Our several means to the Right-straight path

سبلنا متعددة

إلـى الصراط المستقيم

المقدمة

الحمد لله الذي أنعم علينا بالصراط المستقيم والصلاة والسلام على الدليل إليه محمد سيد المرسلين وعلى آله سبل الحق الذين عن الحق لا يعدلون.

وبعد:

فهذه محاولة للاستفادة من كتاب الله العزيز لوحدة المسلمين وعدم تكفير بعضهم لبعض، وذلك لأن سبل المؤمنين متعددة فلكل مؤمن سبيل إلى الله تعالى يقربه إليه فهناك سبيل الأبرار، وسبيل المتقين، وسبيل المخبتين، وسبيل الزاهدين، وسبيل الصابرين، وجميعها تصب في الصراط المستقيم، فكل مسلم اتخذ مذهباً معيّناً يعتقد بأن هذا السبيل هو الأكمل والأفضل في قربه إلى الصراط المستقيم، وإن أصحاب سبل الحق يعتقدون أنّ كل مؤمن بالله واليوم الآخر فهو من أصحاب الجنة ولا يخلد في النار إلاَّ المشركون المعاندون.

ولأهمية الصراط المستقيم فقد تكرر لفظ الصراط في سورة الفاتحة التي نقرؤها في كل صلاة مرتين إذ لا صلاة إلاَّ بفاتحة الكتاب، وقد بيّن الله تعالى الصراط المستقيم بنفسه لأن صراطاً يكون مبدأه من الله تعالى ومنتهاه إليه كيف يمكن وصفه؟ فلا يقدر المخلوق أن يصفه إلاَّ بما وصفه الخالق بقول الجامع في قوله: [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ] فمن يقدر أن يحدَّ هذه النعمة العظمى التي هي أجل مواهب الله تعالى في الدنيا والآخرة. وبما أن الإنسان يحتاج إلى أن يمثّل له بمصداق في الواقع يقتدي به، وهو المصداق إلى الصراط المستقيم المتجسّد فيه طلباً للهداية إلى الصراط المستقيم، فقد حددت الروايات الشريفة المصداق العملي للصراط المستقيم.

وقد تناولت في بحثي تعريف الصراط والسبيل لغة وعند المفسرين ومعنى الاستقامة، ثم تطرّقت إلى ركني الصراط المستقيم من علم وعمل ومراتب وجوده ومميزاته والفرق بينه وبين السبيل والحاجة إليه، ثم أوضحت خصائص أصحاب الصراط المستقيم والانحراف عن الصراط المستقيم. وفي ختام بحثي تكلمت عن مصاديق الصراط المستقيم.

أسأل الله تعالى أن يكون هذا العمل ذخراً لي في يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون أنه ولي التوفيق.

تعريف الصراط لغة:

هو الطريق المستقيم. والصاد فيه منقلبة عن السين وقُلبتْ صاداً لأجل الطاء وهي اللغة الفصحى لغة قريش، ويجمع في الكثرة على صُرُطٍ ككتاب وكتب وفي القلة قياسه أصْرُطٌ. فالسراط بالسين الجَّادَةُ مِنْ سَرَطَ الشيءَ إذا ابتلعه لأنه يسرط المارة إذا سلكوه مأخوذ من سرطت سرطاً إذا بلعت بلعاً، وسرط الطعام إذا ابتلعته، وكأنه يبلع سالكيه فلا يدعهم يخرجوا عنه، ولا يدفعهم عن بطنه. ويستوي فيه المذكر والمؤنث كالطريق والسبيل. قال الجوهري: الصراط والسراط والزراط: الطريق(1)، وهو ما يتوصّل به بالسير إلى المقصود. وقد يكون غير حسي فيقال: الاحتياط طريق النجاة، وإطاعة الله طريق الجنة. وإطلاقه على الطريق غير الحسي، إما لعموم المعنى اللغوي وإما من باب التشبيه والاستعارة.

تعريف السبيل لغة:

السبيل: الطريق الذي فيه سهولة، يذكر ويؤنث والتأنيث فيها أغلب، وجمعه سبل، قال الله تعالى: [وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً]([1])، وقال تعالى: [لَيَصُدُّونَهُمْ عَنْ السَّبِيلِ]([2]) يعني به طريق الحق. لأن اسم الجنس إذا أطلق يختص بما هو الحق وعلى ذلك قوله تعالى: [ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ]([3]) وفي النزيل العزيز كل سبيل أريد به الله عزَّ وجل وهو برُّ فهو داخل في سبيل الله.

وقيل لسالك السبيل: سابل وجمعه سابلة، وابن السبيل المسافر البعيد عن منزلة ولا يجد ما يتبلغ به فله من الصدقات نصيب ونسب إلى السبيل لممارسته إياه.

ويستعمل السبيل لكل ما يتوصل به إلى شيء خيراً كان أو شراً، كقوله تعالى: [وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ]([4]). وسبل السلام أي طريق الجنة([5]). وإذا نسب السبيل إلى الله فهو طريق إلى طاعته. كقوله تعالى [وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ]([6]) فيما لله فيه طاعته.

الصراط عند المفسرين:

هو الصراط الذي يصل بسالكه إلى النعيم الأبدي وإلى رضوان الله، وهو أن يطيع المخلوق خالقه ولا يعصيه في شيء من أوامره ونواهيه وأن لا يعبد غيره، وهو الصراط الذي لا عوج فيه. قال الله تعالى: [وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]([7])، وقوله تعالى: [وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا]([8])، [إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ]([9]).

