Mal Almethli wa al mal alqaimi

تأليف

الناشر 

العراق ـ النجف الأشرف

1434هـ ـ 2013م

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 [وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً]([1]).

[رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ]([2]).

[لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]([3]).

 

 

نوقشت هذه الرسالة

لنيل درجة الدكتوراه

في العلوم الإسلاميّة

في جامعة بغداد

سنة 1413 هجرية / 1992 ميلادية

 

         

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ الذي شَرَعَ دِينَه القيّمَ واصْطفاهُ في أَحْسَنِ تَقْوِيم, والصَلاةُ والسَّلامُ على مَنْ أَنزلَ عليه قرآنَه العزيزَ الحكيم, الذي عَجزَ أئِمةُ الفصاحة والبلاغةِ أَنْ يأتُوا بمثله ولو كان بعضهمِ لبعضٍ ظهيراً؛ لأنه كلام الواحدِ الأحَد السميع العليم, والصلاة والسَّلام على نبيه المصطفى وآلهِ الهُداةِ اللَّهاميم.

وبعدُ: فهذا الكتاب الذي بين يَدَيكَ أيُّها القارِئ الكريم هُوَ في الأَصْل رسالة دكتوراه تقدمَ بها سماحة العلاّمة حجة الإسلام والمسلمين الشيخ عباس كاشف الغِطاء مُدّ ظله إلى جامعة بغداد فرع العلوم الإسلامية, فأحرز بهِ الشهادةَ (شهادة الدكتوراه). وَمِمّا يُسَجَّلُ لهذا الكتاب القَيّم أَنَّهُ جاءَ كاشِفاً عَنْ مَدى الْعُمْق الفقهي الإسلامي, وَرَصانَةِ أسُسِ التَّشْرِيع المْتُكامِل, وَمَتانَةِ مَدارِكِ أَحكامِهِ في ديننا الحنيف, خصوصاً مدرسة آهل البيت  عليهم السلام, مُقارَنَةً بالقانُوْنِ
– الوضعيّ– العِراقي.

وقد حازَ هذا الكتابُ (جائزة الكتاب الأول) لسنة (1433هـ – 2011م) في الجمهورية الإسلامية الإيرانية, وعلى جائزتي اليونسكو والآيسسكو.

وانطلاقاً من شعور القائمين على شؤون مؤسسة كاشف الغطاء العامة في النجف الاشرف بادَرَتْ هذه المؤسَّسةُ في ضمن اهتماماتها بِنَشْرِ كُتُبِ التراث وإِحيائها, إلى القيامِ بنشر هذا الكتاب لِيَعمّ بِه النَفْعُ, وتتم الاستفادة من بُحوثهِ المقارنة.

والله الموَفّقِ

 

أبيات شعر تقريظ

للعلامة السيد عبد الستار الحسني دام عزه

سَما أبُوْ أَحْمَدَ بالْموَاهِبِ
 

 

وَنُوْرُهُ الساِطعُ في اْلَغياهِب
 

وَهْوَ بتصنيفاتهِ الْمُحَرّرةْ
 

 

أعْرَبَ حَقَّاً عن كمالِ الْمَقْدِرَةْ
 

فَسِفرهُ (القيمِيُّ) و(المثليُّ)
 

 

برهانُهُ في سبقه جلِيَّ
 

إِذْ حازَ فيه الفوْزَ في المضمارِ
 

 

فَمالَهُ في بَحْثه مُجارِي
 

وكيفَ لا يُرْمَقُ بالْعُيونِ
 

 

مِنْ عُلَماءِ الشرعِ والقانونِ
 

وقد حَوى مِنْ محكَمِ الدلائلِ
 

 

ما عَزَّ في التحقيق عَنْ مُماثلِ
 

حازَ بهِ مرتبةَ (الدكتُوْرِ)
 

 

على اصطلاح هذِهِ العُصورِ
 

وهي لديهِ مِنْ أَقَلِّ الرُّتَبِ
 

 

إِذْ نالَ في العِلْمِ أَتَمَّ اْلأرَبِ
 

وَحَسْبُ هذا السِّفْرِ مِنْ نَفاسَةْ
 

 

أَنَّ الهدى أَتْحَفَهُ أَقباسَهْ
 

أَفْضَلُ سِفْرٍ دُوْنَما كلامِ
 

 

قَدْ شَهدُوا لهُ بِهذا العامِ
 

فَكانَ بين الكُتُبِ اُلمقَدَّما
 

 

حَقّاً بإِجْماعِ فُحولِ الْعُلَما
 

فلا تقس بهِ سِواهُ أَبَدا
 

 

في باِبهِ إِنْ كُنْتَ تَبغي الرَّشَدا
 

وبامْتِيازٍ أَحْرَزَ الْمَفاخِرا
 

 

طُرَّاً (وَكُلُّ الصَّيْدِ في جَوْفِ الْفَرا)
 

أَدامَ بارِئ الورى الْعَبّاسا
 

 

لِكُلِّ ذِي يَراعَةٍ نِبْراسا
 

 

 

 

تأريخ فوز كتاب (المثلي والقيمي) بجائزة افضل كتاب
في سنة 1433هـ

ذا سِفْرُ عِلْمٍ جَلَّ تقويمُهُ

 

 

وَفاز مَحْبُوّاً بتكريمِ
 

والدهرُ في تأريخهِ: لاهجٌ
 

 

تَفَوّقَ المِثليُّ والقيميْ
 

 

 

من الأقل السيد عبد الستار الحسني عفا عنه المليك الغفار

 

 

 

 

 

ملخّص الرسالة:

يعنى هذا البحث باستنباط نظريّة عامّة في الفقه الإسلامي اصطلح عليها الباحث بنظريّة المال المثلي، والمال القيمي، وهي تستند إلى أصول الشريعة الإسلاميّة وقواعدها وأحكامها وإلى تطبيقات الفقهاء وآرائهم.

وتوزّعت جزيئات البحث على تمهيد وبابين وخاتمة.

تناولت في التمهيد: تعريف المال وأقسامه.

واشتمل الباب الأوّل: في تأسيس النظريّة على أربعة فصول: الفصل الأوّل: في تعريف المال المثلي والمال القيمي، والفصل الثاني: مماثلة وشروط وأركان المال المثلي والمال القيمي، والفصل الثالث: خلافة المثل أو القيمة للمضمون، والفصل الرابع تردّد المال بين المثليّة والقيميّة.

أمّا الباب الثاني: فهو في أحكام المال المثلي والمال القيمي، ويحتوي على ستّة فصول: الفصل الأوّل: في حكم تعذّر المثل، والفصل الثاني: في سقوط ونقصان وزيادة قيمة المثل، والفصل الثالث: في العوامل المؤثّرة في تحديد قيمة القيمي، والفصل الرابع: في تحديد حقّ المالك باختلاف الأمكنة، والفصل الخامس: في اختلاط وانقلاب المال المثلي والمال القيمي، والفصل السادس: في الفرق بين المال المثلي والمال القيمي.

وجاءت الخاتمة: في النتائج التي تَوصَّل إليها الباحث.

لقد سلك الباحث في طول البحث منهج الموازنة بين الآراء، وترجيح رأي على رأي بحسب قوّة الدليل، كما قام الباحث بالمقارنة مع القانون المدني العراقي، وتمّ الالتزام في البحث بتوثيق النصوص، والرجوع إلى المصادر الأصلية المعتمدة. وكان للباحث اجتهاد في الفهم والرأي, وختم البحث بخلاصة تضمّنت نتائج البحث وأهمّها التوصّل إلى نظريّة عامّة أختصّ بها الفقه الإسلامي, وتفرّد بصفته عائلة تشريعيّة مستقلّة.

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمد لله ربّ العالمين, والصلاة والسلام على محمّد وآله الغرّ الميامين, وصحبه الكرام المنتجبين إلى يوم الدين.

وبعد:

فللمال في الشريعة الإسلاميّة أهمّيّة خاصّة، وملحظ متميّز، فقد أستأثر بعناية فقهاء الإسلام قديماً وحديثاً، وأُولوه من العناية الفائقة ما تشهد به مصنّفاتهم الفقهيّة؛ إذ استفرت تلك الجهود المبذولة عن ثروة واسعة من الأحكام تعتزّ المكتبة الإسلاميّة بها.

وانصبت تلك الدراسات العميقة على بيان معالم الطرق المشروعة لكسبه ووجوه التصرّف به.

كما أضافت الحماية اللازمة له، فأوجبت احترام الأموال في أيدي أصحابها، ومنعت الاعتداء على أموال الغي. قال تعالى[وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِل]([4]). كما قرّره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ((لا يحلّ مال امرئ إلا بطيب نفسه))، و((كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه)). وفي تقرير هذه المعاني كثيرة من الآيات والروايات.

إنّ أهميّة الفقه الإسلامي – الذي بنيت قواعده العامّة على فكرة المصلحة والعدل – تظهر في أصالة مبادئه وقدرته على احتواء حاجات الناس وضمان مراعاتها في مختلف عصورهم وبيئاتهم.

أهمّيّة البحث:

وتتجلّى أهمّيّة البحث في كونه وسيلة لتحقيق غايات عدّة تعود منفعتها إلى الفرد والمجتمع، وتتّصل بمجموعها في النواحي الاقتصاديّة والاجتماعيّة والنفسيّة، كما تتّصل بالجوانب الأخرويّة.

ففيما يتّصل بالنواحي الاقتصاديّة – وهو أوّل ما يتبادر إلى الذهن من تلك الغايات – هو تحقيق ضمان ما يأكله الإنسان من مال الغير بالباطل، وإقامة التوازن الاقتصادي بين ما يعطي وما يأخذ في معاملاته.

ومن ثمرات هذا البحث ونتائجه الإيجابيّة – إذا ما تجاوزنا الغاية الاقتصاديّة – أنّه يبعث في الإنسان الطمأنينة بما يكفّله له من الحصانة المشروعة لحفظ حقوقه إضافة إلى ما ينميه فيه من عزيمة الإقدام على وضع ماله بيد الآخرين والثقة بهم في الوفاء.

وأمّا وظيفته الاجتماعيّة, فإنّه يحول بين أن يبغي أحد على مال أحد، ويحدّد سلوك القائمين بتلك الوظيفة لئلا يتعسّفوا في استعمال حقوقهم، كما يرد آثار بعض الأعمال السيئة على أصحابها.

كما تتأكّد أهمّيّة الموضوع في أنّه وسيلة تمنع وجود المنازعات أو تزيلها بدرء خطر العداوة والبغضاء، وما يعكسانه من آثار سيّئة على المجتمع.

ومن غايات البحث المهمّة ما هو أجلّ وأسمى من جميع ما تقدّم ذلك رسم الخطوط العريضة للمنهج الحقّ في ضوء مراعاته بما يضمن – من غير شكّ – تجاوز آثاره إلى الحياة الأخرى، وهو رضا الربّ في نيل الثواب ورفع العقاب.

فموضوع الرسالة يسلّط الضوء على ما من شأنه أن يحقّق غايات سامية هي فيما بين العبد وربّه، وفيما يتّصل بخلق الإنسان واقتصاده وبقيّة روابطه، وبقدر تعلّق الشخص بأبعاد هذه الغايات التي تنظّم سلوكه على أساس العدل وتضفي عليه الخير والطمأنينة.

ولمـّا كانت مسائل المال المثلي والمال القيمي موزّعة في أكثر الأبواب الفقهيّة، كالقرض وتلف المبيع بالعقد الفاسد وتلف وثيقة الرهن والوديعة والعارية بتعدّ وتفريط والغصب وغيرها, والكشف عن معالجة كلّ مسألة يحتاج إلى زمن لا تنهض به.

فترة إعداد أطروحة جامعيّة ويحتاج إلى مجلّدات؛ لذلك رأيت من المناسب أن اعرض الموضوع من خلال نظريّة متماسكة الأسس واضحة المعالم، تلمّ شتات الموضوع في قواعد عامّة وأحكام كلّيّة تجمع أصول المسائل كأداء المثل عن المثلي والقيمة عن القيمي, وهذا وجه في اختيار الموضوع.

وأمّا الوجه الثاني: فهو أنّ كثيراً من فقهاء القانون ومن تابعهم من الباحثين ما زالوا يروّجون لفكرة أنّ الفقه الإسلامي ليس له عناية بالنظريات ولا المبادئ العامّة بالأخصّ فيما يتّصل بالمسؤوليّة المدنيّة، وأنّه فقه حوادث جزئية ووقائع عمليّة ومسائل افتراضيّة. وهذا لم يكن عيباً بل يعدّ مزية وليس هو أمارة على القصور.

إنّ إبراز نظريّة في الفقه الإسلامي يسهم في إبراز المنهج العملي والتفكير المنطقي الذي جرى عليه الفقهاء المسلمون وهو يكشف – في الوقت عينه – عن شموليّة هذا الفقه وحيويّته.

إنّ عنوان المال المثلي والمال القيمي مبنيّ على انقسام المال إلى قسمين، وطبيعة الحال ينحصر البحث في الأموال التي تقبل القسمة، وأمّا الأموال التي لا تكون إلاّ من قسم واحد وهي المنافع, فإنّها لا تكون إلاّ أموالاً قيميّة تخرج عن موضوع الرسالة، فالمنافع المستوفاة والمتلفة والتي تقع المعاوضة عليها تخرج عن البحث؛ لأنّها لا تكون إلاّ أموالاً قيميّة.

هذا إذا أعدّت المنافع أموالاً كما عليه جمهور الفقهاء، وأمّا إذا سلبتَ عنوان الماليّة كما هو المشهور عند فقهاء الحنفيّة, فخروجها عن موضوع الرسالة واضح؛ إذ هي ليست أموالاً كما سيأتي توضيح ذلك.

وقد استقريت أبواب الفقه الإسلامي لأبين الأحكام والفتاوى التي صدرت من قبل فقهاء المسلمين القائمة على أساس تقسيم المال إلى مثلي وقيمي.

وشملت النظرية قسم المعاملات في أكثر من باب من أبواب الفقه الإسلامي، وإن كان أهمّ مصبّ من مسائل نظريّة المال المثلي والمال القيمي هو الضمان لما يتوجّب على الضامن في إبراء ذمّته أو المقرض عند الوفاء.

ولقد سلكتُ في البحث منهجيّة الفقهاء ولكن خلال منهجيّتهم أرسم منهجيّة الرسالة من خلال مناقشة الآراء وبيان الرأي المختار حتى يكون القارئ على إطّلاع ومعرفة بالفرق بين المنهجيّتين.

وكان من طبيعة البحث أن ينتظم في تمهيد، وبابين، وخاتمة.

وقد جاء التمهيد في تعريف المال وأقسامه مشتملاً على مبحثين:

المبحث الأوّل: في تعريف المال, ويحتوي على ثلاثة مطالب، المطلب الأوّل: في المعنى اللغوي للمال، والمطلب الثاني: في المعنى الاصطلاحي للمال، والمطلب الثالث: في تعريف المال في القانون المدني.

أمّا المبحث الثاني: فهو في تقسيم المال.

أمّا الباب الأوّل: فهو في تأسيس النظريّة ويشتمل على أربعة فصول.

تناولت في الفصل الأوّل: تعريف المال المثلي والمال القيمي، ويحتوي على ثلاثة مباحث:

المبحث الأوّل: تعريف المال المثلي, وفيه ثلاثة مطالب. المطلب الأوّل: المعنى اللغوي للمثل، والمطلب الثاني: تعريف المال المثلي اصطلاحاً، والمطلب الثالث: تعريف الفقهاء المحدثين.

والمبحث الثاني: تعريف المال القيمي، ويحتوي على مطلبين، المطلب الأوّل: المعنى اللغوي للقيمة، والمطلب الثاني: تعريف المال القيمي اصطلاحاً.

والمبحث الثالث: تعريف المال المثلي والقيمي في القانون.

واشتمل الفصل الثاني على أربعة مباحث:

المبحث الأوّل: في المماثلة في الأموال, ويحتوي على مطلبين: المطلب الأوّل: في الصفات التي تعتبر فيها المماثلة، والمطلب الثاني: المماثلة المعتبرة في الشرع.

والمبحث الثاني: شروط وأركان المال المثلي والمال القيمي.

والمبحث الثالث: حصر الأموال المثليّة والأموال القيميّة.

وأمّا المبحث الرابع: فهو في اختلاف المال المثلي والمال القيمي حسب المكان والزمان.

وتناولت في الفصل الثالث: خلافة المثل أو القيمة للمضمون, ويحتوي على ثلاثة مباحث:

المبحث الأوّل: في الضمان قبل تعذّر المضمون، ويشمل على مطلبين، المطلب الأوّل: الأصل دفع العين، المطلب الثاني: الأصل ردّ المثل أو القيمة.

المبحث الثاني: في ضمان بعد تعذّر ردّ العين، ويشتمل على مطلبين، المطلب الأوّل: الأصل في الضمان المثل، والمطلب الثاني: الأصل في الضمان القيمة.

والمبحث الثالث: تحديد تفريغ الذمّة في المال القيمي، ويشتمل على مطلبين: المطلب الأوّل: القول بدفع المثل، والمطلب الثاني: القول بدفع القيمة.

أمّا الفصل الرابع: فقد جاء في تردّد المال بين المثليّة أو القيميّة واحتوى على ستّة مباحث:

المبحث الأوّل: في القول بدفع المثل.

والمبحث الثاني: في القول بدفع القيمة.

والمبحث الثالث: في القول بتخيير الضامن أو المالك، واشتمل على مطلبين، المطلب الأوّل: في القول بتخيير الضامن، والمطلب الثاني: في القول بتخيير المالك.

وجاء المبحث الرابع: في القول بحكم القرعة.

والمبحث الخامس: القول بالصلح القهري.

والمبحث السادس: القول بالتصنيف.

وجاء الباب الثاني: في أحكام المال المثلي والمال القيمي، واشتمل على ستّة فصول:

الفصل الأوّل: في حكم تعذّر المثل، ويحتوي على خمسة مباحث.

فتكلّمت في المبحث الأوّل: على المراد بالتعذّر والفقدان، ويشمل على مطلبين، المطلب الأوّل: في التعذر حسب الأمكنة، والمطلب الثاني: في التعذر حسب الزمان.

وتناولت في المبحث الثاني: ما يثبت في الذمّة بعد تعذّر المثل.

والمبحث الثالث: في تفريغ الذمّة بدفع القيمة بعد تعذّر المثل، ويشتمل على مطلبين: المطلب الأوّل: في توقّف دفع قيمة المثل المتعذّر على المطالبة، والمطلب الثاني: القيمة المدفوعة عند تعذّر المثل.

والمبحث الرابع: في تشخيص الوقت لتحديد قيمة المثل أو المثلي.

وجاء المبحث الخامس: في التمكّن من المثل بعد دفع القيمة.

وتعرّضت في الفصل الثاني: لسقوط ونقصان وزيادة قيمة المثل، وهو يحتوي على ثلاثة مباحث:

المبحث الأوّل: في سقوط المثل عن الماليّة، وأشتمل على ثلاثة مطالب: المطلب الأوّل: القول بدفع القيمة، والمطلب الثاني: القول بدفع المثل، والمطلب الثالث: في تعيين قيمة المثل الساقط عن الماليّة.

وجاء المبحث الثاني: في نقصان قيمة المثل عن المثلي.

أما المبحث الثالث: ففي زيادة قيمة المثل عن المثلي.

وتطرّقت في الفصل الثالث: إلى العوامل المؤثّرة في تحديد قيمة القيمي.

وتعرّضت في الفصل الرابع: إلى تحديد حقّ المالك باختلاف الأمكنة، ويشتمل على مبحثين:

المبحث الأوّل: في تحديد حقّ المالك في المال المثلي حسب الأمكنة، وفيه مطلبان، المطلب الأوّل: تحديد حقّ المالك في غير الأثمان، والمطلب الثاني: مطالبة الأثمان حسب الأمكنة.

أمّا المبحث الثاني: ففي تحديد حقّ المالك في المال القيمي حسب الأمكنة.

وتطرّقت في الفصل الخامس: إلى اختلاط وانقلاب المال المثلي والمال القيمي، ويحتوي على مبحثين:

المبحث الأوّل: اختلاط المال المثلي والمال القيمي، ويشمل على أربعة مطالب: المطلب الأول: في اختلاط المثلي بمثله، والمطلب الثاني: اختلاط المثلي بأجود منه، والمطلب الثالث: اختلاط المثلي بأردأ منه، والمطلب الرابع: اختلاط المثلي بغيره، والمطلب الخامس: اختلاط المثلي بالماء، والمطلب السادس: اختلاط المال القيمي.

أما المبحث الثاني: ففي انقلاب المال المثلي والمال القيمي, ويحتوي على أربعة مطالب: المطلب الأول: في انقلاب المال المثلي إلى مال قيمي، والمطلب الثاني: انقلاب المال القيمي إلى مال مثلي، والمطلب الثالث: انقلاب المال المثلي, إلى مال مثلي آخر، والمطلب الرابع: انقلاب المال القيمي إلى مال قيمي آخر.

وجاء الفصل السادس: في الفرق بين المال المثلي والمال القيمي، وأشتمل على أربعة مباحث:

المبحث الأوّل: في المقاصّة في الأموال المثليّة والأموال القيميّة.

والمبحث الثاني: في الفرق بين كون الثمن في السلم مثليّاً أو قيمياً, ويحتوي على مطلبين: المطلب الأوّل: اشتراط معرفة مقدار الثمن إذا كان مثلياً في عقد السلم. والمطلب الثاني: في عدم اشتراط معرفة مقدار الثمن إذا كان مثلياً في عقد السلم.

وجاء المبحث الثالث: في الثمن المثلي أو القيمي في المرابحة والتولية والوضيعة.

أمّا المبحث الرابع: ففي الشفعة في المال المثلي والمال القيمي.

وجاءت الخاتمة: في النتائج التي توصّل إليها الباحث.

ونظراً لأهمّيّة الموضوع، فانّ دراستي له ستكون مقارنةً بين آراء فقهاء الشريعة الإسلاميّة، كما أبيّن رأي القانون المدني العراقي، ومقارنته برأي فقهاء الشريعة.

فقد حاولتُ في ذلك أنّ أرجع إلى رأي الفقيه في أيّ مذهب إلى الكتب المعتمدة لديهم، وعرض الأقوال بكلّ موضوعيّة وتجرّد، موازناً بين الآراء, ومناقشاً إياهّا مستنداً إلى أدلة الشرع، وقواعده ومبادئه وأصوله، لأخلص إلى ترجيح ما قام الدليل على رجحانه في نظري.

كما اعتنيتُ – قدر الوسع – بذكر آراء القانون العراقي المدني؛ معتمداً على موادّ التقنيات المدنيّة، وآراء شرّاح القانون؛ مقتصراً عليه، ولم أغفل إيراد التطبيقات القضائيّة، وبالأخصّ قضاء محكمة التمييز في العراق.

وأمّا المباحث التي لم أذكر فيها رأي القانون المدني العراقي فيها، فالسبب هو عدم وجود موادّ قانونيّة، أو آراء لفقهاء القانون تبيّن رأي القانون في تلك الواقعة.

ولقد اعتمدتُ في تحصيل مسائل رسالتي، وآراء الفقهاء والمذاهب الإسلاميّة المختلفة – وهي الإماميّة، الحنفيّة، الشافعيّة، الحنبليّة، المالكيّة، الزيديّة، الظاهريّة، والآباضية – على الكتب المعتمدة لكلّ مذهب من هذه المذاهب من مطبوعات وبعض من المخطوطات، ورمزتُ للمخطوط بحرف ((م)) أمّا عنوان الكتاب وكتب التفسير، والحديث، وعلم الرجال، حيثما أحوَجني البحثُ إلى ذلك، وكذلك كتب القانون المدني العراقي وشروحه.

إنّ ما جاء في الرسالة إن كنت أصبت فيه فذلك من فضل الله، وإن كنت أخطأت فذلك منّي؛ فإنّني قصدتُ بلوغ المرام، فلست أدّعي لبحثي هذا بلوغ شاكلة الصواب وإصابة مفصل الحقيقة في لحمته وسُداه، ولكّنه جهد المستطاع، وغاية الوسع، ونتيجة الجهد الدائب، والسعي المتّصل، وصدق الله العليّ العظيم؛ إذ يقول: [لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ]([5]).

 

تمهيد

تعريف المال وأقسامه:

قال الله تعالى في كتابه العزيز: [الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً]([6]).

أخبر الله سبحانه وتعالى عن المال بأنّه زينة الحياة الدنيا، فهو محور السعادة متى أخذ من مصادر مشروعة، وصرف في مواضعه المطلوبة شرعاً، ومن أكبر أسباب الشقاء إذا عدل به عن الصراط السوي، وهو مدعاة الحضارة والعمران، كما أنّه مجلبة الدمار والخسران، عليه تزدحم المطامع، وبه تنال المآرب. وبينما تجده مثار الفتن، ومعترك النزاع؛ إذ تراه يصارع الضغائن فيصرعها، ويستأصل الأحقاد من منابتها فيجتثّها، لو لاه لاستراح القضاة من أكثر القضايا، ولأَمِنَ العطبَ كثير من نفوس البرايا، لفظ ضئيل، ومعنىً كبير، بنيت عليه المعاملاتُ، وتفرّعت منه أكثرُ المخاصمات. وقد ذكر القرآن الكريم لفظَ المال ستّاً وثمانين مرّة. فلابدّ من معرفة معناه لما يتعلّق به من أحكام شرعيّة ينبغي العمل بها، كإخراج أموال الزكاة، ومعرفة ما يثبت في الذمّة بمثله، وما يثبت بقيمته، وما يقع فيه الربا وما لا يقع، وغيرها من الأحكام، وقبل أن نستعرض تعريف الفقهاء للمال لتحديد المعنى الشرعي له، لابد أن نقف على المعنى اللغوي له.

 

المبحث الأوّل

تعريف المال

المطلب الأوّل: المعنى اللغوي للمال:

المال مشتقّ من مادّة ((مَوَلَ))، يذكّر ويؤنّث، يقال هو المال وهي المال. والمال معروف, ولا عجب في القول بأنّ معنى المال معروف؛ لأنّ من يقال له مثلاً: ليس لك أن تعتدي على مال غيرك، لا يسأل عن المراد بهذه الكلمة، بل يفهما على الفور، على أنّ صاحب لسان العرب رأى أن يزيد الأمر وضوحاً, فقال: المال معروف: ما ملّكته من جميع الأشياء، وجمعه أموال([7]) ويوضح ابن الأثير المراد بالمال أكثر فيقول: ((المال في الأصل: ما يملك من الذهب والفضّة، ثمّ أطلق على كلّ ما يقتنى ويملك من الأعيان))([8]) وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنّها كانت أكثر أموالهم... وفي المأثور: (نهى عن إضاعة المال) قيل: أراد به الحيوان. وأوضح ابن جنّي أصل المال من ((مَوِلَ بوزن فَرِقَ))، ثمّ انقلبت الواو ألفاً؛ لتحرّكها وانفتاح ما قبلها، فصارت مالاً، ومال الرجل يَموُل، ويمال مولاً ومؤولاً إذا صار ذا مال، وامرأة ملية ذات مال، وتصغيرهُ مَويل.

وما أموَلََهُ, أي ما أكثر مالَهُ([9]).

والحقيقة أنّ المال يطلق على معانٍ عدّة تختلف ضيقاً واتّساعاً، إذ أنّ منهم من خصّصه بما يملك من الذهب والفضّة.

وقال آخرون: إنّ المال هو الثياب والمتاع والعروض.

وأمّا من توسّع، فقد عرّفه بأنّه: كل ما يقتنى ويملك من جميع الأشياء كما مرّ، ويشهد على ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يقول ابن آدم: مالي مالي. وهل لك يا ابن آدم من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيتَ، أو لبستَ فأبليتَ، أو تصدّقت فأمضيتَ))([10]).

وبناءً على هذا، فإنّ المال في اللغة يشمل جميع ما يملكه الإنسان من ذهب، وفضّة، وحيوان، ونبات، وأرض.

أمّا ما لا يملكه الإنسان، فلا يسمّى مالاً في اللغة، كالطير في الهواء، والسمك في الماء، والمعادن في باطن الأرض.

ويلاحظ من جميع هذه النقول أنّ المال في اللغة يطلق على كلّ ما تملّكه الإنسان وحازة بالفعل. أمّا ما لا يملكه ولم يدخل في حيازته بالفعل، فلا يعدّ مالاً في اللغة، ومن هنا عُلِمَ سبب اختلاف العرب في إطلاق أسم المال، فكلّ فريق يسمّى ما معه مالاً، فأهل الإبل يسمّونها مالاً، وأهل النخيل يسمونها مالاً، وأهل الذهب والفضّة يسمّونها مالاً، وهكذا.

فالتغاير في معنى المال يأتي بناءً على الغالب في عرف الناس من الأموال.

ويرد على التعريف اللغوي بأنّ الدّّين مال، مع العلم بأنّه ليس داخلاً في التعريف، ولا سيّما إذا كان الدَّين في ذمّة المدين، كما لم يشمل تعريفهم المنفعة، ولم تعدّ من الأموال؛ إذ مثّلوا بالأعيان فقط ولعلّ عذرهم في ذلك أنّ وظيفة اللغوي تنحصر في بيان موارد استعمال الكلمة، فاكتفى بذكر ما يطلق عليه لفظ المال دون بيان الماهيّة.

المطلب الثاني: المعنى الاصطلاحي للمال:

اختلف الفقهاء في تحديد المعنى الاصطلاحي للمال تبعاً لاختلاف نظرهم فيما يعدّ مالاً، وما لا يعدّ على اتّجاهين:

الاتّجاه الأوّل: تعريف المال عند جمهور الفقهاء:

توسّع جمهور الفقهاء في تحديد المعنى الاصطلاحي للمال، فشمل الأعيان والمنافع وبعض الحقوق([11]).

الإماميّة حدّد فقهاء الإماميّة مفهوم المال والماليّة من خلال كلامهم على كون المبيع متموّلاً.

وقد أوضح العلاّمة الحلّي مفهوم المال بما كان فيه منفعة مقصودة، وهذه المنفعة محلّلة عند الشارع، فما لا منفعة فيه ليس مالاً، وما اسقط الشارع منفعته لا يعتبر مالاً، كآلات القمار واللهو والخمر، وذلك بقوله([12]) ((لا يجوز بيع ما لا منفعة فيه، لأنّه ليس مالاً)).

فلا يؤخذ في مقابلته المال، كالحبّة والحبّتين من الحنطة، ولا يعدّ ما لا ينتفع به مالاً. كبعض الحشرات, والحيوانات, والفضلات, والديدان لخسّتها، وعدم التفات نظر الشارع إلى مثلها في التقويم، ولا تثبت الملكيّة لأحد عليها، ولا اعتبار بما يورد في الخواصّ من منافعها، فإنّها مع ذلك لا تعدّ مالاً.

ويلاحظ أنّ تعريف العلامة الحلّي يقتضي حصر الماليّة في العين، ولعلَّ عذره أنّ مقصودة هنا فيما يصحّ بيعه من الأموال, فذكر الأعيان فقط، بينما في عقد الإجارة عدّ المنفعة من الأموال, وذلك من خلال تعريفه لها بأنّها ((عقد يقتضي تمليك منفعة خاصّة بعوض معلوم))([13]).

وجاء في القاعدة (240) من كتاب القواعد والفوائد مفهوم المال من خلال الكلام في كون المبيع ممّا يتموّل، وذلك بعدم صحّة العقد على ما لا يتموّل؛ لعدم الانتفاع به، كحبّة الدخن؛ لأنّ بذل المال في مقابلها سفه([14]).

والظاهر أنّ مقياس الماليّة هو ما أشرتُ إليه سابقاً وهو ما ينتفع به منفعة محلّلة مقصودة عند العقلاء والشرع.

وحدّد صاحب المكاسب مفهوم المال بما ينتفع به منفعة مقصودة للعقلاء، محلّلة في الشرع، وأحترز بهذا:

أوّلاً: ما لا ينتفع به منفعة مقصودة للعقلاء، فليس مالاً عرفاً, كالحشرات والديدان؛ فإنّها لا يصحّ عرفاً بذل المال بإزائها، ونفي الفائدة عنها، وقسّم عدم الانتفاع إلى ما يستند إلى خسّة الشيء كالحشرات، وإلى ما يستند إلى قلّته كحبّة الحنطة.

وذكر أنّ ما يستند إلى قلّته ليس مالاً، وإن كان يصدق عليه الملك، ولذا يحرم غصبه إجماعاً([15]).

اعتراض: إنّ بعض الحشرات والديدان لها قيمة عند بعض الناس, كاستخراج الأدوية منها مثلاً.

الجواب: إنّ الفوائد النادرة ليست مقياساً للماليّة لدى الفقهاء، وإلاّ لما أمكن نفي الماليّة عن أيّ شيء أصلا؛ إذ ما من شيء إلاّ وله منفعة ما لشخص ما.

وثانياً: كون المنفعة محلّلة في الشرع، فليس بمال شرعاً, كالخمر والخنزير. وعرّف الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء المال: ((بأنّه كلّ ماله قيمة ماليّة في عرف الناس)). ويشمل الأعيان والمنافع وبعض الحقوق([16])، كالحقوق المستجدّة, كحقّ التأليف، وحقّ براءة الاختراع، وغيرها من الحقوق التي هي بمثابة أفكار لأصحابها تعد مشمولة بصفة ماليّة، لأنّ لفظ (كلّ) من ألفاظ العموم, كما هو مقرّر عند الأصوليّين([17]).

ويرد على هذا التعريف بأنّه تعريف للمال بنفسه.

ثمّ أنّ فقهاء الإماميّة عندهم أنّ كلّ مال مضمون، وليس كلّ مضمون مالاً، كأرش الجنايات على الاطراف وأرش البكارة. وبما أنّ المنافع مضمونة, فتعتبر عندهم من الأموال([18]).

ونخلص من هذا إلى أنّ معيار الماليّة عند فقهاء الإماميّة كون الشيء مباحاً به شرعاً، وله أثر في الانتقاع عند العقلاء. فلم تكن العينيّة معياراً للماليّة، فشمل المال بهذا المعيار الأعيان، والمنافع، وبعض الحقوق([19]).

الشافعيّة: حدّد الأمام الشافعي المال بقوله([20]) ((لا يقع أسم المال إلاّ على ماله قيمة يباع بها، وتلزم متلفة، وإن قلّت، وما لا يطرحه الناس كالفلس، وما أشبه ذلك)).

فعبارة: ماله قيمة يباع بها عامّة تشمل كافّة الأعيان؛ لأنّ البيع يقع على الأعيان، فمعيار ماليّة الأشياء عند الشافعي هو إمكان مقابلة الشيء بقيمة ماليّة يباع ويشترى بها عند الناس، ولا يأثر في ماليّة الشيء كون قيمته قليلة.

أمّا ما لم يكن له قيمة ماليّة أو كانت قيمته تافهة، مثل قشور الخضر والفواكه والعلب الفارغة والأدوات المطروحة, فلا تعدّ مالاً, وإنّ الشيء ذا القيمة يضمن عند التلف بالقيمة، وإن قلّت هذه القيمة. وفي هذا إشارة إلى إخراج الأموال غير المتقوّمة من دائرة الأموال الشرعيّة، كالخمر والخنزير والميتة؛ إذ هي أموال غير متقوّمة شرعاً، لا تضمن بالإتلاف. ويضع الشافعي ضابطين لتموّل الأشياء في باب اللقطة:

الأوّل: أنّ كلّ ما يقدرّ له أثر في النفع فهو متموّل، وكلّ ما لا يظهر له أثر في الانتفاع فهو لقلّته خارج عمّا يتمول.

الثاني: المتموّل ما يعرض له قيمة عند غلاء الأسعار، والخارج عن التموّل هو الذي لا يعارض فيه ذلك([21]).

فالمعيار لماليّة الشيء كونه مباحاً شرعاً متقوّماً عند الإتلاف يقابل بقيمته ويضمن بها وإن قلّت، وله أثر في الانتفاع، فيشمل المال بهذا المعيار الأعيان والمنافع وبعض الحقوق.

وأكّد الزنجاني من فقهاء الشافعيّة على أنّ إطلاق المال على المنافع أحقّ منه على الأعيان بقوله([22]) ((وإطلاق لفظ المال عليها – المنافع – أحقّ منه على العين؛ إذ التضمين لا يسمّى مالاً إلاّ لاشتمالها على المنافع، ولذا لا يصحّ بيعها بدونها)).

ويرد عليه أنّه خلط بين خصائص العين التي بها تتقوّم ماليتها، والمنفعة التي هي قسيم العين في الماليّة لدى ما يعدّها قسماً مستقلاً من الأموال.

المالكيّة: عرّف المالكيّة المال بأنّه ((ما يقع عليه الملك، ويستبدّ به المالك عن غيره، إذا أخذه من وجهه))([23]).

وهذا التعريف ينطلق من كون المال محلاً للملك، وتدخل تحته الأعيان والمنافع؛ لأنّه يقع عليهما الملك، وللمالك الحقّ في أن يستبدّ بهما. ويتصرّف فيهما دون سواه.

اعتراض: يقتضي هذا التعريف صدق الماليّة على حبّة الخردل مثلاً على قلّتها؛ لأنّها مملوكة مع أنّ العرف لا يعتبرهما مالاً، ولذلك لا يضمن الغاصب إن أتلفها وإن وجب عليه ردّها؛ لأنّ المالك يستبدّ بها، ولا يجوز مزاحمته عليها، وهذه من خصائص الملكيّة وليست من خصائص الماليّة.

الحنابلة: عرّف الحنابلة المال بقولهم([24]) ((هو ما فيه منفعة مباحة لغير ضرورة))، فكلّ شيء فيه ((منفعة مباحة)) يمكن استيفاؤها، وجواز أخذ العوض عنها، وإباحة بذل المال فيها توصّلاً إليها، في غير حالة الاضطرار تعدّ مالاً.

وبهذا تكون المنافع وبعض الحقوق أموالاً. وقد اخرج تعريف الحنابلة فــي قوله: ((منفعة مباحة)) ما لا يباح شرعاً، كالخمر والخنزير.

ويرد على هذا التعريف أنّ حقّ استمتاع الزوج بزوجة ليس بمال مع أنّه داخل في التعريف.

وتتّسع دائرة ماليّة الأشياء عند الحنابلة؛ لتشمل ما قد ينتفع به لكّنه غير مقابل بقيمة ماليّة، كقشور الفواكه والخضر؛ فإنّه يمكن أن ينتفع بها علفاً للحيوانات مع أنّها لا تباع ولا تشترى في عرف الناس، وذلك بإغفالهم ما ذكر الشافعي من اعتبار القيمة لتموّل الشيء.

أدلّة جمهور الفقهاء على ماليّة المنافع:

احتج جمهور الفقهاء على ماليّة المنافع بما يلي:

1. أنّ المال مخلوق لصالح الآدمي والمنافع كذلك. وأَنّ الأعيان إنّما تصير مالاً باعتبار الانتفاع بها؛ لأنّ الانتفاع بها هو المقصود، فما لا ينتفع به لا يكون مالاً. فكيف تسلب الماليّة عن المنافع، ولولاها لما صارت الأعيان أموالاً([25]).

ويلاحظ على هذا الدليل ما يأتي:

أ) يبدو أنّ هذا الدليل جعل قوام ماليّة الأعيان بالمنافع والخصائص التي تتوفّر في العين، وهذا خلط بين خصائص العين التي بها قوام الماليّة, أو بالأحرى الخصائص التي تكون منشأ لاعتبار الماليّة؛ فإنّ من بيده الاعتبار يعدّها بملاحظة تلك الخصائص بما لها من تأثير في إسعاد البشريّة وتلبية ضرورياتها، وبين المنفعة المعوّضة, كما في الإجارة.

ب) إن كان لابدّ من إتمام الدليل, فينبغي أن يصاغ, كما يلي:

إنّ ماليّة الأعيان إنّما انتزعت أو اعتبرت – على اختلاف النظريات في  معنى الماليّة – لأجل ما تحمل لأعيان من مقتضى رغبة العقلاء فيها، لسدّ ضرورياتهم وهذا المناط بعينه موجود في المنافع، فينبغي أن تكون مالاً.

2. أنّ الشارع أجاز أن تكون المنافع مهراً، والمهر لا يكون إلاّ  مالاً  بدليل  قوله تعالى [وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ]([26]).

فالمنافع من الأموال. ويتمّ هذا الاستدلال على لزوم المهر في تماميّة العقد.

3. أنّ العقود ترد على المنافع، وتصبح مضمونة بها، وهذا دليل كونها مالاً؛ إذ لو لم تكن مالاً في ذاتها، لما صارت مالاً بالعقد؛ لأنّ العقود لا تقلّب حقائق الأشياء بل تقرّر خصائصها([27]).

ويلاحظ أنّ هذا الاستدلال يتمّ في أنّ كلّ ما يبذل في مقابله مال فهو مال، ولا يمكن الالتزام بذلك، فإنّ عقد تصالح وتنازل وريث الدم عن القصاص لقاء الدية عقد قد بذل المال بإزائه، وليس مالاً([28]).

4. شهد العرف أنّ المنافع أموال في عقد الإجارة، فلو لم تكن المنافع بمنزلة الأعيان لما صحّ إبرام العقد على المنافع في الإجارة. فصارت المنافع ممّا يجري فيه البذل والمنع، وهو دليل على ماليتها([29]).

ويرد عليه الملاحظة السابقة نفسها، فجعل كلّ ما يبذل بإزائه المال فهو مال، وهو غير سليم، ولا يمكن الالتزام بذلك؛ لما تقدّم في الدليل السابق.

وقد ذكر صاحب كشف الأسرار مفصّلاً أدلّة الجمهور على ماليّة المنافع بدليل الحقيقة والعرف والحكم بقوله([30]): ((أمّا الحقيقة، فلأنّ المال غير الآدمي خلق لمصالح الآدمي، والمنافع منّا أو من غيرنا بهذه الصفة، وكيف لا والمصلحة في التحقيق تقوم بمنافع الأشياء لا بذواتها، والذوات تصير متقوّمه ومالاً بمنافعها؛ إذ كل شيء لا منفعة فيه لا يكون مالاً، فكيف يسقط حقّ الماليّة والتقوّم عنها.

وأمّا العرف, فلأنّ الأسواق إنّما تقوم بالمنافع والأعيان جميعها، فإنّ الحجر والخانات إنّما بنيت للتجارة، وقد يستأجر المرء جملة، ويؤجر متفرقاً لابتغاء الربح، كما يشتري جملة ويبيع متفرقاً.

أمّا الحكم, فلأنّها في الشرع عدّت أموالاً متقوّمه حتى صلحت مهراً وورد العقد عليها وضمنت بالمال في العقود الصحيحة والفاسدة بالإجماع. والعقد لا يجعل ما ليس بمال مالاً ولا ما ليس بمتقوّم متقوماً)).

ويرد على ما استدلّ به صاحب كشف الأسرار بما يأتي:

1. أنّه خلط بين صفات العين ومنافعها.

2. أنّ الظاهر من كلامه: مقياس الماليّة أن يكون الشيء فيه منفعة للبشريّة، ولكن ماذا يعني بذلك؟

إن كان المقصود أنّ كلّ ماله أثر في سدّ حاجة من حاجات البشريّة فهو مال، فيجب أن يقال: إنّ الهواء، والماء في البحار، والأنهار، والكواكب كلّها مال؛ لأنّ الله تعالى قال: [هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا]([31]).

وإن كان يعني بذلك ما ينتفع به الإنسان باستخدامه بمحض إرادته واختياره، فيلزم أن تكون الزوجة ونحوها – من الأشياء التي ينتـفع الإنسان باستخدامها – مالاً.

3. إنّ ما جاء في صدر العبارة من استدلال على ماليّة المنافع بصلاحيتها أن تكون مهراً وإن كان جيّداً إلاّ أن ما جاء في ذيل الدليل لا يمكن الالتزام به؛ وذلك لأنّه يقتضي تقوّم الماليّة بجواز العقد وبذل المال بقباله، وقد مرّ عدم الالتزام بذلك.

4. تقوم الماليّة بالضمان بالمال ليس تامّاً، فإنّ الجنايات تضمن بالمال وتعوّض به وليس مالاً.

الاتّجاه الثاني: تعريف المال عند فقهاء الحنفيّة:

المشهور في تحديد مفهوم المال عند الفقهاء الحنفيّة يختلف عن جمهور الفقهاء، فقد عرّف ابن عابدين المال بأنّه: ((ما يميل إليه الطبع، ويدّخر لوقت الحاجة))([32]).

والتقييد بالادّخار في التعريف يخرج به المنفعة؛ لأنّها عندهم من قبيل الملك لا المال؛ لأنّها من الأمور غير القارّة، والذي يدّخر عادة الأعيان.

ويرد على هذا التعريف:

1. حقّ الاستمتاع الزوج بالزوجة؛ فإنّه ممّا يميل إليه الطبع ويحتفظ به لقضاء الحاجة وليس مالاً.

2. إنّ من الأشياء ما لا يميل إليها طبع الإنسان مع أنّها تعدّ أموالاً؛ لإمكان حيازتها والانتفاع بها، وذلك كبعض الأدوية والسموم.

فاعتبار ميل الطبع معياراً لماليّة الأشياء غير سليم، ولا يصحّ لتحديد معنى شرعي، وكونه مقياساً ممّيزاً بين المال وغير المال([33]).

ويمكن الجواب: بأنّ الأدوية والسموم يميل إليها الطبع وتدّخر وقت الحاجة   بالنظر إلى الحاجة إليها والانتفاع بها، وما من شيء إلاّ وينظر إلى نتيجته وفائدته.

3. إنّ جميع المباحات التي يمكن إحرازها تعدّ اموالاً في ذاتها قبل  إحرازها، مثل الطير في الهواء، والسمك في الماء، والشجر في الغابات مع أنّه لا يمكن ادّخارها لوقت الحاجة؛ لعدم القدرة عليها قبل الإحراز والتعريف المذكور لا يستوعب ذلك كلّه.

ويمكن الجواب: بأنّ مراد التعريف وما يمكن ادّخاره، فليس المقصود الادّخار الفعلي.

4. إنّ أنواعاً من الأموال لا يمكن ادّخارها؛ لسرعة سريان الفساد إليها, كالخضروات والثمار الطازجة، ولا ريب أنّها أموال عند الناس.

ويمكن الجواب: عنه بأنّه ليس للادّخار معنى ثابت، فلكلّ مادّة مدّة معيّنة تدّخر فيها، فقد تطول المدّة وقد تقصر, كما عرّف المال صاحب الحاوي القدسي([34]) بأنّه: ((أسم لغير الآدمي خلق لمصالح الآدمي، وأمكن إحرازه والتصرّف فيه على وجه الاختيار))([35]) ويخرج من التعريف العبيد والإماء بقيد ((أسم لغير الآدمي)) مع أنّها تعدّ مالاً لدى العرف والشرع.

ويستفاد من هذا التعريف أنّ كلّ ما هو ليس بآدمي مخلوق لمصلحة الآدمي، بشرط إمكان إحرازه وحيازته والتصرّف فيه من غير اضطرار يعدّ من الأموال.

فبقيد ((الإحراز)) أخرج المنافع؛ فإنها أعراض غير قارّة لا يمكن حيازتها, فهي بهذا الاعتبار ليست أموالاً.

وبقيد ((الاختيار)) خرج عن تعريف المال كلّ ما لا يحرز ولا يتصرّف فيه اختياراً، كأن اضطر الإنسان للانتفاع به فإنّه لا يصير بذلك مالاً, كأكل لحم الميتة, وشرب الخمر اضطراراً لا يضفي عليهما صفة المالية.

وأوضح صاحب الدر المنتقى بما لا يقبل الشكّ أنّ المال مقصور على الأعيان، فلا يشمل المنافع بقوله: ((عين يجري فيه التنافس والابتذال))([36]) وهو المشهور عند فقهاء الحنفيّة.

ويرد على هذا التعريف بالمرأة فأنها يبذل بإزائها المال، ويتنافس عليها الخاطبون مع العلم أنّها ليست مالاً.

والخمر والخنزير يبذل بإزائهما المال ويتنافس عليهما العقلاء وقد سلب الشارع ملكيّتهما, فهما ليسا مالاً.

أدلّة فقهاء الحنفيّة على عدم ماليّة المنافع:

أستدلّ فقهاء الحنفيّة على عدم ماليّة المنافع بأنّ المال يمكن إحرازه وحيازته، وادّخاره لوقت الحاجة، والمنافع لا تقبل الحيازة والادّخار؛ لأنّها أعراض لا تبقى زمانين، بل تحدث آنً بعد آنٍ، فلا يمكن إحرازها، وبالتالي لا تكون مالاً، فهي قبل أن تحدث معدومة، والمعدوم ليس بمال، وبعد إحداثها لا يمكن إحرازها، وما لا يمكن إحرازه لا يسمّى مالاً.

وقد تعدّ المنافع أموالاً بالعقد، كالإجارة استحساناً؛ لورود النصّ بذلك, وجريان العرف به وإن لم تكن بذاتها مالٌ([37]).

ويرد على هذا الاستدلال بأنّ حيازة المنافع ممكنة بحيازة أصلها ومحلّها, كما أنّ على فقهاء الحنفيّة أن يقيموا البرهان على اعتبار الحيازة أو الادّخار في مفهوم الماليّة ثمّ يستدلوا به على نفي الماليّة حيث انتفيا، ولم يأتوا بشاهد من الشرع، أو العرف يقتضي حصر الماليّة في المدّخر أو المحاز, وأنّ تعريف بعض اللغويين للمال – كما تقدّم – يصلح أن يكون شاهداً على عدم حصر الماليّة في المدّخر أو المحاز, نظير تعريف المال بأنّه: ((كلّ ما يقتنى ويملك من جميع الأشياء)) والمنافع تملك فهي أموال, فلا يعدّو الاستدلال المذكور مصادرة، فإنّه استدلال على شيء بما اُدَّعي.

تعريف المال عند الفقهاء المحدثين:

عرّف بعض الفقهاء المحدثين للمال بتعاريف، تعكس وجهة نظر الفقهاء الحنفيّة, فقد اختار الدكتور عبد الكريم زيدانّ تعريف الشيخ الخفيف للمال بأنّه: ((ما يمكن حيازته وإحرازه، والانتفاع به في العادة))([38]).

فخرّج المنافع عن دائرة الأموال.

وعرّفه مدكور بأنّه: ((كلّ ما يمكن تملّكه وادّخاره لوقت الحاجة))([39]).

فكل ما لا يمكن تملكه لا يعد مالاً حتى مع تحقق الانتفاع به على وجه يرتضيه الشارع حال السعة والاختيار.

وعرّف الزرقا المال بأنّه: ((كلّ عين ذات قيمة مادّيّة بين الناس))([40]).

وهذه التعاريف قد اخرجت من دائرة الأموال المنافع والحقوق المحضة التي تدخل ضمن ما يعد ملكاً لا ما يعدّ مالاً عندهم.

يؤخذ على أصحاب هذه التعاريف أنّهم رجّحوا مذهب جمهور الفقهاء في اعتبار المنافع أموالاً، وهذا يتعارض مع ما تفيدة تعاريفهم التي اعتمدوها؛ لأنّها مانعة؛ لشمول المنافع للأموالَ.

الرأي الراجح:

والراجح عندي هو رأي جمهور الفقهاء بأنّ المال ما يشمل الأعيان والمنافع، وبعض الحقوق؛ لقوّة أدلّتهم، وموافقتهم لعرف الناس وتعاملهم؛ ولأنّ قول الحنفيّة يؤدّي إلى عدم تضمين الغاصب لسكنى الدار عن المدّة التي سكن فيها، ولا أجرة عليه وهو ما يأباه العرف؛ لأنّ المنافع عندهم ليست أموالاً، فيؤدي إلى أكلّ مال الناس بالباطل.

وخير ما يمكن الاستدلال به على أنّ المنفعة مال  قوله سبحانه وتعالى: [أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ]([41]) بضميمة ما دلّ على أنّ المنفعة يصحّ جعلها صداقاً كتعليم القرآن, وقد جعل صداقاً؛ لما روي عن محمد بن مسلم, عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: ((جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت: زوجني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من لهذهِ؟ فقام رجل، فقال: أنا يا رسول الله، زوجنيها، فقال: ما تعطيها؟ فقال: ما لي شيء. قال: لا فعادت فأعاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلام، فلم يقم أحد غير الرجل، ثم اعادت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المرة الثالثة: أتحسن من القرآن شيئاً؟ قال: نعم، قال: قد زوجتكها على ما تحسن من القرآن فعلمها إياه))([42]).

واستدلّ الشهيد الثاني بالآية على أنّ: ((المهر كلّ ما يصحّ أن يملك، وإن قلّ بعد أن يكون متموّلاً، عيناً كان أو منفعةً وإن كانت منفعة حرّ، ولو أنّه كتعليم صنعة أو سورة أو علمٍ غير واجب أو شيء من الحكم والآداب أو شعرٍ أو غيرها من الأعمال المحلّلة المقصودة)).

