر سنة من إمامته عليه السلام وبويع المعتصم في شعبان سنة ثماني عشر ومائتين، ثم إنّ المعتصم جعل يعمل الحيلة في قتل أبي جعفر عليه السلام فأشار إلى ابنة المأمون، زوجته أن تسمه لأنه واقف على انحرافها عنه وشدة غيرتها عليه لتفضيله أم ابنه أبي الحسن الهادي عليه السلام عليها، فأجابته إلى ذلك وجعلت السم في عنب رازقي ووضعته بين يديه فلما أكل منه ندمت وجعلت تبكي، فقال عليه السلام: (ما بكاؤك والله ليضربنك الله بعقر لا ينجبر وبلاء لا ينستر)، فماتت بِعلة في أغمض المواضع في جوراحها وهو الناسور فأنفقت مالها جميعا حتى احتاجت إلى الاسترقاد.

روى ابن شهرآشوب أنه لما بويع المعتصم جعل يتفقد أحوال الجواد عليه السلام فكتب إلى عبد الملك الزيات أن ينفذ إليه الجواد عليه السلام وأم الفضل فانفذ إليه الزيات علي بن يقطين فتجهز  عليه السلام وخرج من المدينة إلى بغداد فلما ورد بغداد أكرمه وعظمه وانفذ بالتحف إليه والى أم الفضل، ثم أنفذ إليه شراب حامض الاترنج تحت ختمه على يدي أساس عبد وقال: قل له إن أمير المؤمنين ذاقهُ قبل أحمد بن أبي داود وسعيد بن الخضيب وجماعة من المعروفين ويأمرك أن تشرب منه بماء الثلج ووضع له الثلج في الحال فقال عليه السلام: (أشربها ليلا)، وكان عليه السلام صائما فقال: إنها تنفع، وقد ذاب الثلج وأصرّ على ذلك فشربها عليه السلام عند الإفطار وكان فيها السم.

فروى العياش عن رزان صاحب سر ابن أبي داود قال: رجع ابن أبي داود ذات يوم من عند المعتصم وهو مغموم فقلت له في ذلك، قال: لما كان اليوم من هذا الأسود ابي جعفر الجواد  عليه السلام بين يدي أمير المؤمنين قال: قلت وكيف ذاك قال:إنّ سارقا اقرّ على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره فجمع لذلك الفقهاء وقد أحضر محمد بن علي عليه السلام فسألنا عن القطع في أي موضع، فقلت: من الكرسوع، قال: وما الحجة في ذلك، قال: قلت لان اليد من الأصابع إلى الكرسوع لقول الله تعالى في التيمم}فاَغْسِلُوا وُجُهَكُمْ وَاَيْدِيَكُمْ{، واتفق مع ذلك جماعة وقال آخرون بل يجب القطع من المرفق لأنّ الله تعالى يقول في الوضوء}وَاَيْدِيَكُمْ اِلى الْمرَافِقِ{، فدل ان اليد إلى المرافق فالتفت المعتصم إلى محمد بن علي عليه السلام وقال: ما تقول أنت يا أبا جعفر، فقال  عليه السلام: (قد تكلم فيه القوم يا أمير المؤمنين) قال : دعني مما تكلموا به أي شيء عندك قال  عليه السلام: (اعفيني عن هذا يا أمير المؤمنين)، قال: أقسمت عليك بالله لما أخبرت بما عندك فيه فقال  عليه السلام :  (أما إذا أقسمت علي بالله أني أقول أنهم أخطأوا فيه السنة فان القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكف)، فقال: وما الحجة في ذلك قال  عليه السلام : (قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السجود على سبعة أعضاء الوجه واليدين والركبتين والرجلين فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها وقد قال الله تبارك وتعالى }وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلهِ { يعني بهذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها وما كان لله لا يقطع)، قال: فاعجب المعتصم ذلك ولم يقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكف، قال ابن أبي داود: فقامت قيامتي وتمنيت أني لم أك حيا، قال: ثم صرت إلى المعتصم بعد ثلاث وقلت إن نصيحة أمير المؤمنين واجبة وأنا أكلمه بما أعلم أني أدخل النار به قال: وما هو، قلت: إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته وعلماءهم لأمر وقع من أمور الدين وسألهم عن الحكم فيه فاخبروه بما عندهم وقد حضر مجلسه أهل بيته وقواده ووزراؤه وكتابه وقد تسامع الناس بذلك من  وراء بابه، ثم يترك أقاويلهم كلهم لقول رجل يقول شطر هذه الأمة بإمامته ويدعون أنه أولى منه بمقامه، ثم يحكم بحكمه  دون حكم الفقهاء، قال: فتغير لونه وتنبه لما نبهته له، وقال: جزاك الله عن نصيحتك خيراً، قال: فأمر في اليوم الرابع ثلاثاً من كتاب وزرائه أن يدعو الجواد عليه السلام إلى منزله فدعاه فأبى أن يجيبه وقال  عليه السلام: (قد علمت ان لا احضر مجالسكم)، فقال: إني إنما أدعوك إلى الطعام وأحب أن تطأ بابي وتدخل منزلي فأتبرك بذلك فقد أحب فلان بن فلان من وزراء الخليفة لقائك فصار إليه فلما أطعم  عليه السلام أحس بالسم فدعا بدابته فسأله رب المنزل أن يقيم فقال عليه السلام: (خروجي من منزلك خير لك)، فلم يزل يومه ذلك وليلته يجود بنفسه ويسري السم في بدنه حتى قبض  عليه السلام في آخر شهر ذي القعدة الحرام سنة 220 مائتين وعشرين من الهجرة، وقيل يوم الثلاثاء حادي عشر ذي القعدة الحرام، وكان عمره عليه السلام خمس وعشرين سنة وأياما ومدة إمامته على المشهور سبعة عشر سنة وكسرا، وفي الكافي عن الهادي  عليه السلام أنّه في اليوم الذي توفى فيه الجواد عليه السلام قال: إنا لله وإنا إليه راجعون مضى أبو جعفر  عليه السلام، فقيل له كيف عرفت ذلك قال عليه السلام لأنه تداخلني ذلة لله تعالى لم أكن أعرفها. لعن الله الظالمين لهم من الأولين والآخرين إلى يوم الدين.

بسم الله الرحمن الرحيم

 

وبه نستعين

بيان نبذة من أحوال الإمام العاشر والنور الزاهر

 ذي الفواضل والأيادي علي بن محمد التقي الهادي عليه السلام

 أشهر ألقابه، والتقي، والمرتضى، والفقيه، والأمين والمؤتمن، والطيب، والمتوكل، والعسكري، وكنيته أبو الحسن ليس غير، والأشهر إن ولادته في سنة مائتين واثني عشر من الهجرة، وقيل في أربعة عشر، والمشهور أنه في خامس عشر ذي الحجة الحرام، وقيل في السابع والعشرين منه، وروى في ثاني رجب، وقيل في ثالث عشر وأمه أم ولد يقال لها سمانة، ونقش خاتمه( الله ربي وهو عصمتي من خلقه).