ووصف الله تعالى الصراط المستقيم بالاستقامة، ثم بين أنه الصراط الذي يسلكه الذين أنعم الله تعالى عليهم. فالصراط الذي من شأنه ذلك هو الذي سئل الهداية إليه وهو بمعنى الغاية للعبادة أي: أن العبد يسأل ربه أن تقع عبادته الخالصة في هذا الصراط بقوله: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]. قال الكلبي: اهدنا إلى الطريق القائم وهو الإسلام، وقال مقاتل: اهدنا إلى دين الإسلام، وقال ابن مسعود اهدنا إلى كتاب الله، وقال الضحّاك اهدنا إلى طريق الجنة.

وفسّر الصراط المستقيم بدين الإسلام الذي لا يقبل الله من العباد غيره، وإنما سمي الدين صراطاً لأنه يؤدي بِمَنْ يسلكه إلى الجنة، كما أن الصراط يؤدي بِمَنْ يسلكه إلى مقصده. قال تعالى: [هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ] أي طريق حق عليَّ أن أراعيه([10]).

وأوضح صاحب روح المعاني أن الصراط المستقيم هو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في كل من الأخلاق والأعمال([11])، وأكّدَ ذلك في قوله تعالى: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا]([12]) وقد بين القرآن الكريم معنى الصراط المستقيم الذي يطلبه الإنسان في عدة آيات كريمة منها:

1ــ قوله تعالى: [قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا]([13]) فجعل الدين هو الصراط المستقيم.

2ــ قوله تعالى: [وَاتَّبِعُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ]([14]). فجعل أتباع النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم)  هو الصراط المستقيم، وكذلك قوله تعالى: [وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنْ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ]([15]).

وجميع هذه الآيات المباركة بيان لأمر واحد وهو الدين الذي أراده الله تعالى لخلقه وعبّر عنه بالنور في الآيات الكثيرة([16]).

السبيل عند المفسرين:

هو الطريق الموصل إلى الصراط، واختلاف السبل لا يوجب اختلاف في أصل الصراط، فمثل الصراط المستقيم والسبل المؤدية إليه مثل البحر وما يتفرع عنه من الجداول، فالبحر يفيض على الكل، والكل مستفيض من البحر، وكلها موصوفة بالاستقامة والرشاد وبإزائها الاعوجاج والانحراف، والسبل المنحرفة المتفرقة هي سبل الشيطان. قال تعالى: [وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ]([17]) أي الأديان المختلفة والطرق التابعة للهوى([18]).

معنى الاستقامة:

الاستقامة: هي الاستواء أو الاعتدال في مقابل الانحراف والاعوجاج، وإن الاستقامة تعم الاعتقاد والملكات والخواطر النفسانية وأعمال الجوارح من العبادات والمعاملات والمجاملات فإنها إن طابقت مع رضاء الله تبارك وتعالى كانت مستقيمة وإلاَّ فهي منحرفة.

قال الله تعالى: [وَمَنْ يعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]([19]). فالاستقامة لا تحصل في جميع الموجودات إلاَّ إذا طابقت مع ما جعله الله تعالى لها في النظام الأحسن وإلاَّ خرجت عن الاستقامة([20]).

ركنا الصراط المستقيم:

للصراط المستقيم ركنان:

الأول: الاعتقاد الصحيح أي الإيمان الصحيح ولا يتم إلاَّ بالعلم، فالذين أخلوا بالاعتقادات الصحيحة هم من أهل البدع والكفر وهم الضالون.

الثاني: العمل بالشريعة، فالذين أخلوا بالشريعة هم المغضوب عليهم.

إن القرآن الكريم بيّن ركني الصراط المستقيم وهما العلم والعمل وبمجموعهما يكون الصراط المستقيم، وأمّا إذا لم يجتمع هذان الركنان بل كان أحدهما أو كلاهما يشوبهما نقص كان هذا سبيلا. وإن كل سبيل بمقدار ما يتضمنه من علم وعمل يحدد قربه من الصراط المستقيم. فكلما كان السبيل يتضمّن أكثر علماً وعملاً كان أقرب إلى الصراط المستقيم والعكس بالعكس.

فالمؤمن يطلب الهداية إلى الصراط المستقيم وذلك لهدايته من سبيل إلى سبيل أعلى وأقرب إلى الصراط المستقيم نظير العالم الذي يطلب من الله مزيداً من العلم بقوله (ربِّ زدني علماً) مع أنه عالم لأن علم الله لا منتهى له. فكذلك كل سائر في سبيل يطلب الهداية إلى سبيل آخر أكمل وأقرب إلى الصراط المستقيم([21]).

مراتب وجود الصراط المستقيم:

للصراط المستقيم مراتب من الوجود:

الأولى: مرتبة البيان وإتمام الحجة وهي من الله تبارك وتعالى وأنبيائه العظام وأوصيائه عليهم أفضل الصلاة والسلام، ويدخل في ذلك جميع الشرائع الإلهية والرسالات السماوية.

الثانية: مرتبة الاعتقاد.

الثالثة: مرتبة العمل.

والمرتبتان الثانية والثالثة من وظائف العبد إلاَّ أن الثانية أشقهما عليه.

الرابعة: مرتبة ظهور الصراط في النشأة الآخرة، وهذه المرتبة للصراط في يوم القيامة الذي لابد من العبور عليه للوصول إلى محل الخلود، فالعبور وضعي لا أن يكون تكليفياً إذ لا تكليف في يوم القيامة وإن اختلف زمان العبور وكيفيته تبعاً لاختلاف درجات العابرين ومعنوياتهم([22]).