وجاء في شرائع الإسلام: ((أنّ المهر كلّ ما يصحّ أن يملك، عيناً كان أو منفعة. ويصحّ العقد على منفعة الحرّ، كتعليم الصنعة والسورة في القرآن, وكلّ عمل محلّل)).

فنستفيد أنّ المنافع أموال.

المطلب الثالث: تعريف المال في القانون المدني:

عرّف القانون المدني العراقي في المادّة (65) المال بأنّه ((هو كلّ حقّ له قيمة مادّية))([43]) فتكون الأعيان والمنافع والحقوق من المال، وكون المنافع والحقوق مندرجة تحت الأموال ظاهرة؛ لأنّها تقدّر بقيمة مادّيّة، وعلى ذلك يعدّ مالاً كلّ ما يملكه الإنسان من عقار ومنقول وحقّ, كحقّ المؤلف في استثمار مجهوده العلمي، وحقّ صاحب المخزن في الانتفاع من أسمه التجاري، وحقّ المخترع في الاستفادة من ابتكاره.

فالمال في عرف القانون المدني العراقي كلّ حقّ, سواء أكان ذلك الحقّ عينيّاً، أم شخصيّاً، أم كان من الحقوق الملكيّة, أو الأدبيّة, أو الفنّيّة, أو الصناعيّة, فكلّ حقّ قابل لأن يقوم بالنقود يعدّ مالاً.

والتعبير بالحقّ عن أنواع المال كلّها، ثم تقسيمه إلى حقوق ومنافع وأعيان، غير جيّد.

فلو عرّف القانون المال بأنّه: كلّ ما له قيمه مادّيّة، كان أولى بمقام التقنين الذي يتطلّب الدقّة في التعبير.

والظاهر أنّ السنهوري أوّل من عبّر بالحقّ بمعنى شامل للملك وأعتبر الملك من الحقوق، فشمل الأعيان والمنافع، وتبعه غيره([44]).

والذي دعا المقنّن العراقي إلى تعريف المال بأنّه ((هو كلّ حقّ له قيمة مادّيّة)) هو لتعديل مفهوم المال الشائع في أذهان الناس، والمتأثّر بتعريف مجلّة الأحكام العدليّة، والمأخوذ عن تعريف فقهاء الحنفيّة من أنّه ((ما يميل إليه طبع الإنسان، ويمكن ادّخاره إلى وقت الحاجة))([45]), فالقيود التي أوردها هذا التعريف ــ كميل الطبع, وإمكان الادّخار ــ، تخرج ما هو معدود من الأموال من المنافع في القانون المدني في دائرة الماليّة.

فنلاحظ عند المقارنة إلى أنّ نظر القانون إلى ماليّة الأشياء موافقة لنظر فقهاء الجمهور, فلابدّ أن نسجّل هذا السبق الفقهي لفقهاء الشريعة الإسلاميّة.

 

المبحث الثاني

تقسيم المال

المال بمعناه السابق أنواع مختلفة لكلّ منه مقوّماته وخواصّه الذي يستتبع أحكاماً خاصّة. فينقسم من حيث ما تتوفّر له الحماية بالضمان شرعاً إلى قسمين: مال متقوّم, ومال غير متقوّم([46]).

القسم الأوّل: المال المتقوّم:

يعرف المال المتقوّم ((بأنّه ما حازة الإنسان فعلاً وجاز له الانتفاع به اختياراً, وأحاطه الشارع بالحماية والصون بحيث يجب ضمانه على من يتلفه, مثل العقارات, والمنقولات, والمطعومات المباحة في الشرع, كالبرّ والشعير والخضروات))([47]).

ومن هذا يلاحظ أنّه يشترط لاعتبار المال متقوماً اجتماع أمرين:

الأوّل: الحيازة. فيخرج بذلك غير المحاز وإن أمكن حيازته كالسمك في الماء.

الثاني: إباحة استعماله والانتفاع به شرعاً، في حالة السعة والاختيار، فيخرج بذلك ما يباح في حالة الضرورة والاكراه، كالميتة والدم.

ويرد على هذا التعريف بما يأتي:

1. أنّ الظاهر من قيد ((ما حازة الإنسان فعلاً)) هو حصر المال المتقوّم بالأعيان؛ لأنّ المنافع لا تحاز عند الحنفيّة؛ لانعدامها. وقد تقدّم أنّ المال عند جمهور الفقهاء هو الأعيان التي لم ينفِ الشارع ماليّتها، والمنافع المباحة شرعاً وبعض الحقوق كحقّ التأليف([48]).

2. إنّ قيد ((ما حازة الإنسان فعلاً)) في التعريف يُخرِجُ الحيوان الضائع عن مالكه عن كونه مالاً متقوّماً مع أنّه لو قتله أحد كان ضامناً لمالكه.

المال المتقوّم في القانون المدني:

عرّف القانون المدني العراقي الشيء المتقوّم في المادّة (61) في الفقرة (1) بأنّه ((كلّ شيء لا يخرج عن التعامل بطبيعته، أو بحكم القانون يصح أن يكون محلاً للحقوق الماليّة))([49]).

((والأشياء التي تخرج عن التعامل بطبيعتها هي التي لا يستطيع أحد أن يستأثر بحيازتها، والأشياء التي تخرج عن التعامل بحكم القانون هي التي لا يجيز القانون أن تكون محلاً للحقوق الماليّة))([50]).

فأشترط القانون المدني العراقي شرطين في الشيء المتقوّم:

أوّلاً: استطاعة الاستئثار بحيازته.

ثانياً: أن يكون محلاً للحقوق الماليّة قانوناً.

وعند المقارنة نلاحظ أن القانون المدني العراقي يلتقي مع الفقه الإسلامي في اشتراط كون المال متقوّماً محازاً.

ويفترق الفقه الإسلامي عن القانون المدني في مصدر جواز الانتفاع به، ففي الفقه الإسلامي مصدرها الشارع المقدّس بينما تستمدّ شرعيّة جواز الانتفاع في القانون من القانون نفسه.

ويترتّب على هذا أنّ الخمر مال متقوّم في القانون المدني ويصحّ التصرف فيه، وهذا خلاف الحكم في الفقه الإسلامي حيث لا قيمة له؛ لحرمة تناوله والاتّجار به.

القسم الثاني: المال غير المتقوّم:

يعرّف المال غير المتقوّم بأنه ((ما لا قيمة له في نظر الشارع، وإن أبيح في حالة الضرورة لحفظ النفس البشريّة، أو الذي لم يحرز بالفعل، وإن كان بذاته مباح الانتفاع به شرعاً([51]).

فمثال ما لا قيمة له في نظر الشرع الميتة والدم وغيرهما، ومثال ما لم يحرز بالفعل: كالطير في الهواء والسمك في الماء.

ويرد على هذا التعريف بأنّ الحيوان الضائع عن مالكه مال متقوّم يضمن إذا قتله أحد، وإن لم يحرز بالفعل.

وقد أتّفق الفقهاء على أنّ المال الذي حرّم الشارع الانتفاع به في حالة السعة والاختيار غير متقوّم، وأن حيز عليه بالفعل بالنسبة إلى المسلم. فاذا أتلف شخص خمراً لمسلم، فإنّه لا يضمنه لصاحبه؛ لأنّ الخمر لا يعتبر من الأموال المتقوّمة في الشريعة الإسلاميّة([52]). واختلفوا بالنسبة لغير المسلم من أهل الذمّة بكونه متقوَّماً أو غير متقوّم إلى رأيين:

الرأي الأوّل: مال متقوّم للذّمي:

ذهب الحنفيّة والمالكيّة والزيديّة والإماميّة إلى أنّ الخمر والخنزير يعتبران مالاً متقوّماً عند أهل الذمّة لأمرنا بتركهم وما يدينون فيما بينهم بالانتفاع بهما، واعتبارهما مالاً متقوّماً، فنعاملهم بما يعتقدون))([53]).

جاء في كتاب جواهر الكلام ((وتضمن – الخمر – إذا غصبت من الذّمي متستّراً، ولو غصبها المسلم، وكذا الخنزير ويضمن الخمر بالقيمة عند المستحلّ لا بالمثل))([54]).

الرأي الثاني: مال غير متقوّم للذّمي:

ذهب الشافعيّة والحنابلة والظاهريّة إلى أنّ الخمر والخنزير لا يعتبران مالاً متقوّماً في حقّ أهل الذمّة؛ لأنّ لهم ما لنا وعليهم ما علينا؛ ولأنّهم مأمورون بأن تكون معاملاتهم مثل معاملات المسلمين([55]).

قال ابن قدامة([56]): ((إنّه لا يجب ضمان الخمر والخنزير، سواء أكان متلفة مسلماً أم ذمّيّاً, نصّ عليه أحمد في رواية أبي حارث في الرجل يهرق مسكراً لمسلم أو لذمّي خمراً، فلا ضمان عليه، وبهذا قال الشافعي)).

ويترتّب على هذا التقسيم:

1. المال المتقوّم يضمن بالإتلاف، ويصحّ أن يكون ديناً بالذمّة. أمّا المال غير المتقوّم، فلا يضمن بالإتلاف، ولا يصحّ ديناً في الذمّة.

2. أنّ جميع العقود ترد على المال المتقوّم، كالبيع والقرض والرهن والإجارة، وغيرها. أما المال غير المتقوّم, فلا يجوز ورود العقد عليه.

الشيء غير المتقوّم في القانون المدني:

عرّف القانون المدني العراقي الأشياء غير المتقوّمة في المادّة (61) الفقرة (2) بأنّها: ((الأشياء التي تخرج عن التعامل بطبيعتها، وهي التي لا يستطيع أحد أن يستأثر بحيازتها، والأشياء التي تخرج عن التعامل بحكم القانون هي التي لا يجيز القانون أن تكون محلاً للحقوق الماليّة))([57]).

لقد أوضح فقهاء القانون بأنّ الأشياء التي تخرج عن التعامل بطبيعتها هي التي يمكن أن ينتفع بها كلّ الناس دون أن يحوّل انتفاع بعضهم انتفاع البعض الآخر، كالماء الجاري في البحار والمحيطات والأنهار، والهواء المنتشر في الفضاء، وأشعة الشمس، وغيرها، فليس هناك من يستطيع الاستئثار بحيازتها والانتفاع بها.

أمّا الأشياء التي تخرج عن التعامل بحكم القانون، فهي التي ينصّ القانون على عدم جواز التعامل بها بوجه عامّ، كالحشيش والأفيون والأشياء التي تدخل في ضمن الأموال العامّة([58]).

ونلاحظ من خلال تعريف القانون للمال والشيء هناك فرق بينهما، فالشيء أعمّ من المال، فالأشياء غير متقوّمة لا تقع ضمن الأموال؛ إمّا لعدم حيازتها، أو لنصّ القانون.

بينما الفقه الإسلامي يعدّ هذه أموالاً غير متقوّمة, كما يعدّ الشيء أعمّ من المال، فكلّ مال هو شيء وليس كلّ شيء مالاً.

فحبّة الحنطة شيء، ولكنّها ليست بمال؛ لعدم إمكان ادّخارها لوقت الحاجة؛ لأنّ ركن الماليّة فيها مسلوب، فلو غصبت وجب على الغاصب ردّها إلى مالكها، بينما اذا تلفت لم يضمن؛ لأنّ الضمان ركنه الماليّة، وبما أنّها لا ماليّة لها, فلا ضمان لها([59]).

وينقسم المال المتقوّم بحسب طبيعته من حيث الثبات والاستقرار إلى عقار ومنقول:

أولاً: العقار:

العقار لغةً: الأرض والضياع والنخل، ومنه قولهم: ماله دار ولا عقار.

وخصّ بعضهم العقار بالنخل([60]).

أمّا في اصطلاح الفقهاء: فالظاهر أنّ هناك اتّجاهين في الفقه الإسلامي في تحديد العقار والمنقول:

الاتّجاه الأوّل: يرى الحنفيّة أنّ العقار هو الأرض فقط، أي كلّ ما له أصل ثابت لا يمكن نقله بحال من الاحوال، وليس ذاك إلا الأرض([61]).

الاتّجاه الثاني: يرى جمهور الفقهاء أنّ العقار هو الأرض وما أتّصل بها من بناء وشجر وقناطر([62]).

وهذا التحديد أوسع من الأوّل، وهو أقرب إلى تحديد بعض اللغويّين.

القانون المدني:

عرّف القانون المدني العراقي في المادّة (62), الفقرة (1) العقار بأنّه ((كلّ شيء له مستقرّ ثابت بحيث لا يمكن نقله أو تحويله دون تلف، فيشمل الأرض والبناء والغراس والجسور والسدود والمناجم، وغير ذلك من الأشياء العقارية))([63]).

فالعقار بموجب هذا المعيار هو الشيء الذي له مستقرّ ثابت بحيث لا يمكن تحويله أو نقله دون تلف، سواء أكان عدم الإمكان ناشئاً عن طبيعة الشيء، كالأراضي والمعادن قبل استخراجها, والأحجار قبل قلعها, والثمار قبل قطفها، أم عن فعل الإنسان، كالبناء والغراس والسدود والجسور([64]).

وبهذا يتّفق القانون المدني مع جمهور الفقهاء في تعريف العقار.

ثانياً: المنقول:

عرّف الفقهاء المنقول بأنّه: المال الذي يمكن نقله وتحويله من محلّ إلى آخر مع بقاء صورته وهيئته. واختلف الفقهاء فيما يمكن تحويله ونقله من محلّ إلى آخر، ولكن مع تغيّر في صورته وهيئته، بسبب النقل والتحويل، كالبناء والقناطر والشجر، هل يعدّ منقولاً أم عقاراً؟ على رأيين:

الرأي الأوّل: ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المنقول هو ما يمكن نقله وتحويله من مكان إلى آخر مع الاحتفاظ بهيئته وصورته الأولى قبل النقل والتحويل.

فالبناء والشجر المتّصل بالأرض من العقار لاتّصالهما بالأرض اتّصال قرار، وعدم إمكان نقلهما مع بقاء هيئتهما؛ إذ بالنقل يصير البناء أنقاضاً والشجر حطباً([65]).

الرأي الثاني: ذهب الحنفيّة إلى أنّ ما يمكن تحويله ونقله من محلّ إلى آخر حتى مع تغيير في صورته وهيئته من المنقول بسبب النقل والتحويل، كالبناء والقناطر والشجر, فالعقار عندهم الأرض فقط([66]).

القانون المدني:

عرّف القانون المدني العراقي المنقول في المادّة (62), الفقرة (2) بأنّه: ((كلّ شيء يمكن نقله وتحويله دون تلف، فيشمل النقود والعروض والحيوانات والمكيلات والموزونات، وغير ذلك من الأشياء المنقولة))([67]).

وبالمقارنة بين القانون المدني والفقه الإسلامي نلاحظ أنّ فقهاء القانون يتّفقون وجمهور فقهاء الفقه الإسلامي في تعريف المنقول.

وثمرة هذا التقسيم يترتّب عليها ما يأتي:

1. اختلاف الفقهاء في غصب ما لا ينقل ولا يحول، وهو العقار فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه يضمن بالغصب، وذلك إذا هدمت الدار ضمّن الغاصب قيمتها. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف إلى خلاف ذلك([68]).

وسبب الاختلاف هو أنّه هل كون يد الغاصب على العقار مثل يده على ما ينقل ويحول؟ فمن جعل حكم ذلك واحداً قال بغصبها،  ومن لم يجهل حكم ذلك واحداً قال بعدم غصبها.

قال المقدسي([69]): ((ويضمن العقار بالغصب، ويتصوّر غصب الأراضي والدور، ويجب ضمانه على غاصبه. هذا ظاهر مذهب أحمد وهو المنصوص عند أصحابه، وبه قال مالك والشافعي ومحمد بن الحسن… إلى أن يقول: وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يتصوّر غصبها، ولا تضمن بالغصب، فإن أتلفها ضمنها بالإتلاف؛ لأنّه لم يوجد فيها النقل والتحويل)).

وجاء في جواهر الكلام: ((يصحّ غصب العقار ويضمنه الغاصب))([70]).

1. وقد أخذ القانون المدني العراقي برأي جمهور الفقهاء بوقوع الغصب في العقار, كما يجري في المنقول([71]).

2. اختلاف الفقهاء في ثبوت الشفعة في العقار دون المنقول إلاّ على رأي بعض الفقهاء([72]).

3. يجوز للوصي على الصغار أن يبيع ما يملكون من منقول حسب ما يراه من وجود المصلحة، وليس له أن يبيع عقارهم إلاّ بمسوّغ شرعي، كبيعه لإيفاء الدين، أو لزيادة نفقاته، وغير ذلك من المسوّغات المشروعة في الكتب الفقيّة.

4. يبدأ بيع أموال المدين وفاء لدينه بالمنقول أوّلاً، فان لم يفِ بيع عقاره([73]).

ثمّ إنّ الأموال المنقولة تنقسم بحسب طبيعتها إلى: أموال مثليّة وأموال قيميّة. قال الاسبيجابي في شرح الطحاوي([74]): ((إنّ المغصوب لا يخلو إمّا أن يكون غير منقول كالحانوت والدار والأرض والكرم وغيرها، أو يكون منقولاً، والمنقول لا يخلو، إمّا أن يكون مثليّاً، كالكيلي والوزني الذي ليس في تبعيضه مضرّة،  أو غير مثلي وهو القيمي)).

 

الباب الأوّل

أسس النظريّة

الفصل الأول

تعريف المالي المثلي والقيمي

الفصل الثاني

مماثلة المال المثلي والمال القيمي

وشروطهما وأركانهما

الفصل الثالث

خلافة المثل أو القيمة للمضمون

الفصل الرابع

تردد المال بيـن المثلية والقيمية

                 

الفصل الأوّل

 تعريف المال المثلي والمال القيمي

أطال الفقهاء الكلام في تعريف المال المثلي والمال القيمي، وجعلوه معرضاً للنقض والإبرام، ولم يأتوا بأصل كلّي أو ضابط يجمع الموارد.

ولعلّ الغرض من هذا التعريف على اختلاف مضامينها هو تعيين ما يجب على الضامن، فالتعريفات ليست حقيقيّة، بل هي تعريفات لفظيّة غير جامعة، ولا مانعة لما أورد عليها من حيث الاطّراد والانعكاس.

 

المبحث الأوّل

تعريف المال المثلي

لابدّ قبل تعريف المال المثلي اصطلاحاً من الوقوف على المعنى اللغوي للمثل.

المطلب الأوّل: المعنى اللغوي للمثل:

المثل لغة – بكسر الميم وفتحها – الشبه وجمعه أمثال. وهي كلمة تسوية، يقال: هذا مِثله وَمَثله، كما يقال: شِبهْه وشَبَههُ بمعنى واحد. فإذا قيل: هو مِثْله على الإطلاق، فمعناه أنّه يسُدّ مسدّه، وإذا قيل هو مِثْلهُ في كذا، فهو مساوٍ له في جهةٍ دون جهة. وقوله تعالى [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ]([75]).

أراد تعالى: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ]، لا يكون إلاّ ذلك، لأنه إن لم يقل هذا اثبت له مثلاً تعالى الله عن ذلك. والمثلي هو لفظ المثل المضاف إلى ياء النسب.

والفرق بين المماثلة والمساواة أنّ المساواة تكون بين المختلفين في الجنس والمتّفقين، لأنّ التساوي هو التكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص، وأمّا المماثلة، فلا تكون إلاّ في المتّفقين تقول: نحوه كنحوه، وفقهه كفقهه، ولونه كلونه، وطعمه كطعمه.

ويقال: مثّل فلانُ فلاناً، ومثّله به: شبّهه به، ومثّل فلان فلاناً: صار مثله، أي يسدّ مسدّه([76]).

المطلب الثاني: تعريف المال المثلي اصطلاحاً:

عرّف الفقهاء المال المثلي بتعريفات شتّى مختلفة من جهة، ومتشابهة من جهة أخرى, فهي مختلفة في الأسلوب، فإنّ بعضها تعبير بنفس الملزوم، وبعضها تعبير باللازم، وبعضها مساوٍ، وبعضها عامّ، وبعضها خاصّ.

ومتشابه من حيث إنّهم يحومون حول معنى مركوز في أذهانهم قد قصرت تعبيراتهم عن ضبطه.

فاختلفت كلمات الفقهاء في تعريف المال المثلي، وذلك لخفاء انطباق المعنى المرتكز في الاذهان للمماثلة، ومحاولة الإشارة إلى المال المثلي ببعض مصاديقه، أو الشكّ في مدخليّة بعض الصفات في المماثلة وعدمها، أو تعريف المثلي ببعض مصاديقه، فيعرف بها، وتكون في الزمان المتأخّر قيميّة, كما يأتي توضيح ذلك إن شاء الله.

ثمّ إنّ لفظي: المثلي والقيمي لم يردا في آية، ولا في رواية، ولا انعقد عليهما إجماع لا محصّل ولا منقول([77])، ولكي نبحث عنهما من حيث الشرح والتفسير.

وأخرى من حيث الاطّراد والانعكاس، وثالثة من سائر الجهات كالأحكام، بل ذكرهما الفقهاء لتعيين ما يثبت في ذمّة الضامن من المثل أو القيمة.

والاختلاف الذي وقع في تعريف المال المثلي كان في تحديد المعنى له بلا اصطلاح من الشارع، ولا من المتشرّعة في ذلك، ولذا لم يرد في أخبار الضمانات والغرامات – على كثرتها – نصّ بعنوانّ المثل والمثلي، والقيمة والقيمي إلاّ ما شذ، بل الغالب إثبات الموضوع، وهو كونه ضامناً فمنه يعلم إيكال تعيين المضمون به إلى الطريقة العرفيّة الجارية على التضمين في بعض الموارد بالمثل، وفي بعضها الآخر بالقيمة, فاتّفاق الفقهاء على مثليّة الشيء أو قيمته حيث ادّعي ليس إجماعاً تعبّديّاً على الحكم، كي يعدّ من الأدلة على الحكم الشرعي، بل هو في قبال اختلافهم في مصداقيّة شيء لعنوان المثلي أو القيمي أوجب الخلاف في معنى المثلي أو القيمي، وذلك عكس ما هو متعارف في المباحث الفقهيّة عادة حيث الاختلاف في مصداقيّة المصداق بعد الفراغ من تحديد المفهوم([78]).

نعم, ورد لفظ المثل في روايات القرض, ولكنّ الفقهاء عند كلامهم على المثل اعتبروا المثل في القرض هو المثل في غيره.

ويراد بالجميع ما يفهمه الفقهاء من المثل الخاصّ وهو التشابه في أفراده بالجملة وإن اختلفت تلك الأفراد في بعض الأوصاف غير المقوّمة لحقيقته وغير المؤثّرة في ماليّته وانخفاضها.

وورد في معقد إجماعتهم على حكم ضمان المال المثلي بالمثل، بينما لم يرد إجماع على تحديد مفهوم المال المثلي، وإن وردت بعض الإجماعات على بعض مصاديق المال المثلي([79]).

نعم, أنّ الإجماع على فرديّة شيء لعنوان المثلي كان ذلك مساعداً وطريقاً إلى ترجيح التحديد المنطبق على ذلك الفرد المجمع عليه كونه مثليّاً، وترجيحه على التحديد الذي لا يعتبر ذلك الفرد في ضوئه مثليّاً، وهذا ما أفاده السيّد الخوئي من عدم فائدة دعوى الإجماع في تحديد المعنى المثلي والقيمي([80]).

ولعلّ من هذه الجهة عرّف المال المثلي ببعض أحكامه، مثل جواز بيعه سلماً، أو بيع بعضه ببعض؛ إذ لو كان الغرض من تلك التعريفات تعريفات حقيقيّة؛ لما جاز ذكرهما فيها؛ لأنّها من الأحكام الشرعيّة، فلا معنى لأخذها في التعريف.

فالتعريفات المذكورة كلّها تعريفات لفظيّة، وإنّما ذكرت لبيان معنى وجداني, ومن خلال استقراء تعريفات الفقهاء، نلاحظ أنّها تنقسم إلى اتّجاهين:

الاتّجاه الأوّل: تعريف المال المثلي من حيث الماهّية:

التعريف الاوّل:

عرّف فقهاء الإماميّة القدامى مثل الطوسي، وأبي المكارم بن زهرة، وابن إدريس والمحققّ الحلّي والعلاّمة الحلّي([81])، المال المثلي بأنّه: ((ما تساوت قيمة أجزائه))([82])، أو ((ما يتساوى اجزاؤه في القيمة، أو ما يتساوى قيمة اجزائه))([83]).

شرح التعريف:

1. المراد بـ(ما) الموصولة كلّ حقيقة عامّة يتساوى قيمة اجزائها. والظاهر من كلمات الفقهاء أنّهم يطلقون المال المثلي على الجنس، كجنس الحنطة والشعير، لا على صنف من الحنطة والشعير ونحوهما، مع عدم صدق التعريف عليه([84]).

ويتمّ هذه الإشكال لو ثبت أنّ الملتزم بالتعريف المتقدّم لا يكتفي في مكان الضمان، وتفريغ الذّمة بدفع فرد من الجنس إذا أُتلف فرد آخر من ذلك الجنس، ولكّنه مخالف للصنف الذي كان الفرد تالفاً منه، مع تساوي قيمة المدفوع مع قيمة التالف. فالمطلوب هو البحث في كلمات الفقهاء لإثبات عدم الاكتفاء المزبور، وإلا سقط هذا الإشكال.

ثمّ إنّ إطلاق المثلي على الجنس في التعريف باعتبار مثليّة أنواعه أو أصنافه بعيد، إلا ان يهملوا خصوصيات الأصناف الموجبة لزيادة القيمة ونقصانها، فإنّ هذا الإطلاق يلزم المسامحة في التعريف؛ لاحتياجه إلى إضمار في نظم الكلام, فالتقدير يكون: المثلي: ما تساوت أجزاء أنواعه، أو أصنافه في القيمة, ومن المعلوم أنّ البناء في التعريف على عدم المسامحة فيه مهما أمكن.

2. المراد بالتساوي تساوي قيمة أجزاء الصنف من النوع منه، أي أفراد ذلك الصنف على أن يكون ذلك التساوي من حيث الذات لا الاتّفاق.

وأوضح حسن كاشف الغطاء وتلميذه الأنصاري بأنّ المراد بالتساوي من حيث القيمة تساوي مصاديقها في القيمة بالنسبة، فيكون معناه أنّ الكمّيّة المعيّنة التي لها قيمة معيّنة، نصفها يساوي قيمة النصف الآخر، فلو فرض أنّ صنفاً من الحنطة يحمل سعراً معيّناً، كما لو كان الكيلو غرام الواحد منه مثلاً بدينار واحد، فنصفه مساوٍ لنصف القيمة، وهو نصف دينار، لا بمعنى أنّ قيمة النصف منه نصف قيمة الكلّ؛ إذ قد تكون للهيئة الاّتصالية، أو الاجتماعيّة مدخليّه في زيادة القيمة، كالدرهم الواحد مثلاً، فالواحد المنكسر نصفين ينقص عن قيمة كلّه، ولكن يساوي قيمة النصف الآخر([85]).

ويرد عليه أنّ قيد التساوي من حيث القيمة غير واضح، والوجه في ذلك أنّ التساوي في القيمة يعني التساوي في الماليّة، وهو غير كافٍ, فالمعتبر في باب الضمان حفاظ امرين: أحدهما الماليّة، والآخر الخصوصيّة، والصفات التي يشمل عليها ذلك الشيء.

3. أنّ لفظ الاجزاء يحمل بنفسه المعاني الآتية:

أ) فسّر الشيخ الأنصاري والشيخ الاصفهاني والسيّد الخوئي الأجزاء هي ما يصدق عليه أسم الحقيقة([86]).

قال السيّد الخوئي([87]): ((المراد من كلمة الأجزاء التي ذكرت في التعريف إنّما هو أفراد الطبيعة، لا أجزاء المركب)).

ويرد عليه بأنّ المثل معنى إضافي، فإنّما يطلق عليه شيء بالقياس إلى مثيله، فيقال مثلاً: هذا القلم مثل القلم الآخر، فلو لم يكن له آخر يشبهه، لما صحّ إطلاق المثل عليه.

فماذا يعنون مما أفادوا؟ فإن ارادوا أنّ المراد بالجزء هو الفرد كما هو ظاهر كلامهم، بل صريح السيّد الخوئي بذلك، فإطلاق كلمة الجزء، وإرادة الفرد ليس متعارفاً لا في العرف العامّ, ولا في العرف الفقهي الخاصّ.

وإن أرادوا أنّ كلّ فرد جزء من الطبيعة باعتبار أنّ الطبيعة تتجزّأ حسب تعدّد الافراد, فمن الواضح أنّه ليس كلّ فرد مثلاً لكلّ فرد من الطبيعة أينما وجد، فإنّ لكلّ طبيعة نوعيّة لها أفراد متفاوتة من حيث القيمة والخصائص. مضافاً إلى ذلك ماذا يعنون بفرديّة الحنطة مثلاً بالطبيعة؟ فإن أريد أنّ كلّ حبّه مصداق لطبيعة الحنطة فمن الواضح أنّ الفرد فاقد القيمة, فلا يمكن فرد تساوي  القيمة بينه وبين سائر الافراد لفقدان الموضوع.

وإن أريد بالفرد أوّل مرتبة من حيث الكمّيّة التي لها قيمة في السوق، فمن الواضح أنّه لا يمكن  أن يكون مقياساً؛ فانّ قبضة من الحنطة ربّما تشترى بأبخس الثمن, بينما لو اجتمع من الحنطة ما يساوي مائة قبضة مثلاً فلا يكون كذلك. فلا تكون قيمة كلّ قبضة من تلك المئة مساوية لقبضة منها مفصولة. فلا يمكن ان يكون ذلك مقياساً للمثليّة التي للقيمة لحاظاً عضويّاً وعنصريّاً في المثلي.

مضافاً إلى أنّ إرادة المرتبة الأولى من الكمّيّة التي لها قيمة في السوق دون الأخرى بلا مرجّح, بل هو اعتباط؛ لأنّ هذه الكمّيّة تختلف بحسب الأماكن والأزمان، فلم يحدّد الفرد.

ب) أنّ الأجزاء بمعنى الأبعاض، فالمتساوي الأجزاء بمعنى المتساوي الأبعاض. وبصورة اوضح أنّ المراد من الأجزاء هي الكمّيّات بحيث إنّه ليس لكلّ من أجزاء البعض ماليّة معيّنة يجعل بعض الثمن بإزائه, كما في حبّات الحنطة والشعير، والحبوب الاخرى.

والتعبير عن الكمّيّات بالأجزاء للإشارة إلى أنّ الجزء أيضاً كمّيّة بملاحظة اجتماعه مع جملة  من الكمّيّات، والحبّات الأخرى الملازم لجزئيّتها مع الكمّيّات المجتمعة في مرحلة عروض الماليّة عليها، وعلى جامعها([88]).

ويرد على هذا المعنى بأنّ التعبير بالجزء إنّما يناسب ما تتكوّن منه، ومن غير وحدة ما هويّة، مثل يد محمد ورجله، وأمّا إطلاق الجزء وإرادة بعض من الجملة، فغير متعارف. فالمعنى المذكور تخطئه ضمنيّة لتعريف المال المثلي المتقدّم.

والمعنى المذكور منحصر في الحبوب فقط، ولا يتمشّى مع غيرها كالنقدين مثلاً؛ لأنه اشترط في معنى البعض تكونه من عناصر غير متمولة، كحبة الحنطة، والشعير مثلاً.

أمّا مثل الكأس المماثل لشبيهه في العنصر والصنعة والشكل وسائر الخصوصيات الموجبة في الرغبة فيه, المؤثّرة في الماليّة, فليس مثل حبّة الحنطة؛ فان بعض الكأس المصنوع من النحاس، أو من المعادن الاخرى له قيمة.

ولا أظنّ أحداً يشكّ في كون الكأس مثليّاً، وهكذا القلم مع مماثله، والدفتر مع مماثله.

والذي أظنّ ان صاحب المعنى المتقدّم حصر نظره في الحبوب، وهو لا يناسب البحث الفقهي الشامل.

جـ) الأجزاء بمعنى الأبعاد، فيكون المعنى أنّ قيمة كلّ نصف من الأجزاء المتصلّة معادلة لقيمة النصف الآخر مع التحفّظ للهيئة الاتّصالية بينهما، ولذا ذكر الشهيد الثاني في المصوغ من النقدين، كالخاتم بكونه قيميّاً؛ لوضوح أنّ نصفه لا يساوي النصف الآخر من حيث القيمة مع انفصال الهيئة بخلاف اتّصالها([89]).

ويرد عليه بأنّه يقتضي حصراً المثليّة إذا كان لجزئه قيمة تساوي قيمة الجزء الآخر منه قبل الانفصال، أمّا لو فرض لشيء ما ليس لجزئه قيمة، سواء أنفصل أم لم ينفصل، فيخرج عن كونه مالاً مثليّاً، مثل سنّ القلم، ورأس الإبرة للخياطة؛ فأنّه ليس للأمثلة قيمة إلاّ لتمام المثلي، ومع العلم بأنّه ليس لبعضها قيمة، ولذلك لو اشترك في شيء منها وأريد القسمة بيع الكلّ وقسّمت القيمة.

4. المراد بالقيمة السعر الموضوع لذلك المال. فتعرف قيمة الأفراد، أو  الأجزاء حسب ما تعارف تحديده من المساحة والوزن، والكيل والعدّ، فتساوي القيمة عبارة عن تساوي كلّ مقدار منها لمقدار آخر بحسب السعر والقيمة السوقيّة التي تختلف حسب رغبة الناس شدّةً وضعفاً الناشئة من تقلّبات السوق تارة ومن دوافع اخرى.

الاعتراضات على التعريف وأجوبتها:

الاعتراض الأوّل: ذكر الفقهاء أنّه ان أريد بالأجزاء كلّ ما تركّب منه الشيء، فيلزم أن لا تكون الحبوب مثليّة؛ لأنّها تتركب من القشور واللباب، والقشر مع اللبّ مختلفان في القيمة، وكذا التمر والزبيب لما فيهما من العجم والنوى.

وإن أريد بالأجزاء ما يقابل الجملة، فيلزم أن لا تكون الدراهم والدنانير القديمة مثليّين, لما يقع في الصحاح من لاختلاف في الوزن والاستدارة والاعوجاج وفي وضوح السكّة وخفائها، وذلك فيما يؤثّر في القيمة([90]).

الجواب: أنّ المراد بالأجزاء ما يقصد عليه اسم الحقيقة، والقشور واللباب خارجان عن ذلك، نظير النخالة والدقاقة، فإنّه لا شيء منها يصدق عليه اسم الحقيقة.

أمّا اختلاف السكّة والوزن ونحوهما، إن كان ممّا يتفاوت به القيمة، فيصير من باب اختلاف النوع، كسائر الصفات في المثليّات، وهذا لا ينافي كون النوع الواحد منه مثليّاً وإن لم يتفاوت به القيمة، كما هو الغالب.

والواضح ارتباط الجواب بشقّيه بالمعنى الأوّل للأجزاء، وهو التفسير بالأفراد، وقد تقدّم عدم تماميّته، فيبقى الإشكال قائماً.

الاعتراض الثاني: إنّ التساوي في التعريف إن أريد به التساوي بالكلّيّة، فالظاهر عدم صدقه على شيء من المعرّف؛ إذ ما من شيء إلاّ وأجزاؤه مختلفة في القيمة، ولو في الجملة, مثل الحنطة والشعير، وجميع ما قيل: إنّه مال مثلي, فإنّ قفيزاً من الحنطة العجميّة مثلاً يساوي عشرة دراهم، وآخر من الحنطة الكرديّة يساوي عشرين فالتفاوت معلوم لا يكاد ينكر.

وإن أريد التساوي في الجملة، فهو في القيمي أيضاً موجود، مثل الثوب القديم، والأرض، ونحوها.

وإن أريد مقدار خاصّ من التساوي، فهو حوالة على مجهول([91]).

الجواب: أنّ المراد من التساوي تساوي أجزاء الصنف، وتماثلها في القيمة، بمعنى إذا كان المضمون بعضاً من صنف مثلاً، فالواجب دفع مساويه، لا القيمة، ولا البعض من صنف آخر. وليس المراد على هذا التقدير من تساوي أنّ جميع أبعاض هذا النوع متساوية بالكّلّية، فيلزم منه عدم صدقه على شيء من المعرّف بالكّلّية، والظاهر من تعاريفهم إطلاق المال المثلي على جنس الحنطة والشعير عليه، فالتعريف غير صادق على النحو المذكور.

وإن أريد إطلاقه على الجنس باعتبار مثليّة أنواعه وأصنافه، فانطباقه على الجـنس بهذا الاعتبار – أبعد من سابقه، إلاّ أن يُلتزم بإهمال الخصوصيات في الأصناف الموجبة لزيادة القيمة ونقصانها، وهو من المنع بمكان.

كما لا يرد النقض بالثوب والأرض الذي يمكن دفعه بعدم غلبة ذلك فيهما. وفرض بعض الأفراد كذلك لا ينافي اطّراد قواعد الشرع.

والراجح أنّ المقصود بتساوي القيمة هو التساوي بحسب الغالب، كما أنّ المراد بالتساوي في الصفات هو التشابه، أو التقارب في الصفات التي لها دخل في زيادة القيمة ونقصانها وجوداً وعدماً، فالاختلاف في المثلين فيما لا يؤثّر فيهما – الصفات والقيمة – لا يؤثر في مثليّتهما.

الاعتراض الثالث: إنّ ربط المثليّة بتساوي الماليّة غير واضح، فإنّ المثلين ربما تختلف قيمتهما باختلاف الأزمنة والأمكنة، وباختلاف الحالات الداعية والباعثة إلى الرغبة فيهما, فربّما يكون المثلي له قيمة حال الضمان تخالف قيمته حال الأداء، فعليه لا ينظر في المثليّة جانب القيمة.

نعم, لا بدّ من الاحتفاظ بالماليّة المعتدّ بها في باب الضمانات، فالثلج المغصوب في الصيف يفتقد القيمة في الشتاء، وذلك بحث آخر.

فالحاصل أنّ المثليّة إنّما هي باعتبار الذات والخصوصيات التي لها تأثير في زيادة الرغبة، ونقصانها من الناس، ولا يعدّ في التماثل التساوي بحسب القيمة، فلو غصب أحد مثليّاً فعليه أن يدفع مثله, سواء زادت أم نقصت قيمته.

فربط تفسير المثلي بالتساوي في القيمة لا يرجح الى ركن ركين.

التعريف الثاني:

عرّف بعض فقهاء الشافعيّة والزيديّة المال بأنّه: ((ما تماثل أجزاؤه في المنفعة والقيمة من حيث الذات، لا من حيث المنفعة))([92]).

الاعتراضات:

1. لقد أوضحتُ آنفاً – ضمن مناقشة التعريف الأوّل – بأنّه لا وجه لربط المثليّة بالقيمة، فلا يتوقّف مثليّة المثلي على التساوي في القيمة، فإنّ الكيلو غرام من صنف معّين من حنطة مثلاً يماثله كيلو غرام من صنف الحنطة نفسها, سواء ارتفعت القيمة لغلاء الأسعار، أو غيره من العوامل، أو نزلت وكذلك ربط الحكم بضمان المثل بالقيمة، فالمثلي مضمون بمثله، ارتفعت قيمته أو نزلت ما لم تفقد القيمة كلّيّاً.

2. لا يعلم معنى واضح لكلمة الذات التي اشتمل عليها التعريف، فإنّ الذات عبارة عن ماهيّة متّصفة بالوجود الخارجي المعبّر عنها بالحقيقة تارة، وبالذات تارة أخرى، والمعلوم أنّ الشيء إذا وجد في الخارج أصبح شخصيّاً.

ومعلوم أيضاً استحالة وحدة الذات والحقيقة بالمعنى المتقدّم بين شيئين، بل ذات كل ّشيء تختصّ به ولا تتعدّاه.

فكيف يشترط التساوي في الذات بين المتماثلين مع استحالة تحقّقه في الاعيان؟

وعرّف بعض فقهاء الإماميّة، كالشهيد الأوّل في الدروس، والشهيد الثاني في الروضة البهية، وصاحب الشرح الصغير المال المثلي بقولهم هو: ((المتساوي الأجزاء والمنفعة، المتقارب الصفات))([93]).

وجعله صاحب مسالك الأفهام والكفاية أقرب التعريفات إلى السلامة([94]).

ومرادهم من التساوي ما كان لأجل التساوي في الحقيقة، والجهات المرغّبة لا ما يتّفق لأجل التساهل، أو عدم الاطّلاع على ما يمتاز به بعض على بعض، كما يتّفق في الحيوان والأرض، فالحيوان باعتبار بواطنه وخصوصياته يختلف في المقاصد والجهات المرغّبة، كما تختلف الأرض في ذلك باعتبار الموقع اختلافاً كثيراً.

الاعتراضات:

1. أنّ الثوب ونحوه متقارب المنفعة والصفات والاجزاء، بل متساوي المنفعة والصفات والأجزاء في النوع الواحد مع أنّه يعدّ مالاً قيميّاً، لا مالاً مثليّاً عند القدامى([95]).

الجواب: نمنع تساوي قيمة أجزاء الثوب القديم ولو في النوع الواحد، فنرى أهل العرف يدققون في القطعة الواحدة بين طرفيها، ولو فرض التساوي في فرد، فهو لا يوجب كونه مالاً مثليّاً؛ إذ المدار على الوجود الغالب، وإلاّ فالمتساوي في القيمة والمنفعة يمكن في الجنس.

2. أنّ استعمال لفظ الأجزاء وإرادة المصاديق والأفراد غير سديد في مقام التعريف, فإنّ كلمة الجزء ظاهرة في البعضيّة، وقد تقدمت الإشارة الى ذلك ضمن التعريف الأوّل.

3. أنّ اعتبار التساوي في المنفعة إن أريد به التساوي بالصفات التي لأجل نيلها يبتغى المثل، فاعتباره مستدرك للاستغناء عنه بذكر الصفات.

وإن أريد به ما زاد ذلك، فلا دليل على اعتباره في المثليّة لا موضوعاً ولا حكماً.

التعريف الثالث:

جاء في مسالك الأفهام، وتذكرة الفقهاء أنّ المال المثلي: ((ما يتساوى أجزاؤه في الحقيقة النوعيّة))([96]).

واعتبر صاحب منهل الغمام والعناوين أنّ هذا التعريف أوضح من التعريف السابق وإن أرجع بعضهم هذا التعريف إلى التعريف الثاني([97])؛ لأنّ الحقيقة النوعيّة تنشأ من المنفعة والقيمة والصفة، فالتساوي فيها يوجب التساوي في هذه الأمور، فيرجع إلى التعريف الثاني.

ويرد على هذا التعريف:

1ـ إنّ ربط المثليّة – وهو معنى عرفي، كما سيتّضح لاحقاً – بالحقيقة النوعيّة، وهو معنى عقلي لا يساعد عليه الذوق الفقهي في الضمان الذي مرجعه العرف.

2ـ إنّ التساوي لم يحدّد، فإن أريد به التساوي في الكلّيّة، فذلك متعذّر في معظم المثليات، وان اريد التساوي في الجملة فكثيراً ما يتوفّر في القيميات، فقد أعوز التعريف الجهة التي يعتبر في المثليّة إحراز التساوي فيها.

كما عرّف بعض الفقهاء المال المثلي بأنّه: ((ما لا تختلف أجزاء النوع الواحد منه في القيمة، وربما يقال: في الجرم والقيمة))([98]).

والمراد به الاتّحاد في أسم القليل والكثير منه كالماء والحنطة.

الاعتراضات:

1. إقحام التساوي في القيمة في إحراز المثليّة، وقد تقدّم أنها لا دخل لها فيها.

2. أنّ التساوي في الجرم لم يبيّن ما يراد منه، فإن أريد التساوي في الكمّيّة، فهذا حكم المثليّة وليس داخلاً في المعنى المثلي.

وإن أريد به الجسم فمع عدم دخله في القيمة, فلا داعي لاعتباره، ومع دخله فيها يغني ذكر القيمة عنه.

التعريف الرابع:

عرّف المال المثلي بالكيل أو الوزن أو العددي المتقارب.

الحنفية:

المشهور عند فقهاء الحنفيّة تعريف المال المثلي بأنّه: ((المكيل والموزون والعددي المتقارب)).

والمراد بالموزون أو المكيل المعدود ما يكون مقابلته بالثمن مبنيّاً على الوزن أو الكيل أو العدّ لا المراد، بالموزون أو المكيل أو المعدود ما يوزن أو يكال أو يعدّ عند البيع([99]).

وعدَّ زُفَر أنّ المماثلة في المعدود لم تثبت بالنصّ بل بالاجتهاد، ولهذا لا يجري فيه الربا، فلا يقطع بكون المضمون مثلاً للتالف، فيصار إلى قيمته؛ لتعذّر معرفة مثله قطعاً بخلاف المكيل والموزون؛ لأنّ المماثلة فيه تثبت بالنصّ([100])؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحنطة بالحنطة مثلاً بمثله))([101])، والحنطة مكيلة، وكذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة))([102]) وهما موزونان, فأمكن اعتبار المماثلة فيهما للعلم بهما قطعاً.

المالكية: ضبط فقهاء المالكيّة المال المثلي بأنّه: ((كلّ مكيل، أو موزون، أو معدود)) وذلك عند تقسيم الأموال إلى مثليّة وقيميّة. قال: الباجي([103]): ((ماله مثل، كالمكيل، والموزون والمعدود، وما لا مثل له كالحيوان والعروض)) وذكر الأزهري أنّ المراد بالمعدود هو الذي لا تختلف أفراده([104]).

الشافعية: ذكر الشافعي أنّ ضابط المال المثلي هو المكيل والموزون بقوله([105]): ((وما كان له كيل أو وزن فعليه مثل كيله ووزنه)) وليس هذا حدا لماله مثل ((لأنّ كلّ ذي مثل مكيل أو موزون وليس كلّ مكيل أو موزون له مثل)).

وأوضح سليمان الجمل الكيل والوزن بمعنى أنّه لو قدر شرعاً قدّر بكيل أو وزن، وليس المراد ما أمكن فيه ذلك, فإنّ كلّ شيء يمكن وزنه وإن لم يعتدّ به. وأخرج الشافعيّة المذروع، والمعدود مطلقاً عن المثليّة([106]).

الحنابلة: المشهور عند فقهاء الحنابلة تعريف المال المثلي بأنّه: ((كلّ مكيل وموزون)) وهذا ظاهر كلام أحمد بن حنبل ((في رواية حرب ما كان من الدراهم والدنانير وما يكال ويوزن، فظاهره وجوب المثل في كلّ مكيل وموزون))([107]).

الاعتراضات على التعريف:

1. ذكر الفقهاء أنّ كثيراً من الموزونات ليس بمال مثلي، بل من ذوات القيم، كالقمقمة والقدر ونحوهما([108]).

2. ان التعريف المذكور نقض بالمعجونات المتفاوتة الاجزاء، وما دخلته النار، والأواني المتّخذة من النحاس، فإنّها موزونة وليست مثليّة كما ذكر الفقهاء([109]).

3. أنّ المال المثلي إن أريد به كلّ موزون ومكيل، فإنّ الأشياء كلّها توزن وتكال، وإن كان على عرف الشارع فتخرج الأموال المستحدثة، وإن كانت على العرف فإنّ ما يكال في بلد قد يوزن في بلد آخر وبالعكس.

4. أوضح الشيخ جعفر كاشف الغطاء تعريف المال المثلي المقدّر بالكيل، أو الوزن هو تعريف بالأخصّ([110]).

فالقلمان من نوع واحد، وصنف واحد، والعملة الورقيّة المتعارفة اليوم أموال مثليّة، وليست ملكية ولا موزونة.

نعم, لا بدّ من إدراج المال المثلي في معاملة ما هو متوقّف على خضوعه لأحد طرق التقدير، وذلك لا يدخل في صميم المثليّة؛ لأنّ هذه الطرق هي السبيل الوحيد فيما يعدّ التقدير بالمقدار في مقام التعامل به.

5. توقّف التعامل بشيء على الوزن أو الكيل، أو العدّ في مقام التقدير لا يحدّد معنى المثلي، والوجه في ذلك ما سنشير إليه في نهاية التعريف ان شاء الله من أنّ ضمان المال المثلي بالمثل أنّما هو لأجل أنّ اليد الضامنة تلزم بإرجاع ما أتلفه مع كافّة مكوّناته ومقوّماته التي لها دخل في رغبة الناس فيه، وذلك لا يتحقّق بمجرّد دفع القيمة.

نعم, في مقام تفريغ الذمّة يجب أن يقدّر المدفوع بمقدار التالف؛ لأنّ في هذه المرحلة يفتقر في مقام الحكم بفراغ الذمّة إلى معرفة مقدار التالف؛ ليضمن المتلف بذلك المقدار فيلجأ إلى الكيل، أو الوزن أو العدّ.

فمرحلة فراغ الذمّة ومعرفة المقدار هي مرحلة متأخّرة على مرحلة اشتغال الذمّة, والمثليّة ينبغي أن تعرف في مرحلة اشتغال الذمّة.

6. المعروف أنّ الأصل في التقدير هو الوزن؛ لأنّه الأدقّ ويرجع إلى الكيل لأجل التسهيل، فما يحتوي عليه المكيال المعيّن إنّما يحدّد بالوزن، وبذلك يتحدّد المكيال، ثمّ يقاس سائر المكاييل على ذلك.

فعلى ذلك, فإنّ الأصل في تقدير الوزن في المكيل أو الموزون، واللازم الاكتفاء بالموزون دون ذكر الكيل في التعريف.

الاتّجاه الثاني: تعريف المال المثلي من حيث ماهيّته وأحكامه:

عرّف بعض الفقهاء المال المثلي حسب ماهيّته وأحكامه بقولهم([111]): ((ما حصره كيل أو وزن وجاز السلم فيه)).

فزاد الفقهاء على التعريف الرابع السابق جواز السلم فيه؛ لأنّ المسلم فيه يثبت بالوصف في الذمّة والضمان يشبهه؛ لأنّه يثبت بالذمّة. فما يمتنع السلم فيه متقوّم وإن حصره كيل أو وزن؛ لأنّ المانع من ثبوته في الذمّة بعقد السلم مانع من ثبوته فيها بالتعدّي كالجواهر، وشمل التعريف الرديء نوعاً. أمّا الرديء عيباً, فليس مالاً مثليّاً؛ لأنّه يجوز السلم فيه([112]).

الاعتراضات:

1. أورد على التعريف بأنّه يقال: ((لنا مثلي لا يجوز السلم فيه، ويجب فيه ردّ المثل، والتعريف غير شامل له؛ لعدم جواز السلم فيه، فيكون غير جامع، ويصح أن يكون وارداً على مفهوم قوله: وجاز سلمه مثل البرّ المختلط بالشعير))([113]).

ويمكن الجواب عنه بما يلي:

أوّلاً: المنع بكون المال المختلط مثليّاً؛ لأنّه بالاختلاط ينتقل المال المثلي إلى مال قيمي؛ للجهل بقدر كلّ منهما.

ثانياً: لو سلّم بكون المال المختلط مثليّاً لكن بالنظر للجزئين قبل الخلط جواز السلم فيه، وإن طرأ مانع من جواز السلم فهو داخل في التعريف. فإنّ امتناع السلم في جملته لا يوجب امتناعه في جزأيه بحالهما.

وردّ المثل إنّما هو بالنظر إليهما، والسلم فيهما جائز.

ثالثاً: قال الشيرواني: ((إنّه لو علم قدر كلّ منهما ردّ المثل لكلّ منهما، وأنّه لو علم قدر أحدهما دون الآخر ردّ مثل ما علم قدره وقيمة الآخر، ويمكن معرفة قيمته دون قدرة بأنّ شاهده أهل الخبرة قبل الاختلاط؛ لأنّه بالاختلاط انتقل من المثلي إلى المتقوّم للجهل بقدر كلّ منهما))([114]).

2. أنّ إضافة القيد المذكور لم يفد شيئاً، فما من مكيل، أو موزون قابل للضبط من حيث الصفات – كما هو مفاد التعريف الرابع – إلاّ ويصح السلم فيه، فكان إضافة هذا القيد مستدركاً.

3. لا ينبغي ذكر الأحكام في تحديد الموضوعات؛ إذ المفروض توقّف معرفة ثبوت الأحكام على إحراز الموضوع.

وزاد بعض الفقهاء في التعريف حكماً آخر للمال المثلي وهو جواز بيع بعضه ببعض بقولهم هو([115]) ((ما يحصره الكيل أو الوزن وجاز السلم فيه، وبيع بعضه ببعض)).