روى عن الصادق  عليه السلام إن الله تعالى إذا أراد ان يخلق الإمام بعث ملكا بسبع ورقات من الجنة إلى أبيه فيتناولها فيتصير في صلبه فإذا واقع انعقدت النطفة في الرحم من ذلك فيصير يسمع الكلام في بطن امه فإذا سقط من بطن أمه، جعل الله له عمودا من نور يبصر به ما يعمل أهل كل بلد، وكتب الملك على عضده الأيمن وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم.

روى في المناقب أنه  عليه السلام أقام مع أبيه ست سنين وخمسة اشهر وبعده مدة إمامته ثلاثا وثلاثين سنة وتسعة أشهر وأقام  عليه السلام  مدة في المدينة، ثم حمله المتوكل إلى سر من رأى فأقام بها عشرين سنة وفي آخر ملك المعتمد استشهد مسموما.

روى صقر الكرخي قال: لما حمل المتوكل سيدنا أبا الحسن العسكري عليه السلام إلى سر من رأى جئت اسأل عن خبره فنظر إلي الرزاقي وكان حاجبا للمتوكل، ثم أمرني أن أدخل إليه فدخلت فقال: ما شأنك يا صقر، فقلت: خيرا أيها الأستاذ، فقال: اقعد,فأخذ فيما تأخر وتقدم، فقلت في نفسي أخطأت في المجيء، قال: فلما انفض الناس من حوله، قال لي يا صقر لعلك جئت تسأل عن خبر مولاك، فقلت له ومن مولاي؟ مولاي أمير المؤمنين! فقال لي: اسكت مولاك هو الحق فلا تختشي مني فإني على مذهبك! فقلت: الحمد لله، فقال لي أتحب أن تراه، قلت: نعم، قال: اجلس حتى  يخرج صاحب البريد من عنده، قال فجلس فلما خرج، قال لغلام له خذ بيد صقر وادخله الحجرة التي فيها العلوي المحبوس وخل بينه وبين الحجرة، قال صقر: فأدخلني الحجرة وأومأ إلى بيت فدخلت فإذا مولاي جالس على صدر حصير وبحذائه قبر محفور! قال: فسلمت فرد علي السلام وأمرني بالجلوس قال صقر: فلما نظرت إلى القبر بكيت فنظر إلي وقال عليه السلام: (لا عليك لن يصلوا إلينا بسوء الآن)، فقلت الحمد لله، ثم قال لي عليه السلام: (ودع واخرج فلا آمن عليك أن تؤخذ).

روى القطب الراوندي عن ابن ورمة قال: خرجت إلى سر من رأى فدخلت على سعيد الحاجب وكان قد دفع المتوكل إليه أبا الحسن  عليه السلام ليقتله، فقال لي سعيد أتحب أن تنظر إلى إلهك؟ ى آى ىى

 قلت سبحان الله الذي لا تدركه الأبصار، قال: هو الذي تزعمون أنه إمامكم، قلت: ما أكره ذلك، قال: قد امرت بقتله وأنا فاعله غداً وعنده صاحب البريد فإذا خرج فأدخل إليه فلم يلبث أن خرج صاحب البريد فدخلت عليه وإذا بحياله قبر محفور فلما رأيته بكيت بكاء شديداً، فقال عليه السلام: (ما يبكيك)، قلت: ما أراه، قال عليه السلام: (لا تبك فانه لا يتم لهم ذلك، فسكن ما بي)، ثم قال  عليه السلام: (لا يلبث اكثر من يومين حتى يسفك الله بدمه ودم صاحبه الذي رايته)، قال: فوالله ما مضى غير يومين حتى قتلا.

روى أيضا عن أبي سعيد عن أبي الفضل العباس بن أحمد الكاتب قال: كنا في داره بسر من رأى فجرى ذكر أبي الحسن  عليه السلام فقال: يا أبا سعيد إني أحدثك بشيء حدثني به بي قال: كنا مع المعتز وكان أبي كاتبه فدخلنا الدار، وإذا المتوكل على سريره جالس، فسلم المعتز ووقف ووقفت خلفه وكان عهدي به إذا دخل رحب به ويأمره بالجلوس فأطال القيام وجعل يرفع رجلا ويضع أخرى وهو لا يأذن له ونظرت إلى وجهه يتغير ساعة بعد ساعة ويقبل على الفتح بن خاقان ويقول: هذا الذي تقول فيه ما تقول ويرد القول والفتح مقبل عليه يسكنه ويقول: مكذوب عليه يا أمير المؤمنين وهو يتلظى ويقول: والله لأقتلن هذا المرابي الزنديق وهو يدعي الكذب ويطعن في دولتي، ثم قال:جئني بأربعة من الحوز فجيء بهم ودفع إليهم بأربعة أسياف وأمرهم أن يرطنوا بألسنتهم إذا دخل أبو الحسن عليه السلام ويقبلوا عليه بسيوفهم فيخبطوه ويقتلوه وهو يقول: والله لأحرقنه بعد القتل، وأنا منتصب قائم خلف المعتز من وراء الستر فما علمت إلا بأبي الحسن عليه السلام قد دخل وبادر الناس قدامه فنظرت إليه وإذا به وشفتاه تتحركان وهو غير مكروب ولا جازع فلما أن بصر به المتوكل رمى بنفسه من على السرير وسيفه، وإنكب عليه فقبل بين عينيه ويديه وسيفه بيده وهو يقول: يا سيدي يابن رسول الله يا خير خلق الله يا بن عمي يا مولاي يا أبا الحسن، وأبو الحسن يقول: أعيذك يا أمير المؤمنين بالله من هذا، فقال: ما جاء بك يا سيدي في هذا الوقت قال عليه السلام: (جاءني رسولك)، فقال المتوكل: كذب ابن الفاعلة ارجع يا سيدي من حيث جئت يا فتح يا عبدالله يا معتز شيعوا سيدكم وسيدي فلما ابصر به الحوز خروا سجدا مذعنين له عليه السلام فلما خرج أبو الحسن دعاهم المتوكل ثم الترجمان أن يخبره بما يقولون فقال لهم: لمَ لم تفعلوا ما أمرتم به؟ قالوا شدة هيبته ورأينا حوله أكثر من مائة سيف مسلولة فلم نقدر أن نحرك أيدينا فمنعنا ذلك عن البطش به وامتلأت قلوبنا خوفا ووجلا، ثم قال المتوكل للفتح: يا فتح هذا صاحبك وضحك في وجه الفتح فقال الفتح :الحمد لله الذي بيض وجهه وأنار حجته ألم أقل لك يا أمير المؤمنين إنّه مكذوب عليه وإنّه رجل قد شغلته العبادة عن طلب الملك.