مميزات الصراط المستقيم:

1ــ وصف الله تعالى الصراط بالاستقامة غالباً بقوله: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]([23])، وقوله [وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ]([24]). وقد أضيف الصراط إليه تعالى بأنحاء الإضافة كقوله تعالى: [وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا]([25])، وقوله تعالى: [صِرَاطِ اللَّهِ]([26])، وقوله تعالى: [إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ]([27]). ولم يضف الصراط إلى غير الله تعالى إلاَّ نادراً بخلاف السبيل فإنه أُضيف إلى غيره تعالى كثيراً.

2ــ ان الصراط لا يسلكه إلاَّ الذين أنعم الله تعالى عليهم بالهداية، فهو غاية العبادة، فإن عبادة العبد تقع خالصة إذا سلك الصراط. قال تعالى: [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ]([28])، فأصحاب الصراط المستقيم مُنْعَمٌ عليهم بنعمة هي أرفع النعم قدراً، فهم ركّبوا صراط لا يقع فيه شرك ولا ظلم البتة، كما لا يقع فيه ضلال البتة لا في باطن الجنان من كفر أو خطور لا يرضى به الرحمن، ولا في ظاهر الجوارح والأركان من فعل معصية أو قصور في طاعة. وهذا هو التوحيد الحق علماً وعملاً لا ثالث لهما.

3ــ الصراط المستقيم هو الطريق إلى الدرجات العالية أي إلى العلو، قال الله تعالى: [يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ]([29])، بيـنما الـمغـضوب عليهم طريقهم إلى السفل. قال تعالى: [وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى]([30]). والهوي هو السقوط إلى الأسفل.

4ــ الصراط المستقيم ما لا يتخلّف حكمه في هدايته وإيصال سالكيه إلى غايتهم ومقصدهم، قال تعالى: [فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا]([31])، أي لا يتخلف أمر هذه الهداية.

وقال تعالى: [فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا]([32]). أي الطريقة التي لا تختلف ولا تتخلّف. قال تعالى: [قَالَ هَذَا صرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ]([33])، أي هذه سنتي وطريقتي دائماً من غير تغيير.

5ــ الصراط المستـقيـم لا يجامـع الضلال. قال تعـالى: [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ  الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ]([34])، بينما الإيمان يجامع الضلال بقوله تعالى: [وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ]([35])، فبين أن من الشرك هو الضلال ما يجتمع مع الإيمان([36]).

6ــ إن الهداية إلى الصراط المستقيم نعمة لا تعطى لكل أحد فهي عطية خاصة من الله تعالى. ولما كان الصراط المستقيم هو أقرب الطرق الموصلة إلى الله تعالى فكلما قرب الإنسان من الصراط المستقيم يسمو ويعلو حتى يصبح أفضل من الملك المقرّب، وقد يصل إلى مقام لا يصله حتى الملك المقرّب، وكلما ابتعد عن الصراط المستقيم تسافل في القوة الشهوانية والضلال حتى قد يصبح أسوأ من إبليس.

7ــ لقد أنعم الله تعالى على الأمم السابقة بالصراط المستقيم وذلك مما يدل عليه قوله تعالى: [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ].

8ــ إن الصراط جاء بلفظ الإفراد في القرآن الكريم بينما جاء لفظ السبيل بالجمع والإفراد فإن عبادة الله لا تنحصر في نوع معين بل تعم أفعال الجانحة وأفعال الجارحة  على كثرتها فقد يلاحظ المعنى العام الشامل لهذه الأفعال كلها فيعبّر عنه باللفظ المفرد كالصراط المستقيم والصراط السوي، وقد تلاحظ الأنواع على كثرتها من الإيمان بالله وبـرسوله وبالمعـاد، ومن الصـلاة والصيـام والحـج ومـا سـوى ذلك فيعبّر عنـها بالجمع، كقوله تعالى: [يهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ]([37])، وقوله تعالى: [وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا]([38])، وقوله تعالى: [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا]([39]).

9ــ إن الصراط المستقيم أصل الكمالات، وينبعث منه سائر الكمالات في المخلوقات، فلا يدرك عظمته ولا يتصور فيه نقص، وينطوي فيه جميع المعارف الإلهية، وما يتصور فيه الاشتداد والضعف إنما هو من ناحية المتعلق. فالصراط المستقيم حقيقته واحدة كالنور وله مراتب وتختلف آثاره على متعلقه من حيث المراتب.

10ــ ان الصراط المستقيم مهيمن على جميع السبل فكذلك أصحابه مهيمنون على أصحاب السبل.

11ــ إن كل سبيل قريب إلى الحق بمقدار ما يتضمنه من مميزات وخصوصيات الصراط المستقيم، فالسبيل موصل إلى الحق بقيد وشرط ما تضمنه من نعوت وخصوصيات الصراط المستقيم، بينما الصراط المستقيم موصل إلى الحق من دون قيد أو شرط، فالصراط المستقيم غايته موصلة إلى مليك مقتدر أي القرب الإلهي، بينما السبيل طريق موصل غايته إلى السعادة الأبدية هي الدخول إلى الجنة بقيد وشرط وجود صفات الصراط المستقيم فيه.

الفرق بين الصراط والسبيل في القرآن الكريم:

1ــ إن القرآن الكريم أفرد الصراط المستقيم بخلاف السبيل، فقد ورد بالجمع والمفرد، فالصراط واحد والسبيل متعدد. وإن صيرورة الصراط المستقيم واحداً لأن الإنسان متحرك وسائر إلى الله تعالى، والحركة فيها مبدأ ومنتهى، وأقرب الطرق بين المبدأ والمنتهى هو الخط المستقيم وهو الصراط المستقيم وهو أقرب الطرق إلى الله تعالى، وأقرب الطرق لا يتعدد بل هو طريق واحد فلم يَنْسِبِ اللهُ سُبْحانَهُ وَتعالى إلى نَفْسِهِ أزيد من صراط واحد. بينما السبل متعددة وليست هي أقرب الطرق إلى الله تعالى.