إنّ حكم بيع بعضه ببعض في تعريف المال المثلي بعيد عن اعتبار أكثر الفقهاء, فقد اعترضوا عن هذا الحكم وقالوا بامتناع بيع البعض بالبعض من الربويات؛ لرعاية التماثل في حالة الكمال، وهو بمعزل عمّا نحن فيه([116]).

الاعتراضات:

1. حكى الغزالي أن القماقم والملاعق والمغارف المتّخذة من الصفر والنحاس موزونة، ويجوز السلم فيها، وبيع بعضها ببعض، وليست مثليّة لاختلافها([117]).

2. أنّه محاولة تعريف الموضوع بالحكم.

3. أنّ جواز بيع بعضه ببعض إن كان ممنوعاً من جهة فقدان المماثلة في الصفات المؤثّرة مع تساوي المقدار من حيث الكيل والوزن فهو قيمي، إلاّ أنّه لا يحتاج في إخراجه إلى هذا القيد، فإنّ مثله لا يباع بالوزن فقط، أي لا يكتفى في تقديره بالوزن؛ لعدم إمكان الضبط المعدّ في السلم. وإن كان المنع من بيع البعض بالبعض مع التفاضل في المقدار، فالمانع حينئذ ليس فقدان المثليّة, بل لزوم الربا المنافي لصحّة البيع.

وزاد الطوري من الحنفيّة حكماً للمال المثلي وهو ليس في تبعيضه ضرر في التعريف المشهور بقوله المال المثلي([118]) هو: ((المكيل والموزون الذي ليس في تبعيضه ضرر، والعدد المتقارب)).

ويرد على التعريف بأنّه يتحمّل جميع الإشكالات المتقدّمة على التعريف المشهور، أنّ إضافة قيد: ليس في تبعيضه ضرر لا يضيف إلى التعريف معنىً؛ إذ ما من مثلي إذا كان مكيلاً أو موزوناً إلاّ يجوز القسمة فيه من غير ضرر.

أمّا تعريف المال المثلي بأحكامه فقط، فقد عرّفه بعض الفقهاء مثل الحارثي من الحنابلة بقوله([119]): ((كلّ ما يثبت في الذمّة)).

وعرّف أبن عابدين وصدر الشريعة المال المثلي بأنّه: ((ما يوجد له المثل في الأسواق بلا تفاوت يعتدّ به))([120]). ومعنى قوله: ((بلا تفاوت يعتدّ به)) الظاهر أنّه ما لا يختلف بسببه الثمن، أو يختلف بصورة يقع التسامح فيها.

وجاء في فتح العزيز بأنّ المال المثلي: ((هو الذي ينقسم بين الشريكين من غير حاجة إلى التقويم))([121]).

اعتراض:

إنّ هذه التعاريف جميعها تعاريف غير حقيقيّة؛ وذلك لأنّها عرّفت المال المثلي بأحكامه؛ ولأنّها لو كانت تعاريف حقيقيّة لما جاز ذكرها فيها، فلا معنى لأخذها في التعريف.

المطلب الثالث: تعريف الفقهاء المحدثين:

عرّف المازندراني المال المثلي بأنّه: ((ماله مماثل عرفاً في الأوصاف والخصوصيات التي تختلف بها الرغبات، وتتفاوت بها القيم قلّة وكثرة))([122]).

ويرد على هذا التعريف بأنّه تعريف الشيء بنفسه.

وعرّف الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء المال المثلي بأنّه: ((ما تتماثل أفراده في الصفات التي تختلف القيم باختلافها؛ لاختلاف الرغبات، أو الجزئي الذي تكون له أمثال من صنفه تساويه في تلك الصفات))([123]).

الاعتراضات:

1. قد أوضحتُ سابقاً أنّ إقحام القيمة في تعريف المثل لا ربط بين المثليّة مع التساوي في القيمة.

2. ما أفاده ليس تعريفاً بالمعنى العلمي، فالتعريف يعني تحديداً جامعاً يعمّ مصاديق المعرَّف ويميّزه عمّا عداه. وما جاء في التعريف إلاّ ذكر بعض مصاديق المثلي ضمن ترديد يقسّم المثلي إلى قسمين.

فكان الأولى أن يسمّى تقسيمَ المثلي بدلاً من أن يسمّى تعريفَ المثلي.

3. استعمال كلمة الجزء وإرادة المصداق خروج عن اللغة والاصطلاح, كما أوضحتُ في السابق.

4. استعمال كلمة التماثل في المثليّة يُخرج التعريف عن كونه تعريفاً فنّيّاً؛ فإنّ معرفة التماثل تكون بمعرفة المثلي، فلو توقّف عليه دوراً واضحاً.

وعرّف محمد سلام مدكور المال المثلي بأنّه: ((ما لا تتفاوت آحاده تفاوتاً يعتدّ به وتوجد له نظائر في الأسواق))([124]).

ويرد على هذا التعريف أنّه يقتضي حصر المثليّة في المعدودات.

وعرّف أحمد مصطفى الرزقا المال المثلي فقال: ((هو ما تماثلت آحاده وأجزاؤه بحيث يمكن أن يقوم بعضها مقام بعض من دون فرق معتدّ به))([125]).

ويرد على هذا التعريف مضافاً على ما أُورِد في التعريف السابق من حصر المثليّة في المعدود ماذا يعني بالأجزاء؛ فإن كان يعني المصداق على غرار ما تقدّم في التعريفات السابقة, ففيه ما تقدّم في تلك التعريفات من عدم ملائمته لغة واصطلاحاً.

التعريف المختار:

ينبغي توضيح نقطتين قبل بيان التعريف المختار للمال المثلي وهما:

أوّلاً: أنّ مصطلح القيمي والمثلي إنّما نشأ من حكم الفقهاء بالضمان بالقيمة.

نعني بها الشيء المتمحّض في الماليّة، ويكون مقياساً لماليّة سائر الأموال كالدراهم والدنانير من الفضّة والذهب المسكوكين في السابق والعملة الورقيّة الرائجة في البلد في الوقت الحاضر في موارد.

وضمان العرض بعرض يشابهه في موارد أخر  عبّر عنه في مقام التمييز عن القسم السابق بالضمان المثل. فليس هنالك لمعنى المثلي، أو القيمي معنى يكون موضوعاً محدّداً سابقاً عن الحكم الفقهي. فمعنى المثلي ليس مثل الخمر والبيع والإجارة من الموضوعات المتعارفة قبل التشريع الإسلامي, بل ان عنوان المثلي عنوان انتزاعي ينتزع من حكم الفقيه بضمان التالف بعرض يشبهه، والقيمي عن حكمه بضمان التالف بالقيمة بالمعنى المتقدّم.

ثانياً: أنّ الضمان سواء أكان دليله النقل أو العقل أو الاجماع أو غيرها يقتضي كلّ ما تستولي عليه يد المعتدي، وتسلّبه من المعتدى عليه، أو تستولي عليه بإذن مسبق فهو للمضمون له، وأنّ يد الضمان تقع على العين بجوهرها وصفاتها وحيثيّتها، وهذا ثلاثة أقسام تقع تحت اليد الضامنة, بل على التحقيق أنّ منفعة العين التي تتوقّع فيها بحسب التعارف العقلائي أيضاً تقع تحت اليد.

فهذه أربعة أمور تكون اليد مسؤولة عنها في حالة غصب العين، أو في حالة انتقال اليد من أمنية إلى خائنة ضامنة، أو بسبب آخر.

فمقتضى أدلّة الضمان دخول العين، وكل الحيثيّات والصفات التي لها دخل في خلق الرغبة العقلائيّة، أو ازدياد الرغبة في اقتناء ذلك الشيء، والسعي للحصول عليه. ومعلوم أنّ القيمة، وإن كانت تعدّ بدلاً وعوضاً عن ماليّة المعوّض، إلاّ أنّ الماليّة إنّما تشكّل جزءاً من ذلك المضمون، فإنّ الفوائد التي كانت ترتجى من العين التالفة من العروض لا تقوم القيمة بها، وإنّما يتمكّن مالك القيمة من الوصول إلى تلك الفوائد ضمن عرض آخر يشبه العرض التالف, فلا تكون القيمة بدلاً عن جميع الحيثيات والجهات المرغبة في التالف، فيكون الاكتفاء بالقيمة رفع اليد عن مفاد عموم أدلّة الضمان المقتضية تضمين الماليّة مع كافّة الحيثيّات المرغبّة عقلائيّاً في التالف.

وفي ضوء هاتين النقطتين يمكن أن نعرّف المال المثلي بأنّه: ((كلّ مال يتوفّر عادة أو غالباً ما يسدّ مسدّه في الجهات المرغّبة عقلائيّاً فيه، عيناً, وصفةً, ومنفعةً)).

 

المبحث الثاني

تعريف المال القيمي

المطلب الأوّل: المعنى اللغوي للقيمة:

القيمة – بالكسر: واحدة القيم، وأصله الواو؛ لأنّه يقوم مقام الشيء. والقيمة: ثمن الشيء بالتقويم. وقوّمتُ السلعةَ واستقَمْتُها. ثُمنّتُها. ويقال كم قامت ناقتك؟ أي كم بلغت. والاستقامة: التقويم؛ لقول أهل مكة: استقمتُ المتاع أي قوّمته([126])، وفي الحديث عن أبي سعيد قال: غلا السعر في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالوا: لو قوّمتَ يا رسول الله.

قال: ((إنّي لأرجو أن أفارقكم ولا يطلبني أحد منكم بمظلمة ظلمتُهُ))([127]).

أي لو سعّرتَ وهو من قيمته الشيء، أي حدّدت لنا قيمتَه.

والقيمي هو إضافة القيمة إلى ياء النسب.

المطلب الثاني: تعريف المال القيمي اصطلاحاً:

لم يعرّف الفقهاء المال القيمي؛ لأنّه لم يحصر، ويضبط في ماهيّة معيّنة.

نعم, خلال تعريفهم للمال المثلي، وعرضهم لمصاديقه ذكروا المال القيمي، وهو خلال ذلك، أو عكس ذلك من العبارات المطلقة العامة، أو عرف المال القيمي, بعكس تعريف المال المثلي.

فقد عرّف الزيلعي المال القيمي بأنّه: ((غير المكيل والموزون والعددي المتقارب)).

ويرد عليه بما يلي:

1. أنّ تقييد القيمي بغير المكيل والموزون والعددي المتقارب قد تقدّم بأنّه لا يمكن أن يرتبط بعنوان المثلي أو القيمي.

2. ليس في التعريف عنوان جامع ينطبق على جميع أفراد القيمي، أي صدق العنوان على معنونه، وصدق المفهوم على مصاديقه إنّما هو إحصاء لأنواع القيمي.

3. قد تقدّم في تعريف المثلي أنّ عنوان القيمي والمثلي ليس من الأصول والعناوين الثابتة في العرف، والاستعمال اللغوي، وإنّما هما انتزعا عن حكم الفقهاء بكفاية الضمان بالمالية في موارد أنتزع منها عنوان القيمي، وبلزوم ضمان الخصوصيات الدخيلة في المقاصد، والأغراض العقلائيّة في موارد أخرى أنتزع منها عنوان المثلي, فكان لازماً في مقام التعريف النظر إلى هذه النقطة.

وعرّفه الشيخ الطوسي من الإماميّة بقوله([128]): ((ما لا يتساوى أجزاؤه، أي لا يتساوى قيمة أجزائه)).

ويلاحظ على هذا التعريف:

1. استخدام كلمة الاجزاء وإرادة الأفراد – كما هو الظاهر- لا يساعد عليه العرف ولا اللغة, أو إرادة الأبعاض منها لا يساعده النظر الدقيق، فإنّ أبعاض القيميّات إذا قدّرت بما تعارف تقديره كان متساوي القيمة مع البعض الآخر بما قدّر به الأوّل.

2. إقحام التساوي في القيمة وعدم التساوي وربط القيمي بعدم التساوي في القيمة غير واضح، فإنّ الحكم بضمان الماليّة مع ضمان الخصوصيات في المثلي، والاكتفاء بضمان الماليّة في القيمي ليس مرتبطاً بتساوي قيمة الأبعاض، أو تساوي قيمة الأجزاء، أو عدمه.

وعرّف محمد سلام مدكور المال القيمي بقوله([129]): ((ما تفاوت آحاده تفاوتاً يعتد به، أو لم تتفاوت، ولكن انعدمت نظائره في الأسواق)).

وفي مرشد الحيران: ((هو ما تتفاوت أحاده تفاوتاً يعتدّ به، أو لا تتفاوت ولكن لا نظير لها في محلّ التجارة))([130]).

ويرد على هذين التعريفين بأنّه يقتضى صيرورة المثلي – بحسب المصطلح الفقهي – قيميّاً إذا ففقدت نظائره في الأسواق، وهذا يقتضي انقلاب الماهيّة إلى ما هيّه أخرى؛ لفقدان مصاديقها، وهو غير سديد.

وعرّف الشيخ هادي كاشف الغطاء المال القيمي بأنّه: ((هو ما لا يتساوى افراده في الصفات والخصوصيات التي يبذل بإزائها المال))([131]). وهذا هو التعريف الراجح وإن كان مبنيّاً على سلب الشيء.

أمثلة المال القيمي:

ذكر الفقهاء بعض أمثلة المصاديق المال القيمي لزيادة التوضيح، مثل الحيوانات والثياب حسب النصّ القديم، فإنّ قطعة كبيرة كانت تختلف أبعاضها إذا لم تكن متساوية, والمثلي المخلوط بخلاف جنسه، كالحنطة المخلوطة بالشعير، والخلّ المخلوط بالزيت، والأرض والمخطوطات والصناعات اليدويّة التي تدخل الحرفة اليدويّة عاملاً أساسيّاً في تحديد قيمتها، والدراهم والدنانير المغشوشة التي لا يجوز التعامل بها، والساقطة من قبل السلطان والقانون([132]).

تعريف المال المثلي والمال القيمي في القانون:

عرّف القانون المدني الأموال المثليّة والأموال القيميّة في المادّة (64) التي نصّت على أنّ:

1. الأشياء المثليّة: ((هي التي يقوم بعضها مقام بعض عند الوفاء، وتقدّر عادة في التعامل بين الناس بالعدد أو المقياس أو الكيل أو الوزن)).

2. وما عدا ذلك من الأشياء فهو قيمي([133]).

ويرد على هذا تعريف المال المثلي، والمال القيمي في القانون المدني بما يأتي:

1. أنّ قيام البعض عن البعض في مقام الوفاء يتفرّع عن المثليّة، ويتوقّف عليها مفهوماً وخارجاً. فلا يصحّ تعريف المثلي بها؛ لاستلزامه الدور.

2. الأراضي تقدّر بالمقياس مع أنّها ليست مثليّة.

3. قد أوضحتّ تماميّة ربط المثليّة والقيمية بالكيل أو الوزن، أو العدد.

والقانون المدني بتعريفه هذا للمثليّات والقيميّات إنّما يعطي تقريباً – نفس الفكرة التي كان يؤدّي إليها تعريف مجلّة الأحكام العدليّة.

فقد نصّت المادّة (145) على أنّ:

((المثلي ما يوجد مثله في السوق بدون تفاوت يعتدّ به)).

وفي المادة (146) على أن:

((القيمي ما لا يوجد مثله في السوق، أو ما يوجد ولكن مع التفاوت المعتد به في القيمة))([134]).

وهذان التعريفان يربطان المثليّة والقيميّة بالقيمة السوقيّة، وقد أوضحتُ سابقاً عدم صحّة ذلك.

فالمثليّات تشمل بهذا الوصف المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة  وبعض أنواع المذروعات المتماثلة.

أمّا القيميّات، فهي التي يقوم بها وصف خاصّ يميّزها عن غيرها، أو تتفاوت افرادها في القيمة، فلا يقوم غيرها مقامها في الوفاء، ولو كان من نوعها كالخيل والدور والأراضي والمخطوطات وغيرها([135]).

وقد اضطربت قرارات محكمة التمييز في تعييد مصاديق المال المثلي، والمال القيمي، فمثلاً عدت (الحلّي الذهبيّة) من الأموال المثلية بينما هي أموال قيميّة وإن كانت أصولها مثليّة؛ وذلك لدخول الصناعة والحرفة اليدويّة فيها، فلا يوجد مثلها في السوق، وان وجدت اختلفت أسعارها([136]).

وحكمت محكمة التمييز في قرارها المرقّم 889, ح,963 في 23, 5, 1963 بأنّ الحنطة والشعير من الأشياء القيميّة؛ لاختلاف جنسها وسعرها، ولا يقوم بعضها مقام البعض عند الوفاء، وتكون مطالبة المدّعي بقيمتها صحيحة([137]).

كما حكمت المحكمة المذكورة في قرار آخر لها بأنّ الحنطة من المثليان التي يقوم بعضها مقام بعض عند الوفاء([138]).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الفصل الثاني

مماثلة المال المثلي والمال القيمي وشروطهما وأركانهما

المبحث الأوّل

المماثلة في المال المثلي

المطلب الأوّل: الصفات التي تعدّ فيها المماثلة:

لمـّا تحدّد معنى المثلي ومعنى القيمي وأمتاز كلّ منهما عن الآخر يتحصّل من ذلك أنّ المماثلة لا تتحقّق إلاّ في صفات معيّنة. ويمكن ذكر صفات المماثلة في العين، وتعيين  الصفات التي تعدّ فيها المماثلة بما يأتي:

1. الصفة الكائنة في العين المقصودة للعقلاء، والتي يبذل بإزائها المال، والتي تعد فيها المماثلة، وتقتضي زيادة الرغبة العقلائيّة أو نقصانها، ومن ثمّ تؤثر في الماليّة زيادة أو نقص، كالجودة والرداءة ونحوهما في الحبوب والصفاء والنقاوة في الأحجار الكريمة والمعادن. وهذه الصفة هي التي تعدّ فيها المماثلة.

2. الصفة التي يرغب بها العقلاء، ولكن لا تأثير لها في مالية العين زيادة أو نقصاً. كما لو فرض مماثلة صفراء حنطة وحمرائها، أو لون سيّارة بالقياس إلى لون سيّارة أخرى من صنفها وموديلها مماثلة لها تختلف باللون، فإنّ بعض العقلاء يرغبون لصفراء الحنطة مثلاً دون حمرائها، وبالعكس بالنسبة الى بعض العقلاء الآخرين.

وكذا في لون السيّارة، فلا يشترط في هذه الصفة المماثلة؛ لعدم شمول أدّلة الضمان لها المتوقّف على الماليّة.

3. الصفة غير المقصودة عند العقلاء، والتي لا تجلب الرغبة عندهم، كأن تكون الحنطة من صنف معيّن من زراعة محمد بالقياس إلى حنطة من زراعة خالد مع فرض مماثلتها من جميع سائر الجهات؛ فإنّ هذه الصفة لا تؤثّر في الماليّة كما لا تؤثّر في العقلاء نوعاً، وإن كانت قد تؤثّر في الرغبة الشخصيّة لغاية شخصيّة إلاّ أن ذلك لا يكون مقياساً للمثليّة أو القيمّة.

فالمماثلة المطلوبة في الصفات بين البدل والمُبْدل، لا تفوت بفوت الصفات المقصودة عند العقلاء التي لا تؤثّر في الماليّة والصفات غير المقصودة عند العقلاء، فلا يحكم الشارع بضمانها؛ لعدم ماليّتها، ويعدّ العقلاء المطالب بها معانداً ومكابراً([139]).

ثم إنّ الفقهاء تكلّفوا بيان الصفات التي تعدّ بها المماثلة من حيث وقوعها بالجنس أو النوع أو الصنف وإن اختلفت تحديداتهم لها في مواضع عدّة منها التهاتر – المقاصّة – والضمان، وغيرهما.

الإماميّة:

المشهور عند فقهاء الإماميّة إنّ المماثلة تقع في الصنف، فلا يكفي التماثل بين الأفراد في الخارج بالاتّحاد النوعي الجنسي.

قال صاحب جواهر الكلام([140]): ((إنّ المساواة في أشخاص الأصناف، ولا يكفي الاتّحاد في أسم النوع المنافي لقاعدة لا ضرر ولا ضرار ولغيرهما)). وفي محلّ آخر: ((المراد من التعاريف واحد – تعريف المثلي – وهو التساوي الذاتي في غالب ماله مدخليّة في الرغبة والقيمة، وإن يكون ذلك غالباً في أفراد الأصناف، لا أتّفاقاً)).

نعم, ذكر الشيخ الأنصاري بأنّ كلّ نوع من أنواع الجنس الواحد بل كلّ صنف من أنواع صنف واحد مثلي بالنسبة إلى أفراد ذلك النوع أو الصنف, فإذا كان المضمون بعضاً من صنف فالواجب دفع مساويه من هذا الصنف، لا القيمة ولا بعض من صنف آخر([141]).

وخصّ الشيخ هادي كاشف الغطاء في شرحه للمكاسب المماثلة في الصنفيّة ونفى المماثلة في الجنس والنوع فقط بقوله([142]): ((لا بدّ من المماثلة مع ذلك في الصنفيّة، فلا تكفي المماثلة في الجنس وهو كونه ملبوساً، ولا في النوع وهو كونه ثوباً بعد أن كانت للثياب أصناف واقسام كثيرة)).

وجاء في مصباح الفقاهة: ((بأنّ التماثل بين أفراد الموصوف يختصّ في الخارج بالاتّحاد النوعي والصنفي. أمّا الاتّحاد الجنسي، فهو بنفسه لا يصحّح التماثل في جميع الموارد، وهذا لا خفاء فيه))([143]).

فإنّما يكون مثل الحنطة مثليّاً، إذا لوحظ أشخاص كلّ صنف منها على حده، ولم يلاحظ أشخاص صنف مع أشخاص صنف آخر, لعدم تحقّق المثليّة حينئذ شرعاً, بل يعدّ شخص كلّ صنف مبائناً للصنف الآخر من حيث الصفات وسائر الجهات والخصوصيات.

فإذا تلف عنده مقدار من صنف خاصّ من الحنطة، يجب عليه دفع ذلك الصنف، لا صنف آخر؛ لتغاير الصنفين عرفاً, فيخرجان بذلك عن المثليّة. فالرزّ فيه أصناف متفاوتة، فالعنبر يختلف عن الحويزاوي وغيره، فاذا تلف عنده مقدار من العنبر يجب عليه دفع ذلك المقدار منه لا من غيره، وكذلك الحال في الأدهان، وغير ذلك ممّا لا يحصى.

نعم, التفاوت الذي بين أفراد ذلك الصنف لا ينظر إليه؛ لأنّه لو فرض ملاحظة هذه الجهات, لانعدمت المثليّة غالباً في الضمانات, لاختلاف أفراد صنف واحد في جملة من الخصوصيات حتى أنّ أهل البساتين يقولون: إنّ ثمرة شجرة واحدة تختلف بعض أطرافها من الطرف الآخر من جهة إشراق الشمس أو القمر أو نحو ذلك([144]).

الحنفية:

عدّ فقهاء الحنفيّة المماثلة في الصنف؛ لأنّ مطلق الجنس لا يكفي بل لابدّ من اعتبار المماثلة في الصفة كالجودة والرداءة([145]).

فالسرخسي عدّ الأمثال المتساوية إنما تكون أمثالاً متساوية بالجنس والقدر، فالمماثلة صورة باعتبار الجنسيّة.

ولكن هذه المماثلة لا تكون قطعاً إلاّ بشرط التماثل في الصفات، فيصحّ أن يقابل بعضها ببعض في العقد من حيث الذات، فلا يجوز بيع قفيز حنطة جيّدة بقفيز حنطة رديئة. فاعتبار المماثلة القطعيّة في الصنف([146]).

الشافعية:

ذكر صاحب تكملة المجموع أنّ التماثل يكون عند اتّفاق أربعة أوصاف هي: الجنس، والنوع، والصفة، والقدر.

ويصبح المال مثليّاً فإذا تلف وجب ردّ مثله. فوقوع المماثلة عند فقهاء الشافعيّة في أصناف الأموال([147]).

المالكيّة:

ذكر المالكيّة أنّ التماثل يكون في الصفة والجودة والرداءة، أي في الصنف، فإنّ تخلّف ذلك لم يكن التماثل خلال كلامهم عن المقاصّة الجبريّة بوقوعها عند التماثل في الصفة، مثل الجودة والرداءة، فإن تخلّف ذلك، لم تقع المقاصّة؛ لعدم التماثل([148]).

الحنابلة:

ضبط فقهاء الحنابلة التماثل عندهم إذا أتّفق على اربعة أوصاف: الجنس، والنوع، والجودة، والرداءة، وهي لا بدّ فيها لتحقّق التماثل.

جاء في المغنى: ((والأوصاف على ضربين متّفق على اشتراطها، ومختلف فيها, فالمتّفق عليها ثلاثة أوصاف الجنس، والنوع، والجودة، والرداءة، فهذه لابدّ منها في كلّ مُسلَمٍ فيه ولا نعلم بين أهل العلم خلافاً في اشتراطها, وبه يقول أبو حنيفة ومالك والشافعي))([149]).

ومن خلال هذا النصّ يعلم أنّ المماثلة تقع في الصنف.

الزيدية والاباضية:

أوضح فقهاء الزيديّة والاباضيّة أنّ التماثل بين المالين يقع في أصناف الأموال من خلال كلامهم على المقاصّة الجبريّة. واشتراط الاتّحاد في الصفة، وإنّ التفاوت فيها يمنع وقوع المقاصّة الجبريّة([150]).

قال صاحب التاج المذهّب([151]): ((والصفة هنا تشمل الجيّد والرديء، فيلزم مع اتّحادها في هذه الصفة حتى يتساقطا)).

الظاهريّة:

ذهب الظاهريّة إلى أنّ المماثلة تقع في النوع من خلال كلامهم في مسألة ((مثل القرض للنصوص الواردة.

قال ابن حزم: ((فإذا عدم المثل من نوعه فكلّ ما قاومه وساواه، فهو أيضاً مثل له من هذا الباب، إلاّ أنّه أقلّ مثليّة ممّا هو من نوعه، فلذلك قضينا به عند عدم المثل المطلق))([152]).

ويرد على ما جاء في كلمات الفقهاء بما يلي:

1. اتّفاق أكثر الفقهاء على لزوم التماثل في الصنف، ولكن مرادهم من الصنف غير واضح، مثلاً اعتبار العنبر صنفاً واحداً، وعدم اعتبار الحنطة على اختلاف أشكالها صنفاً واحداً غير جيّد، فإنّ الحنطة كما تختلف جودةً ورداءةً كذلك العنبر منه ما هو من الدرجة الأولى، ومنه ما هو دون ذلك، فالالتزام ببراءة ذمّة من أتلف من الدرجة الأولى بدفع من الدرجة الثانية بالنسبة للعنبر وعدم براءة الذمّة بمثل ذلك في الحنطة غير واضح.

2. أنّ تّحديد الصنف الوارد في كلمات الفقهاء مشكل جدّاً، فإنّ الصنف إن أريد به النوع مع وصف عرضي، فلا يمكن جعل العنبر صنفاً في مقابل الحويزاوي؛ لأنّهما وصفان ذاتيان، أي لا يمكن إنفكاكهما عن موصوفهما.

وإن فسّر الصنف بمعنى الجودة والرداءة فهو كذلك؛ فإنّ العنبر الجيّد يبقى جيّداً وكذلك الرديء.

3. أنّ ربط المثليّة بعنوان لم يحدّد في كلمات الفقهاء عنوان الصنف والنوع إحالة على المجهول، ولا ينبغي ذلك في مثل هذه المباحث الفقهيّة الدقيقة.

الرأي المختار:

لقد أوضحت في تعريف المال المثلي أنّ المثليّة تتقوّم بالتساوي في الصفات التي لها دخل في ازدياد الرغبة العقلائيّة عيناً وصفهً ومنفعةً.

وهذا لا يمكن تقييده بالصنف أو النوع, فربّما يمكن فرض فردين متماثلين في ما يوجب زيادة الرغبة العقلائيّة على النحو المذكور وإن كانا من صنفين، فإنّ الصنف كما أشرت هو النوع مع أوصاف عرضيّة، وإنّ الأوصاف العرضيّة قابلة للانفكاك غالباً، ولا تؤثّر ذلك التأثير المُومَأُ إليه.

فلو اختلف الضامن والمالك في أنّ المدفوع مثل التالف أولا, فبناء على اعتبار الصنفيّة يحدّد أهل الخبرة أنّ المعرفة المدفوع من صنف التالف أو لا, وعلى المختار أن يرجع إلى أهل الخبرة لمعرفة أنّ المدفوع يماثل التالف في الصفات والمنفعة المُومَأ إليها أو لا.

القانون المدني:

عدّ فقهاء القانون المدني المماثلة في الصنف من خلال كلامهم في وقوع المقاصّة الجبريّة وشرحهم للمادّة (409) و (411) من القانون المدني: ((ويشترط لحصول المقاصّة الجبريّة اتّحاد الدينين جنساً ووصفاً, وحلولاً وقوةً وضعفاً)) و((إذا أتلف الدائن عيناً من مال المدين، وكانت من جنس الدين، سقطت قصاصاً وإن كانت خلافه، فلا تقع المقاصّة بلا تراضيهما))([153]).

فلا تقع المقاصّة الجبريّة إلاّ اذا اتّحد الدينان جنساً ووصفاً وكانا من النقود أو من الأموال المثليّة المتّحدة في النوع والجودة([154]). فالحنطة الكرديّة على درجات في الجودة، فلا تقع المقاصّة الجبريّة بين دينين محلّهما من هذه الحنطة، ولكن محلّ الأوّل من الدرجة الاولى ومحل الثانية من الدرجة الثانية([155]).

فذكر الجنس والنوع والوصف والجودة في الموادّ القانونية وشروحها, دليل على إرادة المماثلة في الصنف؛ فالقانون المدني العراقي قد وافق رأي الفقه الإسلامي الذي يعدّ المماثلة في الصنف بعد ما بيّنت عدم تماميّة ذلك في الرأي المختار.

المطلب الثاني: المماثلة المعتبرة في الشرع:

لا بدّ من التطرّق إلى أنواع المماثلة بين المالين ثمّ بيان المماثلة المعتبرة في الشرع:

النوع الأوّل: المماثلة العقليّة أو المماثلة المنطقيّة:

وهي المشتركة في حقيقة واحدة بما هما مشتركة، أي لوحظ وأعتبر
اشتراكهما([156])، فتكون المماثلة العقليّة في الأموال المثليّة من جميع الجهات في مجموع الصفات المقابلة بالمال والصفات غير مقابلة بالمال، أي المقصودة للعقلاء وغير المقصودة للعقلاء.

ولا خلاف بين الفقهاء على أنّه ليس المراد من المماثلة المعتبرة في الشرع بين المالين هي المماثلة العقليّة؛ لعدم بناء الشرع على مثل ذلك, ولأنّ العلم بها مختصّ بعلاّم الغيوب. كما أنّه لا وجه للتعبّد بها؛ لأصالة عدمها، ولو كان التعبّد بها موجوداً لظهر وبان في هذا الموضوع العامّ البلوى، ولم تصل المرتبة الى نزاع الفقهاء([157]).

ثمّ إنّ المماثلة والتساوي العقلي من كلّ وجه غير مراد بل متعذّر؛ إذ لو كان المراد من المماثلة هي المماثلة العقليّة للمثلي، أي ما كان له مماثل من جميع الجهات في مجموع الصفات المقابلة بالمال والصفات غير المقابلة بالمال، أي المقصودة للعقلاء، وغير المقصودة للعقلاء، فلا ينطبق شيء من التعاريف المذكورة على المال المثلي، ويخرج المثل عن المماثلة جزماً عند الفقهاء؛ لأنّه ليس مماثلاً للمثلي في الصفات غير المقصودة للعقلاء.

النوع الثاني: المماثلة اللغوية:

وهي المماثلة التي تكون بين المتّفقين بالجنس([158]), أي المماثلة بين المالين ولو من بعض الجهات. ولا يكتفي الفقهاء بالمماثلة اللغوية لمثليّة الأموال؛ لدخول المال القيمي في المال المثلي، كقطع الأرض المتساوية، والحيوانات المتشابهة.

النوع الثالث: المماثلة العرفية:

هي المماثلة المعتبرة شرعاً عند بعض الفقهاء. قال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء في  معرض ردّه على صاحب المكاسب بعد نفيه من أنّ المراد بالمماثلة هي المماثلة اللغويّة والعرفيّة([159]): ((بل ليس المراد سواه, فإنّ المثل المبحوث عنه في كلماتهم ومعاقد إجماعاتهم وهو ما يصدق عليه أنّه مثل التالف لغةً وعرفاً، وليس لهم فيه اصطلاح خاصّ ومعنى جديد، وانما حكموا بوجوبه؛ لأنّه أقرب للتالف بعد تعذّر عينه الواجبة الردّ، وكذا لو كان المدرك لوجوب المثل آية الاعتداء قوله تعالى [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]([160]).

فإن المرجع في تشخيص المثل وتمييزه عن غيره هو العرف واللغة)).

ويرد عليه أنّ المماثلة اللغويّة غير المماثلة العرفيّة، فإنّ العرف يحكم بالمماثلة حسب ما نشاهد إذا كان المالان متماثلان حقيقةً ومنفعةً وصفاتٍ.

فالجمع بين كلمتي, اللغة والعرف، كما في النصّ المذكور، ليس على ما ينبغي, فحكم العرف واللغة في المماثلة مختلف.

ونعم ما أوضح السيد السبزواري بأنّ المراد من المماثلة هي المثليّة عند عامّة الناس في جميع موضوعات الأحكام إلاّ ما حدّدها الشارع بحدود وقيود، والمفروض عدمه في المقام.

ثمّ إنّ المماثل العقلي غير مراد بل متعذّر، والمماثل التعبّدي الشرعي لا اسم له ولا أثر له، وكونه من الموضوعات المستنبطة, غير معلوم, بل معلوم العدم، وعلى فرض احتماله، فيكون متّخذاً من العرف في نظائر المقام.

ثم إنّ المثليّة من الأمور التشكيليّة لها مراتب كثيرة، والمرتبة الأولى منها ساقطة قطعاً، وإلاّ لكلفت المثليّة الأسميّة وهي المماثلة اللغويّة.

والمرتبة القصوى متعذّرة نوعاً, بل قد مرّ اختصاصها بعلم الله تعالى وهي المماثلة العقليّة، فيتعيّن الأوسط والعرف يحكم به وهي المماثلة العرفيّة([161]).

وأكدّ صاحب العقد المنير أنّ المراد من المماثلة في معقد الإجماع هو المماثلة في نظر العرف، وهي المماثلة العرفية([162]).

واستشكل على كون المماثلة عرفيّة بدخول المال القيمي في المال المثلي؛ إذ صدق على المال القيمي عرفاً أنّ له مثلاً في مجموع الصفات المعتبرة في صدق المماثلة, كالحيوان.

النوع الرابع: المماثلة المقاصّيّة:

ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ المماثلة المعتبرة عند الشرع هي المماثلة المقاصّيّة, أي أنّ المراد هو مثل الشيء وعديله الذي يؤخذ بدله في مقام المقاصّة الذي يحكم أهل العرف بأنّه ينبغي أخذه بدلاً وعوضاً عمّا أتلف الضامن، كما يشهد لذلك عدم اكتفاء بعض من أخذه عرفيّاً بمطلق المماثلة عرفاً ولو من جهة النوع فقط، بل لا بدّ مع ذلك من المساواة في المميّز النوعي والصنفي بحيث لا يرون الأخذ له عوضاً عن ماله مظلوماً ولا ظالماً, أي أنّه لا يراد من المماثلة العرفية التي تطلق مع وجود جهة الشبه في الجملة، ولا المماثلة العقليّة المتعذّرة من كلّ وجه، بل هو شيء فوق ذلك وهو المماثلة في غالب ماله مدخليّه في الماليّة والرغبة العقلائيّة، وهي المماثلة المقاصّيّة.

وقد استدلّ الشيخ البديري من قوله تعالى: [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]([163]). على المماثلة المقاصّيّة بأنّ المراد بالمثل هو مماثل شخص المعتدى الذي يعدّ أخذه في أنظار العقلاء أخذاً لحقّه من ظالمه مثلاً، ومقتصّاً منهم من غير زيادة ولا نقصان.

اعتراض:

إنّ الاقتصاص من غير زيادة، ولا نقصان إن لم يكن متعذّراً فهو متعسّر لا يمكن التكليف به.

الجواب:

أنّ المدار على المماثلة في الآية في أنظار العقلاء هو حمل الآية على المثل الذي هو مقتضى المقاصّة عرفاً، لا مطلق المثل العرفي الذي يطلق مع وجود جهة الشبه في الجملة, بل أخصّ منه، كما يشهد لذلك سياقها، وكونها في مقام المقاصّة وحكم العدل, فلا يمكن حمل الآية على المماثلة العقليّة؛ لتعذّر ذلك أو تعسّره بحيث يمتنع التكليف به([164]).

وذكر صاحب جواهر الكلام بأنّه لا يراد من المماثلة في المال المثلي المماثلة العرفيّة، بل هو شيء فوق ذلك وهو المماثلة في غالب ماله مدخليّة في ماليّة الشيء، لا المماثلة من كلّ وجه المتعذّرة، ولا مطلق المثل العرفي الذي يطلق مع وجود جهة الشبه في الجملة، وهذا لا يكون إلاّ في الأشياء المتساوية المتقاربة في الصفات والمنافع، والمعلوم ظاهرها وباطنها([165]).

الرأي الراجح:

إنّ المماثلة المرادة من المال المثلي الذي وقع عليه الاصطلاح، كما هو المستفاد من اجماع الفقهاء والمتيقّن من تحديداتهم ليس المراد منه المثل العرفي المتسامح، بل هو شيء فوق ذلك، وهو المماثلة في غالب ماله مدخليّة في ماليّة ذلك الشيء، لا على وجه المشابهة له من كلّ وجه المتعذّر، بل المتعسّر حصولها وهو المماثلة العقليّة، ولا المماثلة العرفيّة التي تصدق من أدنى شبه في الجملة، وإنّما هو عبارة عمّا كانت له مشابهة تامّة على وجه يكونان كالمتساويين؛ لتقاربهما في الصفات والمنافع المعلوم ظاهرها وباطنها. ومن هنا كان الحيوان والأرض من القيميات وإن كانت لها أمثال بظاهر العرف، لكنّها بحسب الباطن مختلفة والمنافع فيها بالنسبة إلى الاستيفاء مختلفة أيضاً([166]).

نعم, قد يكون حكم العرف بالمماثلة في المثل في بعض الموارد كالقرض مثلاً أوسع دائرة من المماثلة في المثل في الغرامات المبنيّة على العدل والدقّة، وذلك كالمماثلة التي أمضاها الشارع في قرض الخبز والجوز، ولأجلها استحسن المحقّق الحلّي في قرض المال القيمي ثبوت مثله في القرض في الذمّة. قال المحقق الحلي([167]): ((كلّ ما يتساوى اجزاؤه، يثبت في الذمّة مثله، كالحنطة والشعير، والذهب والفضة.

وما ليس كذلك يثبت في الذمّة قيمته وقت التسليم.

ولو قيل: يثبت مثله أيضاً كان حسناً)).

واختار صاحب تذكرة الفقهاء فيما يصحّ السلم فيه – كالحيوان – ضمانه في القرض بمثله([168])، فيكون حكم العرف بالمماثلة في القرض أوسع منه في التفريعات، وذلك لبناء القرض على التساهل والتسامح من الجانبين بخلاف الغرامة([169]).

 

المبحث الثاني

شروط وأركان المال المثلي والمال القيمي

المطلب الأوّل: شروط المال المثلي والمال القيمي:

الفرع الأوّل: شروط المال المثلي:

إنّ المعتبر في المال المثلي شروط وهي:

أوّلاً: وجود المماثلة بالكثرة في الأسواق بلا تفاوت يعتدّ به، وذلك لما يأتي:

1. لو عزّ وجود المال المثلي لا تتعهّد الذمّة بالمثل، بديهة أنّ تحقّق التعهّد واشتغال الذمّة به عند الفقهاء إنّما يكون فيما إذا كان للمال المثلي كثرة ووفور خارجاً، ولا ضمان به في غير هذه الصورة([170]).

قال النائيني([171]): ((أن لا تكون الأفراد المتساوية مع الفرد التالف في الصفات شائعاً يمكن ردّها إلى المالك بحسب العادة، لا ما إذا كانت نادرة يعزّ وجودها، فلو كان كذلك خرج عن المثلي؛ لما عرفت من عدم اعتبار الضمان فيما لا يمكن ردّه بحسب العادة)).

2. أنّ العزّة بمعنى الندرة والنادر كالمعدوم، ولا ضمان لمعدوم، أي لا ضمان بمثله.

3. أنّ في موارد العزّة يكون إجحاف غالباً من ناحية البائع، فيما لو أريد شراؤه منه لدفع المثل, فيكون – وقتئذ – ضرريّاً ينفيه حديث: ((لا ضرر ولا ضرار))([172]).

ويعترض على ما جاء بأعلاه بأنّه إنّما هو معتبر في معنى المثلي لا شرطه، والشرط أمر خارج عن المشروط بأيّ معنى فسّر، سواء أفسّر بعدم المانع أم فسّر بما يهيّئ الظرف الملائم لتأثير المؤثّر في المتأثّر المنفعل، كالمقابلة المعتبرة في تأثير النار في إحراق الحطب؟

ثانياً: أن لا يفسد المال بيوم أو ببضعة أيّام بمعنى أنّه لا يحدث بمرور الأيّام والساعات تغيير فيه، كالفواكه والخضروات، ولأجل ذلك حكم الطوسي في المبسوط بقيميّة العنب والرطب وأمثاله؛ لطروء التغيّر، وفساد صورتهما ببقائهما في عرض الهواء أو غيره بمقتضى طبيعتهما بمدّة غير كثيرة، فللجديد الطريّ منها قيمة سوقيّة معيّنة، ولليابس سعر آخر محدّد([173]).

اعتراض:

يعدّ الجديد من العنب والرطب صنفاً خاصاً عند العرف، واليابس منهما صنفاً آخر. وحديث فساده بيوم واحد، أو أقلّ، أو أكثر وعدم فساده, هما عنوانان مستقلاّن لا صلة لهما للمثليّة.

ثالثاً: أن يكون تماثل الصفات ملازماً مع التساوي في الماليّة، وإلاّ فلا يفيد وحده. قال النائني([174]): ((أن يكون تلك الصفات المتّحدة نوعاً أو صنفاً مالها قيمة فلو لم تكن كذلك لم يكن الضامن ضامناً لها, لما عرفت من عدم اعتبار الضامن فيهما لا ماليّة له)).

ويعترض عليه بعدم صحّة ربط المثليّة بربط تساوي الصفات المعتبرة في المماثلة بالتساوي في القيمة، فلا وجه لما جاء في النصّ المتقدّم.

مضافاً إلى ذلك أنّه لو اعتبر ذلك كان داخلاً في معنى المثليّة، وليس شرطاً، فإنّ معنى الشرط أنّه يهيّئ الظرف الملائم لتأثير المقتضي في المتأثّر, فالشرط خارج عن حقيقة المشروط, كما أنّ ما جاء في نهاية نصّ المحقّق النائيني من سقوط الضمان بالمثل بخروجه عن الماليّة، فهو أجنبي عن معنى المماثلة، وعن معنى شرط المماثلة، وإنّما هو راجع إلى نفي الضمان بالمثل بعد خروج المثل عن الماليّة حسب الظروف الطارئة، الزمانيّة والمكانيّة.

رابعاً: أن يكون المال المثلي مادّته وصورته على خلقتهما الاصليّة، كالحنطة والرزّ ومطلق الحبوب، أي ما كانت أفراده متساوية في الصفات والآثار بالخلقة الإلهيّة، لا كون المادّة على حالتها الأولى فقط مع اختلاف الهيئة، كما يطرأ على الهيئة تغيّر غير طبيعي بيد إنسانيّة مباشرة, كصناعة الخاتم، والخلخال وغيره، أو بغير يد إنسانيّة، كإنتاجات المصانع والمعامل العصريّة كالمنسوجات، فهي أموال قيميّة وإن لم يكن بين أفرادها تفاوت أصلاً.

ودعوى ذلك أنّ المادّة والهيئة المماثل بالخلقة الإلهيّة وجدتا بوجود واحد ملك لشخص واحد، وهذا بخلاف المماثل في الصنع بالمكائن؛ إذ من الممكن في الأقمشة مثلاً أن تكون مادّتها من شخص ونسجه من آخر؛ ولأنّ كلّ ما كان من صنع العباد لا يمكنهم مراعاة المماثلة فيه لتفاوتهم في الصناعة, فينحصر الضمان وقتئذ بالقيمة؛ وذلك لأجل أنّه لو حكم فيها بالمثل فقد يتّفق كثيراً كون المادّة من شخص والهيئة من آخر، كالحنطة تكون من أحد، ويكون الطاحن والعاجن غيره, فلو أراد الضامن وقتئذ أداءه بالمثل يكون في تردّد وحيرة في دفعه لمالك الهيئة أو المادّة، ولا يهما دفع لا يبرئُ ذمّته، حيث لم يحرز البراءة بعد علمه بالاشتغال([175]).

اعتراض:

أنّه هنالك مرحلتين: مرحلة الحكم، ومرحلة الموضوع وقد خلط بينهما والكلام المذكور أعلاه بصدد تعريف المال المثلي وبيان ماهيّته لا في مقام تحديد الحكم الذي هو مرحلة اخرى ثانية، فاشتراكه بين المادّة والهيئة لا صله له بمرحلة التحديد في الحكم في المصنوعات المذكورة بالمثل.

وأمّا عدم إمكان دفعه، فلأجل عدم معرفته للمالك الحقيقي، وهذا أمر أجنبي عن المسألة.

ويضاف إلى ما تقدّم من أنّ الشرط يكون أجنبيّاً عن المشروط، وما جاء إنّما هو تعريف وتحديد لمعنى المثلي، اللّهمّ إلا أن يراد بالشرط بيان ما يعتبر في المماثلة والحكم بالمثليّة، كما لا يبعد أن يقال: إنّ ذكره حينئذ بعد التعريف يكون مستدركاً. فإخراج المصنوعات عن المثليّة إنّما يتمشّى في المصنوعات القديمة، أمّا المصنوعات الحديثة التي تصنعها المكائن، ولا يختلف الفرد مع نظيره فيما يعتبر في الماثلة، فلا يمكن دعوى خروجها عن المماثلة.

خامساً: أن يكون مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً متساوياً أفراده أو مذروعاً متساوية آحاده([176]).

ويعترض بأنّ هذا ليس إلا تعريفاً للمثلي عند بعض الفقهاء كما تقدّم، مضافاً إلى أنّه قد تقدّم عدم سداد ربط المثليّة بالوزن أو الكيل أو العدّ حسب التعريف المختار.

الفرع الثاني: شروط المال القيمي:

لا توجد هنالك شروط محدّدة للمال القيمي؛ لأنّه بخلاف المال المثلي الذي يمكن حصره.

المطلب الثاني: أركان المال المثلي، والمال القيمي:

الفرع الأوّل: أركان المال المثلي:

الركن الأوّل: تقوم الماليّة بالجهات والحيثيّات الشاملة لجميع أفراد الصنف الذي ينتمي إليه المثلي([177]).

فالحنطة مثلاً ماليّة جميع أفرادها إنّما هي بلحاظ الحيثيّات والجهات الشاملة لجميع أفراد الصنف، مثل الحنطة والحمرة والصفرة والخشونة والنعومة والجود، والرداءة التي هي مناط في ماليّتها، فلا تكون مدخليّة لخصوصيات الأفراد الشخصيّة في ماليّة المال المثلي، بل الماليّة منوطة بالجامع منها، ولذا صحّ بدليّة بعضها عن بعض في الغرامة مطلقاً؛ لأنّ مرتبة الماليّة محفوظة في جميعها, فلا يكون المال مثليّاً في ذاته, بل بالقياس إلى فراد آخر مثله.

فلو أنّ شخصاً كان مديناً للآخر بمائة دينار عراقي، فان المدين يستطيع أن يفي دينه بأيّ ورق نقدي عراقي.

الركن الثاني: ما تساوت أجزاؤه وتماثلت، وأمن تفاضلها([178]).

الفرع الثاني: ركن المال القيمي:

هو ما كان الملاك والمناط في ماليّته الأوصاف الشخصيّة الخارجيّة القائمة فيه، كالحيوان؛ لأنّ مناط ماليّته هي الصفات الشخصيّة فيه والأوصاف الخارجيّة، أي ما كان لخصوصية الفرد دخل في الماليّة، ولذا كان الضبط فيه إنّما هو بالقيمة لحفظ مراتب الماليّة فيها([179]).

فالمال القيمي هو المال المعيّن بالذات الذي لا يقوم شيء آخر مقامة في الوفاء. فبيع منزل معيّن بالذات أو قطعة أثريّة معيّنة بالذات إنّما هو بيع يرد على أموال قيميّة لا يقوم غيرها مقامها عند الوفاء، ولا بدّ للبائع أن يسلم للمشتري المنزل المعيّن نفسه بالذات، أو القطعة الأثريّة نفسها، فلا تبرأ ذمّته إذا هو سلّم منزلاً آخر، ولو كان أكبر قيمة، أو قطعة أثرية أخرى ولو كانت أنفس.

اعتراض:

إنّما جاء – كأركان – بمعنى العناصر الأساسيّة التي يرتكز عليها عنوانا المثلي والقيمي, ليس إلاّ تعريفاً لنفس المثلي والقيمي، فلا تعدو أن تكون توضيحاً لبعض جوانب المثلي والقيمي، ومقتضى التعبير بالأركان أن يرتكز المثلي والقيمي ويتفرّعا على ما سمي بالركن، ولا نجد فيما جاء شيء من ذلك.

 

المبحث الثالث

حصر الأموال المثلية والأموال القيمية

المطلب الأوّل: حصر الأموال المثلية:

إنّ المال المثلي من الأموال المنقولة التي أساس تفاوت القيم بين أفراد الصنف الواحد منها انّما هو في الكمّيّات والمقادير، وكلّها ممّا يخضع للمقياس في كمّيّته لتقدير قيمته. فالكمّيّة في كلّ شيء إمّا أن تقاس وتقدّر بالثقل وزناً، وإمّا بالحجم كيلاً. وإمّا بالآحاد عدداً، وإمّا بطول المسافة ذرعاً أو متراً أو سواهما من المقاييس الطوليّة. ولهذا كانت الأموال المثليّة تنحصر في أربعة:

أوّلاً: المـوزونات الـتي تقدّر بالوزن، كالسمن والذهب، والفضّة، والتمر وغيرها.

ثانياً: المكيلات التي تقدّر بالكيل كالحبوب وبعض أنواع الزيوت وغيرها.

ثالثاً: العدديات المماثلة أو المتقاربة وهي التي لا يكون بين آحادها فرق كبير يعتدّ به ممّا تباع بالعدد بسعر واحد، ومن صنف واحد. واعتبرت العدديات المتقاربة من المثليّات على الرغم من احتمال وجود تفاوت بين أفرادها وآحادها؛ لأنه تفاوت جزئي لا تأثير له على أثمانها، كالبيض, والجوز، والبرتقال، والنقود والأقلام، والدفاتر، والأواني الزجاجية المتماثلة وغيرها.

أمّا إذا تفاوتت أفرادها في الحجم بحيث يكون لكلّ منها قيمة تختلف عن الآخر كالبطيخ والملفوف ونحوهما، فإنّها عندئذ إذا كان العرف على بيعها بالعدد كانت قيميّة.

وإذا كان العرف على بيعها بالوزن كانت مثليّة؛ وذلك لأنّ آحادها عندئذ – أي في حالة الوزن – هي الوحدات القياسيّة الاعتياديّة بالوزن من الرطل أو الأوقية أو الكيلو غرام ونحوها، وهي غير متفاوتة فيه. وليست آحادها هي أفرادها الطبيعية المتفاوتة حجماً، أي إنّها تصبح عندئذ وزنيّة لا عدديّة. وهكذا يقال في كلّ ماله أفراد متفاوتة في الحجم, متماثلة في المضمون والصفة، إذا كان يباع بالعدد أو الوزن.

وبهذا يظهر ما للعرف من تأثير في اعتبار المال قيميّاً أو مثليّاً.

ولا يراد من المعدود ما يكون مقابلته بالثمن مبنيّة على العدد، فالحيوان مثلاً يعدّ عند البيع من غير ان يقال: تباع الغنم عشرة بكذا([180]).

والمعدود المتماثل من المصنوعات مثلي أيضاً، كالأشياء الصناعيّة التي هي من صنع المعامل الآلية الحديثة اليوم، مثل الكؤوس الزجاجيّة والمعدنيّة، وأباريق البلور ومصابيح الكهرباء من صنف واحد بل المحرّكات والمِضَخّات، وسائر الأجهزة التي تخرج من المعامل بأفراد كثيرة وأفراد النسخ المطبوعة الجديدة من كتاب واحد، فإنّها كلها تعدّ من المثليّات.