روى أنّه ركب المتوكل يوما وأمر كل من كان معه بأن يمشوا بين يديه ولا يركب منهم أحد وكان من جملتهم أبو الحسن  عليه السلام وكان بدينا فلما تعب الإمام من المشي جعل يتصبب عرقا فقال بعض حجاب المتوكل أنّه لم يقصدك بهذا خاصة وإنما فعل هذا بوزرائه وكتابه وحجابه فقال  عليه السلام: تمنعوا في داركم ثلاثة أيام وعدا غير مكذوب وكان كما قال فلما تم اليوم الثالث وقعت الواقعة ونزلت النازلة بالمتوكل وخاصته وبطانته ولم يزل الإمام في كرب وبلاء من ظالم إلى ظالم حتى ولي المعتمد فدس إليه السم فمات مسموما صلوات الله عليه فولى غسله وتكفينه ابنه أبو محمد الحسن بن علي عليه السلام ودفن  في داره بسر من رأى وصارت سر من رأى يوم موته صيحة واحدة الا لعنة الله على الظالمين لهم من الأولين والآخرين إلى يوم الدين.

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحي

وبه نستعين

بيان نبذة من أحوال الإمام الحادي عشر

 ثمرة فؤاد سيد البشر المكنى بأبي محمد الحسن بن علي العسكري عليه السلام

 

لقب بالعسكري، والزكي، والهادي، والرقيق، والتقي وأمه أم ولد يقال لها (سليل)، وقيل (حديث)، وكانت من العارفات الصالحات والأشهر في تاريخ ولادته أنّها في السنة الثانية والثلاثين بعد المائتين يوم الجمعة ثامن ربيع الثاني، وقيل عاشره، وقيل رابعه، وقيل في ربيع الأول سنة ثلاثين ومائتين، والمشهور أنّ موضع ولادته المدينة، وقيل ولد بسرّ من رأى، ونقش خاتمه(أنا لله شهيد)

روى عن الصادق عليه السلام قال: (إذا أراد الله أن يخلق الإمام أرسل قطرة من الماء الذي تحت العرش إلى الأرض فتسقط تلك النقطة على النبات أو المياه فيتناولها الإمام فتنعقد منه النطفة فإذا انتقلت إلى الرحم بقيت أربعين يوما وليلة لا يسمع الصوت وبعدها يسمع الكلام فإذا أكمل له أربعة أشهر في بطن أمه كتب الملك على عضده الأيمن وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لامبدل لكلماته وهو السميع العليم. فإذا سقط إلى الأرض ألهمه الله تعالى الحكمة، وحلاه بالعلم والوقار، وخلع عليه المهابة وجعل الله له عمودا من نور يبصر به أعمال العباد ويطلع على سرائرهم).

 بيان شهادته عليه السلام

روى الصدوق عليه الرحمة وغيره عن رجل من أهل قم حضر المجلس، مجلس أحمد بن عبيد الله بن خاقان وهو عامل السلطان يومئذ على الخراج والضياع بكورة قم وكان من أنصب خلق الله واشدهم عداوة فجرى ذكر المقيمين من آل أبي طالب بسر من رأى ومذاهبهم وصلاحهم وأقدارهم عند السلطان، فقال أحمد: ما رأينا ولا عرفنا بسر من رأى رجلا من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا عليه السلام ولا سمعت به في مثل هديه وسكونه وعفافه وكرمه ونبله ومنزلته عند أهل بيته والسلطان وجميع بني هاشم وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم وكذلك القواد والوزراء والكتاب وعوام الناس وإني كنت قائما ذات يوم على رأس أبي وهو يوم مجلسه للناس إذ دخل عليه حجابه فقالوا: إنّ ابن الرضا على الباب، فقال بصوت عالي أأذنوا له فدخل رجل أسمر أعين،حسن القامة، جميل الوجه جيد البدن، حدث السن له جلالة رهيبة فلما نظر إليه قام فمشى إليه خطوات، و لاأعلم فعل هذا بأحد من بني هاشم ولا بالقواد ولا بأولياء العهد فلما دنا منه عانقه وقبل وجهه ومنكبه وأخذ بيده وأجلسه على مصلاه الذي كان يصلي عليه وجلس إلى جنبه مقبلا عليه بوجهه وجعل يكلمه ويكنيه ويعد به بنفسه وأبويه وأنا متعجب مما أرى منه إذ دخل عليه الحجاب فقالوا: الموفق قد جاء وكان الموفق إذا جاء تقدم حجابه وخاصه قواده فقاموا بين مجلس أبي وبان الدار سماطين إلى أن يدخل ويخرج فلم يزل أبي مقبلا عليه يحدثه حتى نظر إلى غلمان الخاصة فقال حينئذ(إذا شئت فقم، جعلني الله فداك ياأبا محمد)، وقال لغلمانه(خذوا به خلف السماطين لئلا يراه أمير المؤمنين)، فقام أبي وعانقه وقبل وجهه ومضى.

فقلت لحجاب أبي وغلمانه:(ويلكم من هذا الذي فعل بــه أبي ما فعل)، فقالوا :(هذا رجل من العلويين يقال له الحسن بن علي يعرف بابن الرضا) فازددت تعجبا! فلم أزل يومي ذلك قلقا متفكرا