2ــ إن الله سبحانه وتعالى لم ينسب الصراط المستقيم إلى غيره إلاَّ في هذه الآية الكريمة [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ] وهذا الاستثناء على نحو التخصيص أو التخصص، فالاستثناء هنا ليس مُتَّصِلاً، كما ليس هنا صراطان صراط الله وصراط الذين أنعمت عليهم، بل هو صراط واحد لكن هنا لبيان المتعلق أي صراط الله هو صراط الذين أنعمت عليهم.

بينما عدَّ الله سبحانه وتعالى لنفسه سبلاً كثيرة فقال عزَّ من قائل: [وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا]([40])، كما نسب السبيل إلى غيره من خلقه، فقال تعالى: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ]([41])، وقال تعالى: [سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ]([42])، وقال تعالى: [سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ]([43]).

3ــ إن الصراط المستقيم مقصده الحق ويؤدي إلى الجنة، بينما السبل قد تؤدي إلى الجنة فيما إذا صبت في الصراط المستقيم، قوله تعالى: [لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا]([44])، وقد تؤدي إلى الجحيم فيما لو كانت لا تصب في الصراط المستقيم قوله تعالى: [لاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ]([45]). فالصراط والسبيل ليس كل منهما في قبال الآخر بل هنالك نحو علاقة وارتباط. وهذه العلاقة لها احتمالان:

الأول: الصراط المستقيم هو الطريق الواسع الكبير وسبل الحق هي الطرق الفرعية المؤدية إلى الطريق المستقيم، وذلك من خلال اتصال بعضها إلى بعض واتحادها فيه.

الثاني: إن الصراط المستقيم هو نفس سبل الحق الكثيرة. وهذا ما ذهب إليه العلامة الطباطبائي في ميزانه([46])، ومعنى هذا أن الصراط المستقيم موجود في كل سبل الحق، ولكن بدرجات مختلفة، ومثاله كالعالم بكل العلوم يتخرج منه الفقهاء والنحويون والأطباء والفلاسفة وغيرهم، فالعالم مثال الصراط المستقيم والمتخرجون من تلامذته هي السبل فكل سبيل يمثل الصراط المستقيم في صفته كما أن الفيلسوف يمثل العالم في فلسفته والنحوي يمثل العالم في نحوه وهكذا.

4ــ الصراط المستقيم لا يشوبه ظلم أو ضلال أو شرك وهو الطريق الخالص المنزّه علماً وعملاً إلى الله سبحانه وتعالى فسمى العبادة صراطاً مستقيماً لقوله تعالى: [وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ]([47])، وسمي الدين صراطاً مستقيما لقوله تعالى: [ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا]([48]), بينما كل السبل يشوبها ظلم أو شرك أو ضلال، أو يجامع شيئاً من النقص أو آفة لقوله تعالى: [وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ]([49])، لذا هي تعدد بحسب الدرجات فإذا أراد الإنسان أن يعلم كم درجة هو قريب من الصراط المستقيم فلابد أن ينظر إلى سبيله، فللسبيل مراتب كثيرة من جهة خلوصه وشوبه وقربه وبعده من الصراط المستقيم.

الحاجة إلى الصراط المستقيم:

إن الصراط لا يكون صراطاً إلاَّ بمرور المارَّةِ عليه، وإن الخلائق كلها متوجهة شطر الحق تَوَجُّهاً غريزياً وحركة جِبِلّيّةً نحو مسبب الأسباب، وفي هذه الحركة الجبلية لا يتصور في حقهم الضلال والانحراف عمّا عيّن الله لكل منهم، والله آخِذٌ بناصيتهم كما قال الله تعالى: [مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]([50]).

فكل دابة أخذ الله عزَّ وجل بناصيتها وعليه رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كما قال تعالى: [مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ]([51]) فتكون مفطورة على المشي على نهج الاستقامة من غير ضلال.

وأمّا مسمى الإنسان فسنخ وجود متحرك لا ساكن، والحركة من خصائصها فيها مبدأ وفيها منتهى كما وصفه القرآن المجيد: [يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ]([52]) أي مسافر، أي لابد من وجود مبدأ ومنتهى، فلابد من هذا السفر من صراط يبدأ به حركته وينتهي به، فالصراط المادي يبدأ بنطفة ثم علقة ثم أنشأهنَّ خلقاً آخر من صبي ثم مميز ثم بالغ مكلف ثم هرم ثم أرذل العمر وهكذا إلى منتهاه الموت ثم الحشر ثم البعث، وهذا هو السفر المادي.

وأمّا سفره المعنوي وهو إلى الله تعالى يصل به كما وصل رسولنا الأعظم إلى قاب قوسين أو أدنى، ثم درجات درجات. وهذا السفر يحتاج إلى صراط، فالمؤمن يسلك هذا الصراط فيلاقي ربه في الجنة. لذا جعل القرآن الكريم أفضل الطرق للوصول إلى الله تعالى هو الطريق المستقيم وهو لا يتخلف ولا يختلف أي لا يتغير أمره وشأنه وحكمه في هداية سالكيه إلى غايتهم ومقاصدهم.

ولما كان للإنسان الاختيار المخالف للطبع فيه، ومزاحمة قوة الوهم التي تعتريه يتصور في حقه الضلال والغواية والنكال والغباوة من جهة حركاته الاختيارية الموروثة له قرباً أو بعداً من الله المثمرة له سعادة أو شقاوة في
الدار الآخرة. فيحتاج إلى من يهديه ويذكر له العهد القديم ويثبته على الصراط المستقيم فالهادي هو الله بالحقيقة بواسطة الكتاب العزيز والرسول  (صلى الله عليه وآله وسلم)  ومن يقوم مقامه من الأئمة الهداة  (عليهم السلام)  ، فيختص الإنسان من بين سائر المخلوقات بأن هداه الله بالهدايتين التكوينية والوضعية من جهة حركتيه الاضطرارية والاختيارية، وجمع لأجله بين الدعوتين العامة والخاصة، وشرع له الشريعتين، وساسه بالسياستين المطبوعة والمجعولة، وأوجب عليه الحكمين التكويني والتدويني وذلك لاشتماله على مبدأ الحركتين الذاتية والإرادية.