رابعاً: المذروعات المتماثلة:

وهي التي أجزاؤها متساوية دون فرق يعتدّ به، والتي تباع كلّ ذراع بكذا، ولا تفاوت بين آحادها، ويجوز السلم فيها.

وتعرف ببيان طولها وعرضها([181])، كالمنسوجات والسجاد والبسط المتماثلة الصنعة، فكلّ ذراع أو متر منها يساوي المتر الآخر من ذلك الصنف، وكذا ألواح البلوط من كلّ صنف، والأخشاب الجديدة التي تأتي بأوصاف ومقاييس واحدة تباع بالمتر المكعّب أو المربّع، أو بالطول، كالخام الأبيض والكتان وبعض أنواع الخيوط والحبال والشرائط والأسلاك وغيرها، فكلّها أموال مثليّة.

 

حصر الأموال المثلية في القانون:

استمدّ القانون المدني من مجلّة الأحكام العدليّة بأنّ الأموال المثليّة تشمل على مكيلات وموزونات وعدديات متقاربة, وبعض أنواع المذروعات المتماثلة([182])، وذلك في المادّة (1119): ((المكيلات والموزونات والعدديات المتقاربة كالجوز والبيض، كلّها مثليّات، لكن الأواني المختلفة باختلاف الصنعة، والموزونات المتفاوتة قيميّة، وكذلك الحنطة المختلطة بالشعير، وكلّ جنس مثلي خُلَّطَ بخلاف جنسه في صورة لا تقبل التفريق والتمييز قيمي.

والذرعيات أيضاً قيميّة لكنّ الجنس الواحد من الجوخ، والبطائن التي تباع على أنّ ذراعها بكذا قرشاً ولا يوجد التفاوت في أفرادها مثلي، والحيوانات، والعدديات المتفارقة التي يوجد بين أفرادها تفاوت في القيمة، مثل البطيخ الأخضر والأصفر قيميّة، وكتب الخطّ قيميّة، وكتب الطبع مثليّة))([183]).

المطلب الثاني: حصر الأموال القيميّة:

إنّ الأموال القيميّة لا يمكن حصرها في أنواع محدودة؛ لأنّ أفرادها لا تجمعها قاعدة أو ضابط، لذلك فإنّ ما عدا المال يكون مالاً قيميّاً، فالأموال المثلية المحصورة وما عداها تكون أموالاً قيمية.

ولكن حاول البعض حصر الأموال القيمية بما يأتي([184]):

أوّلاً: العقارات مطلقاً وهي من المذروعات التي تباع بالمتر المربّع، أو الدونم وتعد من القيميّات؛ لأنّ أجزاءها تختلف في قيمتها؛ لاختلاف صفاتها وموقعها.

ثانياً: البناء مطلقاً سواء أكان في أرض مملوكة، أم موقوفة.

ثالثاً: الأشجار مطلقاً.

رابعاً: المثليّات التي لا نظير لها في الأسواق؛ لتعذّر الحصول على مثلها فتقدّر بالقيمة؛ لضرورة انقطاعها عن الأسواق.

خامساً: الحيوانات مطلقاً سواء أكانت متّحدة في النوع كالغنم أم مختلفة فيه، كالخيل والإبل.

سادساً: العروض المتفاوتة المختلفة في الجنس كالثياب والمناديل المختلفة والأمتعة التي لا يدخلها كيل، ولا وزن، ولا تكون حيواناً ولا عقاراً. كالأحجار الثمينة والسيارات المستعملة وغيرها التي يوجد تفاوت بين أفرادها بحيث تتفاوت في أثمانها تفاوتاً ملحوظاً.

سابعاً: العدديات المتفاوتة تفاوتاً يعتدّ به، كالبطّيخ والرمّان. وقد عرّفتها المادّة (148) من مجلّة الأحكام العدلية بقولها: ((العدديات المتفاوتة، هي التي يكون بين أفرادها وآحادها تفاوت في القيمة فجميعها قيميّات)).

ثامناً: المال المثلي المخلوط بخلاف جنسه، كالحنطة المخلوطة بالشعير والخلّ المخلوط بالزيت.

تاسعاً: الموزون الذي في تبعيضه ضرر كالأواني المصنوعة، نحو القمقم والطست, كما مرّ في السابق.

حصر الأموال القيميّة في القانون المدني:

استمدّ القانون المدني حصر الأموال القيميّة من الشريعة الإسلاميّة، وذلك من خلال ذكرها في مجلة الأحكام العدلية في المادّة (148): ((وهي المعدودات التي يكون بين أفرادها وآحادها تفاوت في القيمة فجميعها قيميّات))([185]).

وقد ضربت المجلّة بعض الأمثلة على الأموال القيميّة خلال الكلام عن القسمة في المادّة (1119): ((الأواني المختلفة باختلاف الصنعة، والموزونات المتفاوتة قيميّة، وكذلك الحنطة المختلطة بالشعير, وكلّ جنس مثلي خُلَّطَ بخلاف جنسه في صور لا يقبل التفريق والتمييز قيمي. والذرعيات أيضا قيميّة –المقصودة المتفاوتة الآحاد – والحيوانات, والعدديات المتفاوتة التي يوجد بين أفرادها تفاوت في القيمة، مثل البطّيخ الأخضر والأصفر قيميّة، وكتب الخّط قيميّة))([186]).

وذكر فقهاء القانون بعض الأمثلة على الأموال القيميّة، كالأبل، والخيل، والبقر، والدور، والحوانيت، والكتب الخطّية، والأواني المشغولة باليد، والأسماك، والأحجار الكريمة، والسيّارات المستعملة، وغيرها من الأشياء التي يوجد تفاوت بين أفرادها، بحيث تتفاوت أثمانها تفاوتاً ملحوظاً، وكذا الأراضي وهي من المذروعات حيث تباع بالمتر المربّع أو الدوانم([187]).

تقسيم المال القيمي:

يمكن تقسيم المال القيمي إلى قسمين لترتّب بعض الأحكام على ذلك:

1. ما يضبط قدرة وصفته بالوصف على وجه لا يبقى بعد الوصف تفاوت فاحش يغضي إلى المنازعة مثل الحيوان؛ فإنّه يمكن ضبط قدره وصفته، لذا جاز السلم فيه وجاز قرضه.

2. ما لا يضبط قدرة وصفته بالوصف على وجه يبقى بعد الوصف تفاوت فاحش يفضي الى المنازعة كالجواهر الثمنية، فإنّه لا يجوز السلم فيها، واختلف الفقهاء في قرضها.

قال العلاّمة الحلّي([188]): ((مال القرض إن كان مثليّاً وجب ردّ مثله إجماعاً، وإن لم يكن مثليّاً فإن كان ممّا يضبط بالوصف وهو ما يصحّ السلف فيه، كالحيوان، والثياب، فالأقرب أنّه يضمن بمثله من حيث الصورة؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم استقرض بكراً فردّ باذلاً)). ثمّ قال: ((وأمّا ما لا يضبط بالوصف كالجواهر، وما لا يجوز السلف فيه، فتثبت قيمته)).

 

المبحث الرابع

اختلاف المال المثلي، والمال القيمي حسب الظروف الطارئة

إنّ المال المثلي، والمال القيمي يختلفان باختلاف البلدان، واختلاف الأزمان والكيفيات؛ فإنّ الثوب القديم وإن كان معدوداً من الأموال القيميّة إلاّ أنّه في مثل هذا الزمان توجد كثير من أصنافه متماثلة ممّا يقطع بكونه من الأموال المثليّة، وكذلك كثير من المصنوعات، والمطبوعات.

ولعلّ الاختلاف بين الفقهاء في عدّ بعض الأموال مثليّة، وعدّ الآخر لها أموالاً قيميّة، من جهة اختلاف ذلك الزمان والبلدان والكيفيّة في التقدير وزناً أو كيلاً أو عدداً أو جزافاً.

فلا عبرة بإجماع الفقهاء على كون المال الفلاني قيميّاً بعد وجوده في زماننا على خلاف ذلك، فلا تجب متابعة ما أجمعوا عليه؛ للقطع بعدم وصول حكم تعبّدي إليهم من الشارع المقدّس حتى نلزم بكون المال الفلاني مثليّاً أو قيميّاً كما هو الظاهر([189]).

ومن الممكن أن يحصل الاختلاف في طريق التقدير وطريق الصنعة، فتصبح بعض المسميّات مثليّة بعد أن كانت قيميّة، فقد كانت الأقمشة تنسج قديماً على الأنوال اليدويّة، ويترتّب على ذلك اختلافها في الدقّة والعناية متراً فمتراً، وكذا الكتب كانت قبل الطباعة تكتب بخطّ اليد، والخطوط مختلفة بين رديئة وجميلة، وبين كاتب مدقّق لا يخطئ، وكاتب غير مدقّق، بل تختلف وإن كان الكاتب شخصاً واحداً؛ لأنّ مقدرته على الضبط والعناية تختلف باختلاف الوقت واختلاف مجهوده.

أمّا الآن وبعد اختراع آلات النسيج والطباعة وغيرها من الآلات، فقد أمكن أن تخرج الادلة من نوع القماش المتّحد الأجزاء والوحدات. وكذا من الكتاب الواحد غير المختلف في أيّ شيء آلاف القطع والنسخ، ولذا أصبحت في هذا العصر أموال مثليّة بعد أن كانت أموالاً قيميّة([190]).

فلا يخفى على ما أُجمع على كونه مالاً مثليّاً، وما أجمع على كونه مالاً قيميّاً لا يمكن الالتزام به، فإنّ الإجماع على كون الثياب من القيميّات بجميع أنواعها إنّما كان في أزمنة المجمعين؛ إذ كانت المنسوجات تصنع بالأيدي، فإنّه لا يبعد أن يقال: إنّها كانت كذلك في ذلك العصر عند أهل العرف، فإجماع الفقهاء على تلك الثياب في ذلك العصر لا يجدي أهل هذا العصر الذي صار فيه جملة من الثياب مثليّة.

وبتعبير أدقّ: أنّ الإجماع على مثليّة شيء أو قيميّته لم يكن – حسب ما يظهر من الدقّة في كلمات الفقهاء – على كون المسمّى المعيّن بما هو مثلي أو قيمي, بل كان – حسب ما اعتقد المجمعون – على الموزون أو المكيل مثليّاً, فالتبدلّ إنّما حصل في الصغرى، أي أصبح ما يباع بالوزن يباع جزافاً أو بالعكس.

وما كان ينسج باليد أصبح ينسج بالمكائن، فكان منشأ دعوى الإجماع على أنّ المذروع قيمي هو عدم وجود ما ينطبق عليه التعريف المثلي من المقدّرات بالذرع, والآن حيث توفّر في المذروعات ما ينطبق عليه تعريف المثلي، فقد أرتفع منشأ الإجماع من المقام، فلم تبق لذلك الإجماع قيمة علميّة.

نعم، يجدي ما أجمع على كونه مالاً مثلياً أو مالاً قيمياً مع عدم تغيّر الموضوع وبقائه على تلك الكيفيّة التي وقع الإجماع عليها، وهو كائن عليها، فالحيوانات التي وقع الإجماع على أنّها من القيميّات، فإنّها في هذا العصر على تلك الحالة التي عليها حال الإجماع, وأنّ الدقة في كلمات الفقهاء تبعث على الاعتقاد بأنّ دعوى الإجماع نشأت من اتّفاق الكلّ على عدم انطباق تعريف المثلي على الحيوانات من جهة أنّ المستفاد من أدلّة الضمان في إتلاف الحيوان ثبوت القيمة إلاّ ما شذّ، وإلاّ فليس هنالك إجماع على قيميّة الحيوان بما هو حيوان.

والحاصل أنّ ما أجمع عليه الفقهاء مالاً مثليّاً أو مالاً قيميّاً مع عدم تغيّر الموضوع وبقائه على تلك الكيفيّة التي وقع الإجماع عليها، وهو كائن عليها، فيحكم بمثليتّه أو قيميّته بمعنى أنّ الإجماع على ضمانه بالمثل أو القيمة.

القانون المدني:

أوضح فقهاء القانون المدني العراقي بأنّ المال المثلي والمال القيمي يختلف حسب الأماكن والأزمان، ويكون تحديد ذلك إلى العرف.

فقد جاء في قرار محكمة التمييز المرقم 413, ح, 1964 في 5, 5 ,1964، أنّ اعتبار الشيء قيميّاً أو مثلياً أمر نسبي، فسيّارة الفورد شيء مثلي بالنسبة لكلّ سيّارة فورد جديدة مثلها تتّحد معها في الموديل، وهي قيميّة بالنسبة لكل سيارة من ماركة أخرى، وبالنسبة إلى كلّ سيّارة فورد تختلف معها في الموديل([191]).

ويرد عليه: بأنّ إسناد اختلاف المثليّة والقيميّة إلى زمان غير واضح، إنّما التأثير لوجود المثلي في المسمّيات تارة، وعدم وجوده تارة أخرى؛ وذلك لا يخضع للعامل الزماني والمكاني، وإنّما يسند إلى الزمان والمكان، وما يكون للزمان بمعنى حركة الأرض دخل في ذلك، كما في اختلاف الليل والنهار، واختلاف الفصول، وينسب إلى العامل المكاني لمنطقة معيّنة للأرض تأثير غير ما تؤثر عليه منطقة أخرى من الأرض، فما نسب من اختلاف المكان والزمان بالنسبة إلى للمثلي والقيمي لا يبتني على الدقّة في التعبير.

 

 الفصل الثالث

 خلافة المثل أو القيمة للمضمون

المبحث الأوّل

الضمان قبل تعذّر المضمون

ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الأصل في الضمان هو ردّ العين قبل تلفها ما عدا بعض فقهاء الحنفيّة الذين يذهبون إلى أنّ الأصل في الضمان قبل ذهاب العين هو المثل أو القيمة, وعليه سيكون عندي مطلبان:

المطلب الأوّل: الأصل دفع العين:

الموجب الأصلي عند جمهور الفقهاء هو دفع العين المضمونة: إذا لم تتغيّر تغيراً فاحشاً؛ لأنّ الحقّ متّصل بالعين مباشرة. أمّا ردّ بدل العين من المثل أو القيمة فهو مخلص: لأنّ دفع العين أعدل وأكمل إذ فيه إعادة صورة ومعنى، أمّا ردّ البدل، فهو مخلص ويصار إليه حين تعذّر دفع العين, فالعين لا تصير مالاً في الذمّة ما دامت موجودة، كما هي لتعلّق الحقّ بذاتها ودفعها هو الموجب الأصلي.

أمّا المثل، أو القيمة، فهما يخلفان العين بعد تلفها، ويسمّى بعض الأصوليين دفع العين المضمونة على هذا الوجه بــ(الأداء الكامل)؛ لأنّ دفع العين بحسب الحقيقة عبارة عن تسليم نفس الواجب([192]).

الحنفيّة:

المشهور عند فقهاء الحنفيّة أنّ ردّ العين هو الموجب الأصلي، والمثل أو القيمة مخلص عن ردّ العين.

قال الزيلعي([193]): ((وردّ العين هو الموجب الأصلي على ما قالوا: لأنّه أعدل وأكمل في ردّ الصورة والمعنى، وردّ القيمة أو المثل مخلص لا يصار إليه إلاّ عند تعذّر العين)).

وجاء في اللباب: ((والواجب ردّ العين المغصوبة، ما دامت قائمة، سواء أكانت مثليّة، أم قيميّة))([194]).

الإمامية:

لا خلاف عند فقهاء الإماميّة في وجوب ردّ العين المضمونة مع بقائها للأدلّة الدالّة عليها من النقل والعقل))([195]).

قال العلامة الحلي([196]): ((كلّ من غصب شيئاً وجب عليه ردّه على المالك، سواء أطالب المالك بردّه أم لا ما دامت العين باقية بلا خلاف؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه))([197])، لأنّ حقّ المغصوب منه متعلّق بماله ولا يتحقّق إلاّ بردّه)).

المالكية:

الأصل عند فقهاء المالكيّة أن يردّ عين المال مع الإمكان، فإن رُدّ به كامل الذات والصفات برئ من عهدته([198]).

الحنابلة:

الأصل عند فقهاء الحنابلة ردّ العين من دون خلاف؛ لأنّ الحقّ متعلّق بالعين. قال أبن قدامة([199]): ((فمن غصب شيئاً لزمه ردّه ما كان باقياً بغير خلاف نعلمه؛ لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((على اليد ما أخذت حتى تؤديه))([200]) ولأنّ حقّ المغصوب منه معلّق بعين ماله وماليته، ولا يتحقّق ذلك إلا بردّه)).

الشافعية:

إنّ العين المضمونة، إذا كانت باقية لزم ردّها؛ لأنّ الجوابر المتعلّقة بالأموال الأصل فيها ردّ الحقوق بأعيانها عند الإمكان، فإذا ردّها برئ عن عهدتها([201]).

الزيديّة:

عدّ الزيديّة أنّ ردّ العين ثابت بقطعيات الشرع، بل الإجماع على ذلك، ما لم تستهلك، فليس للضامن أن يعدل إلى البدل من قيمة أو مثل، ولا أباح الشرع ذلك إلاّ برضا المالك، ووجب عليه ردّها ما دامت موجودة ووجد إليها سبيلاً، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو يجب([202]).

الظاهريّة:

الأصل عندهم وجوب ردّ العين إلى مالكها. قال ابن حزم([203]): ((فمن غصب شيئاً، أو أخذه بغير حقّ ببيعٍ محرّمٍ أو هبةٍ محرّمةٍ أو بعقدٍ فاسد وهو يظنّ أنّه له فرض عليه أن يردّه إن كان حاضراً)) وفي موضع آخر: ((فما دامت العين، أو شيء منها موجودين، فلا حقّ له في غير ذلك)).

الأدلّة:

استدلّ جمهور الفقهاء على أنّ الأصل في الضمان دفع العين بالأدلّة النقليّة والعقليّة.

أوّلاً: الأدلّة النقليّة:

أظهر ما أستدلّ به على أنّ الأصل في الضمان دفع العين بالروايات الآتية:

1. ما روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قوله: ((على اليد ما أخذت حتى تؤدّي)). وفي لفظ آخر ((حتى تؤدَّيه)) ويعبرّ عنها أحياناً بقاعدة اليد أيضاً.

سند الحديث:

أخبرنا أبو الحسن عليّ بن محمد المقري, قال: حدّثنا الحسن بن محمد بن إسحاق, قال حدّثنا يوسف بن يعقوب, قال: حدّثنا محمد بن منهال. قال: حدّثنا يزيد بن زريغ, قال: حدّثنا سعيد عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب, قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((على اليد ما أخذت حتى تؤديه))([204]).

وفي رواية ((على اليد ما أخذت حتى تؤدى)).

وهذا الحديث أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن سعيد بن أبي هريرة، عن قتادة عن الحسن، عن سمرة, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((على اليد ما أخذت حتى تؤدي)).

قال الترمذي: حديث حسن، أخرجه أبو داود في البيوع، والترمذي، وابن ماجة في العارية، ورواه أحمد بن حنبل في مسنده، والطبراني في معجمه، والحاكم في المستدرك في البيع, وقال: حديث صحيح على شرط البخاري. وقال الحافظ المنذري: قول الترمذي فيه: ((حسن)) يدلّ على انه يثبت سماع الحسن عن سمرة. ورواه أبن ابي شيبة في مصنفة البيوع، وقال فيه ((حتى تؤدّيه مالها))([205]).

قال ابن القطّان على أحاديث الشبهات: إسناده حسن متّصل وإنّما لم يخرجاه في الصحيح؛ لما ذكر أنّ الحسن لم يسمع من سمرة إلاّ حديث العقيقة([206]).

وذكره صاحب مستدرك الوسائل عن الشيخ أبي الفتوح الرازي في تفسيره([207]).

وقطع من جملة الأعلام بضعف الحديث بضعف سنده, كما في تهذيب التهذيب والجوهر النقي, وسبل السلام جاء فيه: ((لأنّ الحديث من رواته الحسن عن سمرة، وللحفاظ في سماعه منذ ثلاثة مذاهب:

الأوّل: أنّه سمع منه مطلقاً.

الثانيُ: لا مطلقاً.

الثالث: لم يسمع منه إلاّ حديث العقيقة))([208]).

وقال ابن حزم إنّ الحديث([209]): ((منقطع؛ لأنّ قتادة لم يدرك سمرة)). وقال: ((الحسن لم يسمع عن سمرة)).

والجواب: أنّ هذا الضعف منجبر بشهرته بين الفقهاء؛ إذ أستدلّ به كثير منهم ولكّن البعض الآخر منهم ناقشوا المبنى. والاستدلال بما يأتي:

1. أنّ شهرة الحديث ليست جابرة ومقوّية لضعف السند، كما أنّ إعراض الفقهاء عن رواية صحيحة لا يوجب وهنها؛ إذ المقياس هو توفّر شرائط الحجّيّة وعدمها، وليست الشهرة بنفسها حجّة([210]).

2. الذين ذكروا الحديث في موارد ضمان اليد ربّما استندوا إلى وجوه أُخر كالسيرة وأيّدوا مّدعاهم بذكر الحديث استئناساً.

إنّ إخضاع الحديث المذكور للمقاييس الموضوعة في شأن صحّة السند وضعفه يُعلم ضعفه بسبب ما ذكر عن بعض رجاله من الضعف، أو عدم السماع.

فالرواية تنسب في نهاية رجالها الى سمرة بن جندب، ولو لم يصدر عنه إلاّ تعسّفه في استعمال حقّه بالنسبة لأخية الأنصاري في قصّة النخلة، ومن ثمّ إغضابه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من جراء هذه الحادثة في حديث ((لا ضرر ولا ضرار))، وخروجه لحرب الحسين عليه السلام، لكفى بعض ذلك حجّة في ضعف السند([211]).

إلاّ أنّ الحديث حجّة عند العلماء؛ لان شهرته بين العلماء تطمئنّ الإنسان بصدوره، والمدار في حجّيّة الخبر كونه موثوق الصدور وهو ما ذهب إليه جملة من علماء الأصول والفقه.

نعم, ربّما يصحّ – عدم الانجبار بالشهرة – في الشهرة الفتوائيّة؛ لأنّ المدار فيها ما يستفاد من النصّ، وفهم شخص ليس بحجّة على فهم شخص آخر.

وأمّا ما أوردوه من أنّ الشهرة غير جابرة لضعف السند، وأنّ الذين استدلّوا به ربّما استندوا لوجه آخر, كالسيرة, وذكروه استئناساً فيمكن الجواب عنه:

أ) أنّ موضوع حجّيّة الحديث لا يقتصر على صحّة سنده، بل يكفي في الحجّيّة وثاقة الصدور، وبمثل هذه الشهرة يتمّ موضوعها.

جاء في مصادر الحكم الشرعي: ((كان الحديث المذكور حجّة عند فقهائنا باعتبار عمل القدماء من أصحابنا به؛ لأنّ عمل المشهور من القدماء يوجب الوثوق بصدوره))([212]).

ب) إنّ وجود دليل آخر، كالسيرة لا ينفي عن الحديث دليليّته, وعدم كونه دليلاً عند فقيه لا يلزم منه عدمه واقعاً أو عند من ثبت لديه كونه دليلاً.

جـ) بعيد أن يذكر الفقيه ما يستأنس به على دعواه ويهمل ما عدّه دليلاً.

دلالة الحديث:

إنّ دلالة الحديث هو وجوب أداء العين مع بقائها.

اعتراض:

إنّ الاستدلال بالحديث على وجوب أداء العين مع البقاء فيه نظر؛ وذلك لأجل تقدير الأداء والردّ وهو غير معلوم، بجواز تقدير الحفظ ونحوه، فيكون معنى الحديث: يجب على ذي اليد حفظ ما أخذت الى زمان أدائه، أو لأجل قوله: ((حتى تؤدّي))، ولا دلالة له أيضاً؛ لأنّ وجوب الحفظ مثلاً إلى زمان الأداء لا يدلّ على وجوب الأداء، كما إذا قال الشارع: عليك بقصر الصلاة في السفر حتى تدخل الوطن؛ فإنّه لا يدلّ على وجوب دخول الوطن، فيظهر عدم تماميّة الاحتجاج به على وجوب اداء العين.

الجواب:

أجاب النراقي: إنّ استدلال الفقهاء واحتجاجهم، وفهمهم على الضمان خلفاً بعد السلف من هذا الحديث دليل على ذلك، كما أنّ المتبادر من تركيب الحديث إثبات الضمان([213]).

والأولى أن يجاب أنّه لا حاجة إلى تقدير كلمة ((دفع)) أو ((أداء)) أو ((ردّ)) في الاستدلال، والوجه في ذلك أنّ وجود كلمة ((على)) في الحديث تعني بثبوت المأخوذ في عهدة الآخذ، فمعنى الحديث: ما استولت عليه اليد بنحو من الاستيلاء اقتضى ذلك الاستيلاء بثبوت المأخوذ في العهدة.

فيكون صدر الحديث صريحاً في الحكم الوضعي وهو ثبوت المأخوذ في عهدة الآخذ، وهذا هو المعنى الصريح للشطر الأوّل من الحديث، فمثلاً يقال: ((عليّ دين، أو القيام بعمل كذا))، وإلى هذا المعنى يشير سبحانه وتعالى: [دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا]([214]).

فإذا تبيّن ذلك، فالحديث إنّما ينظر إلى الحكم الوضعي، وهو الضمان وهو معنى منتزع عن كون الشيء في العهدة والذمّة. وهذا الضمان يستلزم حكماً تكليفيّاً وهو وجوب الأداء؛ لأنّ كلّ من اشتغلت ذمّته بمال، وهو ضامن له، يجب عليه بحكم الشرع والعقل تفريغ ذمّته. فيكون المدلول المطابقي الحكم الوضعي – وهو ضمان – ووجوب الرّد – وهو الحكم التكليفي – مدلول التزامي.

وهذا البيان أولى من جواب النراقي الذي نقلتُه، لأجل أنّ ذلك الجواب يحاول الدفاع عن الرواية عن الحكم التكليفي فقط، ويغفل عن الحكم الوضعي, كما أنّ هذا البيان يتكفّل توضيح دلالة الحديث على الحكم الوضعي زائداً على الحكم التكليفي، فلو فرض انحصار مدلول الحديث في الحكم التكليفي لما أمكن إثبات الضمان وهو الحكم الوضعي واشتغال الذمّة بهذا الحديث, مع أنّ المدّعى هو وجوب دفع العين المغصوبة؛ لأجل الضمان؛ ولأجل اشتغال الذمّة بالعين في حالة إمكان دفعها عادةً, واشتغال الذمة بالمثل أو القيمة في حالة أخـرى, ومعلوم أنّ وجوب الدفع بمفرده أعمُّ من الضمان، فإنّ الوديعة يجب دفعها إلى صاحبها مع عدم الضمان ما لم يتعدّ أو يَفرطْ.

2. روى عبد الله السائب عن أبيه، عن جدّه أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لا يأخذنّ أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جادّاً، ومن أخذ عصا أخيه فليردّها))([215]).

روى هذا الحديث إثنان من الصحابة أحدهما أبو سائب. وأخرج حديثه أبو داود في كتاب الأدب في باب المزاح، والترمذي في أوّل الغبن، وذكر الترمذي بأنّه حديث حسن غريب إلاّ يعرفه إلاّ من حديث أبن أبي ذئب، والسائب بن يزيد، وله صحبة، وقد سمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو غلام.

ورواه أحمد بن حنبل وأبن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه، وأبو داود والطيالسي في مسانيدهم، والبخاري في كتاب ((الأدب المفرد)), والحاكم في المستدرك في الفضائل.

ووقع في رواية: ((لاعباً وجادّاً)) بدون حرف ((لا)) العاطفة، ومعنى قوله: ((لاعباً)) لا يريد سرقته، ((وجادّاً)) في ادخال الأذى عليه قاصداً اللعب، وهو يريد أن يجد في ذلك ليغيظه([216]).

وقال الخطابي في شرح السنن قوله: ((لاعباً جادّاً)) هو أن يأخذه على سبيل الهزل ثمّ يحبسه ولا يردّه فيكون ذلك جادّاً))([217]).

وهذا الحديث الشريف متمحّض في إثبات الحكم التكليفي، فإنّه يدلّ على وجوب الردّ، وقد علمت أنّه أعمّ من الضمان، فلا يدلّ عليه.

ثمّ إنّ الحديثين المتقدّمين يشتركان في إثبات الحكم التكليفي. أو هو مع الحكم الوضعي في المغصوب، وليس لأيّ منهما دلالة على الضمان، او وجوب دفع العوض عمّن أتلف مالاً من دون الاستيلاء عليه, فينبغي حصر الاستدلال بهما في الأموال التي تسبق اليد اليها بالحكم بالضمان، ووجوب الدفع.

وينبغي التماس دليل آخر لإثبات وجوب العوض في المتلفات التي لا يسبق الضمان فيها.

3. قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من وجد عين ماله، فهو أحقّ به))([218]).

استدلّ السرخسي بالحديث على الضمان، ووجوب دفع العين وردّها([219]).

ويرد عليه:

أوّلاً: أنّ الحديث ناظر الى أحقّيّة المالك من غيره بماله، ومعلوم أنّ في هذا إشارةً إلى أنّ لغير المالك حقّاً كما يقتضي التعبير بصيغة ((أفعل))، وباب الضمانات لا يوجد فيه حقّ لغير المالك، فينبغي حمل الحديث في المورد الذي يكون لغير المالك حق إلاّ أنّ المالك أولى به من غيره كما في المفلّس، فإنّ الدائنين والغرماء يشتركون فيما يوجد في ملك المفلّس عدا المستثنين، ولكن إن وجد ضمن أمواله شيء كان يملكه أحد الغرماء كان هو أحقّ به من سائر الغرماء.

ويؤيّد ذلك أنّي لم أجد الفقرة من الحديث المستدلّ بها إلاّ ضمن خمس روايات وردت في المفلّس وفي المدين الميّت يخلف أموالاً في ماله مال أحد الدائنين.

ثانياً: أنّ التعبير بــ((من وجد عين ماله، فهو أحقّ به)) ظاهره أنّ المالك إنّ وجد عين ماله فله أخذها، وليس لأحد من مزاحمته في ذلك، فيكون محض مفاد الحديث حرمة مزاحمة المالك في ماله، وليس فيه إشارة إلى وجوب الدفع فضلاً عن الدلالة عن الضمان.

ثانياً: الإجماع:

انعقد إجماع الفقهاء على وجوب دفع العين المضمونة ما دامت باقية([220]).

قال الشهيد الثاني([221]): ((يجب ردّ المغصوب على مالكه وجوباً فوريّاً إجماعاً)).

وادّعى العلاّمة الحلّي من الإماميّة والخطيب من الحنفيّة وابن رشد الحفيد المالكي عدم الخلاف فيه([222]).

ثالثاً: الأدلّة العقليّة:

أستدلّ الفقهاء على أنّ الأصل دفع العين بأدلّة عقليّة وهي:

1. إنّ أخذ العين يفوّت على المالك يده على العين وهي مقصودة؛ لأنّ المالك بها يتوصّل إلى تحصيل ثمرات الملك من الانتفاع والتصرف فيها، فيجب نسخ فعل الضامن دفعاً للضرر عن المالك، وأتمّ وجوهه دفع عينه.

2. أنّ الضامن مطالَب بردّ العين المضمونة قبل هلاكها حتى لا يلتفت إليه لو أراد أن يعطي مثل المضمون، أو قيمته، كما أنّه ليس للمالك أن يمتنع عن أخذ عينه ويطلب البدل؛ لأنّ ردّ البدل ضمان قاصر, والضمان القاصر خلف للأصل، والأصل محتمل، فلا يكون الضمان القاصر مشروعاً.

أمّا لو كان الموجب الأصلي القيمة أو المثل، لكان للضامن حقّ الامتناع عن ردّ العين حتى يقتدر على دفع القيمة أو المثل، لأنّه يصار إلى الخلف في حالة عدم القدرة على الأصل، ولم يكن الحكم كذلك؛ لأنّه خلاف ما يقتضية الكتاب العزيز؛ لأنّه أكل مال الغير بالباطل, قال تعالى: [وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ]([223]).

والمالك لم يرض إلاّ بعين حقّه([224]).

ويلاحظ على الدليل أنّه مبني على المصادرة؛ فإنّه قد فرض فيه وجوب ردّ العين، وأنّ المثل أو القيمة خلف عنها، ولا يجوز إجبار المالك بأخذهما ووجوب إلزام الضامن بدفع العين، فإنّ القائل بعدم وجوب دفع العين – كبعض فقهاء الاحناف – لا يقرّون بشيء من هذه الأحكام، وأنّ هذه الاحكام هي المدّعى والمطلوب اقامة البرهان عليها.

وأمّا أكل المال بالباطل، فإنّما يلزم ثبوت وجوب دفع العين، ومع شكّ في وجوب دفع العين لا وجه للاستدلال بقوله سبحانه وتعالى: [وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ]([225]) على حرمة امساك العين.

3. يبرأ الضامن بردّ العين من غير علم المالك بأن يسلّمه إليه بصورة ما، كما إذا وهبها له أو أطعمها إيّاه، فأكلها، والمالك لا يدري أنّها ملكه ونحو ذلك من التسليم, فمثلاً لو وهب الضامن الساعة  المضمونة للمالك وسلّمه إيّاها وقبلها وتسلّمها بدون أن يعلم بأنّها المال الذي غصب منه كان الضامن بريئاً، وكذا لو ألبس الضامن من الألبسة المضمونة للمالك، كان بريئاً، فلو لم يكن هو الواجب الأصلي لما بريء إلاّ إذا علم، وقبضه عنه، كما في قبض المثل أو القيمة([226]).

ومن الواضح توقّف الدليل على إثبات وجوب أخبار المضمون له فيما لو دفع المثل أو القيمة عن العين وهو أوّل الكلام، ولو سلّم فهو أجنبي عن محلّ البحث. فلو فرضت كفاية المثل أو القيمة عن العين مع بقائها، فغاية ما يلزم أن يخبر المالك ببقاء العين، وأنّه ملزم بالاكتفاء بالعوض.

4. لو ادّعى الضامن هلاك العين مبيّناً أنّه سيعطي بدل العين للمالك، ولم يثبت ذلك أو ادّعى المالك وجود العين وطلبها وهو غير راضٍ بالبدل، فللحاكم الحكم بالبدل وإن يحبس الضامن حتى يحصل العلم بما آلت إليه العين المضمونة، وسبب الحبس المذكور هو أنّ الموجب الأصلي هو ردّ العين وبقاؤها، والضامن يدّعي أمراً عارضاً وخلاف الظاهر، فيدّعي الهلاك، ويرغب في إسقاط حقّ المالك في العين، وتبديلها بالبدل، فلا يقبل قوله بهلاك العين([227]).

ويرد عليه أنّ اقتضاء جواز حبس الضامن، وعدم قبول قوله من دون دليل يتوقّف على إثبات وجوب دفع العين مع بقائها وهو أوّل الكلام، والذي يلتزم بعدم وجوب ردّ العين المنع عن حبس الضامن، وله دعوى وجوب إلزام المالك بقبول البدل إن تمكّن من إثبات خلافة المثل أو القيمة عن العين مع بقائها, بل له ذلك لو لم يتمكّن الخصم من إثبات وجوب دفع العين مع بقائها, فان الحجز أو الحبس من دون ثبوت حقّ شرعي يقتضيه.

5. إنّ الأداء مقدّم على القضاء؛ لأنّ الأداء أصل والقضاء خلف عنه، وردّ العين المضمونة هو أداء كامل؛ لأنّه تسليم عين الواجب بحسب الحقيقة، وكذا يكون الأداء كاملاً لو ردّ عين الواجب باعتبار الشرع، كبدل الصرف وتسليم المسلم فيه؛ إذ كلّ منهما ثابت في الذمّة، وهو وصف لا يحتمل التسليم، إلاّ أنّ الشارع جعل المؤدّى عين ذلك الواجب في الذمّة، لئلاّ يلزم الاستبدال في بدل الصرف، والمسلم فيه، وهو حرام([228]).

ولا يخفى كون الدليل مصادرة، فإنّ ما جاء في سياقه من الأحكام كلّها مبنية على أنّ الأصل وجوب دفع العين مع بقائها، وأنّ خلافة المثل أو القيمة تنحصر في صورة تلفها، والمفروض أنّه عين محلّ البحث والدعوى.

أنّ أتمّ الوجوه هو ردّ العين؛ لأنّه أعدل وأكمل في ردّ الصورة والمعنى، وردّ القيمة أو المثل مخلص يصار إليه عند تعذّر ردّ العين, ولهذا يُطالَبُ الضامن بردّ العين قبل الهلاك، ولو أتى بالقيمة أو المثل لا يعتدّ به؛ لكونه قاصراً.

ولا يخفى كذلك كون الدليل مصادرة، كما تقدم في الادلة السابقة.

المطلب الثاني: الأصل ردّ المثل أو القيمة:

ذهب بعض من فقهاء الحنفيّة إلى أنّ الموجب الأصلي هو أداء القيمة أو دفع المثل، وردّ العين مخلص وهو عكس القول الأوّل([229]).

وحجّتهم في ذلك:

أنّ الموجب الأصلي هو أداء القيمة أو دفع المثل؛ لأنّ الذمّة إنّما تشتغل بالواجبات، ولا يتصوّر واجب إلاّ في فعل أو دين وليس شيء من ذلك بالعين, فلا تشتغل الذمّة بالعين وإن شغلت بردّها؛ لأنّه فعل فإذا دفعها برئت ذمّته، كما لو أبرأه المالك عن الضمان حال قيام العين؛ إذ لا يجب عليه الضمان بهلاكها بخلاف الإبراء عن العين؛ إذ لا يصحّ لعدم شغل الذمّة بها؛ لأنّ صحّة الإبراء تستلزم شغل الذمّة بالمبرأ ديناً كان أو فعلاً.

وإنّما صحّ الإبراء عن الضمان حال قيام العين؛ لاعتباره واجباً شاغلاً للذمّة على أساس وجوبه بالغصب مثلاً، وأنّه الأثر المرتّب عليه ابتداء, وأنّ ردّ العين المغصوبة مخلص من هذا الضمان؛ لارتفاعه عندئذ بارتفاع سببه، وذلك برّد العين إلى المغصوب منه ووصول حقّه إليه كاملاً بهذا الردّ، وزوال الاعتداء الموجب للضمان بذلك؛ التعيّن العين المغصوبة حقّاً له.

وممّا يدلّ على شغل الذمّة بالضمان حال قيام العين أنّه لو كان للغاصب نصاب من أنصبة الزكاة ذهباً أو فضّة – مثلاً – انتقص من ضمان المغصوب مع قيامه، كما ينتقص أيضاً بالدين حتى لا تجب فيه الزكاة؛ لنقصه وعدم اعتباره فاصلاً عن الحوائج الأصليّة، وذلك لا يكون ولا يتصوّر شرعاً إلاّ عند شغل الذمّة بما هو دين, كالقيمة أو المثل، وليس لدينا عند قيام العين المغصوبة إلاّ شغلها بهذا الضمان بناء على الغصب، فكان ذلك هو الواجب ابتداء به([230]).

ويلاحظ على هذا الدليل:

أوّلاً: أنّه خُلّطِ بين ما يتعلّق به الحكم التكليفي وهو فعل المكلّف، وبين ما يكون منشأً وموضوعاً لتعلّق التكليف بالفعل، وهو اشتغال الذمّة، فإنّ القائل باشتغال الذمّة بالعين لا يدّعي أنّ الحكم التكليفي وهو الوجوب يتعلّق بالعين، إنّما يدّعي أنّ العين تثبت بالذمّة، وذلك موضوع يتفرّع عليه ثبوت التكليف بالفعل، وهو إرجاعها إلى مالكها، فهنالك فرق بين الموضوع والحكم([231]).

ثانياً: أنّ الضمان إمّا بمعنى كون الشيء في العهدة، كما يظهر من كلام الفيومي, قال([232]): ((ضمنتُ المال وبه ضماناً، فأنا ضامن وضمين: التزمتُه)). فبهذا المعنى لا مانع من تعلّق الضمان بالعين.

وإمّا بمعنى وجوب الدفع والأداء، فحينئذ وإن كان الضمان منحصراً في الفعل إلاّ أنّه لا ينافي أن يكون متعلّق الفعل نفس العين، كما قد يكون متعلّقاً بالمثل أو القيمة.

ثالثاً: ما ذكره الدليل ينافي الحديث الشريف: ((على اليد ما أخذت حتى تؤدّي)), كما ينافي بقيّة الأدلّة التي اقتضت ردّ العين، كما تقدّم.

رابعاً: أنّ الاستيلاء على العين استيلاء على قيمتها وماليّتها وخصوصياتها، فالغاصب مثلاً اعتدى على جميع ذلك، فالاكتفاء بردّ بعض ذلك وإلزام المالك بقبولها ظلم.

وأمّا دعوى استثناء الزكاة في الدين دون العين، فهو مصادرة على المدّعى، فإنّ من يلتزم بوجوب ردّ العين، يلتزم ببقائها في ملك مالكها الأصلي. فما ذكر في الدليل على عدم اشتغال الذمّة في العين، لا يرجع إلى محصل.

خامساً: أنّه لا يصار إلى التضمين بالقيمة، أو المثل والالتزام بهما مع القدرة على ردّ العين, اذ لو كانا هما الواجب الأصلي كما ذكر لألزم بهما الضامن ابتداءً.

كما أنّ الضامن يبرأ بتسليم العين المضمونة إلى مالكها مع عدم علمه بذلك؛ لتعيين العين المضمونة حقّاً له كما سبق, بخلاف المثل أو القيمة؛ لعدم تعيّن حقّه فيهما إلاّ بقبضهما؛ اذ يتمثّل حقّه في أيّ مثل أو أيّة قيمة، ولذا لا يتعيّن في المقبوض فيهما إلاّ باتّفاق الطرفين، بخلاف العين المضمونة عند الدفع.

ثم إذا كان الحكم عدم قبول القيمة أو المثل من الضامن عند وجود العين وإمكان ردّها إلاّ أن يرضى المالك فيقطع بأنّ الواجب ابتداءً عند وجود العين وإمكان ردّها بعينها هو ردّها، أمّا دفع القيمة أو المثل، فخلف، ولذا وجب فيه التراضي، لوجود معنى البدليّة([233]).

ويرد على هذا الاعتراض بأنّه ليس إلاّ مصادرة على المدّعى؛ لأنّه ليس إلاّ تعبيراً عن دعوى بأنّ العين هي الأصل في الضمان، وليس في هذا الاعتراض علاج لما حاول المستدلّ الاستناد إليه من أنّ الضمان لا يتعلّق بالعين، بل المثل أو القيمة.

ثمّ إنّ القائل بعدم اشتغال الذمّة بالعين ملتزم بكفاية دفع المثل أو القيمة، وملتزم بتبعات القول بعدم اشتغال الذمّة بها، فما ذكره المعترض من اللوازم لا يمكن أن يكون اعتراضاً على الدليل المتقدّم.

وأمّا ما ذكره المعترض: ((أنّ الضامن يبرأ بتسليم العين المضمونة… إلى آخره)) فهو لا يقتضي اشتغال الذمّة بالعين فقط، وإنّما يقتضي عدم انحصار الضمان بالمثل أو القيمة. فالاعتراض لا يثبت مدّعى المعترض. فكان على المعترض أن يأتي ببيان يقتضي حصر الضمان في العين, وما ذكره لا يفيد ذلك.

سادساً: أنّ بعض الفقهاء، كالسيّد السبزواري ذهب إلى إمكان ثبوت العين في الذمّة وشغلها بها بتوضيح أنّ لكلّ عين من الأعيان عدّة اعتبارات([234]).

1. الاعتبار الخارجي، أي الثبوت الخارجي لشخصها.

2. الاعتبار المالي، والذي هو من أهمّ الاعتبارات بين العقلاء.

3. الاعتبار الذمّي الكلّي، أي بنحو الكلّيّة، كجميع الكلّيّات الذمّيّة الدائرة بين العقلاء في معاملاتهم، وديونهم.

4. الاعتبار بنفس العين الخارجيّة في الذمّة لا بقيد الخارجيّة حتى يستحيل ذلك، بل بعنوان الظرفيّة، فجميع الأعيان الخارجيّة بتمام صفاتها وجهاتها لها ظرفان:

ظرف خارجي، وظرف اعتيادي ذميّ، وليس كلّ ما يعتبر في الذمّة لا بدّ أن يكون كلّيّاً؛ إذ لا دليل عليه من نقل وعقل؛ لأنّ الذمّة أوسع من الخارج بمراتب، فيصحّ اعتبار الجزئي الخارجي فيها أيضاً، وعلى هذا, فلو تلفت العين في الخارج يعتبر اشتغال الذمّة بنفسها لا بالمثل أو القيمة بمجرّد التلف؛ لغرض صحّة اعتبار بقائها الذمّي، ولا وجه للانتقال بمجرّد التلف إلى المثل أو القيمة؛ لعدم ملزم بذلك من نقل أو عقل، والانتقال إلى المثل، أو القيمة إنّما هو حين الأداء؛ إذ لا يمكن الأداء إلاّ بأحدهما مع فرض تلف العين، فالانتقال إنّما هو انتقال أدائي فقط لا ذمّي؛ إذ العين باقية في الذمّة إلى حين فراغها.

اعتراض:

لا وجه لاشتغال الذمّة بالعين بعد التلف والقدرة على أدائها. فالمشهور أنّ الانتقال إلى المثل أو القيمة إنّما هو حين التلف.

الجواب:

1. الأحكام الوضعيّة لا تدور مدار القدرة وعدمها. وما تدور مدار القدرة وعدمها إنّما هي الأحكام التكليفيّة، والمفروض أنّه حين الأداء تنقلب العين إلى المثل أو القيمة([235]).

2. الكفالة لا تصحّ بالعين؛ الأنّ من شروطها في صحّتها أن تكون على دين، وأن يكون الدين ثابتاً في الذمّة، فتصحّ الكفالة على كلّ دين، كالثمن والأجرة، وعوض القرض ودين السلم، وكذا المنفعة، ومع هذا صحّة كفالة الأعيان المضمونة كالمغصوب، أي ضمان ردّها إلى مالكها إذا كان للضامن قدرة على انتزاع المضمون, فعلم أنّ الموجب الأصلي هو القيمة؛ لأنّه لو لم يكن ذلك يجز الضمان على العين([236]).

ويرد على هذا الدليل:

أوّلاً: إن أريد بالكفالة المعنى اللغوي وهو عبارة ((عن كفالة المال وتحمّله به))([237]) فلا وجه لتخصيصها بالدين، بل مقتضاها شمول الديون والأعيان على حدّ سواء، وإن كان المقصود أنّ في الكفالة مصطلحاً فقهيّاً يحصرها في الدين، فإنّه مجرّد دعوى خالية عمّا يدّعيها.

ولو سلّم انحصار الكفالة في الدين، فنمنع صحّتها في العين مع وجودها إذا كانت مضمونة بنفسها وهي باقية قابلة للإرجاع إلى مالكها.

ثانياً: أنّ المقصود بالكفالة كون الشيء المكفول في عهدة الكفيل، والذي يعتبر فيها هو كون المكفول ثابتاً في عهدة المكفول عنه، واعتبار أمر زائد في صحّة الكفالة يفتقر إلى دليل.

ثالثاً: أنّ الكفالة بالأعيان المضمونة بنفسها صحيحة كالمغصوبة، فمثلاً لو قال رجل لآخر: ((غصبني فلان فرساً. فقال أنا ضامن الفرس الذي تدّعيه))، فهو ضامن بقيمته([238]).

ويلاحظ على هذا الاعتراض أنّه كان الأولى ابتداءً عدم اختصاص الكفالة بالدين بدعوى شمولها كلّ عين مضمونة، وأمّا مثال الفرس, فأنّما يتمّ لو صحّت كفالته بنفسه، وأمّا كفالته بقيمته مع بقاء الفرس، فلا يكفي ردّاً على الدليل.

3. أنّ الرهن لا يصحّ إلاّ على الدين، ومعلوم صحّة الطلب المغصوب منه الرهن على العين المغصوبة من الغاصب، ويكون الرهن وثيقة لديه إلى حين تفريغ الغاصب ذمّته عن الحقّ المغصوب منه، فلا بدّ من فرض اشتغال ذمّة الغاصب بقيمة العين أو مثلها حتى يصحّ الرهن؛ إذ المفروض أنّه لا يصحّ الرهن إلاّ على الدين. فلو كان الموجب الأصلي ردّ العين، ولم يكن القيمة، لزم أن يكون رهناً بالعين ولا يصحّ هذا([239]).

قال الزيلعي([240]): ((يصحّ الرهن بها – بالعين المغصوبة – لأنّ الوجوب فيها متقرّر؛ إذ الواجب فيها القيمة، والعين مخلص)).

اعتراض:

أوّلاً: أنّ حصر صحّة الرهن على الدين بمعنى يقابل العين أوّل الكلام. فلعلّ مقصود الفقهاء من الدين هو كون الشيء في الذمّة أعمّ من أن يكون عيناً أو قيمة.

وثانياً: لو سلّم انحصار صحة الرهن في الدين، نمنع حينئذ صحته في العين المغصوبة المضمونة بنفسها.

الرأي الراجح:

ليس للضمان سوى معنى واحد سيال في جميع الموارد يقصده الفقهاء فيها، وهو دخول الشيء بنفسه في عهدة الشخص، سواء أكان ذلك الشيء إنساناً أو حيواناً أو مالاً أو متعلّق حق، وسواء أكان موجوداً أم معدوماً، وهو من الأمور الاعتيادية التي يعتبرها أهل العرف. فالمعتبر يعتبر تارة في الشيء بوصف كونه موجوداً كما في الكفالة، فإنّ الكفيل متعهّد بنفس المكفول عنه مادام موجوداً, وقد يعتبره في حال كونه معدوماً، كالضمان بالمعنى الأخصّ الذي هو عبارة عن التعهّد بدين وغيره.

وقد يعتبره في الشيء في حالتي وجوده وعدمه، كما في ضمان اليد؛ فإنّ الغاصب متعهّد لنفس المال بمقتضى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((على اليد ما أخذت حتى تؤدّي))([241]).

إذا علّق العهدة على الشيء نفسه، لا أنّه متعهد ببدله، والأعمّ منه ومن بدله. وهذه العهدة باقية في حالتي البقاء والتلف، والمال بنفسه في عهدته في الحالين، فلا دلالة منه ابتداء على الاشتغال بالبدل، وإنّما يستفاد الاشتغال به منه ثانياً وبالعرض حيث أنّ الحكم بالتعهّد للشيء يستلزم الخروج عن العهدة، بل وممّا دلّ من الأدلّة الأخر على لزوم تفريغ الذمّة والخروج عن العهدة، فإنّ فراغ الذمّة بأداء نفس المال لمـّا كان متعذّراً مع فرض كونه تالفاً، فلا محالة يكون الأمر بالتفريغ منزلاً على دفع البدل؛ إذ لا مقدور سواه.

ويستخرج من هذا الحكم التكليفي حكم وضعي هو أنّ الضامن مشغول بالبدل، فكما أنّ العقل بعد ما اطلّع على حكم تكليفي بوجوب الصلاة – مثلاً – ينتزع منه حكماً وضعيّاً وهو ان المأمور مشغول الذمّة بالصلاة، فكذلك فيما نحن فيه ينتزع من الحكم بوجوب دفع البدل حكم وضعي, بل حكمان وضعيان:

أحدهما: الاشتغال بفعل الدفع.

والآخر: الاشتغال بالمدفوع المستفاد من الحكم التكليفي بالالتزام، ولازم هذا المعنى دوران الاشتغال بالبدل مدار ذلك الأمر؛ لكونه من لوازمه، فان كان الأمر متعلّقاً بدفع المثل كان الاشتغال به، وإن كان متعلّقاً بدفع القيمة كان الاشتغال بها، وإن كان بدفع المثل في حال ودفع القيمة في حال آخر كان الاشتغال في حال الأوّل بالمثل، وفي الثاني بالقيمة؛

فان الاشتغال على هذا الوجه دائر مدار التفريغ وجوداً أو عدماً، ولازم من لوازمه، بل هو العلّة لحدوثه وبقائه. ومن البيّن أنّ انتفاء العلّة لانتفاء المعلول، وانتفاء المطابقة يوجب انتفاء الالتزام.

وبعبارة أخرى: المأمور به بأمر التفريغ هو دفع المخرج عن العهدة, والمفرغ للذمة أداء نفس المال، فإن كان متعذّراً مع فرض كونه تالفاً فلا محالة يكون الأمر بالتفريغ منزلاً على دفع البدل؛ لا مقدور سواه.