 في أمره وأمر أبي وما رأيت منه حتى يصلي العتمة،ثم يجلس فينظر ما يحتاج إليه من السلطان فلما جلس جئت وسلمت وجلست بين يديه فقال:(يا أحمد ألك حاجة ؟ قلت: نعم يا أبه إنْ أذنت لي سألتك عنها؟)، فقال: ( قد أذنت لك يابني فقل ما أحببت)، فقلت: ( يا أبه من الرجل الذي رأيتك الغداة فعلت به ما فعلت من الإكرام والتبجيل وفديته بنفسك وأبويك؟)، فقال: ( يا بني ذاك ابن الرضا، ذاك إمام الرافضة)، ثم سكت ساعة، ثم قال: ( يا بني لو زالت الخلافة من بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غير هذا وإنه يستحقها في فضله وعفافه وهديه وصيانة نفسه وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه ولو رأيت أباه لرأيت رجلا جليلا خيرا فاضلا!)، فازددت قلقا وتفكيرا وغيضا على أبي مما سمعت منه فيه ولم يكن لي همة بعد ذلك إلاّ السؤال عنه والبحث عن أمره فما سألت أحدا من بني هاشم والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلاّ وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام والمحل الرفيع والقول الجميل والتقدم له على أهل بيته ومشايخه وغيرهم وكل يقول هو إمام الرافضة فعظم قدره عندي إذ لم أرَ له وليا ولا عدواً إلاّ وهو يحسن فيه القول والثناء عليه فقال له بعض أهل المجلس من الأشعريين: ( يا أبا بكر فما حال أخيه جعفر؟)،فقال: ومن جعفر؟ فيسأل عنه أو أن يقرن به ؟ إنّ جعفر معلن بالفسق ماجن شريب للخمر، أقلّ ما رأيت من الرجال وأهتكهم لستره مذمه خمّار قليل في نفسه خفيف والله،لقد ورد على السلطان وأصحابه في وقت وفاة الحسن بن علي عليه السلامما تعجبت منه وما ظننت أنه يكون وذلك أنّه لما اعتلّ ابن الرضا بعث إلى أبي أنه اعتلّ ابن الرضا فركب أبي من ساعته مبادرا إلى دار الخلافة، ثم رجع مستعجلا ومعه خمسة نفر من خدم أمير المؤمنين كلهم من ثقاته وخاصته وأمرهم بلزوم دار الحسن بن علي عليه السلام وتعرف خبره وحاله وبعث إلى نفر من المتطببين وأمرهم بالاختلاف إليه وتعاهده صباحا ومساء فلما كان بعد يومين جاءه من اخبره أنه ضعف فركب حتى بكر إليه، ثم أمر المتطببين بلزومه وبعثهم إلى قاضي القضاة فأحضره مجلسه وأمر أن يختار من أصحابه عشرة من يوثق بهم في دينهم وأمانتهم وورعهم فأحضرهم وبعثهم إلى دار الحسن عليه السلام وأمرهم بلزومه ليلا ونهارا فلم يزالوا هناك حتى توفي عليه السلاملأيام مضت من شهر ربيع من سنة ستين ومائتين فصارت سرّ من رأى ضجة واحدة مات ابن الرضا عليه السلام وبعث السلطان إلى داره من يفتشها ويفتش حجرها وختم على جميع ما فيها وطلبوا أثر ولده وجاءوا بنساءٍ يعرفن الحبل فدخلن على جارية فنظرن إليها فذكر بعضهن أنّ جارية هناك بها حمل، فأمر بها فجعلت في حجرة ووكل بها سخرير الخادم وأصحابه ونسوة معهم، ثم اخذوا بعد ذلك في تهيئته، وعطلت الأسواق، وركب أبي وبنو هاشم والقواد والكتاب وسائر الناس إلى جنازته عليه السلام فكانت سر من رأى شبيهة بالقيامة يومئذ، فلما فرغوا من تهيئته بعث السلطان إلى عيسى بن المتوكل فأمره بالصلاة عليه فلما وضعت الجنازة للصلاة دنا أبو عيسى منها فكشف عن وجهه فعرفه بنو هاشم والعباسية والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء والمعتدلين وقال :(هذا الحسن بن علي بن محمد عليه السلام مات حتف أنفه على فراشه حضره من خدم أمير المؤمنين وثقاته فلان وفلان ومن المتطببين فلان وفلان)، ثم غطى وجهه، وقام فصلى عليه وكبر خمسا وأمر بحمله فحمل من وسط داره ودفن في البيت الذي دفن فيه والده، فلما دفن وتفرق الناس اضطرب السلطان وأصحابه في طلب ولده وكثر التفتيش في المنازل والدور وتوقفوا عن قسمة ميراثه ولم يزل الذين وكّلوا بحفظ الجارية التي توهموا بها الحمل ملازمين لها سنتين حتى تبين بطلان الحمل فقسم ميراثه بين أمه وأخيه جعفر وادعت أمه وصيته وثبت ذلك عند القاضي والسلطان على ذلك يطلب أثر ولده فجاء جعفر بعد قسمة الميراث إلى أبي فقال له: (اجعل لي مرتبة وأوصل إليك في كل سنة عشرين ألف دينار في بزة أبي وأنا أسهم)، وقال: يا أحمق إن السلطان جرد سيفه وسوطه في الذين زعموا إنّ أباك وأخاك أئمة ليردهم عن ذلك فلم يقدر عليه ولم يتهيأ له صرفهم عن ذلك القول، وجهد أن يزيل أباك وأخاك عن تلك المرتبة فلم يتهيأ لذلك فإذا كنت عند شيعة أبيك وأخيك إماما فلا حاجة بك إلى سلطان يرتبك مراتبهم ولا غير سلطان وإن لم تكن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بها واستقله عند ذلك واستضعفه وأمر أن يحجب عنه فلم يأذن له بالدخول عليه حتى مات أبي والأمر على تلك الحال والسلطان يطلب أثر ولد الحسن بن علي عليه السلام حتى اليوم.

روي في الاكمال أيضا عن أبو الأديان قال:(كنت أخدم الحسن بن علي عليه السلامواحمل كتبه إلى الأمصار فدخلت عليه في علته التي توفي فيها فكتب معي كتبا إلى الأمصار وقال عليه السلام: تمضي بها إلى المدائن فإنك تغيب خمسة عشر يوما فتدخل سر من رأى في اليوم الخامس عشر وتسمع الناعية في داري وتجدني على المغتسل، قال أبو الأديان(فإذا كان ذلك فمن؟)، قال عليه السلامLمن طالبك بجوابات كتبي هو القائم بعديفقلت: ( زدني) فقال عليه السلام: (من يصلي عليّ هو القائم بعدي)، فقلت: ( زدني) فقال عليه السلام: (من أخبر بما في الهميان فهو القائم بعدي)، ثم منعتني هيبته أن اسأله عما في الهميان، وخرجت بالكتب الى المدائن وأخذت جواباتها ودخلت سر من رأى في اليوم الخامس عشر كما قال لي عليه السلام فإذا أنا بالواعية في داره وإذا بجعفر بن علي على الباب والشيعة حوله يعزونه ويهنونه، فقلت في نفسي(إن يكن هذا هو الإمام فقد حالت الإمامة لأني كنت أعرفه يشرب النبيذ ويقامر في الجوشق ويلعب بالطنبور فتقدمت وعزيته وهنيته فلم يسألني عن شيء، ثم خرج عقيل، فقال: يا سيدي قد كفن أخوك فقم للصلاة عليه)، فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله يقدمهم السّمان والحسن بن علي عليه السلامقتيل المعتصم والمعروف بسمه فلما صرنا في الدار وإذا نحن بالحسن عليه السلامعلى نعشه مكفنا فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه فلما همّ بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفلج، فجذب رداءه وقال عليه السلام: (ياعم أنا أحق بالصلاة على ابي)، فـأخر جعفر وقد أربد وجهه فتقدم الصبي فصلى عليه ودفنه إلى جانب قبر أبيه ثم قال عليه السلام: (يابصري هات جوابات الكتب التي معك)، فدفعتها إليه وقلت في نفسي(هذه اثنتان بقي الهميان)، ثم خرجت إلى جعفر بن علي وهو يزبد ويزفر فقال: حاجز الوشا يا سيدي من الصبي حتى تقيم عليه الحجة؟ فقال: والله ما رأيته قط ولا أعرفه فنحن جلوس إذ تقدم نفر من أهل قم فسألوا عن الحسن بن علي فعرفوا خبره، فقالوا: فمن، فأشارالناس إلى جعفر بن علي فسلموا عليه فعزوه وهنوه وقالوا: ( معنا كتب ومال فتقول ممن الكتب وكم المال؟)، فقام ينفض ثيابه ويقول: يريدون أن نعلم الغيب؟ قال: فخرج الخادم، فقال:(معكم كتب فلان وفلان وهميان فيه ألف دينار عشرة منها مطلية)، فدفعوا الكتب والمال، وقالوا:(الذي وجه بك هو الإمام)، ثم قال:(يابصري معك هميان فيه كذا وكذا فأخبر بما فيه فوجهت به إليه فدخل جعفر إلى المعتمد وكشف ذلك،فوجه المعتمد خدمه فقبضوا على صيقل الجارية وطالبوها بالصبي فأنكرته وادعت حملا بها لتغطي على حال الصبي فسلمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي ونعيتهم موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان فجأة وخرج صاحب الزنج بالبصرة فشُغلوا بذلك عن الجارية والحمد لله فخرجت من أيديهم.