والحركة الإرادية للإنسان إلى الله فهي حركة في الكيف النفساني معدة له في سرعة اللحوق له إلى الله من جهة استكمال كلا جزئيه العملي والعلمي بواسطة الأفكار والأذكار الملطفة له والأعمال والأفعال المقربة إياه إلى الله، وجنس هذه الحركة مما يتطرق فيه الصواب والخطأ والاستقامة على الصراط والضلال، وهذا بخلاف الحركة الأولى لكونها جوهرية ذاتية متوجهة شطر كعبة الحق لا يتصور فيها الخطأ والانحراف ولا يكون إلاَّ على وجه الصواب والاستقامة [وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ]([53]) إشارة إلى الحركة الذاتية الغريزية الشوقية المفطورة عليها الكائنات، وقوله تعالى [فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ] إشارة إلى الحركة الاختيارية الإرادية للإنسان التي بها يقع الاستباق للخيرات([54]).

فالحاصل أنَّ الجميع سائرون إلى الله سبحانه وتعالى، ثم إن الطريق أو السبيل ليس سبيلاً واحداً ذا نعت واحد بل هو منشعب إلى شعبتين منقسم إلى طريقين، فقال تعالى: [أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ أَنْ لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ  وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ]([55]) فوصف الله تعالى الذين لا يؤمنون سبلهم بعيدة عن الله تعالى وعن الصراط المستقيم، فقال تعالى: [أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ]([56])، وأمّا الذين آمنوا بالله وركبوا الطريق المستقيم فإن الله قريب منهم قال تعالى: [فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ]([57]).

خصائص أصحاب الصراط المستقيم:

1 ــ إن أصحاب الصراط المستقيم موحدون حق التوحيد علماً وعملاً لا يشوب باطنهم وظاهرهم شرك وضلال وظلم.

2ــ إنَّ أصحاب الصراط المستقيم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إن تساووا في العمل فهم يختلفون في المراتب بحسب العلم كما تشير الآيات الكريمة.

3ــ إن أصحاب الصراط المستقيم يتركون المعاصي لأن المعصية لا توافق طبعهم فهم يعلمون باطن الإثم وظاهره، وكذلك العمل الواجب موافق إلى طبعهم فالتكاليف لم تكن مشقة عليهم.

4ــ إنَّ أصحاب الصراط المستقيم مهيمنون على أصحاب السبل كما أن الصراط المستقيم مهيمن على السبل.

5ــ أصحاب الصراط المستقيم هم الكاملون المحقون المخلصون، وهم الذين جمعوا بين معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به([58]).

الانحراف عن الصراط المستقيم:

الانحراف عن الصراط المستقيم وقوع في الظلمات التي لها أنواع كثيرة يجمعها قوله تعالى: [عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ]([59])، وذكر تعالى المغضوب عليهم والضالين بعنوان الجمع إشارة إلى التعدد والاختلاف وعدم الوحدة فيه، بخلاف الصراط المستقيم فإنه واحد لا تعدد فيه بوجه، وهو
النور الذي لم يستعمل في القرآن إلاَّ مفرداً. كقوله تعالى: [يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ
مَنْ يَشَاءُ]([60]). بخلاف الظلمات بالجمع قال تعالى: [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ
 مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ]([61]).

فالنور والصراط المستقيم لا يعقل التعدد فيه لأن مبدأه منه تعالى، كما أنَّ بقاءه به ومنتهاه إليه، بخلاف الظلمات فإنها مختلفة حسب الاعتقادات والأهواء الباطلة، قال تعالى: [قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ  ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ]([62])، وقد انحرفت اليهود عن الصراط المستقيم وذلك من خلال تحديد أبعاد الصراط المستقيم بذكر ثلاثة أبعاد وحدود له في سورة الفاتحة، ومن خلالها يمكن أن نفهم معنى الصراط مصداقاً، ففي قوله تعالى: [صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ] فالأبعاد هي النعمة، وغير المغضوب عليهم، ولا الضالين.

وبقرينة بعض الآيات القرآنية التي تتحدث عن نزول الغضب الإلهي على اليهود مثل قوله تعالى: [وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ]([63])، وأضاف إليهم بعض المشركين والمنافقين لهذه القرينة حيث وردت في القرآن الكريم الإشارة إلى نزول الغضب على المنافقين والمشركين أيضاً، مثل
قوله تعالى: [وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ  بِاللَّهِ  
ظَنَّ  السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا]([64]).

مصاديق الصراط المستقيم:

إنَّ الصراط المستقيم له عدة وجودات:

أولاً: الوجود اللفظي للصراط المستقيم:

إن العمل بالشريعة الإسلامية هو السلوك في الصراط المستقيم
اللفظي، فالصراط المستقيم ديناً قيماً، فالدين الوجود اللفظي للصراط المستقيم. وهذا هو المعنى الروائي للصراط المستقيم الدنيوي ففي تفسير الفرات الكوفي روي عن رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم)  قال في قوله عزَّ وجل [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ]: (دين الله الذي نزل به جبرائيل  (عليه السلام)   على محمد بن عبد الله  (صلى الله عليه وآله وسلم) ([65]). وقال صاحب جوامع الجامع: (وسمي الدين صراطاً لأنه يؤدي بمن يسلكه إلى الجنة، كما أنَّ الصراط يؤدي بمن يسلكه إلى مقصده)([66]).