القانون المدني:

نصّ القانون المدني العراقي على أنّ الأصل دفع العين مطلقاً، سواء أكانت عين القرض أم الضمان في حالة بقاء العين([242]). فقد ورد في المادّة (192): ((يلزم ردّ المال المغصوب عيناً، وتسليمه إلى صاحبه في مكان الغصب))([243]) وقد أخذ النصّ من مجلّة الأحكام العدلية من المادّة (890)([244]).

وأكّدت قرارات محكمة التمييز أنّ الأصل هو دفع العين([245])، وكذلك فقهاء القانون، فقد ذكر الدكتور ذنون في عقد القرض تحديد نطاق التزام المقترض بالردّ بقوله([246]): ((وإن كانت عينه باقية فللمقرض استردادها)). يدلّ على أنّ الأصل هو ردّ العين مطلقاً، سواء أكانت مضمونة أم مقترضة مادامت باقية، فإذا تلفت انتقل الحقّ إلى التعويض بالمثل أو القيمة([247]).

وينبغي أن يعلم أنّ إلزام المقرض بقبول العين يبتني على أمور:

أحدها: أن نلتزم بأنّ المقترض لا يملك العين المقترضة وما دامت باقية في ملك المقرض، فإذا أرجعها سالمة إلى المقرض، كان ذلك إرجاعاً للمال إلى مالكه، فوجب على المقرض القبول.

ثانيها: أن نلتزم بأنّ القرض عقد جائز، ومحاولة وفاء الدين بإرجاع العين نفسها وليس وفاء بالقرض، وأداء لما اشتغلت به الذمّة من القيمة، بل هو فسخ لعقد القرض، وهو يستلزم رجوع كلّ مال إلى ملك مالكه الأوّل، فترجع العين بمجرّد إنشاء الفسخ إلى ملك المقرض، فوجب على المقترض إرجاعها إلى المقرض، كما وجب على المقرض قبولها.

ثالثها: أن نفسّر القرض بمعنىً لا يقتضي تمليك العين، بل يقتضي جعل العين في عهدة المقترض مع إباحة التصرّف فيها، فما دامت العين باقية فهي مضمونة، فحالها حال بدل الحيلولة، كما أنّ بدل الحيلولة يباح التصرّف فيه لأخذه، ويجب إرجاعه بنفسه مع بقائه بعد رجوع المبدل منه إليه، كذلك العين المقترضة مضمونة ومباحة التصرّف فيها ومع بقائها يجب إرجاعها بالمطالبة.

 

المبحث الثاني

ضمان بعد تعذر رد العيـن

اختلف الفقهاء فيما تشتغل ذمّة الضامن به في تلف العين المضمونة أهو الماليّة، والخصوصيات والأوصاف للعين، فلازمه اشتغال الذمة بالمثل, أو أنّها تشتغل بالماليّة، ولا تتعلق بالخصوصيات والأوصاف، والذي يعني اشتغالها بالقيمة, أو أنّ العين تبقى في الذمّة حال وجودها الخارجي وحال عدمها؟

المطلب الأوّل: الأصل في الضمان المثل:

ذهب أهل الرأي والظاهريّة إلى أنّ تدارك الضمان المدلول عليه بالأدلّة هو ردّ العين أوّلاً، فإذا تعذّر ذلك فالواجب في التدارك ومساواة البدل للمبدل منه في جميع الخصوصيات والصفات الموجودة في المبدل، وإلاّ لم يكد يتحقّق التدارك التامّ([248]).

قال ابن حزم([249]): ((فإن عدم المثل من نوعه فكلّ ما قاومه وساواه فهو أيضاً مثل له من هذا الباب إلاّ أنّه أقلّ مثليّة ممّا هو من نوعه, فلذلك قضينا به عند عدم المثل المطلق)).

وأدلّتهم على أنّ الأصل في الضمان المثل:

أوّلاً: الأدلّة النقليّة:

أ) الآيات القرآنيّة:

1. أستدلّ فقهاء الإماميّة والحنفيّة والحنابلة والشافعيّة على أنّ المثلي يضمن بمثله؛ لأنّه أقرب إلى العين المضمونة التالفة؛ ولأنّ المثل أصل([250])؛ لقوله تعالى: [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]([251]).

فظهورها في المماثلة لا يكاد ولا يخفى، واختصاص الحكم بالتالف عدواناً لا يقدح بعد عدم القول بالفصل في حالة الضمان في الإتلاف, وحالة الضمان في التلف.

ويرد على الاستدلال بهذه الآية ملاحظات منها:

أنّ ظاهر الآية اعتبار المماثلة في الاعتداء – كالفعل الصادر من المعتدي بدافع الاعتداء – وليست فيها المماثلة إلى المعتدى به، فمثلاً لو قطع شخص يد آخر، فالآية تدلّ على جواز القصاص من المعتدي بأن يتمكن المعتدى عليه من يد المعتدي. وليست ناظرة إلى مماثلة يد المعتدي، ويد المعتدى عليه بأن تكون منافع يد أحدهما مماثلة لمنافع يد الآخر.

فلو كانت يد المعتدى عليه تعرف الكتابة وتخيط، ويد المعتدي معدومة المنافع المذكورة، فلا يقال: بأنّ الآية لا تدلّ على جواز قطع يد المعتدي؛ لأنّها لا تماثل في المنافع يد المعتدى عليه.

ب) ذكرت المماثلة في الآية الشريفة لأجل التأكيد على أن المعتدي ينبغي ان يتحمّل العذاب النفسي والألم اللذين تحمّلهما المعتدى عليه؛ بغية قمع جذور الجريمة، وإنشاء مجتمع عادل محافظ على الحقوق والحدود، فلذلك عبّر عن الجزاء بالاعتداء, فالمماثلة إنّما يقصد بها تحمّل المسؤوليّة، وليس للآية نظر إلى الجانب المالي، أو خصوصيات المال من أوصاف وصفات حتى يستدلّ فيها بالمقام.

جـ) أنّ محلّ البحث هو تحديد ما تشتغل به ذمّة المعتدي من عين أو مثل أو قيمة ما يتعلّق به الحكم التكليفي حين تفريغ الذمّة.

أمّا الآية الكريمة, فناظرة إلى وظيفة المعتدى عليه، وهو عكس ما نحن فيه.

د) أنّ الآية ليست في مقام إثبات الإلزام، فإنّه لا يجب على المعتدى عليه الاقتصاص، بل له العفو وهو أقرب إلى التقوى، والكلام هو في إثبات الإلزام على المعتدي، أي الضامن وفيما تشتغل به ذمّته وهو الحكم الوضعي، بينما الآية الكريمة ناظرة إلى التكليف.

هـ) أنّ الآية أخصّ من المدّعى، فإنّ المقصود إثبات الضمان، سواء كان الضامن متعدّياً أو غير متعدّ بأن اشتغلت ذمّته سهواً، كمن أتلف مال الغير بدون قصد.

والآية الكريمة لو دلّت على اشتغال الذمّة بالمثل، فإنّها تدلّ عليه حالة الاعتداء عند القصد فقط.

2. أستدلّ بقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِه]([252]).

إنّ الأصل في الضمان المثل؛ وذلك لأنّ منفعة الشيء قد تكون مقصودة عند العقلاء([253]).

قال الطبرسي([254]): ((فالذي عليه معظم أهل العلم أنّ المماثلة معتبرة في الخلقة)).

ويرد على الاستدلال بهذهِ الآية ما يأتي:

أ) لا يجوز الاستدلال بالآية؛ لأنّ الآية في صدد التعبّد. قال العز بن عبد السلام([255]): ((لا يجوز القياس على جبر الصيد بالمثل من النعم؛ فإنّ ذلك تعبّد حائد عن قواعد الجبر)).

ب) أنّ كلمة ((مثل)) في الآية المباركة بمعنى ينطبق على الحيوانات كما هو واضح، والمثل في المعنى المبحوث عنه مختصّ في غير الحيوانات، كما تقدم من إنّ الحيوانات كلّها أموال قيمية، فلا وجود للاستدلال بالآية المباركة أصلاً.

جـ) المماثلة المطلوبة في الآية الكريمة ليست بالمعنى المتقدّم من حيث تحديد المماثلة. فلو فرض أنّ الحيوانات من الأموال المثليّة، فثبوت ناقة مثلاً في ذمّة من أتلف ناقة، وليس معناه ثبوت بقرة في ذمّة من أتلف غزالاً، أو ثبوت ناقة في من أتلف نعامة. والمماثلة المقصودة في الآية من قبيل الثاني، وليس من قبيل الأول.

د) أنّ الكلام في المقام في اشتغال الذمّة والأصل في الضمان ثبوت المثل فيها، والآية الشريفة غير ناظرة إلى اشتغال الذمّة، وإنّما ناظرة إلى الحكم التكليفي.

وبعبارة أوضح أنّ الكلام في المقام في المتلفات المملوكة، والآية المباركة ناظرة إلى العقوبة في مقام إتلاف المباحات.

3. استدلّ صاحب جواهر الكلام([256]) بالآيتين التاليتين على أنّ الأصل في
الضمان المثل بقوله تعالى: [وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا]([257]) وقوله تعالى: [وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ]([258]).

ويرد على الاستدلال بالآيتين كلّ ما أورد على الآيتين السابقتين مع تغيير في صياغة الإشكال.

4. استدلّ بقوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ]([259]). بتقريب أنّ العدل إنّما هو ردّ المثل.

وذكر الفرّاء أنّ العِدل – بالكسر – المثل([260]). ويرد على أنّ الاستدلال بالآية مصادرة فإنّه يتوقّف على اثبات أنّ العدل دفع المثل وهو أوّل الكلام المتنازع فيه؛ فإنّ الخصم يرى أنّ تحقّق العدالة بدفع القيمة.

ثمّ إنّ الآية ناظرة إلى الحكم التكليفي وهو وجوب العدالة في مقام القضاء، وغير ناظرة إلى اشتغال الذمّة ولا إلى ما تشتغل الذمّة به.

وأيضاً هنالك فرق بين العَدل – بالفتح – والعِدل – بالكسر، فإنّ الثاني يعني المساواة بين أمور تدرك بالحاسّة كالموزونات بخلاف الأوّل، فإنّه يعني المساواة التي لا تدرك إلاّ بالبصيرة كالأحكام([261]), وعلى هذا حمل قوله سبحانه: [أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا] فالآية ناظرة إلى العدل بمعنى لا يدرك إلاّ بالبصيرة، فهي اجنبيّة عن محلّ البحث بالكلّيّة.

ب- الأحاديث الشريفة:

روى البخاري بسنده عن أنس أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمّهات المؤمنين مع خادم بقصعة([262]) فيها طعام، فضربت بيدها، فكسرت القصعة فضمّها، وجعل فيها طعاماً وقال: ((كلوا))، وحبس الرسول القصعة حتى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة، وحبس المكسورة))([263]).

دلالة الحديث:

أستدلّ أهل الرأي والزيديّة والشافعي والعنبري([264]) والظاهريّة، على أنّ الأصل في الضمان هو المثل بهذه الرواية([265]).

وقال ابن حزم([266]): ((هذا قضاء بالمثل لا بالقيمة)).

وذكر ابن الجوزي بأنّ الصحفة من ذوات القيم، فكيف غرّمت بالمثل؟

والجواب من وجهين:

أحدهما: أنّ الظاهر ما يحويه بيته صلى الله عليه وآله وسلم، فهو ملكه, فنقل من ملكه إلى ملكه لا على وجه الغرامة بالقيمة, فكانت الصحفتان للنبي، ولم يكن هنالك تضمين.

وثانيهما: أنّ أخذ القصعة من بيت الكاسرة عقوبة، والعقوبة بالأموال مشروعة. وذكر القاضي أبو بكر بأنّه لم يغرم الطعام؛ لأنّه كان مهدى إليه، فإتلافه قبول له أو في حكم القبول. ثمّ إنّ الطعام لم يتلف فإنّه دعا بقصعة فوضعه فيها([267]).

وقال صاحب السنن الكبرى: ((قال بعض أهل العلم: الصحفتان جميعاً كانت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيتي زوجتيه ولم يكن هنالك تضمين إلاّ أنّه عاقب الكاسرة بترك المكسورة في بيتها ونقل الصحيحة إلى بيت صاحبتها))([268]).

وردّ فقهاء الحنابلة على العنبري في استدلاله بالرواية على وجوب المثل في كلّ شيء بأنّ الخبر الذي أحتجّ به, محمول على أنّه جوّز ذلك بالتراضي، وقد علم أنّها ترضى بذلك([269]).

اعتراض:

إنّ هذه الرواية قضيّة في خصوص موردها، لا عموم فيها.

الجواب:

أنّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إناء بإناء، وطعام بطعام)) وبما وقع في رواية ابن أبي حاتم: ((من كسر شيئاً فهو له وعليه مثله)) حكم عامّ لكلّ من وقع له مثل لك، فاندفع قول من قال: إنّها قضيّة عين لا عموم فيها، ولو كانت كذلك لما كان قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((طعام بطعام، وإناء بإناء)) كافياً في الدليل على أنّ ذكر الطعام واضح في التشريع العامّ؛ لأنّه لا غرامة هنا للطعام، بل الغرامة للإناء، وأمّا الطعام، فهو هديّة له صلى الله عليه وآله وسلم. وينبغي ملاحظة أمور في الرواية فيها:

أ) لا ريب في أنّ إتلاف مال الغير من دون مجوّز شرعي حرام، والسكوت على مثل ذلك معصية ممّن يتمكّن من منع من يريد إتلاف مال الغير، فعلى المتمكّن من الردع تأنيب التالف لمال الغير من باب وجوب النهي عن المنكر, ِلئلاّ يتكرّر العمل من فاعله.

وفي ضوء ما تقدم بأنّ الرواية سواء كانت عن حادثة واحدة، أم عن حوادث متعدّدة، فليست ناظرة إلى الضمان أو التضمين؛ إذ لو كانت الرواية من بابه لما جاز لعائشة إتلاف إناء غيرها، ولم يجز للنبي صلى الله عليه وآله وسلم السكوت، فإنّه معصوم لا يترك الأمر بالمعروف ولا النهي عن المنكر. ومعلوم أنّ مجرّد الغرامة لا يكفي؛ فإنّها تعوّض المال التالف، وأمّا التعدّي في الحكم التكليفي الذي هو مخالفة شرعيّة, فيبقى على حاله، فقد وردت حرمة مال المسلم كحرمة دمه.

ب) أنّ الصحاف المصنوعة في ذلك الزمان أموال قيميّة، لأنّها مصنوعات  يدويّة، كما التزم بذلك الفقهاء، فالحكم بالقصعة مكان القصعة لا يؤيّد القول باشتغال الذمّة بالمثل بوجه، بل من باب العقوبة؛ لأنّ القصعة الثانية قيميّة.

جـ) أنّ في بعض الروايات المتقدّمة في القصعة التعبير بالكفّارة حيث  سألت عائشة: ((ما كفّارة…إلى آخره)).

ومعلوم أنّ التعبير بالكفّارة إنّما يأتي في غير الغرامات الماليّة.

وأمّا ما جاءت في كلمات بعض الفقهاء من أنّ ما في بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أمواله، فلا يمكن الاستدلال بالرواية، فلا شاهد فيها، فالمتعارف الآن، وكذلك في العصور السابقة – كما يظهر من قصّة تزويج فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عليّ بن ابي طالب عليه السلام – أنّ الزوجة مالكة للأثاث غالباً تشتريه بمهرها. فما قيل في هذه الرواية من الاستدلال على ان الأصل في الضمان المثل، وما قيل من اعتراض عليها، لا يخلو من نظر.

2. رواية حُسن القضاء للإبل جاء في البخاري: ((حدّثنا مسدّد عن يحيى، عن سفيان. قال حدّثني سلمة بن كهيل عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أنّ رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتقاضاه بعيراً، فقال رسول الله: ((أعطوه)). فقالوا ما نجد إلاّ سنّاً أفضل من سنّه. فقال الرجل: أوفيتني أوفاك الله. فقال رسول الله: ((أعطوه فإنّ من خيار الناس احسنهم قضاءاً))([270]). فالأصل في الضمان المثل.

ويرد على الاستدلال بها الحديث: بأنّ دفع البعير – عوضاً عن البعير – أجنبي عن محلّ البحث، والوجه في ذلك أنّ الحيوانات على الإطلاق قيميّة وإن أمكن إطلاق المثل على بعض الحيوانات من باب المسامحة أو باب التقريب, فيوجّه بأنّه إمّا من باب المراضاة بين المتخاصمين، وإمّا بأنّه دفع البعير في مقابل القيمة، كمئة دينار مثلاً بأن يقال: إنّ المقترض لم يكن لديه القيمة، فدفع ما يساوي مئة دينار من الحيوانات. فالمقرض ملزم إمّا بالانتظار, وإمّا بالرضا بدل القيمة وهو الحيوان.

جـ) قضاء الفقهاء:

1. روي عن عثمان بن عفان وابن مسعود أنّهما قضيا فيمن أستهلك فصلاناً بفصلان مثلها, جاء في كشف الأسرار: ((أنّ عثمان أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إنّ بني عمّك سعوا على أبلي، فاحتلبوا ألبانها. إلى أن قال عبد الله بن مسعود: أرى أن يأتي هذا واديه، فيعطى ثمّة إبلاً مثل إبله، وفصلاناً مثل فصلانه، فرضى به عثمان))([271]). فأنّهما قضيا بأنّ الأصل في الضمان المثل وإن كان المال قيميّاً.

اعتراض:

إنّ حديث عثمان وابن مسعود قد كان ذلك على سبيل الصلح، لا على طريق القضاء بالضمان؛ لأنّ المتلف لم يكن عثمان. والإنسان غير مؤاخذٍ بجناية بني عمّه، إلاّ أنّه تبرع بأداء مثل ذلك عن بني عمّه؛ لفرط ميله إلى أقاربه وانتصارهم به.

فإنّ الخبر محمول على تطوّع عثمان، والفضل منه بذلك عن غيره من بني عمّه([272]).

2. روي عن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام قال: ((يفكّ الغلام بالغلام، والجارية بالجارية)) وهو قضاء بالمثل حتى في القيميّات([273]).

وقد فسّر أنّ معنى قوله: ((يفكّ الغلام بالغلام)) يعني بفكّ الغلام بقيمة الغلام بحذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه, فيكون القضاء منسجماً مع المسلك المشهور في الضمان، وهو ضمان المال المثلي بالمثل، والمال القيمي بالقيمة. أو يوجّه بأنّه من باب الصلح، أو باب أداء القيمة بدفع العوض مع التراضي معاً.

 3. روي عن زيد بن ثابت أنّه قضى بالمثل فيمن باع بعيراً واستثنى جلده ورأسه وسواقطه.

4. روي أنّ عمر وعثمان وقتادة والشعبي قضوا في فداء ولد الغارة بالعبيد لا بالقيمة.

5. قضى قتادة وشريح القاضي في ثوب أستهلك بالمثل.

قال ابن سيرين: ((إنّه قضى – شريح – في قصار شقّ ثوباً أنّ الثوب له، وعليه مثله.

فقال رجلٌ: أو ثمنه. فقال شريح: إنّه كان أحبّ إليه من ثمنه. قال: إنّه لا يجد قال: ولا وجد))([274]).

6. ذكر الفقهاء في القرض بأنّ عادتهم ردّ المثل، وأنّه ينحصر طريق أداء الدين فيه، كما يؤيّده ظاهر بعض الأخبار الواردة في القرض، مثل قرض الأبل، فالمحقّق الحلّي حكم بضمان القيمي بالمثل في القرض))([275]).

ويرد على الدليل بعدم اعتبار ما استشهد به من اعتبار المماثلة في القرض بملاحظة، بعض الفتاوي النادرة على أنّ الأصل في الضمان المثل؛ لأنّ بناء الدائن والمدين في القرض عرفاً هو معاوضة المثل بالمثل، أي زيادة اتّحاد ومماثلة في الوفاء، بخلاف الضمان والغرامات, فلا يكون القرض شاهداً للمقام، ولهذا فرّق المحقّق الحلّي فيما سبق بين القرض والإتلاف، فحكم في الثاني بضمان المال القيمي بالقيمة.

 7. ما ورد في الصلح من أنّه لو أتلف على رجل ثوباً قيمته دينار مثلاً، فصالحه عنه على دينارين. فالمشهور عند الفقهاء صحّة الصلح، وعلّل صاحب شرائع الإسلام بأنّ الصلح إنّما وقع على الثوب لا عن الدينار، فيؤيّد بأنّ الأصل هو المثل([276]).

وجعل مبنى المسألة عند ابن إدريس والشهيد الثاني والشهيد الأوّل والمحقّق الكركي ضمان القيمي بمثله حتى يكون الثابت في الذمّة ثوباً وإن كان لا يخلو من نظر([277]).

قال الشهيد الثاني: ((ولو أتلف عليه ثوباً يساوي درهمين فصالح على أكثر أو واقلّ، فالمشهور الصحّة؛ لأنّ مورد الصلح الثوب لا الدرهمان.

وهذا يتمّ على القول بضمان القيمي بمثله؛ ليكون الثابت في الذمة ثوباً، فيكون هو متعلق الصلح، أمّا على القول الأصحّ من ضمانه بقيمته، فاللازم لذمّته إنّما هو الدرهمان، فلا يصحّ عليها بزيادة عنهما، ولا نقصان مع اتّفاق الجنس، ولو قلنا باختصاص الربا في البيع، توجّه الجواز أيضاً، ولكن المجوّز لا يقول به)). أي اختصاص الربا بالبيع، ومع أن المجوز قائل بضمان القيمي بالقيمة وعدم اختصاص الربا بالبيع، ومع ذلك يقول بجواز الصلح في المقام، فيؤيّد أنّ الأصل هو المثل.

8. ما يؤيّد كون الأصل في الضمان المثل جواز ردّ العين المفترضة وإن كانت قيميّة، ووجوب قبول الدائن لها.

جاء في تذكرة الفقهاء: ((أمّا غير المثلي إذا دفعه بعينه هل يجب على المالك القبول؟ يحتمل ذلك؛ لأنّ الانتقال إلى القيمة إنّما كان لتعذّر العين وقد وجدت، فلزمه القبول مع الدفع))([278])، وهو الأصحّ في الدروس([279])، ونقل الشيخ الأنصاري الإجماع عليه([280]).

اعتراض:

أنّ مبنى احتمال الفقهاء او فتواهم هذا ليس على الضمان القيمي بالمثل، بل لصدق أداء القرض بأداء العين، ولكون عقد القرض عندهم عقداً جائزاً، فأداء العين نوع فسخ له، ولولا ذلك، لكان جواز أداء غير العين المقترضة ممّا يماثلها، ولا يقول به أحد وهو عدم وجوب قبول غير العين المقترضة وإن كان مماثلاً لها من جميع الصفات([281]).

9. ما يؤيّد كون الأصل في الضمان المثل ما جنح إليه المحقّق الحلّي من ضمان الغاصب زيادة القيمة السوقيّة الحاصلة بعد تلف العين القيميّة، فإنّ مبناه إنّما هو كون ضمان القيمي بمثله([282]), كما ذهب إليه صاحب الدروس.

قال الشهيد الأوّل([283]): ((ولو كان من ذوات القيم، فعليه قيمته يوم التلف على قول الأكثر، وإلاّ على من حين القبض إلى التلف أنسب؛ لعقوبة الغاصب، وأمّا زيادة القيمة بعد التلف، فإن قلنا بالضمان القيمي بمثله فهي مضمونة، وإليها جنح المحقّق، وإن قلنا بالقيمة، فلا، وهو المشهور)).

إنّ ما جاء في هذه النصوص والفتاوي يقتضي التأمّل، فإنّ الحيوانات قيميّة كما أنّ الثياب المخيطة وغيرها – محلّ البحث عن الثياب القديمة – قيميّة، فالاكتفاء بدفع الثوب مكان الثوب، أو الحيوان بدل الحيوان، ليس من باب دفع المثل بالمعنى الاصطلاحي، فتحمل هذه الفتاوي على الصلح والتراضي، أو من باب دفع العرض مقام المتمحّض بالماليّة، كالدينار والدرهم.

والوجه في ذلك لو التزم بأنّ تلف العين يقتضي ثبوت مثلها في الذمّة، فليس في تلك الفتاوي شاهد على ذلك، فكلّها منصبة على دفع حيوان مقام حيوان على أنّه مثل للتالف، وهو لا يتلاءم مع ما تقدّم في تعريف المثلي، وإطباق الفقهاء على أنّ الحيوانات والمصنوعات اليدويّة كلّها قيميّة.

ثانياً: الأدلّة العقلية:

1. يمكن استفادة هذا المعنى من لفظ الضمان بدلالة الالتزام، فإنّ الظاهر منه عند الإطلاق هو وجوب دفع الأصل مع الإمكان، ومع تعذّره بالتلف، فاللازم التدارك الكامل الذي هو أقرب إليه من كلّ شيء.

أي أنّ الظاهر من الضمان لزوم أداء العين بنفسها في صورتي البقاء وعدمه، ولكن لمـّا كان أداؤها بشخصها في صورة التلف متعذّراً، فيعدل عنه إلى أداء ما يساويه في مجموع الصفات مع الإمكان بدلالة الاقتضاء، فلا بدّ من الاقتصار على المماثل التامّ إلاّ مع التعذّر، فيبحث دونه في الصفات لاستلزام خلافه التكليف بما لا يطاق.

فالأصل حينئذ لزوم تدارك كلّ تالف بمثله، سواء كان مثليّاً اصطلاحاً أو قيميّاً إلاّ ما خرج بالدليل.

قال ابن حزم([284]): ((وقال أصحابنا: المثل في كلّ ذلك ولا بدّ، فإن عدم المثل فالمضمون له مخيّر بين أن يهمله حتى يوجد المثل، وبين أن يأخذ القيمة. قال أبو محمد: وهذا هو الحقّ الذي لا يجوز خلافه)).

ويلاحظ على الدليل أنّ مقتضى تماميّة الدليل ثبوت العين في الذمّة، ووجوب إرجاعها ما دامت قائمة بحالها، ووجوب إرجاع أقرب الأمثال إليها مالية ومنفعة وهو المثل الاصطلاحي، ومع تعذّره فالأقرب إليه – أي إلى المثل مالية وصفات – ومع التعذّر فالأقرب إلى – المثل الثاني, وهكذا.

وهذا ينافي المعروف عند الفقهاء من أنّه إذا تعذّر المثل فالواجب دفع القيمة، بل أنّ الدليل يقتضي ثبوت المثل حتى في القيميات، ولا نرى أحداً من فقهاء المسلمين والقانون غير صاحب الدليل يلتزم بذلك.

2. أنّ إيجاب المثل رجوع إلى المشاهدة والقطع، وإيجاب القيمة رجوع إلى الاجتهاد والظنّ، فإذا أمكن الرجوع إلى القطع لم يرجع إلى الاجتهاد، كما لا يجوز الرجوع إلى القياس مع النصّ([285]).

قال ابن عبد البرّ: ((كلّ مطعوم من مأكول أو مشروب مجمع على أنّه يجب على مستهلكه مثله لا قيمته؛ لأنّ المثل أقرب إليه من القيمة فهو مماثل له من طريق الصورة والمشاهدة كالنص والمعنى، والقيمة مماثلة من طريق الظنّ والاجتهاد، فقدّم ما طريقه المشاهدة، كالنص لما كان طريقه الإدراك بالسماع كان أولى من القياس، لأنّ طريقة الظنّ والاجتهاد))([286]).

ويلاحظ على الدليل:

إنّما يتم لو ثبت بدليل لزوم مماثلة المدفوع للتالف، فحينئذ يأتي القول بأنّ المثل يماثله في الصورة والماليّة والصفات بالوجدان المستند إلى الإحساس, الموجب للقطع بخلاف القمية، فإنّها تماثل التالف في الماليّة التي لا تدرك إلاّ بالاجتهاد والتخمين والتقييم. فالدليل يتوقّف على إثبات لزوم مماثلة المدفوع للتالف، وهو أوّل الكلام، فهذه المقدّمة أخذت مفروضة الثبوت في الدليل ممّا أخرجه البرهان إلى المصادرة.

3. استدلّ بقاعدة عدم سقوط الميسور بالمعسور في أصل الضمان بالمثل.

اعتراض:

أ ـ أنّ المماثل التامّ لا يعدّ ميسوراً بالنسبة إلى العين التالفة؛ لكونهما متباينين مستقلّين في الوجود، وميسور الشيء لا بدّ أن يكون بعضاً منه في نظر العرف ولو مسامحة. فقاعدة الميسور غير جارية ظاهراً، ومجرى القاعدة حسّي لا عقلي.

ب ـ مقتضى القاعدة التنزل من العين إلى مماثلها ثم إلى مماثل المثل، وهكذا, أي الأقرب فالأقرب، وهذا ينافي المعروف عند الفقهاء من أنّه إذا تعذّر المثل فالواجب دفع القيمة، بل أنّ القاعدة تقتضي ثبوت المثل حتى في القيميات.

4. أنّ المثل أحصر وأقرب للشيء من القيمة؛ لأنّ المثل مثل للشيء شرعاً ولغة، والقيمة مثل في الشرع دون اللغة([287]).

ويلاحظ على الدليل:

أ) إنّما يتمّ لو كان هنالك نصّ أو غيره يدلّ على ثبوت المثل في الذمّة، فبعد ذلك يقع الكلام ما هو المراد بالمثل؟ هل هو مثل المثل شرعاً ولغة, او ما هو مثل للتالف شرعاً فقط؟

ومعلوم لا يوجد دليل بأنّ الذمّة تشتغل بالمثل بعد تلف العين.

ب) لو ثبت أنّ كلّاً من القيمة والمثل يماثلان التالف شرعاً، فكان مقتضى القاعدة تخيير الضامن بينهما؛ إذ الشرع لا يتقيّد إلاّ بأحكامه.

جـ) أنّ الدليل يقتضي حقيقة شرعيّة في كلمة المثل, ومعلوم أنّ ثبوت الحقيقة الشرعيّة في مثل ألفاظ الصلاة والصوم والحجّ وأشباهها من أسامي العبادات الكثيرة الدوران على لسان صاحب الشرع والمتشرّعة محلّ البحث والكلام، فأنّى للمستدلّ أن يتمكّن من إثبات الحقيقة الشرعيّة لكلمة المثل؟

5. أنّ المثل أعدل من القيمة؛ لأنّه صورة ومعنى فكان أدفع للضرر عن المالك؛ لأنّ الضامن فوَّتَ على المالك الصورة والمعنى.

فالجبر التامّ أن يتداركه بما هو له مثل له صورةً ومعنىً, فالقيمة تدارك في المعنى فقط, فلا يصار إليها إلاّ عند تعذّر ردّ الأصل صورة ومعنى.

قال السرخسي([288]): ((وأمّا القضاء بمثل معقول، فبيانه في الضمان المغصوب والمتلفات، فإنّ الغاصب يؤدّي مالاً من عنده وهو مثل لما كان مستحقّاً عليه بسبب الغصب وهو نوعان: مثل صورةً ومعنىً كما في المكيل والموزون، ومثل معنىً لا صورةً، والمقصود جبران حقّ المتلف عليه، وفي المثل صورة ومعنى هذا المقصود أتمّ منه في المثل معنى، فلا يصار إلى المثل معنىً لا صورةً إلاّ عند الضرورة، كما لا يصار إلى المثل إلاّ عند تعذر العين)).

وقال ابن ملك([289]): ((ومن أنواع القضاء في حقوق العباد ضمان المغصوب بالمثل. يعني القضاء بمثل معقول نوعان: كامل وقاصر, فالكامل هو المثل صورة ومعنى وهو السابق، أي الكامل وهو السابق على القاصر حتى لو أدّى القيمة في المثلي مع القدرة على المثل الكامل, لا يجبر المالك على القبول، كما لو أدّى المثل الكامل مع القدرة على ردّ العين؛ لأن المستحقّ في الصورة والمعنى، فاذا عجز عن الصورة يجبر المالك على القيمة ضرورة)).

ويرد على الدليل بأنّه يستند إلى قاعدة العدل والانصاف، ومقتضاهما جبران خسارة المضمون له من حيث الصورة والمعنى، وذلك إنّما يتمّ بدفع المثل مع الإمكان، وهذا وإن كان متيناً إلاّ أنّه يقتضي وجوب دفع المثل في المتلفات كافّة, سواء أكان من المكيل أم الموزون أم غيرهما.

فلو فرض إمكان جبران خسارة المضمون له في مثل الحيوان صورة ومعنى ولو في بعض جوانبه، وجب الالتزام به، ووجب إلزام الضامن بالدفع ولزم عدم صحّة إلزام المالك بقبول القيمة، وهذا غير المدّعى؛ فإنّ المدّعى هو وجوب دفع المثل بالمعنى الذي تقدّم تحديده مع الإمكان، وإلزام المضمون له – المالك – بقبول القيمة مع التعذّر.

6 ـ أنّ المثل أقرب إلى العين التالفة بالضرورة والوجدان، بل هو عند العقلاء عديل العين التالفة بحيث لا يبقى للمالك أسف على فوات ماله عند أخذه، ولا للضامن منفعة في ضمانه للعين التالفة عند دفع المثل، فكأنّه في نظر العقلاء هو العين المضمونة التي يجب ردّها، فإذا تعذّر ردّها, بتلفها وجب مثلها([290]), فكأنّه انصراف لفظ الضمان إلى ضمان المثل، وكذلك فَهْمُ المخاطبين منه.

ويرد على الدليل:

أ) ما تقدّم من ضمان الأقرب فالأقرب، وأيضاً شموله للقيميات على توضيح ما تقدّم.

ب) عدم انصراف لفظ الضمان والعهدة والتدارك إلى المعنى المدّعى من أنّ الأصل في الضمان المثل؛ إذ لا يفهم منه لغةً وعرفاً إلاّ كون الشيء في العهدة.

وأمّا ما في الذمّة من شيء، فلا دلالة فيه على المثل بوجه إن لم ندّع خلافه. وممّا يعيّن دليل هذه الدعوى ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: ((من أضرّ بشيء من طريق المسلمين، فهو ضامن))([291]).

ونظائره في باب التسبيب حيث إنّ لفظ الضمان فيها قد استعمل فيما يعمّ ضمان المثل والقيمة والدية، لا خصوص المثل جزماً إلى غير ذلك من الموارد والأبواب المستعمل فيها لفظ الضمان؛ إذ أريد القدر المشترك بين هذه الأمور من دون تعرّض للخصوصيات، وأنّه لو تعقّب هذه الإطلاقات بذكر واحدة من الخصوصيات، كما لو كانت دية أو قيمية لم يظهر منافاة بينهما في نظر العرف، بل يعدّونها بياناً للقضيّة المهملة، وبملاحظة الأخبار المعتبرة الدالّة على اعتبار القيمة في بعض المتلفات التي عمل بمضمونها الفقهاء، فإنّها قرينة على عدم اعتبار انصراف المطلقات إلى المثل؛ لكونها عامّة شاملة لصورتي التمكّن من المثل وتعذّره، وهذا يكشف إمّا عن عدم صدق دعوى الانصراف إلى المثل أو عن عدم عموم في المنصرف، وهو كون كلّ متلف متداركاً بالمثل, فقد ورد بأسانيد عديدة:

منها: ((بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى صفوان بن أميّة، فاستعار منه سبعين درعاً بأطرافها.

فقال: أغصباً يا محمد؟ فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: بل عارية مضمونة))([292]).

فأطلق الضمان على ضمان الدرع مع كونه من الأموال القيميّة قطعاً، ونظير هذا الإطلاق كثير من الأخبار, كما يعلم من ملاحظة أبواب الشهادة وشهادة الزور, مثل ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام في شاهد الزور, قال: ((إن كان الشيء قائماً بعينه ردّ على صاحبه، وإن لم يكن قائماً, ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل))([293]) وغيرها.

فانصراف لفظ الضمان إلى ضمان المثل ممنوع؛ الوجود المقتضي وعدم المانع.

6. أنّ مقتضى حكم العقل أداء مثل العين؛ لاستقلال العقل بوجوب العدل والقسط. وردّ المثل إلى المالك بعد تعذّر العين المضمونة هو عين العدل بخلاف القيمة؛ فإنّها لست عدلاً للعين التالفة؛ إذ ليست القيمة من سنخ العين، إذ هما شيئان متباينان.

نعم, لمـّا كانت القيمة يشترى بها شيء يماثل العين التالفة وينوب منابها، كانت بهذا الاعتبار عدلاً للمثل.

فالمثل على هذا أقرب إلى العين التالفة من القيمة, بل هو كأنّه العين المضمونة ومساوٍ لها في نظر العقل فوجب دفعه بدلاً, كما يحكم العقل؛ لأنّ خلافه ظلم للمالك مع تمكّن الضامن من المثل؛ لاختلاف رغبات الناس، فقد تكون رغبة المالك في عين ماله، لخصوصيات في صنفه، فالحكم عليه بأخذ القيمة ظلم له، فلا بدّ من المثل.

قال الشيخ الأنصاري([294]): ((إنّ القاعدة المستفادة من إطلاقات الضمان في المغصوبات، والأمانات المفرط فيها، وغير ذلك هو الضمان بالمثل؛ لأنّه أقرب إلى التالف من حيث الماليّة والصفات، ثمّ بعدها قيمة التالف من النقدين وشبههما؛ لأنّه أقرب من حيث الماليّة؛ لأنّ ما عداهما يلاحظ مساواته للتالف بعد إرجاعه إليهما)).

اعتراض:

إنّ هذا الكلام يصحّ إذا لم تكن القيمة ممّا يشترى بها المثل، وأمّا مع شراء المثل بها، فلا تفوته خصوصية أصلاً.

الجواب:

لمـّا كان تحصيل المثل بالقيمة قد يحتاج إلى تحمّل مشقّة أو أذىً لأجل حصول خصوصيّة أتلفها الضامن، كان على الضامن أن يؤدّي إليه مثل ما أتلفه.

ويلاحظ عليه:

أ) أنّ دعوى اشتغال الذمّة بالمثل بعد تلف العين يفتقر إلى دليل، واشتمال المثل على الماليّة والصفات التي كانت في العين وحدها لا يقتضي اشتغال الذمّة بالمثل، وقد علمت مقتضى الحديث الشريف: ((على اليد ما أخذت حتى تؤدي))([295]).

 كون العين بنفسها، وبمالها من الصفات والخصوصيات تصبح في ذمّة المستولي عليها.

وما أفاد الشيخ الأنصاري من وجوب مراعاة حقّ المالك المضمون له إنّما يقتضي مراعاة ذلك حين الأداء وقت تفريغ الذمّة. ومعلوم أنّ هذه المراعاة تتحقّق حين الأداء على القول باشتغال الذمّة بالعين إلى حين محاولة التفريغ، وكذلك على القول بانتقال الذمّة من العين إلى المثل، فمجرّد وجوب مراعاة حقّ المضمون له – المالك – ذاتاً وصفةً كما هو مقتضى قاعدة العدل والإنصاف, وحده لا يقتضي اشتغال الذمّة بالمثل.

ب) أنّ اشتغال الذمّة حكم وضعي ومقتضى الإطلاقات في باب الضمانات والمغصوبات والأمانات المفرط فيها، وجوب تدارك حقّ المالك، وعدم تضييعه عيناً وصفة، وليس في الأدلّة ما يقتضي اشتغال الذمّة بالمثل.

والحاصل أنّ انتقال الذمّة من العين إلى المثل دعوى زائدة على أصل وجوب مراعاة حقّ المضمون له ينبغي إقامة البرهان عليه، وليس فيما أفاده ما يقتضيه.

المطلب الثاني: الأصل في الضمان القيمة:

ذهب بعض فقهاء الظاهريّة وسفيان الثوري إلى أنّ الأصل في الضمان القيمة في جميع الأموال سواء كانت مثليّة أو قيميّة عند تعذّر رد ّالعين؛ لأنّ حقّ المالك في العين والمالية وقد تعذّر إيصال العين إليه، فيجب إيصال الماليّة إليه، ووجوب الضمان على الضامن باعتبار صفة الماليّة، وماليّة الشيء عبارة عن قيمته([296]).

قال ابن حزم([297]): ((وأمّا القضاء بالمثل، فإنّ المتأخّرين اختلفوا، فقال بعضهم: لا يعطى إلاّ القيمة في كلّ شيء.

روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني فيمن استهلك حنطة أنّ له طعاماً مثل طعاماً. قال سفيان وقال غيره من فقهائنا: له القيمة)).

فاعتبر الأصل في كلّ تالف أن يكون مضموناً بقيمته إلاّ ما خرج بالدليل، وهذا الأصل يمنع استقرار طريقة العرف على قصر البدل في المماثل، بل يحكم الفقهاء بجواز تدارك أصل الماليّة وسقوط ما في الذمّة بدفع القيمة وإن كان المدفوع من غير جنس العين التالفة.

والأدلّة على ذلك:

1. عدم قبول العرف المثل، لو فرض نقصانه على العين التالفة نقصاناً فاحشاً، بل مطلقاً تجب القيمة، ولا يحكم الفقهاء بالضمان في غير الماليات، فإنّ الحكم فيها بذلك غير معهود منهم، فينبغي أن لا يكون الضمان إلاّ بالنسبة إلى صفة الماليّة التي هي مطمع نظر أهل العرف، ومجرّد كون خصوصيّة أو وصف حقّاً لأحد لا يقتضي أداء بدله اليه عند التلف وإن كان الاستيلاء عليه محرّماً.

اعتراض:

1) أنّ دعوى عدم الحكم بالضمان فيما عدا الماليات هو أوّل الكلام فيما إذا كان له مثل وكان متعلّقاً بحقّ الاختصاص. ولو سلّم خروجه بملاحظة ورود دليل معتبر من إجماع ونحوه فلا ينافي أصل المدّعى.

ب) أنّ دعوى أنّ الماليّة هي التي تكون متعلّق الضمان لا تقتضي عدم شمول الضمان للصفات؛ فإنّ الصفات في المثليّة لا تضمن مطلقاً، إنّما تضمن إذا كانت لها ماليّة أو كان لها تأثير في الماليّة، كما أنّ الماليّة ليست حيثيّة تقيديّة فقط في الضمان، بل حيثيّة تعليليّة.

فالعين تضمن من جهة أنّها مال، ولا نقول: إنّ المال بوصف الماليّة مضمون، وبين المعنيين فرق واضح، فقد خلط المستدلّ بين الجهتين: التعليليّة، التقيديّة.

2. أنّ مقتضى كون الأصل في البدل هو المثل الكامل لا يقتضي العدول إلى القيمة على تقدير تعذّر المماثل التامّ، كما استقرّ عليه فتوى الفقهاء، بل إنّما يقتضي العدول إلى ما تيسّر من وجوه المماثلة بعد سقوط التعذّر, فيقتضي الأصل في الضمان القيمة.

اعتراض:

أنّ دعوى دفع الأقرب فالأقرب عند تعذّر المماثل التامّ باطلة وهي تتفرّع على أدلّة الضمان بالمثل وذلك:

أ) ذكر الفقهاء أنّ العدول إلى القيمة عند تعذّر المثل في المال المثلي ظاهر في إرادة تعذّر المثل رأساً لا خصوص الفرد الأكمل.

ب) الإجماع على الخروج من الأصل في الضمان بالمثل عند الأداء بالقيمة عند تعذّر المثل([298]).

3. الأصل في الضمان بالقيمة؛ لأنّ ضمان المثل يؤدّي إلى ضمان ما تلف بالانتفاع المأذون فيه، والانتفاع قد يوجب نقصاً في قيمة العين المنتفع بها، فإذا ضمن المثل، فقد يوجب ذلك زيادة في الضمان باعتبار أنّ المثل المضمون به مثل غير مستعمل([299]).

ويمكن الاعتراض على ذلك بأنّ المثل قد يلاحظ فيه أيضاً أنّه مستعمل، وبذلك يتمّ التماثل وخاصّة أنّ التفاوت اليسير في المثليات يغتفر.

الرأي الراجح:

الذي ينبغي أن يقال، بعد ما تبيّن من عدم تماميّة ما استدلّ على اشتغال الذمّة بالمثل بعد تعذّر ردّ العين، كما لم يتمّ شيء ممّا أستدلّ به على اشتغال الذمّة بالقيمة، فاللازم حينئذ التأمّل في أدلّة الضمان ومراجعتها، فنجد أنّها منصبّة على أنّ العين المغصوبة أو المتلفة هي نفسها تكون مضمونة بمالها من صفات وماليّة تصبح في عهدة الضامن، بل لعلّ هذا هو معنى الضمان، كما في قوله سبحانه حكاية عن قول قائل: ((ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم))([300]). فإنّ الظاهر أنّ التعهّد إنّما تعلق بحمل البعير نفسه، وهكذا حديث اليد وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((على اليد ما أخذت حتى تؤدّي أو تؤدّيه))([301]). وكذلك حديث استعارة الدروع فهو صريح في كون الدرع نفسه مضموناً([302]).

فما دامت أدلّة الضمان كافّة منحصرة في ضمان العين نفسها، ومعلوم أنّ الضمان اشتغال الذمّة بالمضمون، وكون ماهيّة المضمون في عهدة وذمّة الضامن، فلا بد من الالتزام بأنّ العين مضمونة بنحو امتدادي واستمراري من حين استيلاء الضامن عليها، أو من حين التعدّي عليها بالإتلاف ونحوه إلى حين تفريغ ذمّته منها، وهذا الاستمرار إنّما يثبت بجعل من الشارع الذي هو وليّ الأمر والذي بيده زمام التشريع، فكأنّه بسلطته التشريعيّة اعتبر العين مضمونة على اختلاف مواردها في عنق الضامن إلى حين الفراغ.

فللعين وجود خارجي إلى حين التلف، وما بحكمه، ومن حين التلف يكون لها وجود اعتباري تشريعي يثبت في ذمّة الضامن.

ولا مانع أن نعبر عنه بالوجود الذمّي او الاعتيادي, أو كون الشيء في العهدة, فالعرف تراه يعدّ ما في الذمم مالاً للناس بدلاً عن مالهم، فيقولون للمدين: ادفع مال الناس، ورُدّه اليهم، كما يقولون للودعي: ادفع المال المودِع، وبذلك يمكن الاحتفاظ على ظاهر أدلّة الضمان، ولا حاجة إلى التأويل بها.

 بخلاف لو التزم بثبوت المثل أو القيمة في الذمّة؛ فإنّه مناف لظاهر أدلّة الضمان، ولم يقم عليه دليل.

فنستخلص أنّ العين هي التي في الذمّة حال وجودها وبعد تعذّرها, وتفريغ الذمّة يكون بإرجاع العين نفسها، وبعد التلف تكون بوجودها الذّمي في عهدة الضامن، فتكون نفس أدلّة إرجاع العين مقتضية لتفريغ الذمّة مما في عهدة الضامن، ومعلوم أنّ التفريغ يكون بالتسليم والتسلم، ولا يكون إلاّ ضمن الوجود الخارجي، فالضامن ملزَم بدفع وجود خارجي محتوٍ على صفات العين التالفة خارجاً والموجودة في ذمّته اعتباراً وتشريعاً.

إن أمكن فبدفع المثل, وإن لم يمكن، فبدفع قيمتها.

فالأصل حين الأداء ((أي تفريغ ذمّة الضامن))، هو لزوم تدارك الأموال المضمونة مع الإمكان بما يعادلها من مجموع الجهات عند تلفها، وعدم حصول البراءة عنها إلاّ بالمثل من غير فرق بين وصف الماليّة وسائر الصفات المقصودة لهم، بل يعدّون منع المستحقّ من كلّ وصف من هذه الأوصاف ظلماً وعدواناً إن أمكن ذلك، والا فالواجب أداء القيمة عند تعذّر المثل.

 

المبحث الثالث

تحديد تفريغ الذمّة في المال القيمي

اختلف الفقهاء فيما يجب دفعه في تفريغ ذمّة الضامن على المال القيمي إلى ثلاثة أقوال:

أحدها: القول بدفع المثل مطلقاً.

ثانيها: القول بدفع القيمة مطلقاً.

ثالثها: القول بدفع مثل المال القيمي إذا تيسّر مثله، وبدفع قيمة المال القيمي إذا تعذر مثله.

قال المحقّق السبزواري([303]): ((وفي القيمي أقوال: احدها وهو الأشهر: قيمته مطلقاً، وثانيها: ضمان المثل مطلقاً، ولا أعرف به قائلاً صريحاً، لكن المحقّق الحلّي في الشرائع قال: ولو قيل: يثبت مثله كان حسناً، وثالثها: ضمان المثل الصوري فيما يضبطه الوصف، وهو ما يصحّ السلم فيه، وضمان ما ليس كذلك بالقيمة، كالجوهر وهو مختار التذكرة)).

وقد لاحظت قولاً رابعاً لم يذهب إليه أحد سوى الشيخ محمد رضا آل كاشف الغطاء في تقريراته وهو التخيّير بين المثل، أو القيمة في ضمان المال القيمي، إذا تيسّر مثله بقوله([304]): ((الظاهر أنّه مخيرّ شرعاً بين المثل والقيمة، ولا تتعيّن عليه القيمة، والأخبار الدالّة على القيمة إنّما هو ذكر لأحد طرفي التخيير، لا لتعيّن القيمة، إلاّ أنّ يدعي أنّ طريقة العرف في مثلها ولا يقبلون بالمثل، وهي المناط عند الشارع)).

فالمتعين من ضمان المال القيمي إمّا دفع مثله، أو قيمته.

المطلب الأوّل: القول بدفع المثل:

ذهب عبيد الله بن الحسن العنبري واحمد بن حنبل إلى ضمان المال القيمي بمثله، واشترطا في جبر كلّ شيء بمثله من حيث الخلقة وإن تفاوتت أوصافه بأن يتساوى في الماليّة. وهو مذهب أبي موسى، واختيار الخرقي في غير الحيوان من الحنابلة([305]).

وهو قول أهل المدينة؛ لأنّ ضمان المال القيمي بمثله فيه رعاية المماثلة صورة ومعنى. فكان أولى من القيمة، وهي الدراهم والدنانير التي تفوت فيها المماثلة صورة([306]).

وقد حكي قول عن مالك، هو ضمان المال القيمي بمثله، سواء كان عن عمد او خطأ، وسواء باشر بالاستهلاك، أو تسبب، ولكن الأصحّ عند فقهاء المالكيّة إنّما هو وجوب ضمان المال القيمي بمثله في القرض, وفي باب الإتلافات والغرامات ضمان بقيمته([307]).

وفصّل فقهاء الإماميّة بين المال القيمي الذي يتيسّر المثل له، والمال القيمي, الذي تعذّر مثله. فقد حكي عن الاسكافي وابن جنيد والشيخ الطوسي والمحقّق الحلّي ضمان المال القيمي بمثله في القرض إذا تيسر مثله. ولعلّ الحكم مختصّ بالقرض فقط.

واختلف فقهاء الإماميّة في إرادة ضمان المال القيمي بمثله مطلقاً حتى مع تعذّر مثله، فإن أريد هذا, فتكون القيمة عندهم بدلاً عن المثل حتى يترتّب عليه وجوب القيمة يوم دفعها، كما ذكروا ذلك احتمالاً في تعيين القيمة([308]).

ويرد على هذا بإطلاق الروايات الكثيرة في موارد كثيرة على دفع القيمة التي سيأتي إن شاء الله، أو إرادة ضمان المال القيمي بمثله إذا تيسّر المثل، فلم يكن ذلك بعيداً نظراً إلى ظاهر آية الاعتداء، ونفي الضرر؛ لأنّ خصوصيات العين قد تقصد وإن كان ظاهر كلمات هؤلاء الفقهاء إطلاق القول بضمان المال القيمي بالمثل، سواء أتعذّر أم تيسّر مثله([309]).

ويرد على هذا أنّه خلاف الإجماع([310]).

ويلاحظ على هذا القول:

أ) أنّ دعوى اشتغال الذمّة ببدل العين المضمونة يفتقر إلى دليل، فإن كان الدليل هو أنّ العين المضمونة قد تلفت ولا يعقل بقاؤها بعد التلف في الذمّة، ففيه أنّ العوض مثلاً أو قيمةً ما زال معدوماً, فكيف تمّ ثبوته في الذمة؟

فانتقال الذمّة من العين المضمونة بعد التلف إلى بدل يحتاج إلى دليل، ولم يوجد ما يثبت ذلك والتشبّث بالإجماع لا يجدي نفعاً؛ إذ يستبعد وجود إجماع قطعي في المقام؛ إذ لو كان الأمر كذلك لما وقع هذا النزاع والتشاحّ.