روى الصدوق عليه الرحمة قال: وجدت في بعض الكتب المصنفة أن أبا محمد الحسن بن علي عليه السلامكتب في ليلة الجمعة ثامن من ربيع الأول سنة ستين ومائتين  هجرية كتباً كثيرة بيده الشريفة إلى المدينة قال عقيل:فلما أصبح يوم غد فدعا عليه السلام بماء وقد اغلي بالمصطكي، ثم دعا بماء فجاءت به صيقل فجئنا إليه وبسطنا له المنديل في حجره وأخذ من صيقل الماء فغسل به وجهه وذراعيه مرة مرة ومسح على رأسه وقدميه مسحا وصلى صلاة الصبح على فراشه، فلما فرغ من الصلاة أخذ قدح المصطكى ليشرب فاقبل يرتعد والقدح يضرب ثناياه فأخذت صيقل القدح من يده ومضى من ساعته صلوات الله عليه وآله.

روى السيد المرتضى عن أحمد بن إسحق القمي قال: دخلت على سيدي أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام فقال:(كيف حالكم فيما كان الناس فيه من الشك والارتيابقلت: لما ورد الكتاب بخبر سيدنا ومولده لم يبق منا رجل ولا امرأة ولا غلام بلغ الفهم إلا قال بالحق، قال عليه السلام:(أما علمتم إن الأرض لا تخلوا من حجة الله تعالى)،ثم أمر والدته بالحج في سنة تسعة وخمسين ومائتين هجرية. وعرفها ما يناله سنة ستين، ثم سلم الاسم الأعظم والمواريث والسلاح إلى القائم عليه السلام وخرجت أم أبي محمد إلى مكة وقبض في شهر ربيع الآخر سنة ستين ومائتين من الهجرة ودفن إلى جانب قبر أبيه صلوات الله عليهم أجمعين. وروي أن المعتمد هو الذي سمه فمضى عليه السلام مسموما.

ألا لعنة الله على الظالمين من الأولين والآخرين إلى يوم الدين.

 

 

 

 

 

 

ببسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

 

بيان نبذة من أحوال الإمام الثاني عشر صاحب

العصر والزمان  عليه السلام

هو المهدي المظفر، نور الأنوار، وحجة الجبار الغائب عن الأبصار، الحاضر في قلوب الأخيار، خليفة الرحمن، الحجة بن الحسن عجّل الله فرجه وسهل مخرجه وجعلنا من أنصاره وأعوانه عليه السلام .

المشهور أنّ ولادته عليه السلام كانت في سنة خمس وخمسين ومائتين  هجرية، وأنّ مولده ليلة الجمعة في النصف من شعبان، وقيل في ثامن شعبان، وكانت ولادته بسرّ من رأى بالاتفاق، واسمه وكنيته موافقان لاسم النبي وكنيته .

وقد ورد في جملة من الأخبار النهي الصريح عن  الجمع بين اسمه و كنيته في التسمية، وحمل جملة من الأصحاب النهي على ظاهره وأفتوا بالتحريم، وألقابه الشريفة، المهدي، والمنتظر، والحجة، وصاحب الأمر، والقائم عجل الله فرجه .