وقيل معنى الصراط المستقيم العبادة لقوله تعالى: [وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ]، والقرآن يفسّر بعضه بعضاً([67]). وأوضح صدر المتألهين بأن الصراط المستقيم هو الطريق الحق من ملة الإسلام([68])، باعتباره الممثل لمنهج الاستقامة بكل معانيه.

وروي عن النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم)  والإمام علي  (عليه السلام)   وابن مسعود: (أن الصراط المستقيم هو كتاب الله)، وقيل: (إنه الإسلام) وهو المروي عن جابر وابن عباس، وقيل (إنه دين الله الذي لا يقبل غيره) وهو المروي عن محمد بن الحنفية([69]).

وقال بعضهم بأن المقصود به هو كل ما يوصل إلى الله، ويكون طريقاً وهادياً إليه، فإذا فسّرنا الإسلام بهذا فيكون المقصود هو، وإذا أريد من الإسلام أضيق من هذا فحينئذٍ لابد أن يصدق الصراط المستقيم على الإسلام وغيره([70]).

ثانياً: الوجود العملي للصراط المستقيم:

لابد للإنسان في الاعتقاد والإدراك لمفهوم الفضيلة والخير أن يمثل له بمصداق في الواقع يقتدي به، فما هو المصداق للصراط المستقيم المتجسّد فيه؟ فإمّا إذا كان الصراط المستقيم ليس له مصداق أصبح من القضية الخيالية فيكون الدعوة إليه عبث. وقد أوضحت الروايات الشريفة المصداق العملي للصراط المستقيم وهو النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم)  والأئمة المعصومون القائمون مقامه  (عليهم السلام)   وذلك لأن الصراط المستقيم لا يسانخه ظلم ولا شرك ولا ضلال وليس له مصداق إلاَّ العصمة من أهل بيت النبوة  (عليهم السلام)   وتشير الروايات إلى ذلك:

1ــ عن داود بن فرقد عن الإمام أبي عبد الله الصادق  (عليه السلام)   قال: [اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ] يعني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب  (عليه السلام)  ([71]).

2ــ وروى المفضل بن عمر قال: سألت الإمام أبا عبد الله الصادق  (عليه السلام)   عن الصراط فقال: (هو الطريق إلى معرفة الله عزَّ وجل وهما صراطان: صراط الدنيا وصراط الآخرة، فأما الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة فيمن عرفه في الدنيا واقتدى به مرَّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة ومن لم يعرفه في الدنيا زلّت قدمه على الصراط في الآخرة فتردى في نار جهنم)، لما روي عنه أيضاً قال: (الصراط المستقيم هو محمد وأهل بيته  (عليهم السلام)  )([72]).

وروي عن ابن عباس بأن الصراط المستقيم هو حب محمد  (صلى الله عليه وآله وسلم)  وأهل بيته  (عليهم السلام)  ([73]).

وروي هن ابن عباس بأن الصراط المستقيم هو حب محمد  (صلى الله عليه وآله وسلم)  وأهل بيته  (عليهم السلام)  .

3ــ وروي عن الإمام سيد العابدين علي بن الحسين  (عليه السلام)   قال: (نحن أبواب الجنة ونحن الصراط المستقيم).

4ــ وروي عن الإمام أبي الحسن الرضا  (عليه السلام)   قال: قلت: [أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ]([74]). قال: (إن لله ضرب مثل من حاد عن ولاية علي  (عليه السلام)   كمثل من يمشي على وجهه لا يهتدي لأمره وجعل من تبعه سوياً على الصراط المستقيم، والصراط المستقيم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب  (عليه السلام)   ([75]).

5ـ روى في تفسير القمي عن حماد عن الإمام أبي عبد الله الصادق  (عليه السلام)   في قوله: (الصراط المستقيم) قال: (هو أمير المؤمنين ومعرفته، والدليل على أنه أمير المؤمنين قوله تعالى: [وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ] وهو أمير المؤمنين  (عليه السلام)   في أم الكتاب وفي قوله الصراط المستقيم)([76]).

وذكر صاحب روح المعاني أن المروي من مصاديق الصراط المستقيم هو يعسوب الدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب  (عليه السلام)  ([77]).

فإذا قلنا (اهدنا الصراط المستقيم) وكان الصراط المستقيم هو الإمام علي  (عليه السلام)   فيعني اهدنا للكمالات الموجودة فيه لأنه مجمع الكمالات، فالهداية هنا ليس بنحو الموضوعية بل بنحو الطريقية، فعندنا الصراط المستقيم مفهوماً ومصداقاً، وهذا المصداق لا يشخّصه إلاَّ الوحي، وذلك لأننا لا نقدر التشخيص علماً وإنْ قلنا باستطاعتنا التشخيص عملاً بما أن ركنا الصراط المستقيم العلم والعمل. ومن المعلوم لم يدع أحد أنه مصداق للصراط المستقيم إلاَّ الأمام علي بن أبي طالب  (عليه السلام)  ، والإمام علي  (عليه السلام)   صادق في دعواه. فتستطيع أن تقيس علمك وعملك بمقدار ما أنتَ متقرب إلى الإمام علي  (عليه السلام)   علماً وعملاً تكون أنتَ متقرّب إلى الصراط المستقيم، فعندما توصف الروايات الشريفة بأن الإمام هو الصراط المستقيم أو هو ميزان الأعمال أي بمقايسة علمك وعملك إلى علم وعمل الأمام  (عليه السلام)   فإن كان هو هو، فأنت على الصراط المستقيم وإن لم يكن هو هو، فأنت منحرف عن الصراط المستقيم. ثم إن المعنى الروائي للصراط المستقيم هو من التعبير عن الكلي بالفرد وبيان أحد المصاديق أو أظهر المصاديق، وهذا كثير موجود في القرآن العظيم والسنة الشريفة وإلاَّ فإنّ المعصومين  (عليهم السلام)   جميعهم مصاديق للصراط المستقيم والوظيفة الأساسية لأصحاب الصراط المستقيم هي هداية أصحاب السبل وهذه الوظيفة تكوينية لهم.