ب) الانتقال من العين القيميّة إلى مثلها، ووجوب دفع القيمة هذا غير سليم؛ إذ حينئذ يكون المثل عوضاً  عن العين، والقيمة عوضاً عن المثل، فالقيمة عوض العين، والالتزام به وإن كان ممكناً عقلاً، إلاّ أنّه لفقدان دليل واضح عليه لا يخلو عن تعسّف, فلا بدّ من ضمان العين المغصوبة مثلاً ماليّةً وصفةً، والمفروض انها قيمية مما يعني ذلك امتناع وجود مماثل لها ماليّة وصفةً، فما الفائدة في فرض الممتنع في الذمة؟ وأي دليل يدلّ عليه؟ ودعوى الإجماع قد عرفت حالها؟

فالحقّ هو أنّ العين من حين اشتغال الذمّة بها تبقى مضمونة إلى حين التفريغ، فإن كانت مثليّة فبالمثل، وإلاّ فبالقيمة.

جـ) لو دفع المثل مع فرض تيسّره في مقام تفريغ الذمّة عن القيمي المضمون، كان ذلك مثلاً تقريباً وإلاّ لو تيسّر له المثل المماثل للمضمون عيناً وصفةً وحقيقة، لـكان خُلفَ الفرض؛ إذ أنّ المفروض التالف قيمي ومعلوم أنّ إجبار المالـك المضمون له على قبول المثل التقريبي ظلم؛ لإجباره على التنازل عن بعض الصفات المفقودة مع تلف العين المضمونة غير المتوفّرة في المثل التقريبي.

فمقتضى الأنصاف والعدل أن لا يفوت على المالك شيء من صفات العين التالفة، وهو لا يكون إلاّ بأداء قيمة العين بمالها من الصفات المؤثّرة في رغبة اقتناء تلك العين.

وأدلّتهم على ذلك:

أوّلاً: الأدلّة النقلية:

أ) الآيات القرآنية:

1. قوله تعالى: [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]([311]). فظهورها في المماثلة مطلقاً سواء كان مالاً قيميّاً أو مثليّاً.

ولكن قد عرفت أنّ الآية الكريمة أجنبيّة عن بحث الضمان وضمان والمتلفات، ولا صلة لها بباب الضمانات الماليّة، ومجرّد وجود كلمة ((المثل)) لا يسوّغ ذكرها في سياق أدلّة الضمان.

2. قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ]([312]).

استدّل بالآية على ضمان المال القيمي بمثله؛ لأنّ النَعَم: الإبلُ وهي أموال قيمية جبر ضمانها بمثلها([313]).

اعتراض:

إنّ الآية ليست في صدد الضمان وجبر الأموال، بل في صدد التعبّد.

قال العزّ بن عبد السلام([314]): ((لا يجوز القياس على جبر الصيد بالمثل من النَعَم؛ فإنّ ذلك تعبد حائد عن قواعد الجبر)).

ب) الأخبار الشريفة:

إنّ الاستدلال بالأخبار الشريفة هي نفس الأخبار التي تقدّم ذكرها في الاستدلال على أن الأصل في الضمان المثل، وقد تطرّق الكلام عليها، وعن الاعتراضات الواردة عليها، فلا نتعرّض إليها مرّة ثانية.

نعم, نذكر بعض الروايات التي استُدِلّ بها على دفع المثل في المال القيمي المضمون التي لم نذكرها من قبل, فممّا يؤيّد ما ذكر من دفع المثل في المال القيمي المضمون في فرض إمكانه ما ورد في باب القرض من الروايات.

1. ما روي عن الصباح بن سيّابة: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنّ عبد الله بن أبي يعفور أمرني أن أسألك, قال: نستقرض الخبز من الجيران فنردّ أصغر منه أو أكبر. فقال عليه السلام: نحن نستقرض الجوز الستّين والسبعين عدداً فيكون الكبير والصغير، فلا بأس))([315]).

2. ما روي عن إسحاق بن عمار، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: استقرض الرغيف من الجيران، ونأخذ كبيراً ونعطي صغيراً، ونأخذ صغيراً، ونعطي كبيراً؟ قال: لا بأس))([316]).

3. ما روي في فقه الرضا، عن الصادق عليه السلام: ((سئل عن الخبز بعضها أكبر من بعض. قال: لا بأس؛ إذا اقترضته))([317]).

إنّ هذه الروايات الدالّة على جواز أداء المثل عن المال القيمي هي مختصّة بالقرض، وأنّها ضعيفة السند، ومعلوم أنّ للقرض خصوصيّة يمكن بمقتضاها الالتزام بأنّ العين المقترضة تصبح ملكاً للمقترض، وأنّ ذمته إنّما تشتغل بالعوض، فالخبز المدفوع في مقام تفريغ الذمّة ليس مثلاً للمضمون، بل هو عين للمضمون، ولهذا تخرج روايات القرض عن محلّ الكلام.

ثانياً: الدليل العقلي:

التحقيق أن يحكم بضمان المال القيمي بمثله، كما حكم بذلك في المال المثلي، فلو تلفت العين المضمونة، ولم يكن للضامن ردّها، انتقل الضامن إلى مثله وهو الكلّي المتّحد مع العين التالفة من جميع الخصوصيات إلاّ الخصوصيات غير المقوَّمة في الماليّة، بل في التشخّص الخارجي فقط، أي الخصوصيّة الشخصيّة للعين، وحينئذ فلا ينتقل الضمان إلى القيمة إلاّ مع تعذّر المثل، وعلى هذا فلو وجد المثل للعين التالفة لوجب على الضامن أداء المثل.

نعم, لو تعذّر أداء المثل على الإطلاق تلغى الصفات النوعيّة أيضاً. فإنّ اعتبار اشتغال الذمّة بها من اللغو الظاهر مع تعذّر الوفاء بها([318]).

ويلاحظ على الدليل أنّ البيان لا يخلو من تعسّف، بل تهافت، فالمفروض أنّ الكلام في المال القيمي، وهو كما استفيد من تحديده ما لا يوجد مماثل، في الصفات النوعيّة المقوّمة للماليّة، فدعوى اشتغال الذمّة بمثله المتعذّر ليس له معنى واضح.

كما أوضحت أنّه لا دليل أيضاً على انتقال الذمّة من اشتغال الذمّة بالعين إلى المثل التقريبي عند تلف العين، فإنّه يقتضي تفويت بعض الصفات المضمونة على المالك.

فعليه إمّا يلتزم باشتغال الذمّة بقيمة العين التالفة التي تشكّل بدلاً عن ذات العين وصفاتها المقوّمة للماليّة.

وإمّا أن يلتزم ببقاء العين التالفة في الذمّة إلى حين تفريغها بدفع ما يكون عوضاً عن ذاتها وصفاتها، وليس في القيمي إلاّ القيمة، وهذا هو الصحيح، كما تقدّمت الإشارة إليه.

المطلب الثاني: القول بدفع القيمة:

المشهور عند فقهاء المسلمين هو أداء القيمة في ضمان المال القيمي([319]), والأدلة على ذلك:

أوّلاً: الكتاب العزيز:

1. قوله تعالى: [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]([320]).

استَدلَّ بهذه الآية الشريفة القفال من الشافعيّة، والطوري من الحنفيّة باعتبار القيمة المثل والبدل للمال القيمي عند تلفه.

فالمتعارف من الآية شاهد على ذلك؛ لأنّ القيمة هو المثل المتعارف بين الناس([321])، ولهذا أفتى شريح بأنّ من كسر عصا، فهي له وعليه قيمتها، وما افتى بذلك إلاّ أنّه فهمه من الآية([322]).

ويلاحظ على الدليل أنّه قد تقدّم أنّ الآية أجنبيّة عن باب الضمان، وأنّ مجرّد اشتمالها على كلمة ((المثل)) لا يقتضي إقحامها في باب الضمان. مضافاً إلى أنّ في اعتبار القيمة مثلاً للعين المضمونة خفاء؛ فإنّ المماثلة إنّما تكون في نظر العرف بالنظر إلى ما يشاهد، ويلمس في العين من الذات والصفات والخصوصيات على ما تقدّم توضيحه في تحديد المثل.

وأمّا مماثلة القيمة المتمحّضة في الماليّة مع قيمة العين في مقدارها, فإنّها لا يدركها إلاّ من أدرك مقدار ماليّة التالف، فدعوى مماثلة القيمة عن العين المضمونة في نظر العرف غير واضح.

واستدلّ الشيخ الطوسي، والآلوسي بهذه الآية الكريمة على ضمان المال المثلي بالمثل، والمال القيمي بالقيمة، بدعوى أنّ المماثلة فيها إنّما تقتضي ضمان المال المثلي بالمثل، والمال القيمي بالقيمة([323]).

اعتراض:

إنّ المراد بالمماثلة في الآية إن كان بيان المماثلة الخاصّة – التشبيه الخاصّ – بمعنى عدم التجاوز في مقدار الاعتداء عمّا اعتدى به، فهو حينئذ أجنبي عن المثل المصطلح عليه، ضرورة كون المراد حينئذ التساوي في مقدار الاعتداء، كالقتل والجرح، وأخذ المال من دون ملاحظة المثل أو القيمة، بل ليس فيها حينئذ إلاّ حكم واحد، وهو الرخصة في الاعتداء بمقدار اعتداء المعتدي وان لا يتجاوز عنه.

والمراد بالمقدار أن يحكم أهل العرف بأنّهما سيّان في المنفعة والفائدة، ويرضى العقلاء بتملّك كلّ منهما مقام الآخر من غير فرق بين المثل أو القيمة فلو فرض أنّ مقدار الاعتداء دينار، فاللازم الاعتداء على المعتدي بهذا المقدار، فليس المراد من المماثلة في الآية مماثلة المعتدى به وهو المثل في المال المثلي، والقيمة في المال القيمي.

وإن كان المراد المماثلة المطلقة او التشبيه المطلق, يعني يجوز لكم الاعتداء على نحو يماثل اعتداء المعتدي في الاعتداء، والمعتدى به، فهذا إطلاق ينصرف إلى العموم في كلام الحكيم، وحينئذ فهو يشتمل على حكمين:

1. الرخصة في الاعتداء.

2. المماثلة في كلّ شيء وهو يشمل المال المثلي والمال القيمي، ففي كلّ منهما يجب اعتبار المماثلة في الاعتداء، والمعتدى به في كلّ شيء، فلا تفصيل في الآية يدلّ على أداء المثل في المال المثلي، والقيمة في المال القيمي([324]).

فالاستدلال بها على ذلك يتوقّف على ما يأتي:

1. أن تكون كلمة ((ما)) في الآية الكريمة موصولة لا مصدريّة.

2. أن يراد من هذه الكلمة الموصولة الشيء المعتدى به بأن يكون المعنى: فاعتدوا عليه بمثل الشيء الذي اعتدى به عليكم.

3. أن يراد من كلمة ((المثل)) في الآية الكريمة المثل في المال المثلي، والقيمة في المال القيمي.

ويرد الاعتراض بالنقاط الثلاثة بما يأتي:

النقطة الأولى:

أنّه لا قرينة على أن يراد من كلمة ((ما)) كونها موصولة، بل يحتمل أن تكون مصدريّة غير زمانيّة، وعليه, فيكون معنى الآية: أن اعتدوا عليه بمثل اعتدائه عليكم، فتختصّ الآية بالاعتداء بالأفعال.

فمعناها أنّ مماثل الإتلاف هو الإتلاف دون الضمان. فلا دليل في الآية الكريمة على المقصود, وقد حكي عن الاردبيلي في آيات الأحكام تعيين هذا الاحتمال([325]).

النقطة الثانية:

أنّه لا قرينة على أنّ المراد من الشيء هو المعتدى به، أعني به الأعيان الخارجيّة من النقد والعرض، بل يحتمل أن يراد به الفعل أعني به الاعتداء، وعليه فتكون الآية بعيدة عن غرض المستدلّ حتى مع جعل كلمة ((ما)) فيها موصولة.

ويحتمل أن يراد من الشيء ما هو أعمّ من الفعل والمعتدى به، وحينئذ, فتدلّ الآية على جواز اعتداء المضروب بالضرب، واعتداء المشتوم بالشتم، وعلى جواز إتلاف المال في مقابل الإتلاف، وعلى جواز أخذ الحنطة بدل الحنطة، وأخذ الفضّة بدل الفضّة، وهكذا، وعلى هذا الاحتمال, لا يستفاد من الآية الضمان.

النقطة الثالثة:

عدم وجود قرينة على إرادة ضمان المثل من الآية الكريمة في المال المثلي، وإرادة ضمان القيمة في المال القيمي؛ لأنّ المماثلة لا تقتضي هذا المعنى، بل هي أعمّ من ذلك.

والحاصل من جميع ما ذكر أنّه لا دلالة في الآية على أداء المثل في المال المثلي، والقيمة في المال القيمي([326]).

ثانياً: الروايات الشريفة:

الروايات التي أشارت إلى أداء القيمة عند ضمان المال القيمي كثيرة ومنتشرة في الأبواب الفقهيّة منها:

أ) الروايات الدالّة على تقويم العبد:

1. ما روى البخاري بسنده عن أبن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((من أعتق شقصاً([327]) له من عبد أو شركاً أو قال نصيباً، وكان له ما يبلغ ثمنه بقيمة العدل، فهو عتيق، وإلاّ فقد عتق منه فاعتق))([328]).

قال السيوطي ((ما يبلغ ثمنه)) أي ثمن الباقي لا ثمن الكلّ، والمراد بالثمن القيمة؛ إذ المدار عليها([329]).

استدلّ بهذا الحديث فقهاء الحنفيّة والزيديّة والمالكيّة والحنابلة على ضمان المال القيمي بالقيمة([330]).

وعلّل فقهاء الحنابلة ذلك بأنّ ما لا مثل له تجب قيمته؛ لخروج الأموال القيميّة عن الأصل في الضمان بالمثل بهذا الحديث؛ لأنّ إيجاب مثله من جهة الخلقة لا يمكن؛ لاختلاف الجنس الواحد، فكانت القيمة أقرب إلى إبقاء حقّه([331]). واستدلّ به ابن عبد البرّ لقول مالك وأصحابه: إنّ من أفسد شيئاً من العروض التي لا تكال ولا توزن فإنّما عليه قيمة ما استهلك من ذلك لا مثله؛ لأنّه صلى الله عليه وآله وسلم لم يوجب على من أعتق نصيبه نصف عبد مثله لشريكه([332]).

وعلّل أبو حنيفة، ومالك ضمان المال القيمي بقيمته؛ لأنه أعدل في ذلك([333]).

واستدلّ فقهاء الإماميّة على ضمان المال القيمي بقيمته بالنصوص الواردة في عتق العبد منها:

1. ما روى الحلبي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: ((سألته عن المملوك بين الشركاء فيعتق أحدهم نصيبه. قال: أنّ ذلك فساد على أصحابه, فلا يستطيعون بيعه ولا مؤاجرته.

فقال يقوّم قيمة على الذي أعتقه؛ عقوبة، وإنّما جعل ذلك عليه عقوبة لما أفسده))([334]).

2. ما روي عن سماعة, قال: ((سألته عن المملوك بين الشركاء فيعتق أحدهم نصيبه, فقال: هذا فساد على أصحابه يقوّم قيمة، ويضمن الثمن الذي أعتقه؛ لأنّه أفسده على أصحابه))([335]).

3. ما روى سلمان بن خالد عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: ((سألته عن المملوك يكون بين الشركاء فيعتق أحدهم نصيبه.

قال: أنّ ذلك فساد على أصحابه، فلا يستطيعون بيعه، ولا مؤاجرته. قال يقوّم قيمة، فيجعل على الذي أعتقه عقوبة، وإنّما جعل ذلك لما أفسده))([336]).

4. ما روي عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله  عليه السلامقال: ((سألت أبا عبد الله الصادق عليه السلام عن قوم ورثوا عبداً جميعاً، فاعتق بعضهم نصيبه منه، كيف يصنع بالذي أعتق نصيبه منه؟ هل يؤخذ بما بقي؟ قال: نعم, يؤخذ بما بقي منه بقيمته يوم أعتق))([337]).

ويرد على الاستدلال بالروايات بما يأتي:

أ) أنّ الروايات أجنبيّة عن محلّ البحث, فمحلّ البحث هو ما إذا ضمن أحد عيناً قيميّة أمّا بالغصب وأمّا بالإتلاف غير العمدي, فماذا يثبت في الذمّة، إن لم نقل بثبوت نفس العين التالفة في الذمة؟ أو ماذا يجب دفعه عند محاولة تفريغ الذمّة عنها؟

والروايات لم يفرض فيها أنّ من أعتق شقصاً من عبد مشترك بينه وبين غيره، قد ضمن العبد بالغصب أو الإتلاف.

إمّا فقدان عنوان الغصب, فواضح، فإنّ المعتق قد سحب يده المالكة عن حصّته من العبد فضلاً عن أن يحاول الاستيلاء على مالا يمكنه منه.

وأمّا فقدان الإتلاف، فالروايات صريحة في عدم إتلاف المعتق نصيب شريكه من العبد، وإلاّ لما بقي العبد في نصيبه غير المعتق مملوكاً للشريك الآخر على تقدير عدم تمكّن المعتق من الوفاء بقيمة حصّته.

ب) تعبير بعض الروايات بالثمن عمّا يجب في ذمّة المعتق على تقدير تمكّنه من وفاء قيمة نصيب شريكه كاشف عن أن ما يثبت في ذمّته ابتداءً هو عوض ذلك العبد، وليس نفس ذلك العبد، وكلامنا فما كان القيمي – كالعبد – دخل في الذمّة وتلف, فماذا يجب على الضامن؟ فمورد الروايات بمراحل من البحث.

ج) أنّ باب العتق مشوب برائحة التعبّد الشرعي، ولا تعمّه القواعد العامّة، ولذلك، لو فرض شريكان في قطعة أرض، وسبل أحدهما نصيبه في سبيل الله لم يجب عليه دفع عوض نصيب شريكه قياساً على ما في العبد.

فعليه, اتّخاذ هذه الروايات منطلقاً لـتأسيس قاعدة تعمّ باب الضمانات مّمّا لا أرى له وجهاً فقهيّاً سليماً.

ب) روايات تلف وثيقة الرهن وترادّ الفضل:

إنّ الأخبار الدالّة على أنّ وثيقة الرهن إذا تلفت بتفريط من المرتهن سقط من ذمّة الراهن بحساب ذلك، وترادّ الفضل بينهما، لأنّ الغالب في الرهن أن يكون مالاً قيميّاً، والغالب في الدين النقدان والتهاتر يقع في مثله على القاعدة. وإطلاق التراد بينهما معتمّدين على الانصراف العرفي.

فلولا كون ضمان المال القيمي بالقيمة لم يكن وجهاً لسقوط الدين بمجرّد ضمان التالف.

ومنها:

1. ما روي عن إسحاق بن عمّار, قال: ((سألت أبا إبراهيم الكاظم عليه السلام عن رجل يرهن الرهن بمئة درهم، وهو يساوي ثلاثمائة درهمٍ فيهلك. أعلى الرجل أن يردّ على صاحبه مئتي درهم؟ قال: نعم، لأنّه أخذ رهناً فيه فضل وضيّعه، قلت: فهلك نصف الرهن، قال ((على حساب ذلك))، قلت: فيترادّان الفضل؟ قال: نعم))([338]).

2. ما روي عن أبي بكير, قال: ((سألت أبا عبد الله الصادق عليه السلام في الرهن، فقال: ((إن كان أكثر من المال المرتهن فهلك، أي يؤدّي الفضل إلى صاحب الرهن، وإن كان أقلّ من ماله، فهلك الرهن، أدّى إليه صاحبه فضل ماله، وإن كان الرهن سواءاً، فليس عليه الشيء))([339]).

3. ما روي عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال: قضى أمير المؤمنين علي عليه السلام في الرهن إذا كان أكثر من مال المرتهن فهلك، أن يؤدّي الفضل إلى صاحب الرهن، وإن كان الرهن أقلّ من ماله فهلك الرهن، أدّى إلى صاحبه فضل ماله، وإن كان الرهن يساوي ما رهنه، فليس عليه شيء))([340]).

ويرد على الاستدلال بهذه الروايات ما يأتي:

أ) أنّ روايات الرهن المستدلّ بها ليس فيها شاهد على أنّ العين المرهونة كانت قيميّة، بل في بعض الروايات صراحة في الإطلاق، فلو تمّت دلالة هذه الروايات على ضمان القيمة, لأدّى ذلك إلى لزوم الالتزام بالقيمة على العين المضمونة التالفة قيميّة كانت أم مثليّة، ولا أرى المستدلّ يلتزم بذلك، ودعوى انصراف كلمة الرهن إلى أنّ العين المرهونة تكون قيميّة غالباً عهدتها على مدّعيها، ولا يدعمها من الروايات أو من خارجها شيء.

ب) ليس في الروايات ما يدلّ على اشتغال ذمّة المرتهن بالقيمة أو المثل، بل فيه ما يدلّ على أنّهما يترادّان الفضل وهو أعم من أن يكون المردود مثلاً أو قيمة.

ج) أنّ في بعض الروايات ما يدلّ على لزوم إرجاع ما بقي من العين المرهونة، مثل رواية إسحاق بن عمّار المتقدمّة، فهي صريح في ردّ كلّ من المرتهن والراهن على صاحبه ما فضل لديه من حقّ صاحبه مثلاً لو تلف بعض الرهن، وبقي البعض، فعلى المرتهن ردّ ما بقي، والمحاسبة مع الراهن في مقدار التالف بالقياس مع مقدار الدين في ذمّته، ومعلوم أنّ هذا إنّما يمكن فرضه إذا كانت وثيقة الرهن مثليّة فدعوى, كون وثيقة الرهن قيميّة لا يدعمها دليل.

جـ) روايات الأَمَة المسروقة المبيعة:

استُدِلّ بالروايات الدالّة على أنّ الأمة المبيعة إذا وجدت مسروقة بعد أن أولدها المشتري وأخذها صاحبها، يأخذ المشتري ولده بالقيمة؛ إذ أنّ الحكم بضمان قيمة الولد ظاهر في أنّ ضمان المال القيمي بالقيمة, ومنها:

1. ما روي عن جميل بن درّاج عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: ((في رجل اشترى جارية فأولدها فوجدت مسروقة؟ قال: يأخذ الجارية صاحبها، ويأخذ الرجل ولده بقيمته))([341]).

2. ما روي عن زرارة. قال: ((قلت لأبي جعفر الباقر عليه السلام: الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها ثم يجيء الرجل فيقيم البيّنة على أنّها جاريته ولم يبع ولم يهب؟ قال: فقال: تردّ إليه جاريته ويعوّضه ممّا انتفع, قال: كان معناه قيمة الولد))([342]).

3. ما روي عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: ((في رجل  يشتري الجارية من السوق فيولدها ثم يجيء مستحقّ الجاريّة؟ فقال: يأخذ الجارية المستحقّ، ويدفع إليه المتباع قيمة الولد، ويرجع على من باعه بثمن الجارية وقيمة الولد التي أخذت منه))([343]).

4. ما روي عن زرارة, قال: قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام: ((رجل اشترى جارية من سوق المسلمين فخرج بها إلى أرضه، فولدت منه أولاداً ثمّ أتاها من يزعم أنّها له وأقام على ذلك البيّنة, قال يقبض ولده ويدفع إليه الجارية، ويعوّضه في قيمة ما أصاب من لينها وخدمتها))([344]).

ويلاحظ على الاستدلال بالروايات ما يلي:

أ) أنّ الروايات وردت في أمة اشتراها مشتر جاهلاً أنّها مسروقة أو مغصوبة، ثمّ أستولدها وكان شراؤه لها اعتماداً على قاعدة اليد، وقاعدة سوق المسلمين اللتان هما أمارتا الملكيّة، فكان المشتري مالكاً للجارية ظاهراً فكان وطؤه إيّاها وطء شبهة، فيكون الولد حرّاً على القاعدة من أنّ الولد في الوطء الصحيح يتبع أشرف الأبوين، فينعقد حرّاً.

وكان رجوع الجارية إلى مالكها الأصلي الواقعي بعد الانكشاف للوطيء المشتري بالبيّنة أنّها مسروقة على القاعدة؛ لأنّها لم تخرج من ملك المالك حسب الفرض، كما أنّ الحكم بحرّيّة الولد على القاعدة.

فعليه, ليس في المقام من قبل المشتري الواطئ غصب أو إتلاف، أو ضمان؛ لأنّ حرّيّة الولد بحكم الشارع بحيث لو رضي الأب باسترقاق مالكها للولد لم يجز له ذلك؛ لأنّه ولد حرّاً. والحكم بضمان قيمة الولد ليس لأنّ الواطئ أتلف الولد على مالك الجارية، كإتلاف سائر فوائدها العائدة إلى مالكها؛ لأنّ حرّيّة الولد ليست بفعليّة المشتري وإنّما بتعبّد الشارع.

فالحكم بقيمة الولد تعبّد، وليس خاضعاً لقواعد الضمان، ولذلك عُبَّر في بعض الروايات عن هذه القيمة بالعوض وبعضها بالقيمة.

وأنّ دعوى استقرار ضمان القيمة، أو عوض الولد على الغاصب أو السارق البائع لها للمشتري يكشف ضمان المال القيمي بالقيمة غير تامّة؛ إذ قد تبيّن أنّ قيمة الولد ليس من باب قاعدة الضمان؛ إذ لم يكن ضياع الولد على مالكها بفعل أحد، وإنّما هو بحكم الشارع بحرّيّته.

والذي يكشف عن ذلك هو لو ان الواطئ المشتري عالم بغصب الجارية أو سرقتها، لم يكن الولد حرّاً، بل كان رقّاً لمولاه من أنّ وطء المسروقة، أو المغصوبة، واستيلادها حاصل في صورة الجهل.

فالحكم بدفع قيمة الولد ليس من باب الضمان بشيء، ولا من باب المتلفات وإن وجدت كلمة الضمان في ألسنة الفقهاء، والذي يؤكّد ذلك ليس في الروايات شاهد على اشتغال ذمّة الواطئ بالقيمة، بل المستفاد دفع القيمة أو العوض، ويرجع بما غرّ المشتري على الذي خدعه وغشّه بها.

د) ما ورد في رواية أبي ولاّد القاضية بضمان البغل بقيمته:

روى أبو ولاّد, قال: ((اكتريتّ بغلاً إلى قصر أبي هبيرة ذاهباً وجائياً بكذا، وكذا، وخرجت في طلب غريم لي، فلمّا صرت قرب قنطرة الكوفة خُبَّرتُ أنّ صاحبي توجّه إلى النيل، فتوجّهت نحو النيل، فلمّا أتيت النيل خُبَّرتُ أنّه توجّه إلى بغداد فأتبعتُه، فظفرت به، ورجعت إلى الكوفة – إلى أن قال – فأخبرتُ أبا عبد الله الصادق عليه السلام، فقال: أرى له عليك مثل كراء البغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل، ومثل كراء البغل من النيل إلى بغداد، ومثل كراء البغل من بغداد إلى الكوفة وتوفّيه إيّاه, قال: قلت: قد علفته بدراهم فلي عليه علفه؟ قال: ((لا؛ لأنّك غاصب))، فقلت: أرأيت لو عطب البغل أو نفق أليس كان يلزمني؟ قال: ((نعم قيمة بغل يوم خالفته))، قلت: فإن أصاب البغلَ كسرٌ أو دبر أو عقر؟ فقال: ((عليك قيمة ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه عليه)), قلت: فمن يعرف ذلك؟ قال: أنت وهو إمّا أن يحلف هو على القيمة فتلزمك، فإن ردّ اليمين عليك فحلفتَ على القيمة لزمك ذلك، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا، فيلزمك))([345]).

يلاحظ أنّ الظاهر من الرواية تدلّ على وجوب دفع قيمة البغل المغصوب العاطب على الغاصب، وهذا قدر مسلم بيني – حيث أقول إنّ العين المغصوبة بنفسها تبقى في الذمّة إلى حين تفريغها بدفع المثل، أو القيمة على اختلاف الموارد – وبين من يعقد باشتغال الذمّة بعد تلف المغصوب بالمثل في المثلي وبالقيمة في القيمي. وهذا القدر ليس محلّ النزاع، وليس على المستدلّ تجشّم البحث عن الدليل عليه.

وإنّما الاختلاف بيني – متواضعاً – وبين الفقهاء (قدّس الله أسرارهم) هو بماذا تشتغل الذمّة بعد تلف العين؟ هل بالعين التالفة كما اعتقد، أو بالقيمة أو المثل كما عليه الفقهاء (شكّر الله مساعيهم)؟ وليس في الرواية شاهد على ما استدلّ بها على ضمان المال القيمي بالقيمة.

ودعوى أنّ ذكر (يوم خالفته) شاهد على اشتغال الذمّة بالقيمة غير واضح؛ إذ المفروض أنّ البغل كان سالماً يوم المخالفة، وقد اشتغلت ذمّة الغاصب به، فلا معنى لاشتغال الذمّة بالقيمة أيضاً.

هـ) ما ورد في رواية السفرة التي وجدت مطروحة في الطريق:

روى السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام: أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ((سُئِل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وجبنها وبيضها وفيها سكين، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يقوّم ما فيها ثمّ يؤكل؛ لأنّه يفسد وليس له بقاء، فإن جاء طالبها غرّموا له الثمن.

فقيل: يا أمير المؤمنين؛ لا يدري سفرة مسلم أو سفرة مجوسي. فقال: هم في سعة حتى يعلموا))([346]).

ويرد على الاستدلال بهذه الرواية بأنّ الاستدلال بالرواية مبني على كلمة ((يقوّم)) باشتغال الذمّة بالقيمة وهذا غير سليم؛ لأنّ السفرة ورد فيها أنّها تحتوي على ما هو قيمي ومثلي، فثبوت القيمة في الجميع غير صحيح.

والصحيح أنّ معنى ((يقوّم)) هو أن يقدّروا ما في السفرة من الموجودات؛ ليدفعوا عوض كلّ ما فيها من المأكولات مثلاً في المثلي وقيمة في القيمي.

كما أنّه ليس في الرواية اشتغال الذمّة في القيمة، وإنّما تدلّ على تحديد ثمنها قبل الإتلاف ثمّ دفعه إلى مالك السفرة بعد، وهذا أعمّ من اشتغال الذمّة بالقيمة من حين الإتلاف، ومن اشتغال الذمّة بنفس التالف إلى حين تفريغها.

ولا وجه لتفسير – يقوّم – بضمان القيمة، فإنّه كان قبل الإتلاف واشتغال الذمّة بالقيمة عند من يقول بها حين التلف لا قبله.

ولعلّ في اختيار كلمة ((الثمن)) خير دليل على أنّ الإمام عليّاً عليه السلام لم يقصد اشتغال الذمّة بالقيمة، فأنّه يعمّ بدل القيمي والمثلي.

فتحصّل ممّا ذكرت أنّ ما استدلّ به من الروايات المتقدّمة على اشتغال الذمّة بعد تلف العين المضمونة بالقيمة في المال القيمي لم يتمّ، وإنّما غاية ما يستفاد منها وجوب دفع القيمة في المال القيمي حين تفريغ الذمّة.

ثالثاً: الإجماع:

ادّعي الاتّفاق، بل الإجماع المنقول على ضمان المال القيمي بقيمته، فلا يزال الفقهاء يرسلون هذه المسألة إرسال المسلّمات، ويعدّونها من الواضحات في عامّة المقامات، ولم ينقل عنهم خلاف في ذلك وإن اختلفوا في تعيين زمان القيمة بل يظهر منهم الالزام بها حتى في صورة إمكان المماثل([347]).

قال صاحب الجواهر: ((إنّه لم يظهر حجّة على أصل اعتبار المثل في المثلي، والقيمة في القيمي عدا الإجماع والاعتبار))([348]).

وجاء في كتاب فقه الصادق عليه السلام ضمان المال القيمي بقيمته إنّ: ((الإطلاق والإجماع عليه، وأنّه حتى إذا وجد المثل في القيمي، فالمعروف بين الفقهاء كفاية ردّ القيمة))([349]).

وقال الشيخ هادي كاشف الغطاء في شرحه على المكاسب في ضمان التلف المبيع بالبيع الفاسد إذا كان قيميّاً([350]بأنّ: ((المحكيّ اتّفاق الأصحاب وإجماعهم على ضمانه بالقيمة، وتدلّ على ذلك أخبار كثيرة واردة في كثير من القيميات المختلفة التي يعلم من ملاحظتها عدم خصوصية المورد في ذلك، بل لعلّ ذلك مقتضى إطلاق أدلّة الضمان في القيميات بحسب المتعارف)).

ويرد على هذه الإجماعات بأنّها لا تعدو كونها إجماعات منقولة، وحجّيّة الإجماع المنقول محلّ كلام([351]).

ثمّ على فرض حصول الإجماع, فمن المؤكّد – ولا أقلّ من المحتمل – أنّ جُلَّّ المجمعين – إن لم يكن كلّهم – استندوا في فتواهم بضمان القيمي بالقيمة إلى تلك الأدلّة المتقدمة من الآيات والروايات، أو الأدلّة الآتية، فحينئذ يصبح الإجماع مدركيّاً، ومثله لا يعدّ دليلاً مستقلّاً عن تلك الأدلّة, بل مثله النظر في الأدلّة لا في الإجماع، وقد علمت عدم تماميّة الأدلّة، فلا تكون للحاظ الإجماع قيمة علميّة أو عمليّة. وعهدة دعواه على مدّعيها. ولو تنزلّت على القدر المتيقّن من المجمع عليه، فهو وجوب دفع القيمة حين تفريغ الذمّة المشتغلة بالقيمي، ولا سبيل إلى إحراز الإجماع على اشتغال الذمّة بالقيمة، ومعلوم أنّ الأخير هو محلّ البحث، وليس الأوّل.

رابعاً: سيرة الفقهاء:

المعلوم بالمشاهدة وبالنقل أنّه قد جرت سيرة المتشرّعة، بل العقلاء كافّة على تضمين الغاصب والمتلف للمال القيمي بالقيمة، ولم ينقل في عصر أو مصر العمل بخلاف ذلك، واكتشاف هذه السيرة من اليوم متقهقراً إلى زمان الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، ومن أتبعه بإحسان يكشف عن رضى الشارع، ورضى حملة الشريعة بهذا الحكم، وسكوت الشارع إمضاء لهذا العمل، وهو حجة([352]).

اعتراض:

إنّ غاية ما يمكن إحرازه بهذه السيرة إنّما تثبت مطالبة الضامن بالقيمة في القيمي، وإجبار المالك على قبولها، وعدم إجبار الضامن على غيرها([353]). ومعلوم أنّ هذا ليس محلّاً للبحث فعلاً، وإنّما البحث في أنّ ذمّة الضامن – بعد تلف العين – هو بماذا تشتغل؟ هل بنفس العين التالفة أو بقيمتها؟ ولا سبيل إلى احراز شيء سوى قيام السيرة على كفاية دفع القيمة في القيمي، وإلزام المالك بقبولها.

خامساً: الأدلّة العقلية:

1. أنّ المال القيمي تختلف أجزاؤه فتتعذّر فيه المماثلة، ومماثلته لا تخلو من أن تكون زائدة يظلم بها الضامن، أو ناقصة يظلم بها الملك، والقيمة عدل يؤمن فيها ظلم الضامن والمالك([354]).

2. أنّ الأموال القيميّة تتفاوت في الماليّة خلقة، فتتعذّر فيها رعاية الصورة؛ إذ لو روعيت، لفاتت المماثلة معنى. فوجب رعاية المعنى الذي لا تفاوت فيه وهو القيمة. فالقيمة فيها أعدل وأقرب إليها وكانت أولى.

ويلاحظ على الدليلين المتقدّمين أنّ غاية ما يثبت هو عدم إمكان تفريغ الذمّة المضمونة بالقيمي بالمثل، وهو لا ينافي الالتزام باشتغال الذمّة بالمثل حتى في القيمي، وفي وقت التفريغ تنتقل وظيفة الضامن إلى القيمة لتعذّر المثل، وليس في الدليل شاهد على لزوم الالتزام باشتغال الذمّة بالقيمة بمجرّد تلف العين المضمونة.

وأيضاً أنّ هذين الدليلين لا يثبتان أنّ الذمّة تشتغل بأيّ شيء، وإنّما يقتضيان استناداً إلى قاعدة العدل والإنصاف لزوم إلزام الضامن بالقيمة مراعاة لحقّ طرفي الضامن، والمالك في الضمان.

وهذا المعنى يتحقّق لو ألتزم باشتغال الذمّة بالقيمة ثم دفعها حين التفريغ، وكذلك اشتغال الذمّة بالمثل ولزوم دفع القيمة حين التفريغ لتعذّر المثل، وكذلك اشتغال الذمّة بنفس العين التالفة حين محاولة التفريغ بدفع القيمة.

فليس في الدليل ما يدلّ على اشتغال الذمّة بالقيمة بمجرّد تلف العين المضمونة.

الرأي الراجح:

لا ينبغي الريب في أنّ الانتقال من دفع العين إلى بدلها مثلاً، أو قيمة لا يكون إلاّ مع تعذر العين، أو ما حدث فيما هو في حكم التعذّر.

ثمّ إنّ مستند الفقهاء في اشتغال الذمّة إمّا أو بالمثل في المثلي والقيمي معاً، أو بالمثل في المثلي، والقيمة في القيمي هي إمّا الأدلّة المتقدمة من آيات وروايات وإجماع، وقد تبين بطلانها، وعدم معقولية اشتغال الذّمة بالعين التالفة، فينبغي انتقال الذمّة إلى شيء آخر، وهذا أيضاً قد تقدّم النقاش فيه؛ وذلك لأنّ الوجود الذميّ لا يقتضي الوجود الخارجي للمضمون، وإلاّ لما أمكن الالتزام باشتغال الذمّة بالقيمة، أو المثل إلاّ حيث يوجد في ما يملكه الضامن مثلٌ أو قيمةٌ للعين التالفة، ولا أحتمل أن يلتزم به أحد. فلم يبق دليل على انتقال الذمّة في العين التالفة إلى بدلها مثلاً، أو قيمة قبل التفريغ بدفع شيء منهما.

فاللازم الالتزام ببقاء العين التالفة في الذمّة إلى حين التفريغ.

ومعلوم أنّ مقتضى أدلّة الضمان لزوم المحافظة على العين المضمونة ذاتاً وصفة، وخصوصية، وكلّ ماله دخل في خلق الرغبة العقلائيّة على اقتنائه وتأثير في الماليّة فيقتضي لزوم دفع المثل حيث أمكن، سواء كان على الوجه الغالب، كما في المثليات، أم على وجه الندرة والصدفة، وذلك حيث ما وجد المثل لما هو قيمي حسب العادة، فإنّ في دفع المثل احتفاظاً لذات العين التالفة وصفاتها وخصوصياتها عدا الجوانب الشخصيّة التي ليس لها دخل في الماليّة والرغبة العقلائيّة على الاقتناء، ولأجل ذلك لا موجب لضمانها.

وإذا تعذّر إيصال تلك العين بالنحو المتقدّم – وذلك في القيميات عادة، وفي المثليات، حيث تعذّر المثل – ينبغي تعويض تلك الجهات الثلاث الذات والصفات والخصوصيات بالقيمة.

فينبغي الالتزام بدفع القيمة في القيميات عادةً، وفي المثليات حين تعذّر المثل، كما يلتزم بدفع المثل في المثليات مع تواجد المثل، وكذلك بدفع المثل في القيمي لو توفّر، إلاّ أنّه مجرّد فرض ثمّ إنّ الحديث: ((على اليد ما أخذت حتى تؤدّي))([355]).

على فرض تقدير الضمان، فهو شامل لردّ العين مع البقاء، والمثل أو القيمة مع التلف.

قال الشيخ جعفر كاشف الغطاء([356]): ((بأنّ المفهوم منها أنّ على صاحب اليد ضمان ما أخذت يده وأداء عينها، ومع تلفها أداء بدلها من المثل أو القيمة في المال المثلي أو المال القيمي، ويبقى مخاطباً بذلك حتى يؤدي ما أخذ)). كما أكّد السيّد الخوئي بأنّ حديث اليد متعرض لأداء البدل([357]).

اعتراض:

إنّ أداء المثل أو القيمة ليس أداء ما أخذت، بل أداء شيء آخر، فلا يكون حتى تؤدّي غايةً للضمان في صورة التلف أيضاً، فإنّ مقتضى تقدير المفعول أن يكون مفعول ((تؤدي)) أو نائب فاعله على تقدير كونه بصيغة المجهول ما يرجع إلى الموصول، أي ما أخذت، ومعنى أداء ما أخذت أداء عينه دون المثل أو القيمة, بل إطلاق الأداء على غير أداء العين غير صحيح، فلا يتحقّق أداؤه في صورة التلف أصلاً. وعلى هذا تكون الرواية لبيان حكم صورة بقاء العين، ولا يعلم منها حكم صورة التلف، فلا دلالة في الرواية على ثبوت ضمان المال المثلي بالمثل، والقيمي بالقيمة بعد تلف العين([358]).

الجواب:

ينبغي أن يعلم أنّ الاستيلاء على العين يقتضي ضمانها بمقتضى قوله: ((على اليد ما أخذت)) ذاتاً وصفةً وخصوصية, ومعلوم أنّ دفع المثل في المثلي، أو القيمة في القيمي أداء للعين، والصفة والخصوصية.

نعم, قد سقط الجانب الشخصي للعين التالفة، فلا يبقى دليل على ضمانها، فدفع القيمة إرجاع ماليّة العين، وماليّة صفاتها ومالية خصوصياتها، وفي صورة المثل يكون المثل هو الذي يتكفّل إعادة الذات والصفة والقيمة إلى صاحب العين.

فالقول ((على اليد)) يدلّ على كفاية المثل في المال المثلي، والقيمة في المال القيمي حين تفريغ الذمّة بدل العين بدلالة الاقتضاء.

القانون المدني:

إنّ القانون المدني العراقي أخذ بالمسلك المشهور للفقهاء وهو ضمان المال المثلي بالمثل، والمال القيمي بالقيمة، عند الكلام على المقبوض بالعقد الفاسد والقرض والغصب. وتلف الوديعة([359]).

ففي المادّة (960): ((الوديعة إذا لزم ضمانها، فإن كانت من المثليات تضمن بمثلها، وإن كانت من القيميات تضمن بقيمتها يوم لزوم الضمان))([360]).

وأكّدت محكمة التمييز في القرارات (265) و(1256) على ضمان المال المثلي بالمثل، والمال القيمي بالقيمة([361]).

كما أكّد شراح القانون المدني على ضمان المال المثلي بالمثل، والمال القيمي بالقيمة([362]).

قال ذنون([363]): ((إذا كانت العين قد هلكت أو استهلكت، فإنّها تكون مضمونة على الغاصب، فيكون ضامناً لقيمتها، إن كانت قيمية ولمثلها إن كانت مثلية)).

وقد استمدّ القانون المدني من مجلة الأحكام العدلية – للسيرة المشهورة – وهي ضمان المال المثلي بالمثل والمال القيمي بالقيمة. فقد ذكرته المجلّة في ضمان الوديعة وما يجب في الضمان, وهلاك المبيع عند المشتري في العقد الفاسد وبيع الغصب والسوم([364]).

فقد جاء فيما يجب في الضمان أنّ: ((الضمان هو إعطاء مثل الشيء إن كان من المثليات، وقيمته إن كان من القيميات))([365]).

ومن خلال المقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون المدني, نلاحظ أنّ القانون المدني أستمدّ هذا المسلك المشهور، وهو ضمان المال المثلي بالمثل والمال القيمي بالقيمة من الفقه الإسلامي الذي سبقه منذ زمن بعيد, وبالمقارنة بما هو المختار في المسألة بأنّ العين تبقى في ذمّة الضامن حتى بعد تلفها، ولكن تفريغ ذمّة الضامن بأداء في المال المثلي، والقيمة في المال القيمي.

 

الفصل الرابع

 تردّد المال بيـن المثليّة أو القيميّة

تمهيد:

وقع الخلاف بين الفقهاء في بعض المصاديق من حيث كونها أموالاً مثليّة، أو أموالاً قيميّة، فمثلاً يرى بعض الفقهاء أنّ اليابس من الزبيب والتمر مالان مثليّان، واختلف في الطري منهما، فعدّها بعض الفقهاء أموالاً مثليّة في حين عدّها الآخرون قيميّة.

وفي المبسوط والغنية والسرائر أنّ الحديد والنحاس والرصاص من الأموال القيميّة([366]).

وفي التحرير أنّ أصولها مثليّة إلاّ أنّ المصوغ منها أموال قيمية, وكذلك الذهب والفضّة، فإنّ أصولهما أموال مثليّة، ومصوغهما كالخاتم والسوار والخلخال أموال قيميّة, وكذلك الثوب المنسوج باليد، فإنّ مادّته الأوّليّة – كالقطن – مال مثلي، بينما منسوجها مال قيمي([367]).

وقد يقع الاختلاف في كون الشيء من مصاديق الأموال المثليّة أو الأموال القيميّة؛ لاختلاف مصداقه حسب الأزمنة. فقد يكون المال في زمن ما من الأموال القيمية ثم بعد مدّة من الزمان يصبح من الأموال المثلية، أو بالعكس، كبعض المنسوجات والمصنوعات، كالأقمشة بأنواعها، فبعد أن كانت من الأموال القيميّة أصبحت اليوم في عداد الأموال المثليّة؛ لأنّها تنسج اليوم بالمعامل على نمط واحد مماثل، فلا يوجد اختلاف فيها أصلاً، وبذلك تكون من مصاديق المال المثلي.

فهنالك موارد التي لم يتوضّح كونها أموالاً مثليّة أو أموالاً قيميّة كثيرة،  وكذلك ليس في أيدينا الأصل اللفظي في الموارد المشكوكة في اقتضائه كونها مالاً مثليّاً. أو مالاً قيميّاً.

ولعلّ الوجه في ذلك أنّ النصوص لم تبيّن هذه الجهة، بل إنّما تعرّضت لبيان أصل الضمان في موارد شتّى أو لم تتعرّض لكيفيّة الضمان إلاّ في موارد قليلة. فقد تقدّمت الإشارة في مقدّمة بحث الضمان إلى عنوان المثلي وعنوان القيمي بالمعنيين الاصطلاحيين لم يرد شيء منهما في نصّ لفظي كآية أو رواية، كما تقدّمت المناقشة في الاستدلال بالآيات أو الروايات المشتملة على كلمة ((المثل))، وأوضحت عدم تماميّة الاستدلال بها، فلا نملك أصلاً لفظيّاً يرجع إليه، ويتمسّك به في معرفة الحكم المشكوك فيه.

ويرى الشيخ الأنصاري أنّ المرجع في تحرير المشكوك من حيث كونه مثليّاً، أو قيميّاً هو العرف بقوله([368]): ((لا تكاد تظفر على مورد واحد من هذه الموارد على كثرتها قد نصّ المشهور فيه على ذكر المضمون به, بل كلّها إلاّ ما شذّ وندر وقد أطلق فيها الضمان. فلولا الاعتماد على ما هو المتعارف لم يحسن من الشارع إهماله في موارد البيان)).

ولكن لا يخفى ما فيه، فإنّ العرف ربّما يختلف، فلعلّ العرف في زمان يحكم بأنّ المال الفلاني قيمي، بينما يحكم في زمن لاحق بأنّه مثلي, كالأقمشة على ما تقدّمت الإشارة إليه، بل أنّ عرف منطقة ربّما يختلف عن عرف منطقة أخرى، وبذلك لا يكون العرف مرجعاً لحسم النزاع، فالمتنازعان الضامن والمالك، كلّ منهما يتمسّك بحكم العرف الذي يرتضيه، فالإحالة على العرف تشبه الحوالة على البريء الرافض لها.

فلا بدّ من الرجوع إلى الأصول العلميّة، فالأصل الذي يمكن التمسّك به في موارد الشكّ في مثليّة المال وقيمته هو الأصل العلمي، لا الأصل اللفظي.

ولذا صرّح جمع من المحقّقين بأنّه في موارد الشكّ في كون الشيء مالاً مثليّاً أو مالاً قيميّاً، لم يقم أصل لفظي على كون الشيء مالاً مثليّاً إلاّ ما خرج بالدليل، لا على كونه مالاً قيميّاً إلاّ ما خرج بالدليل.

فلا بدّ حينئذ من الرجوع إلى الأصول العلميّة والعمل بمقتضاها عند الشكّ، فهل مقتضاها عند الشكّ في كون الشيء مالاً مثليّاً أو مالاً قيميّاً هو الضمان بالمثل أو القيمة، أو تخيير الضامن بينهما، أو تخيير المالك، أو الرجوع إلى القرعة؟ وجوه وأقوال([369]).

 

المبحث الأوّل

القول بدفع المثل

الأصل في الوفاء والتعويض هو المثل، ويقتضيه إطلاق ما تقدّم من الأدلّة المشتملة على المثل عند الشكّ بين مثليّة المال أو قيميّته.

فقد ذكر الشيخ الأنصاري في مكاسبه أنّه موارد الشكّ بين كون التالف مالاً مثليّاً أو مالاً قيميّاً يدفع المثل؛ لعموم آية الاعتداء، والقاعدة المستفادة من الضمانات وهي دفع الأقرب فالأقرب([370]).

والأدلّة على ذلك:

1ـ أنّ فراغ الذمّة بأداء ما يحتمل تعيينه قطعي وبأداء غيره مشكوك فيه، فالأصل هو عدم سقوط ما في ذمّة الضامن إلاّ بأداء المثل؛ لأنّه إذا دار الأمر بين التعيين والتخيير وجب الأخذ بما احتمال تعيينه([371]).

أي إنّ المقام كان من قبيل دوران الأمر بين الأقلّ والاكثر على القول بالاحتياط فيه([372]), فالأمر فيه دائر بين التعيين وهو المثل والتخيير بينه وبين القيمة والمعروف بين المحقّقين في علم الأصول وجوب الاحتياط على بناء التعيين، فيتعيّن المثل؛ لأنّ سقوط الذمّة اليقينيّة بأداء المعيّن وهو المثل اليقيني، وبغيره مشكوك فيه والأصل عدم سقوط الذمّة إلاّ به([373]), إلاّ أنّ هذا القول ترد عليه الاعتراضات التالية:

الاعتراض الأوّل:

أنّ المقام من قبيل دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر على القول بالبراءة فيه؛ لأنّ ثبوت الماليّة فيها في ذمّة الضامن مقطوع، وثبوت تعيينها بالمماثلة من حيث الحقيقة والخصوصيات مشكوك فيه والأصل عدم التعيين, فيتعيّن دفع القيمة.

وبعبارة أخرى: أنّ القيمة أو الماليّة مقطوعة الثبوت في ذمّة الضامن، والخصوصيات والصفات الحقيقيّة المماثلة للمال المثلي مشكوكة التعيين في الذمّة. فالأصل عدم تعيينها في الذمّة على القول بالبراءة عند التردّد بين الأقلّ والأكثر، فيتعيّن دفع القيمة([374]).

ويلاحظ أنّ ما جاء في الاعتراض وإن كان قويّاً إلاّ أنّه يستند على القول بالبراءة مع دوران الأمر بين الأقلّ والاكثر، فالاعتراض يعتبر مبنائيّاً وهو لا يستحقّ أن يوسم بالاعتراض حسب ميزان العلم.

الاعتراض الثاني:

أنّ الجمع بين فرض دوران الأمر بين الأقّل والأكثر، وبين دوران الأمر بين التعيين والتخيير على معقوليّة التخيير بين الأقلّ والأكثر قد منعه المحقّقون في علم الأصول؛ لأنّه بعد تحقّق الأقلّ تحصل البراءة، فلا تصل النوبة إلى دعوى وجوب الزائد([375]).

فالجمع بين عنوان دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر من جهة، وعنوان دوران الأمر بين التعيين والتخيير لا يمكن المساعدة عليه.

الاعتراض الثالث:

ينبغي التأمّل في معنى المثل أو القيمة كي نعرف أنّهما ليسا من باب الأقلّ والأكثر، والوجه في ذلك أنّ المفروض أنّ القيمة بدل عن الذات([376]) والصفة([377]) والخصوصيات([378]) وماليّة الشيء إنّما تتقوّم بهذه الثلاث، فالقيمة لا تنقص عن المثل من حيث الماليّة في شيء, وإنّما الفرق بينهما أنّ القيمة ماليّة صرفة، والمثل ماليّة مع بعض المميّزات التي لا تقتضي زيادة في الماليّة على القيمة.

فإذن المثل، أو القيمة متساويان من حيث الماليّة ومختلفان من حيث الشكل والصورة، فهما متباينان، وليسا من باب الأقلّ والأكثر.

2ـ أنّ لكل عين خصوصيات ماليّة وصنفية وشخصيّة لأوصاف تخصّها عند العقلاء ورغبات المالكين, وأنّ العبرة في الضمان أداء العين بشخصها؛ لكونها في ذمّة الضامن، ومع تلف العين يبقى الاعتبار النوعي والصنفي محتفظاً به، ويسقط الاعتبار الشخصي فقط.