وروى الصدوق وغيره بأسانيد معتبرة عن بشر بن سليمان النخاس، وهو من ولد أبي أيوب الأنصاري، أحد موالي أبي الحسن وأبي محمد عليه السلام بسر من رأى قال: أتاني كافور الخادم فقال: مولانا أبوالحسن( عليه السلام)يدعوك إليه، فأتيت، فلما جلست بين يديه قال لي عليه السلام: (يا بشر إنك من أولاد الأنصار وهذه الموالاة لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف، وأنتم ثقاتنا أهل البيت، وأنا مزكيك ومشرفك بفضيلة تسبق بها الشيعة في الموالاة بها بسر أطلعك عليه وأنفذك فيه)، فكتب كتابا لطيفا بخط ولغة رومية ووضع عليه خاتمه وأخرج شسعة صفراء فيها مائتان وعشرون دينارا ووضع عليه خاتمه فقال عليه السلام: (خذها وتوجه بها إلى بغداد واحضر معبر الفرات ضحوة يوم كذا، فإذا وصلت إلى جانبك زواريق السبايا وترى الجواري فيها وستجد طوائف المبتاعين من وكلاء قواد بني العباس وشرذمة من فتيان العرب، فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمى بعمر بن زيد النخاس عامة نهارك إلى انْ تبرز للمبتاعين جارية صنفها كيت وكيت لابسة حريرتين صفيقتين تمتنع من العرض ولمس المعترض والانقياد لمن يحاول لمسها وتسمع صرخة رومية من وراء ستر رقيق فاعلم أنها تقول  هتك ستراه فيقول بعض المبتاعين عليّ بثلاثمائة دينار فقد زادني العفاف فيها رغبة فتقول له بالعربية لو برزت في زي سليمان بن داود على شبه ملكه ما بدت لي فيك رغبة فأشفق على مالك)، فيقول النخاس: فما الحيلة ولا بدمن بيعك، فتقول الجارية: ما العجلة لابد من اختيار مبتاع يسكن إليه قلبي والى وفائه وأمانته، فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد وقل له: إنّ معي كتابا لبعض الأشراف كتبه بلغة رومية وخط رومي ووصف فيه كرمه ووفاؤه ونبله وسخاؤه فناولها الكتاب لتتأمل أخلاق صاحبه فإن مالت إليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك، قال بشر بن سليمان: فامتثلت جميع ما حده لي مولاي في أمر الجارية فلما نظرت في الكتاب بكت بكاء شديدا وقالت للنخاس: -يعني صاحب هذا الكتاب ــ وحلفت بالمغلظة والمحرمة أنه متى امتنع عن بيعها قتلت نفسها فما زلت أشاححه في قيمتها حتى استقر الأمر على مافي الصرة التي أعطانيها مولاي فدفعت الدنانير وتسلمت الجارية ضاحكة مستبشرة وانصرفت بها إلى الحجرة التي أنا فيها ببغداد فما أخذها القرار حتى أخرجت كتاب مولانا عليه السلام وهي تلثمه وتضعه على عينها وخدها! فقلت متعجبا!، تلثمين كتابا لا تعرفين صاحبه؟ فقالت: أيها العاجز، الضعيف المعرفة بقدر أولاد الأنبياء، أعرني سمعك، وفرغ قلبك، أنا ملكية بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وأمي من ولد الحواريين تنسب إلى وصي المسيح شمعون .أنبئك بالعجب؟ إنّ جدي قيصر أراد أن يزوجني من ابن أخيه وأنا بنت ثلاثة عشر سنة فجمع في قصره من نسل الحواريين والقيسيسين والرهبان ثلاثمائة رجل، ومن ذوي الأخطار سبعمائة رجل، وجمع من أمراء الأجناد، وقواد العسكر، ونقباء الجيوش، وملوك العشائر أربعة آلاف، وأبرز من تحفه عرشا مصاغا من أصناف الجواهر ورفعه فوق أربعين مرقاة. فلما صعد ابن أخيه وأحدقت الصلبان، وقامت الأساقفة عُكفّاً، ونشرت أسفار الانجيل، فتسافلت الأصنام من الأعلى، ولصقت بالأرض، وتقوضت أعمدة العرش، فانهارت إلى القرار، وخرّ الصاعد من العرش مغشيا عليه، فتغيرت ألوان الأساقفة، وارتعدت فرائصهم وقال كبيرهم لجدي: أيها الملك اعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالة على زوال هذا الدين المسيحي، فتطير جدي من ذلك تطيرا شديدا وقال للأساقفة: أقيموا هذه الأعمدة والصلبان واحضروا أخا هذا المدبر العاهر المنكوس جده لأزوجه هذه الصبية فيدفع نحوسة أخيه عنكم بسعودة، ولما فعلوا ذلك، حدث بالثاني مثل الأول! فتفرق الناس وقام جدي مغتما ودخل منزل النساء وأرخيت الستور. ورأيت تلك الليلة كأن المسيح وشمعون وعدة من الحواريين قد اجتمعوا في قصر جدي ونصبوا فيه منبرا من نور يباري السماء علّوا وارتفاعا في الموضع الذي نصب فيه العرش ودخل القصر محمد وختنه ووصيه وعدة من أبنائه فتقدم المسيح فاعتنقه وقال له محمد: ياروح الله إني جئتك خاطبا من وصيك شمعون فتاته ملكية لابني هذا وأومأ بيده إلى أبي محمد بن صاحب هذا الكتاب فنظر المسيح إلى شمعون وقال له: قد أتاك الشرف فصل رحمك برحم آل محمد، قال: قد فعلت، فصعدوا ذلك المنبر وخطب محمد صلى الله عليه وآله وسلم وزوجني من ابنه وشهد المسيح على ذلك وشهد أبناء محمد صلى الله عليه وآله وسلم والحواريون فلما استيقظت اشتقت أن أقص هذه الرؤيا على أبي وجدي مخافة القتل وكنت أسرها في نفسي ولا أبديها لهم فضربت صدري محبة أبي محمد حتى امتنعت من الطعام والشراب فضعفت نفسي ورق شخصي فمرضت مرضا شديدا فما بقي في مدائن الروم طبيب إلاَّ أحضروه وسأله عن دوائي فلما برح بي اليأس، قال: يا قرة عيني هل يخطر ببالك شهوة فازودكها في هذه الدنيا؟ فقلت: يا جدي أرى أبواب الفرج عليّ مغلقة فلو كشفت العذاب عمن في سجنك من أسارى المسلمين وفككت عنهم الأغلال، رجوت أن يهب المسيح وأمه عافية، فلما فعل ذلك تجلدت في إظهارالصحة من بدني قليلا.. قليلا فتناولت يسيرا من الطعام، فسر بذلك وأقبل بإكرام الأسارى وإعزازهم، ثم رأيت في المنام أيضا بعد أربعة عشر ليلة كأن سيدة النساء قد زارتني ومعها مريم بنت عمران وألف من وصائف الجنان فتقول لي مريم: هذه سيدة النساء أم زوجك أبي محمد فأتعلق بها وأبكي وأشكو إليها امتناع أبي محمد من زيارتي فقالت سيدة النساء: إن ابني أبا محمد لا يزورك وأنت مشركة على مذهب النصارى وهذه أختي مريم تبرأ إلى الله تعالى من دينك! فإن أردت رضا الله والمسيح ومريم وزيارة أبي محمد عليه السلام فقولي أشهد أنّ لا اله إلاّ الله، وأنّ محمدا رسول الله فلما تكلمت بهذه الكلمة ضمتني سيدة النساء إلى صدرها وقالت: الآن توقعي زيارة أبي محمد عليه السلام، فابتسمت مشتاقة إلى لقاء أبي محمد وأتوقع لقاءه فلما كانت الليلة القابلة رأيت أبا محمد وكأني أقول: جفوتني يا حبيبي بعد أن أتلفت نفسي معالجة حبك فقال عليه السلام لي: (ما كان تأخري عنك إلا لشركك وقد أسلمت وأنا زائرك في كل ليلة إلى أن يجمع الله تعالى شملنا في العيان)، فلما قطع عني زيارته بعد ذلك إلى الآن، قال بشر، فقلت لها: فكيف وقعت في الأسارى؟ فقالت: أخبرني أبو محمد ليلة من الليالي إنّ جدك سيسير جيشه إلى قتال المسلمين يوم كذا وكذا، ثم يتبعهم فعليك باللحاق بهم في زي الخدم متنكرة مع الوصائف، ففعلت ذلك فوقعت علينا طلائع المسلمين حتى كان من أمري ما رأيت وشاهدت وما شعر أحد بأني ابنة ملك الروم إلى هذه الغاية سواك، ولقد سألني الشيخ الذي وفقت إليه في سهم الغنيمة عن اسمي؟ فقلت: نرجس، فقال: اسم الحواري، قلت: نعم، فقال: العجيب أنك رومية ولسانك عربي؟، قلت: نعم إن جدي محب لي جعل امرأة عربية ترجمانة لي حتى استمر لساني على العربية، قال بشر: فلما انكفأت بها إلى سر من رأى ودخلت على مولاي أبي الحسن عليه السلام فقال: (وكيف أراك الله عز الإسلام وذل النصرانية وشرف محمد صلى الله عليه وآله وسلم واهل بيته)؟ فقلت: كيف أصف لك يابن رسول الله ما أنت أعلم به مني؟، ثم قال عليه السلام: (فإني أحب أن أكرمك فأيما أحب إليك ـ عشرة آلاف دينار ـ ؟ أم بشرى لك بشرف الأبد؟) فقالت: بل البشرى، فقال عليه السلام: (أبشري بولد يملأ الدنيا شرقا وغربا، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلما وجورا)، قالت: ممن قال عليه السلام: (من الذي خطبك رسول الله ليلة كذا في شهر كذا سنة كذا بالرومية من المسيح ووصيه؟)، قالت: من ابنك أبي محمد؟ فقال عليه السلام: (أتعرفينه؟)، قالت: وهل خلت ليلة لم يزرني فيها منذ ليلة إسلامي على يد سيدة النساء فقال الإمام عليه السلام: (يا كافور ادع أختي حكيمة)، فلما دخلت قال لها عليه السلام: (هاهي) فاعتنقتها طويلا، وتباشرت بها كثيرا فقال أبو الحسن عليه السلام: (خذيها إلى منزلك وعلميها الفرائض فإنها زوجة أبي محمد وأم القائم).