ثالثاً: وجود الصراط المستقيم في الآخرة:

إن الصراط الأُخْرَوِيَّ الذي تسلك عليه وثبّت الله أقدامك عليه يوصلك إلى الجنة وهو مادي، وهذا الصراط نشأته وصنعته من هدايتك لنفسك في دار الدنيا وبما هداك الله من الأعمال القلبية والبدنية. وقد مرَّ هذا الصراط جسراً محسوساً على متن أوله في الموقف وآخره على باب الجنة.

وكل من يشاهده يعرف أنه صَنعتك وبناؤك. ولما كان الصراط في النار وما ثمَّ  طريق إلى الجنة إلاَّ عليه. قال تعالى: [وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا]([78]).

إن الإنسان من خلال علمه وعمله يوجد الصراط، وهذا المعنى موجود في الروايات الشريفة فإن من يمر على الصراط المستقيم يوم القيامة منهم كلمح البصر، ومنهم من يحبو عليه، ومنهم من يركض. روي عن سعدان بن مسلم عن الإمام أبي عبد الله الصادق  (عليه السلام)   قال: (سألته عن الصراط فقال  (عليه السلام)  : هو أدق من الشعر وأحد من السيف فمنهم من يمر عليه مثل البرق، ومنهم من يمر عليه مثل عدو الفرس، ومنهم من يمر عليه ماشياً، ومنهم من يمر عليه حبواً، ومنهم من يمر عليه متعلقاً فتأخذ النار منه شيئاً وتترك منه شيئاً)([79])، ومعلوم أن الرابطة بين الإنسان وعمله يوم القيامة من خلال تجسد الأعمال واتحاد العمل والعامل مثل الحديدة التي تقع في النار إلى أن تصبح هي ناراً، فبمقدار عمله تظهر آثار مجاوزته للصراط المستقيم.

ثم إنَّ ظهور الصراط المستقيم في الآخرة أبين وأوضح من ظهوره في الدنيا لأن في الآخرة ظهوره ظهور حسي إلاَّ لمن دعا إلى الله على بصيرة كما قال تعالى: [قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي]([80]). وقد جاء في الخبر أيضاً أن الصراط يظهر يوم القيامة منه للأبصار على قدر نور المارِّيْنَ عليه فيكون دقيقاً في حق بعض وعريضاً في حق آخرين، يصدق هذا الخبر قوله تعالى: [نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ]([81])، والسعي المشي، وما ثمَّ طريق إلى الله إلا الصراط، وإنما قال: بأيْمانهم لأن المؤمن في الآخرة لا شمال له، كما أن الكافر لا يمين له([82]).

 

الخــاتـمـة

وفي الختام أقول يا إلهي ويا سيدي اهدنا الصراط المستقيم إلى حقيقتك ونفسك فاهدنا سواء السبيل إلى رحمتك ورأفتك، وثبتنا على الطريقة الموصلة إليك وإلى أنسك ولقائكَ. فإني وإن أكن صفر اليد، وفي الأغلال والسجون الظلمانية والشهوية الشيطانية. ولكنني أحب التخلّص منها، وأعشق الوصول إلى حضرتك بربوبيتك من غير جد واجتهاد، تخيلا أن رحمتك ورأفتك تأخذني، وظناً بكَ وبحسن عشرتك بنا وللخلق أجمعين، فإن من وظائف العبودية حسن الظن بالله العظيم، فإن اهتدينا فبهدايتك.

والحمد لله أولاً وآخراً.

 

المـصــــادر

1ــ البيان في تفسير القرآن/ السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي (ت1413هـ)/ الطبعة الثانية/ مطبعة الآداب/ النجف الأشرف/ 1385هـ ــ 1966م.

2ــ تفسير جوامع الجامع/أمين الدين أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت548هـ)/ طهران/ مؤسسة النشر والطبع/ الطبعة الثالثة/1412هـ.

3ــ تفسير صدر المتألهين/صدر المتألهين محمد بن إبراهيم صدر الدين الشيرازي (ت 1050هـ)/قم/الطبعة الثانية/1366هـ.

4ــ تفسير فرات الكوفي/ أبو القاسم بن إبراهيم بن فرات الكوفي/مؤسسة الطباعة والنشر/ طهران/ الطبعة الأولى/1410هـ.

5ــ تفسير علي بن ابراهيم القمي (تفسير القمي)/علي بن إبراهيم بن هاشم القمي/ مؤسسة دار الكتاب للطباعة والنشر/قم/الطبعة الثالثة.

6ــ تفسير العياشي/ أبو النضر محمد بن مسعود بن عياش السلمي السمرقندي المعروف بالعياشي (ت340هـ)/ طهران/ المكتبة العلمية الإسلامية.

7ــ التفسير المنسوب إلى الإمام أبي محمد الحسن بن علي العسكري  (عليه السلام)  / تفسير الإمام الحسن العسكري  (عليه السلام)  / منسوب إلى الإمام أبي محمد الحسن بن علي العسكري  (عليه السلام)  / قم/مؤسسة المهدي (عجل الله فرجه)/الطبعة الأولى/1410هـ.