وإثبات الضمان بقاعدة اليد تكون العهدة مضمونة بالنسبة إلى سائر جهاته الموجودة وتحتفظ كذلك في الذمّة. فلا بدّ من دفع المثل؛ لأنّه الجامع لكافّة خصوصيات المضمون به ما عدا الشخصيّة.

فمقتضى الأصل في الضمان هو التعهّد لجميع الجهات قبل تلف العين, أمّا بعده، فالتعهّد محفوظ لما سوى العين؛ لعدم معقوليّة ذلك مع افتراض التلف([379]).

ويلاحظ أنّ ما جاء في هذا البيان وإنّ كان قويّاً إلاّ أنّه يفرض اشتغال ذمّة الضامن بالمثل من حيث تلف العين المضمونة, والأولى أن يقال: إنّ العين دخلت في ذمّة الضامن بذاتها وصفاتها وخصوصياتها المؤثّرة في الماليّة, والتي تبذل في مقابلتها المال، ويجب إرجاعها إلى المالك ضمن شخص العين ما أمكن، ومع التلف أو ما بحكمه امتنع إرجاعها في شخص العين، فوجب إرجاعها ضمن المثل, لكن دفع المثل ليس دفعاً للمضمون، بل هو دفع للمثل؛ لتفريغ الذمّة المشتغلة بالذات والصفة والخصوصية في العين المضمونة التالفة, فيتعيّن دفع المثل ما أمكن، وعدم اللجوء إلى القيمة عند تعذّر المثل.

قال صاحب العناوين([380]): ((ومع الشكّ في كونه من هذا أو من ذاك – أي الشكّ في كون المال مثليّاً أو قيميّاً – فلا ريب أنّ دفع مثله حينئذ أقرب من دفع قيمته، فليدفع ما هو مثله بحيث لا يكون تفاوت بينهما في الماليّة)).

 

المبحث الثاني

القول بدفع القيمة

تردّد العين التالفة المضمونة بين أنّها مال مثلي أو مال قيمي هو من موارد دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر وللضامن الاكتفاء بالأقلّ، ويدفع احتمال وجوب أداء الأكثر بأصل البراءة، فيحكم بدفع القيمة([381]).

وبيان ذلك أنّ الصفات الشخصيّة للعين لا تأثير لها في الماليّة، فلا تكون مورداً للضمان، أنّما الثابت في الذمّة هو ضمان الماليّة المشتركة بين جميع الأموال، سواء كانت تلك الأموال مثليّة أم كانت قيميّة؛ لأن الصفات الخارجة عنها ليست قابلة لتعلّق الضمان بها, كما في الخاتم التذكاري, ضرورة أنّ عنوان التذكاريّة لا صلة لها في ضمان الخاتم، فنفس طبيعة الماليّة محقّقة للضمان دون الحيثيّة الصنفيّة والنوعية؛ إذ لا رابط بينهما, فالمقام من قبيل دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر؛ لأنّ اشتغال الذمّة بالجهة المشتركة معلوم ((أي الماليّة))، واشتغالها بغير ذلك من الخصوصيات والصفات مشكوك فيه, والمرجع في أمثال هذا هو البراءة, فلا يجب على الضامن إلاّ اداء القيمة إلاّ إذا رضي بأداء المثل، فيكون الضامن مخيّراً بين أداء القيمة وأداء المثل([382]).

ويعترض عليه بما يلي:

أوّلاً: إنّما جاء في الدليل على إلغاء الجانب الصنفي للعين التالفة, أي الصفات المؤثّرة في رغبة العقلاء في اقتنائها، كإلغاء الخصوصيّة الشخصيّة للعين، وهذا هدم لقاعدة دفع المثل للمثلي؛ إذ قد تقدّم ابتناؤها على لزوم الاحتفاظ بالجانب المالي، والصفات المؤثّرة في الماليّة للعين، وعدم تضيّعها على المالك بالعدول عن المثل إلى القيمة، وإن كانت القيمة، عوضاً عن الماليّة والصفات للعين التالفة، فالدليل لا يتلاءم مع محلّ البحث، وهو تردّد المال بين المثليّة والقيميّة؛ لابتناء هذا البحث على دفع المثل في المثلي والقيمة في القيمي المبنيّ على لزوم الاحتفاظ بالجانب المالي وجانب الصفات المؤثّرة في رغبة العقلاء، وطرح الجانب الشخصي للعين غير المؤثّرة في الماليّة فقط. فمقتضى لزوم دفع المثل في المثلي الاحتفاظ بهذا الجـوانب التي يمكن أن نعبّر عنها بالجوانب المؤثّرة في الماليّة زائداً على نفس الماليّة.

فلو دار الأمر بين أنّ العين التالفة المضمونة مثليّة فالواجب الاحتفاظ على الماليّة والجوانب المؤثّرة فيها، أو قيميّة فلا يجب الاحتفاظ إلاّ على الماليّة وحدها، فيكون ذلك من دوران الأمر بين المتباينين، والمتّجه في مثله الاحتياط.

ثانياً: لو تنزّلت بأنّ المقام من دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، فيمكن أن ندّعي أنّه ليس من الأقلّ أو الأكثر الا الاستقلاليّين حيث يكون للأقلّ وجود مستقلّ بحده ضمن الأكثر كالدينار ضمن الدينارين – الذي هو مورد البراءة, بل هو من الأقلّ والأكثر الارتباطيّين حيث ليس للأقلّ وجود مستقلّ بحدة ضمن الأكثر، كركعتين ضمن أربع ركعات، فالركعتان المنفصلتان تمتازان عن الركعتين ضمن الاربعة، وما نحن فيه من هذا القبيل, فان المثل يحتوي على ماليّة التالف ضمن الاحتفاظ بالصفات والخصوصيات المؤثّرة في الماليّة، ومعلوم أنّ الماليّة المحاطة بتلك الجوانب تباين الماليّة غير المقيّدة بتلك الجوانب.

فالماليّة ليست من الأقلّ الذي له وجود بحده مستقلّاً عن الزائد، فإنّ الزائد – الصفات المؤثّرة في الماليّة – لا يمكن ضمانها وحدها.

فعليه إن كان لا بدّ من جعل المقام من الأقلّ أو الأكثر فهو من قسم الارتباطيّين وليس من قسم الاستقلاليّين. والرجوع فيه إلى البراءة عن الزائد غير مسلّم.

 

المبحث الثالث

القول بتخيير الضامن، أو المالك

والكلام يقتضي البحث في مطلبين:

المطلب الأوّل: القول بتخيير الضامن:

استدلّ القائلون بتخيير الضامن بجملة أدلّة منها:

1. أصالة براءة ذمّة الضامن عمّا زاد على ما يختاره من المثل أو القيمة؛ وذلك أنّ الضامن يعلم بشغل ذمّته للماليّة السارية في كلّ عين، لكّنه يشكّ في خصوصيّة المثل والقيمة زائداً على الماليّة، أي قيمة العين المضمونة من الدنانير أو الدراهم أو العملات الرائجة، فيجري البراءة عن كليهما.

وبما أنّ عدم إمكان أداء الماليّة بما هي والموافقة القطعيّة([383]). لا تحصل إلاّ بدفع كلا الأمرين من المثل أو القيمة كما أنّ الضرورة قائمة على عدم إلزام الضـامن إلاّ بأحدهما، فيتخير الضامن قهراً بين تعيّنها في ضمن المثل أو القيمة.

اعتراض:

إنّ المراد من القيمة ليس هو الماليّة السارية في كلّ مال بالحمل الشائع حتى يقال: إنّ وجوب أداء الماليّة متيقّن، والشكّ في وجوب الرعاية أمر زائد وهي الخصوصيّة الطبيعة للمماثلة للعين التالفة من المثل أو القيمة، فيجري عنها البراءة, بل المراد منها هي الماليّة المحضة التي لا مطابق لها إلاّ لماليّة القائمة بالدينار، والدرهم والعملات الورقية في أسواق العالم، وأشباهها مما يتمحّض في الماليّة، ولا شأن لها إلاّ حيثيّة الماليّة من دون خصوصيّة أخرى تتفاوت بها الرغبات.

ولو كان المراد بالقيمة هو الماليّة السارية لكان الضامن أن يؤدّي بدل المال القيمي التالف شيئاً آخر.

فتعيين النقود في الأموال القيميّة شاهد على أنّ القيمة هي الماليّة المحضة لا الماليّة الساريّة. فالمثل والقيمة متباينان والأصل فيهما الاحتياط دون التخيير([384]).

2. أنّ المال القيمي والمال المثلي من المتباينين. فالأصل هو تخيير الضامن؛ لأنّه يعلم إجمالاً باشتغال ذمّته بواحد من المثل والقيمة وقد قام الإجماع على عدم وجوب الموافقة القطعيّة في الماليات، فانتهى الأمر إلى الموافقة الاحتماليّة وهي تحصل بأداء كلّ ما اراده, واشتغال ذمّته بإحدى الخصوصيتين التي اختارهما المالك غير المعلوم فالأصل بالبراءة.

قال المحقّق النائيني([385]): ((المتعيّن هو الحكم بتخيير الضامن وإسقاط بقيّة الاحتمالات، أمّا تخيير الضامن، فلرجوع الأمر من المتباينين مع إمكان الاحتياط في الماليات، ولزوم الاكتفاء بالامتثال الاحتمالي بأداء كلّ واحد من المثل أو القيمة)).

ويمكن تقريب الاستدلال بوجه آخر هو أنّ تخيير الضامن متوقّف على دعوى الإجماع على عدم وجوب دفعهما معاً وعدم وجوب رفع المالك يده عنهما، فيكون دليلاً على عدم وجوب تحصيل البراءة اليقينيّة التي لا تحصل إلاّ بدفعهما معاً، وهو غير واجب أو بدفع يد المالك عنهما وهو أيضاً غير واجب؛ فاذا لم يجب تحصيل البراءة اليقينية؛ فلا محالة يتخيّر الضامن بين دفع المثل أو القيمة، فإذا شكّ في تعيين أحدهما بالخصوص بعد اختياره للآخر اختصّ بالبراءة؛ لأنّ المورد مورد شكّ.

وبعبارة أخرى: أنّ تعارض احتياط الضامن مع احتياط المالك يوجب عدم تمكّن المالك من أخذه ما يدفعه الضامن؛ لأنّ المالك مردّد بين استحقاقه للمثل أو القيمة، فحكمه حكم الضامن في الاحتياط, فيقع التعارض، فلا يتمكّن من أخذ أحد المعينين ولا كليهما، ولا أحدهما لا بعينه.

بديهة أن غير المعينّ أمر لا ثبوت له في الخارج، فلا يقبل الأخذ مثل ما كان في المعيّن الخارجي, فيتخيّر الضامن([386]).

الاعتراض الأوّل:

إنّ الإجماع على عدم وجوب دفعهما معاً ((القيمة والمثل)) مسلّم فيه؛ إذ لا يجب للعين التالفة إلاّ بدل واحد إجماعاً، إلاّ انه إجماع على الواقعيات، وأنّه لا يجب على الضامن إلاّ دفع أحدهما إمّا المثل أو القيمة، وهو غير مجد في المقام، والذي ينفع هو الإجماع على عدم وجوب الاحتياط؛ ليكون كاشفاً عن عدم لزوم تحصيل البراءة اليقينيّة، ولا إجماع على عدمه في الماليات، كما يشهد به سائر الموارد، كما إذا علم باشتغال ذمّته لأحد الشخصين، أو علم بأنّه استقرض شيئاً ولم يعلم أنّه حنطة أو شعير أو شكّ في أنّ الثمن في المعاملة كان درهماً أو ديناراً أو غير ذلك، فمقتضى القاعدة وجوب الاحتياط إذا لم يرض الطرف الآخر بأحدهما.

الاعتراض الثاني:

ما جاء في الدليل إنّما يتمّ لو قلت بأنّ الضامن ليس ملزماً بمقتضى أدلّة الضمان على الاحتفاظ بالذات والصفات والخصوصيات المؤثّرة في الماليّة على نحو ما تقدّم، وقد أوضحتُ أنّ تضيّع الصفات المؤثّرة في الماليّة ظلم وعدوان لا يصار إليه إلاّ إذا اضطرّ وهو في القيميات والمثليات مع تعذّر المثل, فتخيير الضامن إنّما يكون في تردّد المال بين المثليّة أو القيميّة، وهذا لا تصل النوبة إليه مع فرض اشتغال ذمة الضامن بالعين نفسها إلى حين التفريغ، أو إلى حين التلف – على اختلاف الرأيين اللذين تقدّم البحث عنهما – ولزوم تدارك الصفات المؤثّرة في الماليّة زائداً على الماليّة؛ إذ الواجب حينئذ إلزام الضامن بالمثل ما أمكن، فالمثل متعيّن حيث يمكن، فلا تصل النوبة إلى التغيير.

المطلب الثاني: القول بتخيير المالك:

الأدلّة على تخيير المالك بين المطالبة بالمثل أو القيمة:

1. أصالة عدم براءة ذمّة الضامن إلاّ بما يختاره المالك بتوضيح أنّ ذمّة الضامن مشغولة إمّا بالمثل أو بالقيمة, لا بما يختاره المالك؛ ليكون هو المتيقّن وغيره مشكوك فيه إلاّ أنّ ما يختاره المالك إمّا هو البدل الواقعي، فيكون مبرئاً قهراً لذمّة الضامن، أو هو بدل البدل لرضا المالك بغير الجنس في مقام الوفاء, فيكون مبرئاً أيضاً.

فما يختاره المالك ممّا يقطع بكونه مبرئاً للذمّة دون غيره؛ لأنّه مشكوك فيه، فالقول هو تخيير المالك، وعدم براءة ذمّة الضامن إلاّ بما يختاره المالك.

ورجح السيّد الميلاني هذا القول بقوله([387]): ((إنّه مهما دار الأمر بين كون التالف مثليّاً أو قيميّاً وجهل في أداء أيّ منهما، فالدوران هنا بين المتباين، ومقتضى أصالة الاشتغال إحراز البراءة، ولا يتحقّق إلاّ بإحضار الأمرين بين يدي المالك وتخليته، وبه يتحقّق القبض ويقطع بالبراءة)).

الاعتراض الأوّل:

إنّ محلّ الكلام هو ما إذا اشتغلت به ذمّة الضامن من المثل بالخصوص أو القيمة بخصوصها، ولم يرض الضامن إلاّ بدفع ما يجب عليه، ولم يرض المالك إلاّ بأخذ ما هو حقه.

وأمّا ما يرضى به المالك بدلاً عن البدل، فهو خارج عن محلّ الكلام؛ إذ قد تكون القيمة في المال المثلي مثلاً, وقد تكون شيئاً آخر غير المثل والقيمة ممّا لا ينضبط تحت ضابط. والواضح أنّ دفعهما معاً مستلزم لأداء ما في الذمّة سواء رضي المالك بأحدهما بالخصوص أم لا، فلا يتوقّف القطع بالبراءة بدفع ما يختاره المالك، ونسبة القول بالتخيير إلى كلّ من الضامن والمالك على حدّ سواء([388]).

الاعتراض الثاني:

قد تقدّم أنّ مقتضى أدلّة الضمان اشغال ذمّة الضامن بالجوانب المؤثّرة في الماليّة المفسّرة سابقاً. والمثل يحفظ تلك الجوانب ويعيدها إلى المالك، والقيمة بدل عن تلك الجوانب. فأوّل ما تشتغل به الذمّة هو المثل بخصوصه، ومع تعذّر المثل لكون الشيء قيميّاً أو مثليّاً تشتغل الذمّة بالقيمة، فهي إمّا بدل عن تلك الجوانب، أو بدل عن بدلها, فإذا شكّ في كون العين التالفة المضمونة مثليّة أو قيميّة، فحينئذ يتولّد علم إجمالي باشتغال ذمّة الضامن بأحدهما المعيّن واقعاً والمجهول ظاهراً، ومن الواضح إنّ إجبار المالك بأخذ القيمة مع استحقاقه المثل إجحاف بحقّه وكذلك على الضامن، إن اجبر على ذلك.

كما أنّ إلزام الضامن بتحصيل المثل، حيث كانت العين قيميّة ربّما يكون ظلماً عليه، وكذلك ظلماً على المالك، فصورة الجهل بالمثليّة والقيميّة للعين التالفة يقتضي العلم الإجمالي باشتغال ذمّة الضامن بأحدهما, ولا نعلم بماذا اشتغلت ذمّته؟ ورضا المالك لا يحدّد ما اشتغلت به ذمّه الضامن, فحديث إحراز رضا المالك أجنبي عن باب الضمان.

2. لو فرض قيام الدليل على عدم جواز إجراء الضامن من أصل البراءة عن خصوص ما لا يختاره المالك، لم يتعين الواجب عليه من المثل أو القيمة، كأن أختار القيمة مثلاً، فلا يجري أصل البراءة عمّا زاد عليها من خصوصيات المثل, فيكون ارتفاع الضمان بما لا يرضى به المالك مشكوكاً فيه, فيرجع إلى قاعدة الاشتغال؛ لأنّ المقام من دوران الأمر بين المثل والقيمة المتباينين، نظير ما لو علم في ذمّته ديناً وشكّ في كونه لأحمد أو حسين؛ فإنّ الواجب عليه أداء الدين لكلّ منهما؛ تحصيلاً للعلم بفراغ الذمّة.

ومقتضى أصالة اشتغال ذمّة الضامن، وتحصيل الموافقة القطعيّة على الضامن بدفع كلا الأمرين، وحديث نفي الضرر يعيّن ما يرضى به المالك، فيكون حاصله تخيير المالك([389]).

اعتراض:

إنّ جريان أصالة الاشتغال([390])، وأصالة عدم براءة ذمّة الضامن بدفع ما لا يرضى به المالك المقتضي لتخييره, موقوف على عدم جواز إجراء الأصل الحاكم عليهما وهو أصل البراءة عمّا لا يختاره الضامن.

أمّا جريان أصل البراءة لوجود المقتضي وعدم المانع, فيتعيّن وجوباً على الضامن، فيرتفع الاشتغال, ولا يبقى مجال لكون المالك مخيّراً بين مطالبة المثل ومطالبة القيمة, فجريان أصل البراءة في المقام لوجود المقتضي وهو الشكّ واضح، وأنّ إجراء أصل البراءة على كلّ صورة هي وظيفة الضامن؛ لأنّه المكلف بتفريغ ذمّته عما اشتغلت به.

وأمّا عدم المانع فلأنّ ما يمكن أن يكون مانعاً هو عدم رضا المالك بما يدفع الضامن، ولكنّه إمّا أن لا يكون معتبراً؛ إذ ليس له إلاّ قبول ما يجب دفعه إليه شرعاً ولو بالأصل، أو يكون مشكوك الاعتبار, فيدفع بالأصل([391]).

الاعتراض الثاني:

ينبغي أن يعلم أنّ باب الضمانات من باب الحقوق حيث تتصادم الحقوق بعضها مع البعض، وفي مثله لا يوجد قدر متيقّن بأن تعلم أنّ المقدار الفلاني هو المتيقّن، وما زاد على ذلك هو المشكوك فيه.

ومن هنا لا يمكن القول بأنّ الرأي الفلاني مطابق للاحتياط دون الآخر؛ لأنّ الأمر في الحقوق الماليّة المتصادمة يدور دائماً بين محذورين، كما في المقام حيث قد أشرت في المقام قريباً إلى أنّ المقام يقتضي العلم الإجمالي بأنّ حقّ المالك منحصر في المثل أو القيمة، وعلى الأوّل, فإنّ إلزام المالك بقبول القيمة أو إلزام الضامن بالقيمة, ظلم، كما أنّ ألزام الضامن بالمثل في الثاني يكون ظلماً عليه، كما يكون ذلك للمالك فليس القول باشتغال الذمّة في المثل أو القيمة مطابقة الاحتياط، ولا هو القدر المتيقّن لدوران الأمر بين المتباينين.

فحديث براءة ذمّة الضامن بدفع أحدهما المرضي للمالك غريب؛ لأنّه ليس المقصود فعلاً مجرّد تفريغ ذمّة الضامن، بل المقصود إقامة العدل الإلهي بإلزام الضامن أداء حقّ المالك, ومنع المالك عن إجبار الضامن بدفع ما لا يستحقّه عليه.

 

المبحث الرابع

القول بحكم القرعة

إنّ دوران الأمر بين المثل والقيمة والشكّ بينهما والمكلّف به مشتبه هو من موارد القرعة؛ لأنّها مرجع في كلّ أمر مشكل، كما ورد هذا المضمون نفسه في نصوص كثيرة([392]).

فالمضمون المشتبه في المقام بين المثل أو القيمة المتعيّن هو القرعة؛ وذلك لأنّ الضامن يتردّد في أن فراغ ذمّته يكون بأيّ منهما، وبديهي أيضاً عدم علم المالك بأحدهما كذلك, فلا يتمكّن من أخذ أحدهما المعيّن لوضوح أنّه مالك لأحدهما غير المعيّن، ولا وجود لغير المعيّن في الخارج؛ لعدم تشخّصه لكي يؤخذ به، فيقرع لأجل أنّ هنا علماً إجماليّاً بين ملكه ومالك الضامن، فهما مشتركان.

الاعتراضات:

1. أنّ مورد القرعة هو الشبهات الموضوعيّة المحضة لا الشبهات المفهوميّة، وكذلك الموضوعيّة التي منشأها الشبهة الحكمية([393]).

الجواب:

أنّه ربّما يكون التردّد بين المثل والقيمة السوقيّة من جهة عدم تعيّن العين التالفة، فيعلم الضامن مع الشكّ فيهما، كالحنطة مثلاً أو الحيوان، وبديهي أنّه من الشبهات الموضوعيّة المحضة، فلا إجمال في المقام من ناحيتيهما لكي يقال بمفهوميّة الشبهة، وإنّما الإجمال هو عدم العلم بأنّ العرف ماذا يعني من الضمان، وأنّه يثبت في ضمن القيمة أم المثل، مع ما مرّ من استظهارهم  تارةً الضمان بالمثل، وأخرى بالقيمة, فالمقام ليس من قبيل ما إذا ورد لفظ شرعي وتردّد في مفهومه.

وفيه بأنّ الإيمان بما أفاد هذا الجواب يخصّص القرعة ببعض موارد الاشتباه في اشتغال الذمّة بالقيمة أو المثل، فيكون الدليل أخصّ من المدّعى.

 2. وهن أخبار القرعة بكثرة التخصيص، فتسقط عن الكاشفيّة والطريقيّة بالنسبة إلى المراد، وعليه, فلا يعتمد عليها في المقام.

3. أنّ القرعة موردها ما لا تتمكّن من إعمال حيلة لحلّ المشكل، والأخبار بكافّتها ناطقة به، وهذا هو معنى قول الفقهاء: إنّها لكلّ أمر مجهول أو مشتبه أو مشكل.

وأمّا في المقام، فالحيلة متعيّنة بتمكن الضامن من تخيير المالك بعد إحضار المثل، والقيمة عنده.

وفيه ان كان المقصود من الحيلة المتوفّرة في المقام هو أيّ طريق يؤدّي إلى رضا المالك أو إلى اليقين ببراءة ذمّة الضامن، فما أكثر الطرق التي تحقّق أماني ومطالب المالك مهما كثرت وطالت.

ومعلوم أنّ مثل هذه الحيلة لا يعتنى بها؛ لمنع اللجوء إلى القرعة، وإلاّ لما بقي مورد للقرعة، فما من مورد من موارد القرعة إلاّ وفيه حل للمشكلة، ولو بالإجحاف على أحد الأطراف.

وإن كان المقصود بالحيلة هو الطريق الذي يحفظ حقوق الأطراف كافّة، فليس في المقام مثل تلك الحيلة حسب الفرض حيث إنّ المفروض تردّد حقّ المالك بين المثل أو القيمة.

4. أنّ القرعة تكون في المشتبهات غير المعلومة عناوينها بوجه، كما في قطيع الغنم وتعيين الموطوء فيها، وأمّا تعيين المضمون به لأجل فراغ ذمّة الضامن، فلا صلة له بذلك؛ إذ ليس العنوان فيه مجهولاً في التمام.

وفيه أنّه مبني على أنّ القرعة في المجهول أو المشتبه وهو غير سليم، فإنّ موردها كما يستفاد من النصوص وموارد استخدامها هو المشتبه، وليس المجهول بالمعنى اللغوي، وإن كان لا بدّ من التعبير بالمجهول, فالمراد به جهالة العنوان الواقعي، كالمثل، أو القيمة، فلا شكّ في أنّا نجهل ما يستحقّه المالك على الضامن بالتعيين والتفصيل, وهذا الجهل موجود في جميع موارد القرعة.

والتحقيق عدم إمكان اللجوء إلى القرعة؛ إذ قد أشرت، وسوف نبيّن في الرأي الراجح أنّ ما يجب على الضامن هو خصوص المثل، ومع فقد المثل يدفع القيمة فلا تصل النوبة إلى القرعة.

 

المبحث الخامس

القول بالصلح القهري

إن تخاصم المالك والضامن عند الشكّ في كون المال مثليّاً أو قيميّاً ومَنعَ كلّ منهما صاحبَه عن التصرّف في ماله مع العلم بأن كلا الأمرين لهما، لا على التعيين، فالمرجح لا محالة للحاكم لرفع الخصومة وحسم النزاع، فيلزمهما الحاكم بالصلح([394]).

اعتراض:

من المعاملات الاختياريّة والعقود القصدية، سواء كان استقلاله عن سائر المعاملات، أو بالتحاقه بالمعاملات التي تعطي فائدتها ولا يمكن الإلزام عليه إلاّ حيث تستنفذ الطرق الكاشفة عن الواقع والمعتمدة في باب القضاء.

وحيث عرف إمكان الوصول إلى الواقع وإلزام الخصوم به، فلا تصل النوبة إلى الصلح القهري.

مضافاً إلى أنّنا لا نعرف معنى معقولاً للصلح الإلزامي؛ فإنّه من المعاملات التي تتبع المقصود، ومع الإكراه والإلزام من الحاكم وفقدان القصد – الركن الركين – للمعاملة كيف يتحقّق الصلح؟ وما لم يتحقق لا يشمله عموم إمضاء المعاملات؛ إذ مع فقدان القصد لا معاملة أصلاً.

ومحاولة إصلاحه – الاعتراض – بإرجاع الصلح إلى الحاكم، يتولّى انتزاع الحق من الضامن ودفعه إلى المالك فاشلة، فإنّه يعني إنّ الحاكم يعلم بما هو حقّ للمالك، وهو خلف الغرض.

فليس للصلح القهري معنى متعقّل، كما أنّ إرجاع الصلح إلى الحكومة بأن يكون الحاكم هو المرجّح ليس مما ينبغي؛ فإنّ رأي الحاكم يتبع في موارد محدّدة مثل الجنايات ونحوها، أمّا في الحقوق الماليّة، فلم يثبت ذلك.

 

المبحث السادس

القول بالتصنيف

إنّ المقام بما فيه تردّد بين المثل والقيمة, فيحكم بالتنصيف كما في مسألة الودعي إذا أودع عنده شخصان مثلاً أحدهما دينارين والآخر دينار وتلف دينار ممّا عنده، ولم يعلم أنّه من مال أيّ منهما، مع أنّ كلاً منهما يدّعي كونه مال الآخر، فينصّف الودعي بينهما والأمر بيده، والمقام من هذا القبيل([395]).

اعتراض:

إنّ سبب التنصيف في مسألة الودعي تفترق عن المقام براهة أنّ الموجب فيها، إمّا الامتزاج، ولأجله صار مشاعاً بينهما، فقاعدة الامتزاج تقتضي التنصيف ولا بأس به، وإمّا إذا أسند السبب بأنّ مقتضى العدالة في الحكم لكي لا يحرم الآخر من حقّه ولا يستقيم ذلك؛ إذ من المحتمل حرمان المالك الواقعي عن حقّه وقتئذ. وما نحن فيه لا موجب له؛ للحرمان الواقعي الناشئ عن مقتضى العدالة. فلا معنى للحكم في أمثال المورد بالتنصيف؛ إذ لا امتزاج كما في السبب الأوّل، ولا حرمان كما في السبب الثاني الداعي للتنصيف.

الرأي الراجح:

أنّ مقتضى القاعدة اشتغال الذمّة بالعين نفسها من حين الضمان إلى حين تفريغ الذمّة عنها، وأنّ التالف لا يمنع ثبوت العين في الذمّة؛ إذ الوجود الذمّي ليس مرتبطاً بالوجود الخارجي، وإلاّ لامتنع اشتغال الذمّة بالمثل حيث لا مثل في يد الضامن، وكذلك امتنع اشتغال الذمة بالقيمة حيث لم يكن مالكاً لها.

وقد أوضحت أنّ مقتضى ثبوت العين نفسها في الذمّة لزوم إرجاعها بما لها من الصفات والخصوصيات الدخيلة في الماليّة، وفي خل الرغبة العقلائيّة في اقتنائها ولا يكون ذلك إلاّ بدفع المثل.

وقد أوضحت أنّ القيمة لا تمثّل العين والصفات والخصوصيات، وإنّما هي بدل منها, ولا يصار إلى البدل مع إمكان المبدل منه.

فالقاعدة إرجاع العين ما أمكن، ومع التعذّر دفع مثلها، ومع تعذّر المثل تدفع القيمة.

 

        

الباب الثاني

أحكام المال المثلي والمال القيمي

الفصل الأول

حكم تعذر المثل

الفصل الثاني

سقوط ونقصان وزيادة قيمة المثل

الفصل الثالث

العوامل المؤثرة في تحديد قيمة القيمي

الفصل الرابع

تحديد حق المالك باختلاف الأمكنة

الفصل الخامس

اختلاط وانقلاب المال المثلي والقيمي

                 

الفصل الأوّل

حكم تعذّر المثل

كان الكلام في الباب الأوّل فيما إذا كان للمثل وجود خارجي يتمكّن الضامن من تحصيله.

أمّا في هذا الفصل، فيقع الكلام فيما لو تعذّر المثل، فماذا يجب على الضامن؟

 

المبحث الأوّل

المراد بالتعذّر والفقدان

إنّ تعذّر الشيء يكون تارة ابتداءً ولا يرجى حصوله أصلاً، فينقلب قيميّاً حكماً وتجب فيه القيمة وهي قيمة المال المثلي، وأخرى يكون التعذّر طارئاً وهو إمّا قبل التلف وإمّا بعد التلف، وينقسم بحسب الزمان والمكان.

المطلب الأوّل: التعذّر الطارئ حسب الأمكنة:

وهو ما يتعذّر وجود الشيء في مكان مع وجوده في مكان آخر، فوقع الاختلاف بين الفقهاء في تحديد المراد من منطقة التعذّر والفقدان؛ وذلك لعدم وجود دليل شرعي خاصّ يحدّد المعنى.

أوّلاً: تحديد منطقة الفقدان والتعذّر بالسوق:

ورد عن أكثر فقهاء الحنفيّة في تحديد معنى الفقدان والتعذّر بتحديد منطقة الفقدان والتعذّر بالسوق.

ذكر أبو بكر الثلجي والكرماني أنّ حدّ الانقطاع: ((هو أن لا يوجد في السوق الذي يباع فيه وإن كان يوجد في البيوت)).

وأوضح قاضي زاده أنّ سبب جعل السوق منطقة تحديد وجود المثل وفقدانه؛ لأنّ معيار تقويم المقوَّمين هو السوق التي تباع فيه الأشياء، وفي غير ذلك لا يتيسّر التقويم العادل([396]).

ويرد على ما أوضح قاضي زاده أنّ التقويم ليس منحصراً في السوق، إنّما السوق مكان معرفة القيمة وتواجد المقوّمين غالباً، فربط الانتقال من المثل إلى القيمة بفقدان المثل في السوق لا مسوَّغ له.

وقد أخذ فقهاء القانون المدني العراقي بهذا الرأي في تحديد منطقة انقطاع المثل بسوق البلد فقط وإن كان موجوداً في البيوت.

فقد جاء في كتاب الحقوق العينية الأصلية عند الكلام على ضمان المال المثلي المتعذّر بقيمته بأنّه: ((عند انقطاع المثل في أسواق التجارة وإن كان موجوداً في البيوت فإنّه يضمن بقيمته))([397]).

وقد وسّع الطحاوي، والقهستاني دائرة حدّ الانقطاع بأن لا يوجد المثل في السوق أو البيوت، أي لا يوجد أصلاً([398]).

ثانياً: تحديد منطقة التعذّر والفقدان بالبلد:

وسّع فقهاء الشافعية والحنابلة والإماميّة منطقة فقدان المثل بأن لا يوجد في البلد وما حواليه. والمراد بالبلد بلد القبض والضمان([399]).

قال الرافعي من فقهاء الشافعيّة: إنّ المراد من الفقدان([400]): ((أن لا يوجد في البلد، وما حواليه على ما تبيّن في انقطاع المسلم فيه)).

وقسم البجيرمي الفقدان إلى حسّي وشرعي، وأوضح أنّ المراد من الفقدان الحسّي هو أن لا يوجد في مكان الضمان أو العهدة ولا حواليه.

وقد حدّد شوبري كلمة ((حواليه)) بمسافة القصر.

أما في شرح روضة الطالبين فدون مسافة القصر([401]).

والمراد بالفقدان الشرعي وجوده بأكثر من ثمنه مثله بكثير.

جاء في حواشي الشيرواني وابن قاسم العبادي ما نصّه: ((فإن تعذّر المثل حسّاً، كأن لم يوجد بمحلّ الغصب ولا بدون مسافة القصر منه، نظير ما مرّ في السلم أو شرعاً كأن لم يوجد المثل فيما ذكر إلاّ بأكثر من ثمن المثل فالقيمة هي الواجبة؛ لأنّه الآن كما لا مثل له))([402]).

وذكر العنقري من فقهاء الحنابلة أنّ المراد من تعذّر المثل وإعوازه، هو أن لا يوجد في بلد أو حوله؛ لعدم أو بعد أو غلاء([403]).

أمّا فقهاء الإماميّة، فقد جاء في كتاب تذكرة الفقهاء بأنّ المراد بالفقدان ((أن لا يوجد في ذلك البلد وما حواليه))([404]).

وزاد في تعريف الفقدان صاحب مسالك الأفهام بــ((أن لا يوجد في ذلك البلد وما حواليه ممّا ينتقل منه إليه عادة، كما بيّن في انقطاع المسلم فيه))([405]).

واستظهر المحقّق الكركي في جامع المقاصد أنّ المرجع في تحديد ما حواليه إلى العرف([406]).

وفي مسالك الأفهام: ((هو ما ينتقل من حوالي البلد إلى البلد))([407]).

وأكّد السيد السبزواري مفهوم التعذّر بقوله([408]): ((يكفي في التعذّر الذي يجب معه دفع القيمة فقدانه في البلد وما حوله ممّا ينتقل إليه عادة؛ لأن التعذّر إمّا دقّي عقلي، أو تعبّدي شرعي، أو أمر عرفي، والأوّل ليس مناط الأحكام، والثاني لا وجود له في نظائر المقام، فالمتعيّن هو الأخير. نعم العادة تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشياء في كلّ زمان ومكان شيء له حكمه الخاصّ به بحسب المتعارف فيها)).

وأوضح الفقهاء الانقطاع في باب السلم، وقاسوا تعذّر المثل بانقطاع المسلم فيه، وذلك بأن لا يوجد المسلم فيه بالبلد بعد أن كان موجوداً، أو كان موجوداً في غير تلك البلدة ولم ينتقل إليها, أو وجد عند قوم امتنعوا عن بيعه.

أمّا إذا كانوا يبيعونه بثمن غالٍ فليس انقطاعاً ووجب تحصيله ما لم يتضرّر المشتري به كثيراً, وكذلك إذا أمكن نقل المسلم فيه من غير تلك البلدة إليها، وجب نقله مع عدم التضرّر. أمّا النقل عن البلاد النائية التي لم يعهد نقل المسلم فيه منها, فلا ينفكّ في نفسه ضرر ومشقّة([409]).

جاء في البناية: ((أنّه لو انقطع في اقليم دون آخر لا يصحّ – عقد السلم – في الاقليم الذي لا يوجد فيه؛ لأنّه لا يمكن إحضاره إلاّ بمشقّة عظيمة حتى لو أسلم في الرطب ببخاري لا يجوز، وإن كان يوجد بسجتتان))([410]).

الاعتراض الأوّل:

إنّ قياس تعذّر المثل على تعذّر المسلم فيه باطل، وذلك للفارق الموجود، فإنّ الضمان في السلم اختياري ثابت بالعقد، وإن كان لا يبعد انصراف عقد السلم إلى وجود المبيع المسلم فيه الثابت في الذمّة في بلد المعاملة وما حوله؛ لجملة من الروايات: منها: ما روي عن سليمان بن خالد, قال: ((سألت أبا عبد الله الصادق عليه السلام عن الرجل يسلم في الزرع، فيأخذ بعض طعامه ويبقى بعض لا يجد وفاءه، فيعرض عليه رأس ماله. قال يأخذه، فانه حلال))([411]).

وما روي عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام في رجل يسلّم دراهم في الطعام إلى أجل، فيحلّ الطعام, فيقول: ليس عندي طعام ولكن أنظر ما قيمته، فخذ منّي ثمنه, قال: لا بأس بذلك))([412]).

إنّ ما أخذ في الروايتين عنوانا (لا يجد وفاءه أو ليس عندي) – عند البائع – ليس المقصود من الفقدان، وعدم وجدانه في جميع الأمكنة، بل صدق هذين العنوانين عرفاً، ومن الواضح عدم الوجدان بفقدان البضاعة – المسلم فيه – في البلدة وما حولها من المناطق التي تعارف نقل البضائع منها اليها؛ لأنّ العبرة في عقد السلم بوجود المبيع في بلد المعاملة وما حوله.

بينما يمكن أن يكون تعريف انقطاع، أو تعذّر المثل ناظراً إلى محطّ نظر العرف والعقلاء في باب الغرامة وهو وجوب تحصيل المثل وجلبه حتى من البلاد النائية؛ اذ ليس مقام الغرامة من المعاملات التي يقتضي الحال والتباني انصرافها إلى اعتبار المحلّ.

فلو اتّفق نقل المثل من البلاد النائية لشدّة الحاجة النوعيّة والصنفيّة إلى المثل، ودخل في زيادة سعر المثل الكلي وجب دفعه ولم يكن ذلك من الإعواز. فلا يمكن قياس تعذّر المثل وانقطاعه بتعذّر المسلم فيه في عقد السلم.

الاعتراض الثاني:

ليس في الأدلّة ما يدلّ على تعذّر المثل وانقطاعه يحدّد بالبلد وما حوله حتى يرجع إليها، بل مقتضى تكليف الضامن وجوب تسليم المال المضمون وإن استلزم ردّه حصول ضرر كبير، واحتاج إلى مؤنة بالغة كثيرة حتى لو كان أكثر من قيمة المال المضمون أضعافاً مضاعفة؛ وذلك أدلّة:

منها ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((على اليد ما أخذت حتى تؤدي))([413]).

وما روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: ((أنّه ليس لعرق ظالم حق))([414]). وفي خصوص الغصب ما روي عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام: ((إنّ الغصب كلّه مردود))([415]). وأنّ قاعدة ((لا ضرر ولا ضرار)) وإن كانت جارية في حقّ الضامن غير الغاصب بالنسبة إلى المؤون في المال المضمون إلاّ أنّها غير جارية في حق الغاصب؛ لورودها مورد الامتنان الذي لا يستحقّه الغاصب؛ لتمرده على الشريعة([416]).

فليس للغاضب دفع ضرر المؤمن عن نفسه بإدخال الضرر على المالك بحبس ماله وحقّه؛ لتنافي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إنّ الناس مسلّطون على أموالهم))([417]).

وربّما يؤيّد ذلك ما ذكر في تحرير الأحكام: ((ولو وجد المثل بأكثر من ثمن المثل، فالوجه وجوب الشراء))([418]).

ومعلوم أنّ هذه الأدلّة لا تختصّ بالغاصب مع بقاء العين، بل تعمّ الغاصب وغيره في بقاء العين وتلفها؛ لأنّ جلّها أو كلّها جارية في صورة تلف المال المضمون والبدل, وأنّ حال البدل كحال المبدل منه، فلازم هذه الأدلّة وجوب تحصيل المثل وإيصاله إلى المالك، حتى لو كان في البلاد النائية، وكانت المؤنة كثيرة؛ لقاعدة البدليّة.

الجواب:

الأدلّة على عدم وجوب تحصيل المثل من البلاد النائية أو تحصيله بالمشقّة والضرر هي:

1. قوله تعالى: [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]([419]).

ظاهر الآية الكريمة المنع من الزيادة في الاعتداء وعلى الترخيص في المقدار المساوي. فلو ألزم المالكُ الضامن بتحصيل المثل من أيّ مكان كان، ولو كان بعيداً غاية البعد، لكان متعدّياً عليه أزيد من اعتدائه عليه.

2. ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار))([420]).

وتقريبه: أنّ إلزام الضامن بتحصيل المثل من الأمكنة البعيدة ضرر وهو منفي بــ((لا ضرر ولا ضرار)), لا ينتقض الحديث بما إذا كان المال المضمون موجوداً حيث حكم الفقهاء بوجوب ردّه وإن كان يستلزم الضرر الكبير.

3. أنّ قاعدة العسر والحرج الثابتة بالآيات الكريمة والروايات الكثيرة, مانعة من إلزام الضامن على نقل المثل من البلدان البعيدة وتحمل المشقة, وأنّ العسر والحرج الغالب بوجب رفع التكليف بالمرّة([421]).

4. أنّ المال المضمون بعدما أُتِلف اشتغلت ذمّة الضامن ببدله وهو المثل على القول بثبوته في الذمّة وحال هذا المال المستقرّ في الحال بدلاً عن المال المضمون كحال سائر الديون, بل هل منها، ولا خصوصية للمثل تخرجه عن الديون والمستفاد من الأدلّة وكلمات الفقهاء عدم التضييق على المدين وعدم الإضرار به.

وربّما يؤيد على أصل التأدية على نحو المتعارف من التأدية بملاحظة حال المدين وزمانه من غير فرق بين كون دينه حاصلاً عن سبب محلّل أو محرّم([422]).

ويدلّ على ذلك بعض الروايات منها:

منها: ما ورد في مستثنيات الدين فيما رواه الحلبي عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: ((لاتباع الدار ولا الجارية في الدين، وذلك أنّه لا بدّ للرجل من ظلّ يسكنه، وخادم يخدمه))([423]).

وما رواه عثمان عن ابن زياد, قال: قلت لأبي عبد الله الصادق عليه السلام ((أنّ لي على رجل ديناراً وقد أراد أن يبيع داره فيقتضي، فقال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: أعيذك بالله أن تخرجه من ظلّ رأسه))([424]).

وفحوى هاتين الروايتين أنّ الشارع لا يرضى بالتضييق على المدين. وهاتان الروايتان على إطلاقهما من دون تفصيل بين من كان دينه مسبّباً عن سبب محلّل أو محرّم, فالدين المسبّب من الإتلاف والغصب وغيرهما من الأسباب المحرّمة حكمه من حيث الضيق والتوسعة، حكم ما حصل بسبب الإرث والقرض والبيع ونحوهما من الأمور الجائزة, فلا موجب لتحصيل المثل من البلاد البعيدة وبالمؤنة الكبيرة.

5. أنّ قاعدة البدليّة تثبت الأحكام الثابتة للمبدل إلى البدل فيما إذا سرت إلى البدل من جهة البدل. أمّا ما ثبت له من جهة ليس البدل بدلاً منه من تلك الجهة لا تسري إلى البدل، ضرورة وضوح قصور ما دلّ على تلك القاعدة من النقل والعقل على الاشتراك إلا في الجهات التي صار البدل بدلاً منها في تلك الجهات, فوجوب ردّ المال المضمون على أيّ حال حكم ثبت له باعتبار كونه عين مال الغير.

والمثل إنّما يحكم ببدليّته من حيث الماليّة، لا من حيثيّات أخرى, فجميع الأحكام الثابتة للمضمون من حيث كونه مالاً تسري إلى المثل؛ للقاعدة المزبورة دون الأحكام الثابتة الأخرى للعين المضمونة من حيث الخصوصيّة العينيّة, فليس قاعدة البدليّة شاملة للحيثيّات الأخرى الزائدة على العين، وهي كونها عين ماله الموجود بالفعل على نحو البدليّة, فوجوب ردّ العين المضمونة، حتى ولو كان بأشقّ الأحوال للخصوصيّة العينيّة. ولا توجد هذه الحيثيّة في المثل، فلا تسري قاعدة البدلية من هذه الجهة.

ثمّ إنّ حبس الدين ليس إنشاء ضرر على صاحبه كحبس العين؛ لأنّه تصرف جديد في كلّ آن من مال الغير, فيكون كابتداء الغصب في كونه إنشاء للضرر على المالك، بخلاف حبس الدين: فإنّه ليس تصرّفاً في مال الغير، وإنّما هو امتناع عن رفع ضرر الغير, بخلاف فالضرر الذي علاجه حبس العين ضرر متوجه إلى الضامن ابتداء يريد رفعه بإنشاء ضرر على الغير وهو غير جائز، بخلاف الضرر الذي علاجه حبس الدين؛ فإنّه تضرّر برفع الضرر عن الغير، فيتعارض الضرران ويتساقطان.

وبعبارة أوضح: أنّ الفرق بين ملكيّة العين وملكيّة الدين، وهو المثل وإن اشتركا في الآثار الشرعيّة والعرفيّة، إلا أنّ ملكيّة العين. زيادة على استتباعها لتلك الآثار اختصاصها الموجود بالفعل في الاعيان الخارجيّة، ومن خاصيّتها صدق إنشاء الضرر على رفع ذلك الاختصاص الموجود ابتداء واستدامة، بخلاف ملكيّة الدين وهو المثل؛ فأنّه مع قطع النظر عن الآثار المترتّبة عليه، ليس له اختصاص وهو ثابت بالقوّة. والدين أمر وهمي حقيقة وعدم دفع مثل هذا الأمر الوهمي لا يعدّ ضرراً عرفاً، بل يعدّ من الامتناع عن علاج ضرر الغير، وهذا يرجع إلى منع شمول قاعدة البدليّة لمثل المقام([425]).

لا دليل في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((على اليد ما أخذت حتى تؤدّي))([426]) على وجوب الخروج عن العهدة والضمان بأداء المثل بتحصيله من البلاد النائية، ولو أدّى ذلك إلى المشقّة والضرر, وأنّ عمدة ما يدلّ الحديث فهو على الضمان والعهدة.

أمّا دلالة الحديث على كيفيّة الخروج عن الضمان والعهدة, فساكتة عن كيفيّة ذلك، وإنّما هو أمر موكول إلى أنظار العرف والعادة.

المطلب الثاني: التعذّر حسب الزمان:

ذهب بعض فقهاء الحنفيّة إلى تحديد الانقطاع على أساس وجود الشيء في زمن وانقطاعه في زمن آخر، كبعض الصيفيات التي يتعذّر وجودها بالشتاء وبالعكس.

فعند أبي سعود حدّ الانقطاع: ((هو عبارة عن أن يكون الشيء موجوداً في موسم خاصّ، ويمرّ ذلك الموسم كموسم البلح))([427]).

وضرب مثلاً: لو غصب أحداً من أخر عنباً أي عنباً زينبيّاً في الشهر الثامن، وخاصمه المغصوب منه في الشهر العاشر، فإذا لم يوجد عنباً زينبي في ذلك الشهر في السوق عدّ منقطعاً.

وأعتبر الإتقاني والاترازي القول الصحيح بأن يكون الشيء بحيث يوجد في زمان خاصّ، فمضى زمانه كالرطب([428]).

والذي ينبغي أن يقال: إنّه إذا تعذّر المثل في زمان مثل الأجناس الفصليّة، فحينئذ إن صبر المالك إلى عود الفصل، فلا ريب في أنّ الضامن يلزم في الفصل القادم بإحضار المثل، وإن لم يصبر المالك وكان في إلزامه بالانتظار تفويت لمصلحته، فلا يجبر على الصبر، فيلزم الضامن بدفع القيمة، ومعلوم أنّ الانتقال إلى القيمة ليس تسهيل السبيل على الضامن إلى تفريغ ذمّته فقط، بل يلاحظ في ذلك أنّه لا يجبر المالك على التنازل عن حقّه في المثل والرضا بالقيمة. فلو فرض رضا المالك بالانتظار ولم يكن في ذلك ضرر زائد على الضامن، فلا وجه للانتقال إلى القيمة.

الرأي الراجح:

أنّ تحديد تعذّر المثل بحدّ خاصّ لم يرد في دليل خاصّ لكي نجعله مرجعاً في ذلك، بل لا بدّ من الرجوع في ذلك إلى الاعتبار العقلي, ومن الواضح أنّ الاعتبار العقلي ميزانه في تعذّر المثل, وإعوازه هو التعذّر الشخصي، وعدم إمكان الوصول إليه بشخصه.

فإذا تمكّن الضامن من الوصول إلى المثل، ولو كان ذلك في البلاد النائية لم يصدق عليه الإعواز، بل وجب عليه تحصيله، كما أنّه إذا لم يتمكّن الضامن من تحصيل المثل ولو كان موجوداً في البلد وأمكن تحصيله لغيره، وجب عليه دفع القيمة؛ لأنّ مقتضى أدلّة الضمان إلزام الضامن بتحصيل المضمون، ومقتضى أدلّة نفي العسر والحرج وقاعدة العدل والإنصاف وأنّه لا يدفع الظلم بالظلم بأن يفصّل بإلزام الضامن بإحضار المثل ما لم يلزم عليه الضرر، سواء كان من البلد وما حولها أم من أمكنة نائية، وعدم إلزامه به إذا لزم الضرر، فلا يقيّد بوجدانه بالبلدة وما حولها.

 

المبحث الثاني

ما يثبت في الذمة بعد تعذّر المثل

هنالك ثلاثة اتّجاهات فيما يثبت في الذمّة بعد تعذّر المثل.

الاتّجاه الأوّل: بقاء العين في الذمة:

ذهب بعض الفقهاء منهم جدّنا الشيخ هادي كاشف الغطاء والسيّد السبزواري إلى أنّ الذمّة مشغولة بنفس العين إلى حين الأداء، فنفس العين باقية في الذمّة، ويجب الخروج عن عهدتها([429]).

فمن أخذ مال الغير تشتغل ذمّته الضامن بنفس العين باقية كانت أم تالفة ويجب تفريغ ذمّته بدفع العين وردّها إن كانت باقية، وبدفع معادلها أو بدلها إن كانت العين تالفة، وذلك من باب الوفاء، كما اذا كانت عليه منٌّ من الحنطة مثلاً؛ فإنّه باق في ذمّته إلى ان يؤدّي بدله حنطة، فإذا تعذّر كان عليه دفع قيمة ما في ذمّته حين الأداء، لا قيمة المثل المتعذّر، فيكون وفاءً أو اداءً من غير جنس، ولا ينتقل إلى البدل بمجرّد التعذّر؛ إذ لا دليل على ذلك, فكما أنّ التعذّر لا ينافي ضمان العين، فكذلك تعذّر المثل لا ينافي ضمانه؛ لعدم إناطة الأحكام الوضعيّة بالقدرة، ومثله ما لو كان عليه كلّي من غير جهة الضمان, مثل البيع والقرض، والإجارة ونحوها، فإنّه لا ينقلب بالتعذّر، ولكّنه مع المطالبة يجب الوفاء بغير الجنس([430]).

واستدلّ السيد السبزواري على ذلك بما يأتي([431]):

1. أنّ الأدلّة الشرعيّة شاملة للاعتبارات الذّميّة، كما تشمل الأعيان الخارجيّة، فما وجد العقل لصحّة اعتباره سبيلاً فلا وجه لملاحظة القيمة مع صحّة اعتبار بقاء العين في الذمّة، كما لا وجه لصحّة اعتبار القيمة مع بقاء العين في الخارج. ويمكن أن يستفاد ذلك من ظاهر قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((على اليد ما أخذت حتى تؤدّي))([432]).

فإنّ ظاهره أنّ نفس المأخوذ ثابت على اليد التي هي طريق إلى الثبوت في العهدة إلى حين أداء نفس ما كان في العهدة وهي العين.

2. أنّ المتبادر من مرتكزات الناس إذا أتلف شخص إناء آخر مثلاً، يصحّ أن يقول المالك للمتلف: أطلب منك إنائي حتى فيما إذا تعذّر المثل, فأصل صحّة الطلب الإنشائي ثابت له إلى تفريغ الذمّة، فلولا الثبوت الذمّي للعين، لكان هذا من الطلب الممتنع ولا يقولون به.

3. أنّ العقل يثبت صحّة اعتبار الممتنعات في الذهن، وفي الأمور الاعتباريّة يصح إثبات الممتنعات منه فضلاً عن الممكنات. فالانعدام الخارجي لا ينافي البقاء الاعتباري مطلقاً، فمع وجود العين في الخارج يجب ردّها، وبعد تلفها تكون بنفسها في الذمّة، ويكون دفع المثل بدلاً منها, ومع تعذّر المثل نفس العين باقية في الذمّة، لا يتغيّر ولا يتبدّل إلا بفراغ الذمّة منها([433]).