روى الصدوق والشيخ المرتضى وغيرهم بأسانيد معتبرة عن عبد الله المطهري قال: قصدت حكيمة بنت محمد بعد مضي أبي محمد أسألها عن الحجة عليه السلام؟، فقلت: يا سيدتي حديثيني بولادة مولاي وغيبته، قالت: نعم كانت عندي جارية يقال لها نرجس قد دفعها إليّ أبو الحسن عليه السلام فزارني أبو محمد وأقبل يجد النظر إليها، فقلت له يا سيدي: لعلك هويتها فأرسلها إليك؟ فقال:  عليه السلام: (لا يا عمة لكن العجب منها؟)، فقل: وما العجب منها؟ فقال عليه السلام: (سيخرج الله تعالى منها ولداً كريما على الله عز وجل الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلما وجوراً!)، فقلت: فأرسلها إليك يا سيدي؟ فقال عليه السلام: (استأذني في ذلك من أبي عليه السلام) قالت : فلبست ثيابي وأتيت منزل أبي الحسن فسلمت وجلست فبدأني( عليه السلام) وقال(يا حكيمة ابعثي بنرجس إلى ابني أبي محمد عليه السلام)، فقلت: يا سيدي أنا قصدتك استأذنك في ذلك، فقال عليه السلام: (يا مباركة إنّ الله تعالى أحب أن يشركك في الأجر ويجعل لك في الخير نصيبا)، قالت حكيمة فما لبثت أن رجعت إلى منزلي وزينتها وجئت بها إلى منزل أبي محمد وجمعت بينهما فأقام أياما، ثم مضى إلى والده فوجهت بها معه قالت حكيمة: فلما مضى أبو الحسن عليه السلام وجلس مكانه أبو محمد وكنت أزوره كما كنت أزور والده فاجئتني نرجس يوما تخلع خفي، وقالت: يامولاتي ناوليني خفك، فقلت: بل أنت سيدتي ومولاتي والله لا ادفع إليك خفي بل أخدمك ببصري، فسمع أبو محمد عليه السلام ذلك فقال: (جزاك الله خيرا يا عمة)، فجلست عنده إلى غروب الشمس فصحت بالجارية وقلت: ناوليني ثيابي لأنصرف، فقال عليه السلام : (يا عمتاه لا تبرحي الليلة فإنه سيولد الليلة المولود الكريم على الله الذي يحيى به الله الأرض بعد موتها)، قلت: ممن يا سيدي؟، قال عليه السلام : (من نرجس)، قلت: يا سيدي لا أرى بها الحمل، فقال عليه السلام: (منها لامن غيرها)، قالت: فوثبت فقلبتها فلم أرَ بها اثر الحمل، فعدت إليه فأخبرته فتبسم عليه السلام ثم قال لي (إذا كان وقت الفجر يظهر أمر الله ومثلها مثل أم موسى وهو نظير موسى، ثم قال عليه السلام: (إنا معاشر الأوصياء لسنا نحمل في البطون وإنما نحمل في الجنوب ولا نخرج من الأرحام وإنما نخرج من الفخذ الأيمن لأننا نور الله الذي لاتدنسه الدانسات)، قالت: فلما أن صليت المغرب والعشاء أتيت بالمائدة فأفطرت أنا ونرجس فبتنا في البيت أنا ونرجس فغفوت غفوة ثم استيقظت فلم أزل مفكرة فيما وعد لي أبو محمد عليه السلاممن أمر ولي الله فقمت قبل الوقت الذي كنت أقوم كل ليلة وصليت صلاة الليل حتى إذا بلغت الوتر وثبت نرجس فزعة مرعوبة وخرجت وأسبغت الوضوء، ثم عادت فصلت حتى بلغت الوتر فوقع في قلبي أنّ الفجر قد قرب فنظرت فإذا بالفجر الأول قد طلع فدخل في قلبي الشك من وعد أبي محمد عليه السلام فناداني من حجرته: (لا تشكي يا عمة فكأنك بالأمر الساعة)، قالت حكيمة: فاستحييت منه عليه السلاممماوقع في قلبي، حتى إذا كان الفجر الصادق وثبت نرجس فزعة فضممتها إلى صدري وسميت عليها قال لي أبو محمد أقرئي عليها  ]اِنَّا اَنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ [، فأقبلت اقرأ عليها كما أمرني فأجابني الجنين من بطنها يقرأ كما اقرأ وسلم عليّ ففزعت من ذلك فصاح أبو محمد عليه السلام وقال: (لاتعجبي من أمر الله إنّ الله تعالى ينطقنا بالحكمة صغارا ويجعلنا حُججه كبارا)، فلم يستتم الكلام حتى غيبت عني نرجس فلم أرها وكأن ضرب بيني وبينها حجاب فعدوت نحو أبي محمد وانا صارخة فقال عليه السلام: (ارجعي يا عمة فانك تجدينها في مكانك)، فرجعت فلم ألبث أنْ كشف الحجاب وإذا بها وعليها من أثر النور ما غشى بصري وإذا بالصبي عليه السلام ساجد على وجهه جاثيا على ركبتيه رافعا سبابته نحو السماء وهو يقول: (أشهد أنّ لا اله إلاّ الله وحده لاشريك له، وان جدي رسول الله وان أبي أمير المؤمنين ثم عد إماما حتى بلغ نفسه فقال عليه السلام) : (اللهم أنجز لي ما وعدتني وأقم لي أمري وثبت لي وطأتي وأملأ الارض بي قسطا وعدلا)، ورأيت نوارا ساطعا قد ظهر منه وبلغ أفق السماء ورأيت طيورا بيضاء تهبط من السماء وتمسح أجنحتها على رأسه وسائر جسده ثم تطير، فناداني أبو محمد عليه السلام وهو يقول: (يا عمة هاتي ابني إليىّ)، فناولته وإذا هو نظيف مفروغ منه وعلى ذراعه الأيمن مكتوب جاء الحق وزهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا، فاتيته به فتناوله وأخرج لسانه فمسحه على عينيه ففتحهما، ثم أدخله في فيه فحنكه به، ثم أدخله في أذنيه وأجلسه في راحلته اليسرى فاستوى ولي الله جالسا فمسح يده على رأسه وقال عليه السلام: (يابني انطق بقدرة الله)، فاستعاذ من الشيطان واستفتح بسم الله الرحمن الرحيم ]وَنُريدُ اَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي اْلاَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ اَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي اْلاَرْضِ وَنُرِىَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [، وصلى على رسول الله وعلى الأئمة واحدا.. واحدا حتى انتهى إلى أبيه، ثم أتت الطيور ترفرف على رأسه فصاح بطير منها فقال عليه السلام: (احمله وردّه إلينا في كل أربعين يوما)، فتناوله الطائر وطار به في جو السماء واتبعه سائر الطيور فسمعت أبا محمد يقول عليه السلام: (أستودعك الله الذي استودعته أم موسى)، فبكت نرجس فقال لها عليه السلام: (اسكتي فان الرضاع محرم عليه إلاَّ من ثدييك وسيعاد إليك كما ردّ موسى إلى أمه)، قالت حكيمة فقلت: ما هذا الطائر؟ فقال عليه السلام: (هذا روح القدس الموكل بالأئمة يوفقهم ويسدهم ويزينهم بالعلم)، قالت حكيمة: فلما كان بعد أربعين يوما رد الغلام ووجه إلى ابن أخي، فدخلت عليه فإذا أنا بصبي متحرك يمشي بين يديه فقلت: يا سيدي هذا ابن سنتين! فتبسم ثم قال عليه السلام: (إن أولاد الأنبياء والأوصياء إذا كانوا أئمة ينشأون بخلاف ما ينشأ غيرهم، وإنّ الصبي إذا أتى عليه شهر كان كمن يأتي عليه سنة وإنّ الصبي منا ليتكلم في بطن أمه ويقرأ القرآن ويعبد ربه عز وجل وعند الرضاع تطيعه الملائكة وتنزل إليه صباحا ومساء)، قالت حكيمة: فلم أزل أرى ذلك الصبي كل أربعين يوماً إلى أن رأيته رجلا قبل مضي أبي محمد بأيام قلائل فلم اعرفه فقلت لأبن أخي من هذا الذي تأمرني أن أجلس بين يديه؟ فقال عليه السلام: (ابن نرجس خليفتي من بعدي وعن قليل تفقدوني فاسمعي له وأطيعي)، قالت حكيمة: فمضى أبي محمد بأيام قلائل وافترق الناس كما ترى والله إني لأراه صباحا ومساء، وإنه ليخبرني عما تسألوني عنه فأخبركم والله إني لأريد أن اسأله عن الشيء فيخبرني به وإنه ليرد عليّ الأمر فيخرج إلى جوابه من ساعته من غير مسألتي وقد أخبرني البارحة بمجيئك إليّ أيها السائل وأمرني أن أخبرك بالحق، قال محمد بن عبد الله: فوالله لقد أخبرتني حكيمة بأشياء لم يطلع عليها أحد إلا الله فعلمت أن ذلك صدق وعدل من الله .