8ــ روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني/للعلامة الألوسي أبي الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي (ت1270هـ)/ دار إحياء التراث العربي/بيروت.

9ـ سفينة الراغب ودفينة المطالب/ محمد راغب باشا/ المطبعة الخديوية/ بولاق/ مصر/1282هـ.

10ــ لسان العرب/ ابن نظور.

11ــ ربيع الأحزان الموضح لكلمات القرآن/ الشيخ فخر الدين بن محمد علي أحمد طريح النجفي/ الناسخ غياث الدين محمد تبريزي/ سنة النسخ 1123هـ، مخطوطة.

12ــ المفردات في غريب القرآن/الراغب الأصفهاني/تحقيق: دكتور محمد أحمد خلف الله/ مكتبة الأنجلو مصرية.

13ـ مواهب الرحمن في تفسير القرآن/ السيد عبد الأعلى السبزواري/ مطبعة الآداب/ النجف الأشرف/1404هـ.

14ـ الميزان في تفسير القرآن/العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي/ الطبعة الثالثة/ مؤسسة الأعلمي للمطبوعات/1393هـ ــ 1973م/بيروت.

15ـ نهج البيان عن كشف معاني القرآن/ محمد بن الحسن الشيباني/ مؤسسة دائرة المعارف الإسلامية/ طهران/ الطبعة الأولى/1413هـ.

(1) لسان العرب: 2/ 430؛ المفردات: 412، 337.

([1]) سورة النحل, آية: 15.

([2]) سورة الزخرف, آية: 37.

([3]) سورة عبس, آية: 20.

([4]) سورة الأنعام, آية: 55.

([5]) لسان العرب/2/ 91، المفردات: 327.

([6]) سورة التوبة, آية: 60.

([7]) سورة الشورى, آية: 52.

([8]) سورة الأنعام, آية: 126.

([9]) سورة آل عمران, آية: 51.

([10]) م. ربيع الأحزان, حرف الطاء ما أوله صاد.

([11]) روح المعاني/1 /92.

([12]) سورة البقرة, آية: 143.

([13]) سورة الأنعام, آية: 161.

([14]) سورة الزخرف, آية: 61.

([15]) سورة المؤمنون, آية: 74.

([16]) البيان 518؛ سفينة الراغب: 356؛ مواهب الرحمن 1/ 42.

([17]) سورة الأنعام, آية: 153.

([18]) البيان 518؛ مواهب الرحمن 1/ 42.

([19]) سورة آل عمران, آية: 101.

([20]) مواهب الرحمن 1/ 42؛ البيان 518.

([21]) سفينة الراغب 356.

([22]) مواهب الرحمن 1/ 48.

([23]) سورة الفاتحة, آية: 6.

([24]) سورة يس, آية: 61.

([25]) سورة الأنعام, آية: 126.

([26]) سورة الشورى, آية: 53.

([27]) سورة ابراهيم, آية: 1.

([28]) سورة الفاتحة, آية: 7.

([29]) سورة المجادلة, آية 11.

([30]) سورة طه, آية: 81.

([31]) سورة النساء, آية: 175.

([32]) سورة الأنعام, آية: 125، 126.

([33]) سورة الحجر, آية: 42.

([34]) سورة الفاتحة, آية: 7.

([35]) سورة يوسف, آية: 106.

([36]) تفسير الميزان 1/ 31.

([37]) سورة المائدة, آية: 16.

([38]) سورة إبراهيم, آية: 12.

([39]) سورة العنكبوت, آية: 69.

([40]) سورة العنكبوت, آية: 69.

([41]) سورة يوسف, آية: 108.

([42]) سورة لقمان, آية: 15.

([43]) سورة النساء, آية: 114.

([44]) سورة العنكبوت, آية: 69.

([45]) سورة الأنعام, آية 153.

([46]) تفسير الميزان 1/ 35.

([47]) سورة يس, آية: 61.

([48]) سورة الأنعام, آية: 161.

([49]) سورة يوسف, آية: 106.

([50]) سورة هود, آية: 56.

([51]) سورة هود, آية: 6.

([52]) سورة الانشقاق, آية: 6.

([53]) سورة البقرة, آية: 148.

([54]) تفسير صدر المتألهين: 1/ 105.

([55]) سورة يس, آية: 60، 61.

([56]) سورة فصّلت, آية: 44.

([57]) سورة البقرة, آية: 186.

([58]) سفينة الراغب 356.

([59]) سورة الفاتحة, آية: 7.

([60]) سورة النور, آية: 35.

([61]) سورة البقرة, آية: 257.

([62]) سورة الأعراف, آية: 17.

([63]) سورة البقرة, آية: 61.

([64]) سورة الفتح, آية: 6.

([65]) تفسير الفرات الكوفي 1/ 51.

([66]) جوامع الجامع 1/ 8.

([67]) روح المعاني 1/ 92.

([68]) صدر المتألهين 1/ 101.

([69]) مجمع البيان 1/ 59.

([70]) تفسير سورة الحمد 221.

([71]) تفسير العياشي 1/ 24، تفسير الثقلين 1/ 21.

([72]) مواهب الرحمن 1/ 54.

([73]) المصدر نفسه 1/ 54.

([74]) سورة الملك, آية: 22.

([75]) تفسير الثقلين 1/ 21.

([76]) تفسير القمي 1/ 128.

([77]) روح المعاني 1/ 93.

([78]) سورة مريم, آية: 71، 72.

([79]) تفسير القمي 1/ 28.

([80]) سورة يوسف, آية: 108.

([81]) سورة التحريم, آية: 8.

([82]) تفسير صدر المتألهين : 1/106.

 
 
Design By : MWD