روى نسيم الخادم لأبي محمد قال: دخلت على أبي محمد وصاحب الزمان في المهد بعد مولده بعشرة أيام فعطست فقال لي عليه السلام: (يرحمك الله من مهده)، فعجبت فقال( عليه السلام): (الا أبشرك بالعطاس هو أمان من الموت إلى ثلاثة أيام).

روى الطبرسي عن أبي جعفر قال عليه السلام(القائم منا منصور بالرعب تطوى له الأرض مؤيد بالنصر وتظهر له الكنوز ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب، ويظهر الله دينه على الدين كله ولو كره المشركون فلا يبقى على وجه الأرض خراب إلاّ وعُمّر، وينزل الله روح الله عيسى بن مريم فيصلي خلفه)، قال الراوي فقلت: يابن رسول الله ومتى يظهر قائمكم؟، قال عليه السلام : (إذا تشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، واكتفى الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وركب ذوات الفروج السروج، وقبلت شهادة الزور، وردت شهادة العدل، واستخف الناس بالزنا، والريا، وأُحل الربا وأتقى الأشداء مخافة ألسنتهم، وخرج السفياني من الشام، واليماني من اليمن، وخسف البيداء، وقتل غلام من آل محمد بين الركن والمقام،

 

اسمه محمد بن الحسن النفس الزكية، وجاءت صيحة من السماء، بأن الحق معه ومع شيعته فعند ذلك، خروج قائمنا، فإذا خرج أسند ظهره إلى الكعبة واجتمع إليه ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا فأول ما ينطق به هذه الآية  ]بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنٍينَ[ ثم يقول عليه السلام: (أنا بقية الله وحجته عليكم وخليفته)، فلا يسلم عليه مسلم إلاّ قال: السلام عليك يا بقية الله في الأرض، فإذا اجتمع العقد عشرة آلاف رجل فلا يبقى في معبود دون الله من هضم غيره إلاّ وقعت فيه نارا أحرقت وذلك بعد غيبة طويلة ليعلم الله من يطيعه بالغيب ويؤمن به)، وقد ذكروا في علامات ظهوره أمور كثيرة غير ما ذكرنا على سبيل الاختصار، فمن أراد فليراجعها في محالها المبسوطة، وهذا شيء ذكرناه استعجالا تيمنا وتبركا به وأن يكون الختام مسكا، عجل الله فرجه، وسهل مخرجه، وجعلنا من أنصاره وأعوانه.

 


([1]) المدنف: من اشتد به المرض .

(1) دبر: زال ما عليها من اللحم.

(1) المرط:ما تحتجب به المراة من ثوب و نحوه.

(2) الناضح: الجمل الذي يستقى عليه.

(1) الخيش:الليف.

(2) الاذخر:نوع من حشو الوسائد.

(1) غداة قرة:صبيحة باردة.

(1) المعطس:الانف.

 
 
البرمجة والتصميم بواسطة : MWD