الاتّجاه الثاني: ثبوت المثل في الذمّة:

ذهب فريق من فقهاء الشافعية والقاضي من الحنابلة وأبو حنيفة والمالكيّة وأكثر فقهاء الإماميّة إلى ثبوت المثل في الذمّة بمجرّد تلف المال المثلي، سواء تعذّر ام تيسّر، وذلك في معاوضة قهريّة؛ إذ ليس في الذمّة والعهدة سوى المثل، بل ادّعى بعضهم الإجماع الذي محصّله أنّ ما كان من قبيل الأموال المثليّة يضمن بمجرّد تلفه بالمثل وإن تعذّر المثل، وما كان من قبيل الأموال القيميّة يضمن بالقيمة، وإن تمكن من المثل([434]).

قال القفّال من فقهاء الشافعيّة([435]): ((إنّ الواجب في الذمّة هو المثل إلى وقت الحكم، كما أنّ الواجب في المغصوب ردّ العين إلى وقت التلف)).

بل صرّح بعض فقهاء الشافعيّة بأنّ ((المثل لا يسقط بالإعواز. ألا ترى إنّ المغصوب منه لو صبر إلى وجدان المثل ملك المطالبة به، وإنّما المصير إلى القيمة عند تغريمها))([436]).

وقال القاضي من فقهاء الحنابلة([437]): ((وتجب قيمته يوم قبض البدل؛ لأنّ الواجب المثل إلى حين قبض البدل بدليل أنّه لو وجد المثل بعد فقده لكان الواجب هو دون القيمة)).

وأوضح السرخسي من فقهاء الحنفيّة قول أبي حنيفة: ((إنّ المثل واجب في الذّمة، وهو مطلوب له حتى لو صبر إلى مجيء أوانه كان له أن يطالبه بالمثل، فإنّما يتحوّل إلى القيمة عند تحقّق العجز عن المثل، وذلك وقت الخصومة والقضاء))([438]).

وصرح فقهاء المالكيّة: ((بأنّ المثل عندهم في الذمّة حتى لو انقطع))([439]).

وأوضح البلاغي من فقهاء الإماميّة، بأنه: ((يثبت المثل في الذمّة حتى لو كان معدوماً أو متعذّراً حين التلف، أو في زمان بعده؛ رعاية لنوع المالكين في الأغراض المذكورة إذا اختاروا الصبر إلى أوان حصوله, فالوجه الذي اقتضى ثبوته حال وجوده لم يرتفع باعتبار النوع حال عدمه، ولا يمنع عدم الكلّي – في وقت من الأوقات – من ثبوته في الذمّة))([440]).

وقال الشيخ البديري: ((إنّ العبرة في قيمة المثل المتعذّر بقيمته يوم الدفع؛ لأنّ المثل ثابت في الذمّة إلى ذلك الزمان، ولا دليل على سقوطه بتعذّره، كما لا يسقط الدين بتعذّر أدائه)).

اعتراض:

إنّ الضمان لا بدّ أن ينتقل إلى القيمة عند إعواز المثل، أو تعذّره في الخارج، وإلا لم ينتقل إلى المثل أيضاً عند تلف العين الشخصيّة كماً، هو مقتضى القياس.

الجواب:

أنّ انتقال الضمان إلى المثل بعد تلف العين أمر قهري؛ لأنّه لا معنى لبقائها في الذمّة بعد التلف، وهذا بخلاف المثل؛ فإنّه أمر كلّي قابل للبقاء في الذّمة إلى حين الأداء.

الاتّجاه الثالث: انقلاب المثل المتعذّر إلى القيمة:

ذهب فريق من فقهاء الشافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمد بن الحنفيّة إلى أنّ انقطاع المثل يحوّل ما في الذمّة إلى قيمة([441]).

ودليلهم بأنّ معنى تعذّر المثل عدم التمكّن من أدائه، وكل غير متمكّن من الأداء فاعتبار ثبوته في الذمّة لغو، فيسقط اعتبار ثبوت المثل في العهدة، فينتقل إلى القيمة؛ وذلك لأنّ الخصوصيّة النوعيّة والصنفيّة تكون ساقطة عن الذمّة.

والحاصل سقوط الحكم الوضعي بالنسبة إلى المثل؛ لغرض لَغويّة ذلك الاعتبار بقيام القيمة مقامه قهراً، فلا غرامة في البين سوى القيمة.

واعترض على هذا الاتّجاه بما يأتي:

1. أنّ الدين يثبت في الذمّة ولا يسقط مع عدم تمكّن المدين من أدائه لإ عساره، فإثبات الشيء في الذمّة لا يتوقّف على التمكّن من الأداء.

2. أنّ المثل لا يصار إلى القيمة عند التعذّر؛ وذلك للزوم عدم وجوب دفع المثل لو تمكّن من قبل الأداء؛ لثبوت القيمة في الذمّة، ولا أظنّ للقائل بصيرورته قيميّاً يلتزم هذا الحكم؛ لوضوح ضعفه، فالمتّجه ثبوت المثل في ذمّة الضامن على كلّ حال, وتعذّر أدائه – حال التلف – لا يقتضي عدم ثبوته في الذمّة.

نعم, إذا كان تعذّر المثل مطلقاً انقلب إلى القيمة, كالمسكوكات، فالمتعذّر في البين لا محالة هو الخصوصيّة الصنفيّة والنوعيّة والجنسيّة. وبما أنّ العين تالفة، وبدلها متعذّر بهذه الخصوصية حسب الفرض ابتداءً والماليّة متمكّن منها، فتقوم القيمة مقام المال المثلي عندئذ، لا أنّها بدل ماليّة المثل؛ إذ المثل لم يكن في ذمّة الضامن، فلا مناص إذن غير جعل القيمة بدلاً عن ماليّة العين بعد تعذّر تلك الخصوصيات الذاتيّة, فالقيمة عندئذ تحمّل عنوان البدليّة عن ماليّة العين دون المثل عند من يرى عدم ثبوت العين في الذمّة بعد تلفها.

 

المبحث الثالث

تفريغ الذمّة بدفع القيمة بعد تعذّر المثل

اتّفق الفقهاء على تفريغ الذمّة بدفع القيمة بعد تعذّر المثل ما عدا فقهاء المالكيّة، فلهم رأيان([442]):

أحدهما: قول ابن قاسم بوجوب صبر المالك إلى أن يوجد مثل المضمون.

قال الخرشي([443]): ((إنّ المغصوب منه إذا تعذّر عليه وجود المثل، فإنّه يجب عليه أن يصبر لوجود المغصوب بأن كان للمثل، إبان فانقطع)).

فالنصّ ظاهر أنّه لا يمكن تفريغ ذمّة الضامن إلا بدفع المثل حتى لو انقطع، فلا يحق للمالك المطالبة بالقيمة، بل يجب عليه الانتظار إلى وجود المثل.

ثانيهما: ما ذهب اليه أشهب أنّ المالك بالخيار إن شاء صبر إلى وجود المثل، وإن شاء أخذ القيمة([444]).

الإماميّة:

اتّفق فقهاء الإماميّة على أنّ تفريغ الذمّة بدفع القيمة بعد تعذّر المثل.

قال الطوسي([445]): ((فإن أُعوِز المثلُ ضمن القيمة)).

وذكر الشيخ الأنصاري في المسألة السادسة: ((أنّه لو تعذّر المثل في المثلي، فمقتضى القاعدة وجوب دفع القيمة مع مطالبة المالك))([446]).

ونفى الشبهة في ذلك السيّد الخوئي إذا لم يتمكّن الضامن من تحصيل المثل([447]).

الشافعيّة:

جاء في حواشي الشيرواني، وأبن قاسم العبادي: ((فإن تعذّر المثل حسّاً, كأن لم يوجد بمحلّ الغصب ولا بدون مسافة القصر منه، نظير ما مرّ في السلم، أو شرعاً، كأن لم يوجد المثل فيما ذكر إلا بأكثر من ثمن المثل، فالقيمة هي الواجبة؛ لأنّه آلت، كما لا مثل له))([448]).

الحنفيّة:

جاء في المبسوط: ((إذا تعذّر ذلك – المثل – بالانقطاع من أيدي الناس، فحينئذ يصار إلى المثل القاصر وهو القيمة للضرورة))([449]).

وجاء في الفتاوي الهنديّة: ((فإن لم يقدر على مثله بالانقطاع عن أيدي الناس فعليه قيمته))([450]).

الحنابلة:

قال ابن قدامة([451]): ((فإن فقد المثل وجبت قيمته)).

وأدلّتهم على ذلك:

استدلّ على تفريغ الذمّة بدفع القيمة بعد تعذّر المثل بما يأتي:

1. قوله تعالى: [فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]([452]). حيث ترخصّ اعتداء المعتدى عليه بتقريب أنّ الضامن لو ألتزم عندئذ بدفع القيمة، لم يعتدِ عليه أكثر ممّا اعتدى على المالك؛ لأنّ الاعتداء على الضامن بالقيمة عند تعذَّر المثل اعتداء بمثل ما اعتدى في القيمة لا بأزيد ممّا اعتدى.

قال الشيخ الأنصاري([453]): قوله تعالى [فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]([454]) فإنّ الضامن إذا أُلزِم بالقيمة مع تعذّر المثل، لم يعتد عليه بأزيد ممّا اعتدى.

اعتراض:

إنّ الآية الكريمة لو كانت دليلاً على الضمان فلم يعتدّ مقتضاها على انحصار الضمان بالمثل فحسب، ومن المعلوم أنّ الاعتداء الأوّل إنّما كان للمثل لا غير، ولم يحصل اعتداء ثانوي بالنسبة إلى القيمة, فلا دلالة للآية الكريمة على تفريغ الذمّة بدفع القيمة بعد تعذّر المثل, كما أنّ الآية أجنبيّة عن الضمان، كما تقدّم في الباب الأوّل، وإنّها لا تدلّ اشتغال الذمّة بشيء، وإنّما تنظر في السماح بالمعتدى عليه بالمجازاة.

ولو تنزّل عن كلّ ما تقدّم، فمورد الآية الغصب حيث يتحقّق الاعتداء من الضامن على المالك وهو أخصّ من المدعّى، فإنّ باب الضمان أوسع من باب الغصب، فربّما لا يكون الضامن معتدياً أصلاً.

2. استدلّ السيّد السبزواري بإطلاق ما روي عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام: ((الغصب كلّه مردود))([455]) الشامل للمثل عند وجوده، والقيمة عند تعذّره([456]).

ويرد على التمسّك بإطلاق الرواية بما يأتي:

أ) أنّ الرواية تدلّ على أنّ المغصوب نفسه مردود؛ وذلك لصراحة الفقرة، ولأجل إنّ الرواية التي جاءت الفقرة فيها واردة في بيان وظيفة إمام المسلمين حينما يقود جيش المسلمين ويغزو بلاد الكفر، فيستولي على الأموال المختصة بالملك، وأنّها تكون تحت تصرّف الإمام ليتمكّن بها من المهامّ القياديّة الموكّلة إليه، ولو وجد في أموال ملك الكّفار عينٌ مغصوبة من أحد, وجب إرجاعها إلى مالكها.

ب) التعبير بالغصب عوضاً عن المغصوب فيه إشارة إلى أنّه يجب إجبار الغاصب على ردّ العين المغصوبة؛ لمنع حدوث الغصب وحتى لا يستمرّ الغصب.

وبعبارة أوضح أنّ العدول عن التعبير بالمغصوب إلى التعبير بالغصب للإشارة إلى إن الإسلام يعمل على منع استمرار الغصب، فليس في الرواية نظر إلى ما تشتغل به ذمّة الغاصب مع تلف العين المغصوبة، ولا إلى ما يجب فعله مع تعذر المثل في المثلي.

3. أنّ للمالك حقَّ المطالبة المثل؛ لأنّه الواجد لكافّة الخصوصيات الذاتيّة والماليّة، بعد تلف العين, كما له حقّ إسقاط شطر من حقّه والمطالبة بالباقي بأن يسقط الخصوصيّة الصنفيّة ويطالب بالماليّة؛ لقاعدة: ((الناس مسلّطون على أموالهم))([457]).

وبعبارة أوضح أنّ للمالك حقّاً في المطالبة بالقيمة؛ لأنّ للعين جهاتٍ ثلاثاً: الخصوصية الشخصيّة، والصنفيّة، والماليّة ومقتضى أدلّة الضمان وجوب ردّ جميعها على الضامن، فإذا امتنع ردّ الخصوصيّة الشخصيّة لم يسقط وجوب ردّ الجهتين الأخيرتين، وكذلك إذا امتنع ردّ الخصوصيّة الصنفيّة لم يكن وجه لسقوط الجهة الثالثة الماليّة, فيجب ردّ القيمة من هذه الجهة([458]).

والظاهر أنّ للمالك المطالبةَ بالقيمة والزم الضامن بها، ولا يتوقّف أخذها على رضى الضامن؛ وذلك لعموم قاعدة السلطنة, فللمالك إلغاء حقّه من الخصوصيّة الشخصيّة والصنفيّة والمطالبة بماليّة ماله: ((لأنّ المتيقّن أنّ دفع القيمة علاج لمطالبة المالك، وجمع بين حقّ المالك بتسليطه على المطالبة، وحقّ الضامن بعدم تكليفه بالمتعذّر والمعسور))([459]).

الاعتراض الأوّل:

إنّه لو جاز للمالك المطالبة بالقيمة والزم الضامن بها، فللمالك الحقّ في المطالبة بالقيمة مع عدم تعذّر المثل، ولا قائل به.

الاعتراض الثاني:

إنّ الانتقال من المثل إلى القيمة إمّا لأنّه معاوضة اختياريّة، فلا يمكن التحوّل من المثل إلى القيمة بدون رضا المالك، وربط الجواز برضا المالك ليس تحديداً لسلطة المالك – المضمون له – على ماله، بل فيه مراعاة لجانبي المعاملة الاختياريّة.

وأمّا إذا كان الانتقال من المثل إلى القيمة معاوضة قهريّة بدعوى أنّ الشارع حصر حقّ المالك – المضمون له – في القيمة بعد تعذّر المثل، فذهاب سائر الخصوصيات والفوائد من المالك ليس من عنده حتى يعلّل بأنّ له حقّاً في إسقاط ما شاء من حقّه.

وأيضاً إنّ التركيب بين الماليّة وسائر الخصوصيات الموجودة في المثل ليس تركيباً انضماميّاً بحيث يكون كلّ من الجزئيين قائماً بنفسه مستقلاً عن الآخر، بل التركيب اتّحادي بمعنى إنّ الذّمة مشغولة في الواقع بشيء واحد ينحلّ بالتحليل العلمي إلى الماليّة وغيرها، وفي مثل ذلك ليس للمالك – المضمون له – التفرقة بأخذ البعض ورفع اليد عن البعض الآخر. نعم, لو كان التركيب انضماميّاً مثل أنّ يكون المضمون كتاباً مؤلّفاً من عدّة أجزاء متفرّقة، فللمالك في مثله الحقّ في أن يأخذ بعض الأجزاء ويبرئ ذمّة الضامن عن البعض الآخر.

4. أنّ مقتضى الجمع بين الحقّين: حقّ الضامن، وحقّ المالك، هو دفع القيمة؛ وذلك لعدم إمكان إلزام الضامن للمثل؛ إذ المفروض تعذّره، فلا موضوع له وقتئذ.

ولا يجوز منع المالك عن المطالبة بحقّه؛ لوضوح أنّ منعه عن حقّه ظلم، فالجمع بينهما يستدعي دفع القيمة؛ وبذلك يرتفع كلا المحذورين، فلا يظلم المالك ولا يكلّف الضامن بما لا يطيقه؛ لقبح التكليف بما لا يطاق([460])، والحكم بعدم جواز مطالبة المالك بالقيمة بدلاً من المثل, هو إلزام الضامن بالمثل – مع فرض التعذّر – تكليف بما لا يطاق، وإلزام المالك على الصبر ظلم محرّم بالنقل والعقل، فلا مناص من وجوب القيمة؛ جمعاً بين الحقّين؛ فإنّه المقدور والميسور، ولا يسقط بالمعسور؛ لأنّ القاعدة المستفادة من أدلّة الضمان وجوب دفع المثلي المضمون ثمّ الأقرب اليه فالأقرب عقلاً، ومع مطالبة المالك يجب دفع القيمة؛ لأنّ إلزام الضامن بالمثل إلزام بالمتعذّر, فينتفي([461]).

ويلاحظ على الدليل رغم تماميّته أنّه يحتوي على التمسّك بقاعدة الميسور التي مفادها: ((الميسور لا يسقط بالمعسور)) المستندة إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا أُمِرتُم بشيء فأتوا به ما استطعتم))([462]).

ومورد هذه القاعدة ما إذا كان المأمور به قابلاً للتجزئة, لدلالة الحديث، وقد أشرتُ فيما سلف إلى أنّ تركيب المثل من الماليّة والخصوصيّة من صفات وغيرها ليس انضماميّاً وإنّما هو اتّحادي، والفصل بين الماليّة وغيرها إنّما هو بالتأمّل والتحليل العقلي، فليس هذا مورد قاعدة الميسور.

5. أنّ إلزام الضامن للمالك بالصبر إلى زمن تيسّر المثل ضرر ينفيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار))([463]), فلا وجه إِذَن لتأخير حقّه، ومن المعلوم أنّه لا يتمّ ذلك إلا بدفع القيمة، وقبول المالك لها، فإلزام الضامن على المثل كإلزام المالك على الصبر ضرر عليهما، والضرر منفي في الشريعة الإسلاميّة ولازم انتفائهما ثبوت جواز القيمة ودفعها([464]).

6. إجماع الفقهاء على تفريغ الذمّة بدفع القيمة عند تعذّر المثل([465])، وقد ادّعى صاحب جواهر الكلام عدم الخلاف في ذلك قال([466]): ((فإن تعذّر المثل بعد أن كان موجوداً حين التلف المغصوب كما في التذكرة والمسالك وغيرهما، ضمن قيمته، أي المثل بخلاف اجده فيه, بل قيل: إنّه إجماعي)).

ويلاحظ أنّ تمام دعوى الإجماع على مسلك فقهاء الإماميّة مشكل؛ إذ مع وجود أدلّة أخرى قابلة لاستناد الفقيه إليها في الحكم لا يبقى وثوقاً بهذا الإجماع، إذ قد يكون ذلك الإجماع  ناشئاً من تصادف التوافق في الدليل.

المطلب الأوّل: توقف دفع قيمة المثل المتعذّر على المطالبة أم لا؟:

هل يعتبر في وجوب دفع القيمة مطالبة المالك بها بعد التعذّر، أو تجب بمجرّد التعذّر وإن لم يطالب بها المالك؟

الرأي الأوّل: توقّف دفع قيمة المثل المتعذّر على المطالبة:

ذهب كلّ من أصحاب الاتّجاه الثاني، وهو بقاء المثل في الذمّة حتى لو تعذّر المثل كالشافعيّة إلى توقّف دفع قيمة المثل المتعذّر على المطالبة، حيث إنّ المثل لا يسقط عندهم بالإعواز، أو التعذّر عن العهدة أو الذمّة([467]).

وأبو حنيفة؛ لأنّ القيمة تثبت عنده يوم الخصومة والقضاء, فيدلّ على أنّ دفع القيمة وإسقاط المثل المتعذّر عن الذمّة متوقّف على المطالبة([468]).

جاء في البناية: ((ولأجل عدم ثبوت النقل بمجرّد الانقطاع لو صبر – أي المغصوب منه – إلى أن يوجد جنسه له ذلك؛ لأنّ حقّه في مثله من جنسه حتى لو أتى الغاصب بالقيمة لا يجبر على القبول، ولو كان انتقل إليها يجبر، كما في غير المثلي))([469]).

وأشهب من فقهاء المالكيّة بــ((أنّ أخذ المالك للقيمة عند تعذّر المثل متوقّف على مطالبة المالك للضامن بها))([470]).

والظاهر من قول ابن إدريس والعلامة الحلّي وولده فخر المحققين والمحقّق الكركي والمحقّق السبزواري في القرض من الفقهاء الإماميّة وجوب توقّف دفع قيمة المثل المتعذّر على المطالبة حيث ذكروا في ضمن كلام لهم أنّ المثل لا يسقط بالإعواز والتعذّر, وأنّ المالك لو صبر إلى زمان وجود المثل, مَلِكَ المطالبةَ به، وإنّما المصير إلى القيمة وقت تغريمها([471]).

وهو الراجح عند الشيخ  الأنصاري، وذلك لأنّه القدر المتيقّن من وجوب دفع القيمة.

جاء في المكاسب: ((لو تعذّر المثل في المثلي، فمقتضى القاعدة وجوب دفع القيمة مع مطالبة المالك))([472]).

فالذمّة تبرأ عندما يطالب المالك بالقيمة ويؤدّيها الضامن.

وأمّا لو لم يطالب المالك، فلا تبرأ ذمّة الضامن عن المثل، بل المثل ثابت في ذمّته بقاعدة الاشتغال؛ اذ بمجرّد تعذّر المثل وعدم المطالبة لا ينقلب المثل الثابت في ذمّة الضامن إلى قيمة.

فلا دليل على سقوط حقّ المالك عن المثل، ولا دليل على جواز إلزامه بقبول القيمة بمجرّد تعذّر المثل بعد ما كان حقّه أوّلاً بالذات متعلّقاً بالمثل لا بالقيمة؛ فإنّ إلزامه بالقيمة ظلم ظاهر.

فالظاهر من إطلاق الفقهاء أنّ الحكم بوجوب القيمة عند تعذّر المثل قد قُيَد بشرط وهو الطلب, ويشهد على ذلك ما حكي عن الفقهاء في باب القرض، والمعلوم أنّه لا فرق بين القرض وغيره من غصب وتلف وغيرهما, فلا شبهة في جواز إجبار المالك الضامن على إعطاء القيمة عند تعذّر المثل مع المطالبة؛ لأنّ المالك مسلّط على حقّه، وهو مخيّر بين مطالبة بدله مع الإعواز، والصبر إلى تمكّن الضامن من أداء المثل نفسه.

الرأي الثاني: كفاية التعذّر في تحوّل المثل إلى القيمة في الذمّة:

ذهب كلّ من أصحاب الاّتجاه الثالث القائلين بتبدّل المثل المتعذر بالقيمة, كبعض فقهاء الشافعيّة وأبي يوسف ومحمد بن الحنفيّة وابن قدامة والمقدسي من الحنابلة، والظاهر من فقهاء الإماميّة، كالمحقّق السبزواري، إطلاق الحكم بوجوب القيمة عند تعذّر المثل فيما عدا القرض من غير تقييد بالمطالبة([473]).

قال المحقّق السبزواري([474]): ((وإذا كان المثل موجوداً فلم يسلّمه حتى فقد لزم القيمة)).

وحجّتهم على ذلك ما يأتي:

1. ما روي عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام: ((الغصب كلّه مردود))([475]) بناء على إرادة ما يشمل ردّ المثل أو القيمة من الردّ فيه، فيكون ذلك تكليفاً للغاصب، فيجب القبول على من له الحقّ مع دفع الحقّ من دون مطالبة([476]).

اعتراض:

إنّ الحديث مختصّ بردّ الأعيان ولا يفهم منه ردّ المثل أو القيمة، كما مرّ سابقاً.

2. المشهور من كلمات الفقهاء وجوب دفع القيمة بمجرّد الإعواز أو التعذّر، وليست المطالبة بشرط للوجوب.

نعم, امتناع المالك مع أخذ القيمة مسقط له؛ لأنّ الحقّ له ولا يستلزم وجوب دفع القيمة بمجرّد الإعواز اشتغال ذمّة الضامن بها, بل إنّما هو مشغول بالمثل ويجب عليه بمجرّد الإعواز دفع القيمة لتفريغ الذمّة من الواجب عليه بحكم النقل والعقل, وليس للضامن إلزام المالك بأخذ القيمة، كما ليس للغني إلزام الفقير بأخذ الزكاة؛ لأنّ متعلّق الضامن ليس هو نفس القيمة، إنّما هو المثل.

ومن الواضح أنّه ليس للضامن إجبار المالك على قبول شيء آخر بدلاً من حقّه الخاص، فالمالك مخيّر بين أخذ البدل وهي القيمة وبين الصبر إلى أن يتمكّن الضامن من أداء المثل، فلا منافاة بين وجوب الدفع على الضامن بمجرّد الإعواز تفريغاً لذمّته، كما يجب عليه ردّ العين بمجردّ أخذها، وعدم وجوب القبول على المالك؛ لكونها خلاف حقّه الذي هو المثل.

كما أنّ مقايسة مسائل الضمان بمسائل القرض التي تتوقّف على الطلب واضحة المناقشة؛ نظراً إلى أنّ وجوب الوفاء في القرض وجوباً فعليّاً منوط بالطلب، بخلاف الضمان؛ فإنّ وجوب الردّ فيه ثابت وإن لم يطالب، سواء في أصل العين المضمونة أم بدلها.

وانفرد السيّد السبزواري عن فقهاء الإماميّة بوجوب قبول المالك للقيمة عند دفع الضامن لها؛ إذ المناط في الكلّ هو تدارك الماليّة وهو موجود في الجميع موضوعاً مترتّباً, فيكون كذلك حكماً حيث قال([477]): ((يجب عليه – الضامن – دفع القيمة فعلاً، ويجب على المالك قبولها؛ لأنّ القيمة عند تعذّر المثل كنفس المثل في جميع الجهات إلا ما خرج بالدليل، ولا دليل في المقام على الخلاف، فكما أنّ بدليّة المثل من العين مطلقاً وعن جميع الجهات، فكذلك بدليّة القيمة من المثل عند تعذّره؛ إذ المناط في الكلّ هو تدارك الماليّة وهو موجود في الجميع موضوعاً مترتّباً فيكون كذلك حكماً، فليس للمالك الامتناع عن القبول خصوصاً مع تضرّر الغاصب بذلك)).

اعتراض:

إنّ إجبار المالك على الأخذ بالقيمة مع إرادته الصبر إلى الصبر وجدان المثل, تفويت للفوائد المترتّبة على المثل، وإجبار له على التنازل عن الخصوصيات والصفات التي وفّرها الشارع له بإيجابه دفع المثل، وكلّ ذلك منفي بحديث الضرر.

كما أنّه ليس الواجب في الضمان تدارك الماليّة فقط, بل هي أحد الأمور التي يجب تداركها، لأنّ الخصوصيات والصفات المؤثّرة في الماليّة يمكن تداركهما بدفع المثل، فتكون مضمونة كذلك.

الرأي المختار:

أنّ تحوّل الذمّة من العين إلى المثل في المثليات مع تلف العين يفتقر إلى دليل، ودعوى ثبوت القيمة بدل المثل يفتقر إلى ما يثبت براءة ذمّة الضامن من تلك الخصوصيات والصفات التي يحصل عليها المالك بالحصول على المثل، وذلك لا سبيل إليه, بل مقتضى استصحاب بقاء المثل في الذمّة ومقتضى براءة الذمّة من القيمة، ومقتضى استصحاب عدم اشتغال الذمّة بالقيمة. كلّ ذلك يقتضي بقاء المثل إلى حين التفريغ.

ومعلوم أنّ للضامن أن يسارع إلى تفريغ ذمّته، ولكن حديث نفي الضرر يمنع أن يكون ذلك على ضرر المالك, فمقتضى القاعدة بقاء المثل في الذمّة إلى حين تفريغها بدفع القيمة مع مطالبة المالك لها.

هذا كلّه مماشاة مع منهجيّة الفقهاء القائلين بثبوت المثل في ذمّة الضامن عند تلف العين المثليّة.

أمّا على ما تقدّم من الرأي المختار مع بقاء العين في الذمّة وبقائها مشغولة بها إلى حين دفع المثل إن أمكن، وبدفع القيمة إن لم يمكن حين تفريغ الذمّة. فليس للضامن إجبار المالك على قبول القيمة عند تعذّر المثل، لو أراد الصبر إلى حين توفّر المثل؛ لأنّه في المثل لا يفقد سوى الخصوصيّة الشخصيّة, بخلاف ما لو رضي بالقيمة، فإنّ فيه تفويتاً للذات والخصوصيات والصفات المؤثّرة في الماليّة، وذلك منفي بحديث نفي الضرر, فتفريغ ذمّة الضامن بالقيمة عند تعذّر المثل متوقّف على مطالبة المالك بها.

المطلب الثاني: القيمة المدفوعة عند تعذّر المثل:

اختلف الفقهاء في القيمة التي يجب دفعها عند تعذر المثل هل هي قيمة المثل التالف أو قيمة المثل؟

أوّلاً: قيمة المثل المتعذّر ابتداء:

اتّفق الفقهاء على أنّ تعذّر المثل ابتداء على وجه يعلم بعدم تمكّن الضامن منه ولا يرجى حصوله مدّة حياته بالانتقال إلى قيمة المثلي، إذ لا محصّل حينئذ لتفريغ ذمّة الضامن بالمثل، والتكليف به بداءة تكليف بغير المقدور([478])، فالمثلي انقلب قيميّاً، وأخذ حكم القيمي حتى في تعيين قيمته كالمسكوكات القديمة بعدما كانت مثليّة عند رواجها تصبح قيميّة عند سقوط التعامل بها.

ثانياً: قيمة المثل المتعذّر طارئاً:

اختلف الفقهاء في القيمة التي يجب دفعها عند تعذّر المثل طارئاً، سواء كان بعد التلف أو قبل التلف هل هي قيمة المثلي التالف أو المثل؟

1. قيمة المثل المتعذر طارئاً بعد التلف:

ذهب كلّ من فقهاء الحنابلة والحنفيّة والمالكيّة وأكثر الشافعيّة والأماميّة إلى أنّ القيمة هي قيمة المثل المتعذّر([479]).

قال الشيخ الطوسي([480]): ((فإذا ثبت أنّه يضمن بالمثل نظر فإن كان المثل موجوداً طالبه به واستوفاه، وإن أعوز المثل طالبه بقيمته)).

والظاهر أنّ القيمة المعتبرة إنّما هي قيمة المثل المتعذّر، سواء صادف زمان الإعواز أو التعذّر زمان تلف العين، أو تأخّر عنه بأن كان المثل موجوداً حال التلف ثمّ عرض عليه الإعواز، أي أنّ التعذّر، أو الفقدان أو الإعواز سواء كان طارئاً قبل التلف أو بعده، فالقيمة المعتبرة هي قيمة المثل.

فنلاحظ أنّ مشهور الفقهاء دفع القيمة عند تعذّر المثل هي قيمة المثل المتعذّر([481])، وأنّ تفريق العلامة الحلّي وبعض الفقهاء المتأخّرين من الشافعيّة كأبي الطيّب بن سلمة([482]) بين صورتي فَقْد المثل في وقت التلف، وجوده ليس من حيث اختلافهما في الجهة المبحوث عنها، أي إنّ القيمة المعتبرة هل هي قيمة المثل المتعذّر، أم قيمة المثلي التالف؟ وإنّما هي من حيث تأتي الاحتمالات في تعيين قيمة المثل المتعذّر والوجوه المفصّلة فيها التي هي جهة أخرى في المسألة.

جاء في حواشي الشيرواني وابن قاسم العبادي: ((هل المعتبر قيمة المثل أو المغصوب؟ وجهان.

رجّح السبكي وغيره الأوّل: قالوا: لأنّه الواجب وإن كان المغصوب هو الأصل، ويبني عليهما أنّ الواجب على الأوّل الأقصى من التلف إلى  انقطاع المثل، وعلى الثاني الأقصى من الغصب إلى التلف))([483]).

فلم يفصّل بين التعذّر الطارئ قبل التلف أو بعده، وإنّما كان التقسيم على وجه تعيين قيمة المثل المتعذّر أو تعيين قيمة المثلي التالف.

وذكر بعض الفقهاء أنّه لم يكن هنالك فائدة معنويّة في التقسيم المذكور، فإنّ قيم المثل وقيم المثلي لا تتفاوت للتساوي في الصفات([484]).

ولكن يورد عليه أنّه إذا اعتبر قيمة المثل لوحظ قيمة المثل بعد تلف المثلي إلى فقد المثل، وكفى هذا وإذا اعتبر قيمة المثلي التالف، لوحظ قيمة التالف بعد فقد المثل, بل من الفقهاء من هو كالمصرّح بنفي الفرق بين التعذّر الطارئ قبل التلف أو بعده في القيمة المعتبرة عند تعذّر المثل، واعتبار القيمة هي قيمة المثل المتعذّر مطلقاً.

جاء في حاشية الجمل: ((المضمون هو المثل لا المثلي، لئلا يلزم تقويم التالف))([485]).

وفي الدروس: ((لو تلف، فعليه ضمان المثلي وهو المتساوي الأجزاء والمنفعة والمتقارب الصفات بمثله لقوله تعالى: [بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ] فإنّ تعذّر فقيمته يوم الإقباض، سواء تراضى تسليم المثل عن تلف العين أم لا، سواء حكم الحاكم بقيمته أم لا، ولا يحكم بقيمته يوم الإعواز)).

ضرورة أنّ معنى قوله: ((سواء تراضى تسليم المثل عن زمان تلف العين أم لا)), أنّ في صورة تعذّر المثل اللازم عليه فيها قيمة المثل، سواء تساهل في تسليم المثل أو أخّره عن زمان تلف المثلي أم لم يتساهل بأن كان المثل مفرداً في حال التلف، أي متعذّراً قبل التلف.

ولا ينبغي الشكّ في ذهاب هؤلاء الفقهاء إلى أنّ القيمة المدفوعة بعد إعواز المثل هي قيمة المثل وهي مبنيّة على انتقال الذمّة من العين بعد تلفها إلى المثل, فكأنّ الذمّة فرغت من العين بمجرّد التلف واشتغلت بمثلها، ومع الإعواز اللازم تفريغ الذّمة من المثل, فتكون قيمته.

2. قيمة المثلي عند تعذّر المثل الطارئ قبل التلف:

قيّد العلامة الحلّي في تذكرة الفقهاء والشهيد الثاني في مسالك الأفهام و السيد الطباطبائي في الرياض من الإماميّة وفقهاء الحنابلة الإعواز بما إذا كان المثل موجوداً ثمّ بعد ذلك تعذّر قبل أدائه إلى المالك([486]).

والظاهر أنّ اختصاص الحكم بقيمة المثلي عند تعذّر المثل الطارئ قبل التلف.

قال العلامة الحلّي([487]): ((إذا غصب عيناً من ذوات الأمثال وتلفت في يده أو أتلفها والمثل موجود فلم يسلّمه حتى فقد، أخذت عنه القيمة؛ لتعذّر المثل)).

وقال المرداوي([488]): ((ينبغي أن يحمل كلامهم على ما إذا قدر على المثل عند الاختلاف ثمّ عدمه.

أمّا إن عدمه ابتداءً فلا يبعد أن يخرج من وجوب أداء المثل. وهو الصحيح من المذهب, وجزم به في الفائق والرعاية الصغرى، والحاوي الصغير)).

وأمّا إذا كان المثل قد تعذّر قبل التلف، فاللازم ضمان قيمة المثلي، وعدم الانتقال حينئذ إلى المثل كما يقتضيه التقييد في عباراتهم بما: ((إذا كان المثل موجوداً فلم يسلّمه حتى فقد))، بل في جامع المقاصد التصريح بأنّه: لو لم يكن المثل موجوداً وقت التلف، فالظاهر أنّ الواجب قيمة المثلي.

قال المحقّق الكركي([489]): ((أمّا لو لم يكن المثل موجوداً وقت التلف، فالظاهر أنّ الواجب قيمة التالف)).

حيث صرّح بأنّ الواجب في صورة ما إذا كان المثل مفقوداً حال التلف هو قيمة التالف.

وعن تلميذه الشهيد الثاني حيث ذكر الصورة الأخيرة وهي صورة تعذّر المثل الطارئ قبل التلف، ولم يتعرّض لصورة تعذّر المثل بعد التف طارئاً بحيث يستظهر موافقته لأستاذه المحقّق الكركي في التفصيل المذكور([490]).

فلا مفصّل في المقام عند الإماميّة إلا ما يظهر من ثاني المحقّقين الكركي وصاحب أنوار الفقاهة حيث قال([491]): ((إذا تلف المغصوب المثلي ولم يوجد حين تلفه مثل له تعلقت قيمته بذمّة الغاصب تعلّقاً متزلزلاً, فإن عاد المثل قبل قبض قيمة المغصوب، كان للمالك المثل، وإن قبض القيمة كان ذلك وفاءه, وإن كان المثل بعد تلفه موجوداً فتعذر بعد وجوده ضمن الغاصب قيمة مثله)).

ولعلّ نظرهم إلى أنّه لا يمكن التكليف بالمثل مع تعذّره ابتداء قبل التلف، فينتقل إلى القيمة, بخلاف ما إذا كان غير متعذّر في أوّل الأمر، فإنّه حينئذ مكلّف بأدائه بالضرورة, فيستقرّ التكليف به، ويستصحب إلى حين أدائه؛ لذا عبّر بعضهم عن التعذّر بالإعواز المشعر بسبق الإمكان([492]).

اعتراض:

إنّ التعذّر قبل التلف لا يمنع التكليف بالمثل وتشتغل الذمة به، ولو امتنع ذلك لأمتنع أيضاً بالتعذّر بعد التلف. والتالي باطل بتسليم الخصم بثبوت المثل المتعذّر بعد التلف في الذمّة.

نعم, إنّما يمتنع ابتداء التكليف بأداء المثل فعلاً عند التعذّر، كما أنّه يمتنع ذلك بالتعذّر بعد التمكّن، وذلك لا ينافي في شغل ذمّة الغاصب أو الضامن بالمثل ابتداءً، كما لا ينافيه استدامة. فقيام الدليل على ضمان المثلي بمثله لم يفرّق في ذلك بين المتمكّن منه ابتداء ثمّ أعوز وبين غيره إلا في تعيين أداء المثل فعلا وعدمه، فإنّ الدليل لم يتمكّن منه ابتداء غير مكلّفا حينئذ بالأداء فعلاً بل يبقى المثل في ذمته مراعى الى حين التمكن، ما لم يطالب به المالك. بخلاف من يتمكّن منه, كما أنّ دعوى صيرورة المثلي قيميّاً عند التعذّر واضحة المنع؛ إذ المثلي لا يتغيّر بتعذّر المثل وإلا لزم عدم وجوب دفعه لو تمكّن منه بعد ذلك قبل الأداء؛ لثبوت القيمة حينئذ في الذمّة، ولا أظنّ القائل بصيرورته يلتزم هذا الحكم؛ لوضوح ضعفه.

فالمتجه ثبوت المثل في ذمة الضامن – على كل حال – وتعذر ادائه حال التلف لا يقتضي بعدم ثبوته في الذمة، فان عدم التمكن من وفاء الدين لا يقتضي عدم ثبوته في الذمة، إضافة إلى أنّه لم يتطرّق أحد إلى هذا التفصيل في باب القرض. فإنّ التمكّن من المثل ليس بشرط لثبوته في الذمّة ابتداءً([493]).

قال الشيخ البلاغي([494]): ((يثبت المثل في الذمّة حتى لو كان معدوماً أو متعذّراً حين التلف، أو في زمان بعده؛ رعايةٍ لنوع المالكين في الأغراض المذكورة إذا اختاروا الصبر إلى أوان حصوله, فالوجه الذي اقتضى ثبوته حال وجوده لم يرتفع باعتبار النوع حال عدمه، ولا يمنع عدم الكلّي في وقت من الأوقات من ثبوته في الذمّة)).

الرأي المختار:

الذي ينبغي أن يقال: ان دفع القيمة أو المثل ليس إلا محاولة من الضامن لتفريغ ذمّته المشتغلة بالعين؛ وذلك لأنّ مفاد أدلّة الضمان ليس إلا كون العين المضمونة في الذمّة, وأنّ اشتغال الذمّة بالعين غير مرتبط بالوجود الخارجي، فلو قيل: إنّ التلف يوجد استقرار البدل في الذمّة فلا بدّ من الاستناد إلى دليل, فالعين تستمرّ في الذمّة من حين ضمانها إلى حين الفراغ منها بدفعها إن أمكن، وبدفع مثلها مع التلف إن كانت مثليّة، وتوفّر المثل، وبدفع القيمة إن كانت قيميّة أو تعذّر المثل مع مطالبة المالك بها.

فليس هناك دليل على اشتغال الذمّة بالمثل في المثلي ولا بالقيمة في القيمي, فالقيمة حين تعذّر أو إعواز المثل هي قيمة المثلي، وليست هي قيمة المثل، ولا فرق في ذلك بين التعذّر قبل التلف أو بعد التلف.

 

المبحث الرابع

تشخيص الوقت لتحديد قيمة المثل أو المثلي

هذه المسألة من المسائل التي تشتّتت فيها الأنظار، واضطربت فيها الأقوال، وربّما أرتقت إلى أكثر من خمسة وأربعين قولاً، وأن جلّها غير مستند إلى ركن وثيق.

وقد أوصل محمد حسين كاشف الغطاء الأقوال والاحتمالات إلى خمسة وأربعين قولاً واحتمالاً, وإليك النصّ بكامله([495]): ((إنّ المثل بتعذّره إمّا أن يبقى في الذمّة الى وقت المطالبة به أو إسقاطه بالقيمة، أو ينقلب قيميّاً بالتعذّر.

وعلى الثاني: فالقيمة إمّا قيمة العين أو قيمة المثل الثابت قبل التعذّر، أو قيمة القدر المشترك بين العين والمثل.

وعلى كلّ واحد من هذه الاحتمالات الثلاثة فإمّا قيمة العين يوم ضمانها، أو يوم قبضها أو يوم التقصير، أو يوم المطالبة، أو يوم الدفع، أو أعلى القيم من القبض إلى الدفع، أو من التلف إليه، أو من المطالبة إليه.

ومثل هذه الاحتمالات السبع يجري على احتمالي اعتبار قيمة المثل، وقيمة القدر المشترك، فتكون الاحتمالات أربعاً وعشرين صورة، وبضميمة الأولى تكون خمساً وعشرين صورة على المنوال الذي عرفته، وبالنسبة إلى المثلي المتعذّر يمكن أن تتضاعف الصور بسيطة ومركّبة:

فالبسائط خمسة: يوم القبض، ويوم تلف العين ويوم تعذّر المثل، ويوم المطالبة، ويوم الاداء.

والمركّبات تنشأ من ملاحظة أعلى القيم وهي عشرة: من القبض إلى تلف العين، ومنه إلى إعواز المثل، ومنه إلى المطالبة، ثمّ إلى الأداء, فهذه أربعة.

ومن القبض إلى الأداء، ومن تلف العين إليه، ومن الإعواز إليه ثلاثة، ومن تلف العين إلى المطالبة, ومن الإعواز إلى الأداء، فهذه عشرة ومع البسائط الخمسة تكون خمسة وأربعين، بل ستّة وأربعين بعضها أقوال وأكثرها احتمال)).

إنّ منشأ سائر الاحتمالات والأقوال مبنية على جملة أمور: منها:

1. أنّ المستقرّ في الذمّة – بعد التعذّر – هل هو المثل أو يتبدّل بقيمة التالف أو قيمة المثل أو القدر المشترك بينهما؟ ثمّ هل المثل باق على مثليّته أو ينقلب منها إلى القيمة؟

فالذي ذهب إلى أنّ حكم تعذر المثل انتقال الضمان إلى القيمة، فإنّه عندئذ يصحّ النزاع في تعيين زمان الانتقال.

أمّا من التزم ببقاء المثل في عهدة الضامن بعد تلف العين، وشيّد أساس هذا القول، فلا وجه لتوهّم انتقال الضمان إلى القيمة بعد تلف العين قبل يوم الأداء.

2. أنّه على فرض التبدّل وهو الاتّجاه الثالث هل يتبدّل بمجرد التعذّر أو به وبالمطالبة معاً.

3. أنّ المعتبر في القيمة، هل هو قيمة يوم العهدة أو السبب أو يوم التلف أو يوم الدفع أو أعلى القيم من يوم العهدة أو السبب إلى يوم التلف ومنه إلى يوم الأداء وغيرها.

4. أنّ الإعواز الكلّي ابتداءً هل هو بمنزلة التلف للمثل أو تلف المثلي معاً نظراً إلى أنّ وجود المثل كبقاء العين المضمونة من حيث إنّه كان مأموراً بتسليم المثل كما كان مأموراً بردّ العين؟

5. أنّ وجوب دفع القيمة، هل يحدث عند التعذّر بالخصوص أو هو ثابت من يوم الغصب أو يوم التلف؛ لسبق علمه تعالى بتعذّر المثل عند الأداء، فينبغي أن لا يكلّفه إلا بالقيمة من حين الضمان؟

6. الفرق بين التعذّر الطارئ قبل التلف، والتعذّر الطارئ بعد التلف بضمان القيمة في الأوّل والمثل في الثاني، فيكون قيمة يوم التلف، وفي الثاني قيمة يوم الأداء.

هذا فيما اختلف قيمة زمان العهدة والتلف والإعواز والمطالبة والحكم، والأداء، أمّا إذا تّحدت, فلا ثمرة في ذلك.

وهذه هي أهمّ الأقوال والأوجه التي ذكرها الفقهاء في كتبهم تاركين الاحتمالات والأوجه الضعيفة التي لم يتطرّقوا إليها:

1. قيمة وقت العهدة أو الضمان:

المشهور من مذهب المالكيّة الذي حكاه اللخمي عن مالك وابن قاسم وجوب الضامن على الضامن (الغصب) دون ما بعده.

وأدلّتهم على ذلك أمور ثلاثة([496]):

الأمر الأول:

القاعدة الأصوليّة وهي أنّ ترتّب الحكم على الوصف يدلّ على علّيّه ذلك الوصف لذلك الحكم، وقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ((على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه))([497]).

قد رتّب الضمان على الأخذ باليد، فيكون الأخذ باليد هو سبب الضمان، والحديث قرينة يدل على ذلك، كمال يدلّ قول: ((على الزاني المحصن الرجم، وعلى السارق قطع اليد)) على سببيّة هذين الوصفين. فمن ادّعى أنّ غير الأخذ باليد سبب بعد ذلك فعليه الدليل؛ لأنّ الأصل عدم سببيّة غير ما دلّ عليه الحديث.

ويرد على ما جاء في هذا الدليل بأنّه يقتضي أنّ وقت الأخذ هو وقت حدوث الضمان، وثبوت العين المأخوذة في العهدة، وهذا لا يستلزم أن يكون ذلك الوقت هو الملحوظ في تحديد القيمة مع فرض تلف العين، فإنّ التحوّل من العين إلى القيمة على المختار حين محاولة تبرأة الذمّة، وعلى المشهور بعد تعذّر المثل وجه لا اعتبار يوم الأخذ مقياساً لتحديد قيمة المضمون.

الأمر الثاني:

القاعدة الأصوليّة الفقهيّة وهي أنّ الأصل ترتّب ضمان المسبّبات على أسبابها من غير تراخ، فيترتّب حين وضع اليد لا ما بعد ذلك والمضمون لا يضمن؛ لأنّه تحصيل للحاصل.

ويلاحظ على ما جاء في الدليل أنّ من ينكر جعل يوم الضمان مقياساً لتحديد القيمة ولا يحاول تأخير نفس الضمان عن يوم الأخذ حتى يقال باستحالة تأخير المسبّب عن السبب، بل يدّعي أنّ الضمان – وإن حصل بمجرّد الأخذ – إلا أنّ التحوّل، أي تحوّل الضمان من العين إلى القيمة مع بقاء العين لفترة في بعض الصور، وتمكّن الضامن من دفع المثل في بعض الصور، لا وجه لجعل اليوم السابق على يوم وجوب دفع القيمة مقياساً لتحديدها.

الأمر الثالث:

أنّ الزيادة والنقصان الناشئين من تحوّلات الأسواق واختلافهما لا يؤثّر في الضمان، كذلك التحوّلات الحاصلة من يوم الضمان إلى ما بعده من الأيام لا تؤثر في الضمان.

ويرد عليه:

أوّلاً: التشكيك في حكم المقيس عليه.

ثانياً: بالفرق بين المقيس عليه والمقيس، فإنّ الأسواق مع وحدة الزمان إذا لم تؤثّر فلا يستلزم ذلك عدم تأثير الأيّام المتعاقبة المقتضية لصعود القيمة أو نزولها؛ إذ المفروض أنّه لم يتحوّل بعد من العين إلى القيمة أو من المثل إلى القيمة، فلم يكن ليوم الضمان تأثير إلا في أصل الضمان.

الحنابلة:

ووجه عند الحنابلة، فقد روي عن أحمد بن حنبل في رجل أخذ من رجل أرطالاً من كذا، وأعطاه كذا على سعر يوم أخذه لا يوم المحاسبة, كما روي عنه في حوائج البقال: عليه القيمة يوم الأخذ, فيستدلّ على أنّ القيمة تعتبر يوم العهدة أو ضمان([498]).

وأحد أقوال الحارثي: جاء في الإنصاف والفروع ((وعنه – الحارثي – يلزمه الضامن قيمته يوم غصبه))([499]).

وأوضح ابن قدامة في تعيين قيمة المثل لغير الغصب، كالمأخوذ بعقد البيع الفاسد، أو القرض بثبوت قيمة المثل المتعذّر يوم ضمانه أو قرضه([500]).

وهو قول أبي يوسف وأعدل الأقوال عند صدر الشريعة في شرح الوقاية وهو المختار في النهاية([501]).

واستدلّ ابو يوسف أنّ انقطاع المثل التحاق بما لا مثل له, فتعتبر قيمته يوم انعقاد السبب؛ إذ هو الموجب؛ إذ فيه إثبات الحكم بحسب ثبوت الموجب؛ وذلك لأنّ المضمون دخل في ضمان الضامن من وقت الضمان، فيجب أن يكون اعتبار القيمة من وقت الضمان.

جاء في المبسوط: ((وأبو يوسف يقول: لمـّا انقطع المثل، ألتحق بما لا مثل له في وجوب واعتبار القيمة، والخلف إنّما يجب بالسبب الذي يجب فيه الأصل وذلك الغصب، فيعتبر قيمته يوم الغصب))([502]).

وردّ ابن الهمام قول أبي يوسف بقوله([503]): ((إنّ ما ذكر لا يدلّ على قوّة دليل أبي يوسف؛ لأنّ المغصوب المثلي إنّما دخل في ضمان الغاصب وقت الغصب بضمان المثل ثمّ انتقل إلى ضمان القيمة وقت الانقطاع)).

كما ردّ محمد بقوله إنّ([504]): ((أصل الغصب أوجب المثل خلفاً عن ردّ العين، وصار في ذلك ديناً في ذمّته، فلا يوجب القيمة أيضاً؛ لأنّ السبب الواحد لا يوجب ضمانين. ولكن المصير إلى القيمة للعجز عن أداء المثل)).

كما اعترض أبن مالك على قول أبي يوسف: ((بأنّ العلّة في الأصل كونه وقت وجود السبب ووجود العجز عن ردّ العين المغصوب، وفيما نحن فيه ليس كذلك؛ لأنّ العجز عن أداء المثل لم يكن متحقّقاً يوم الغصب، وإنّما يتحقّق يوم الخصومة، فافترقا))([505]).

وقول عند الزيدية في تلف المبيع بالعقد الفاسد بتحديد قيمة المثل المتعذّر أوّل يوم الضمان([506]).

وهو ما يميل إليه ابن إدريس بأنّ العبرة بوقت السبب أو العهدة في مورد القرض([507]).

كما يظـهر في كتاب التحرير في مسألة الدراهم الساقطة عن الإماميّة.

قال العلامة الحلّي([508]): ((لو أستقرض دراهم, وجب عليه ردّ مثلها في الوزن والصفة، ولا يردّها بسكّة مخالفة لسكّة القرض، ولو سقطت تلك الدراهم، وجاءت غيرها، لم يكن عليه إلا الدراهم التي أقترضها أو سعرها بقيمة الوقت الذي اقترضها فيه)).

محتجّين له بسبق علم الله سبحانه وتعالى بتعذّر المثل وقت الأداء؛ ولرواية عن يونس قال: ((كتبت إلى الإمام أبي الحسن الرضا عليه السلام: إنّ لي على رجل ثلاثة آلاف درهم وكانت تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الأيّام وليست تنفق اليوم، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها أو ما تنفق اليوم بين الناس؟ قال: فكتب عليه السلام: لك أن تأخذ منه ما تنفق بين الناس كما أعطيته ما تنفق بين الناس))([509]).

حملاً للرواية على صورة التعذّر جمعاً بينهما وبين روايتين أخريين قد عمل بهما مشهور الفقهاء القائلين: بأنّه ليس له إلا الدراهم الأولى.

وصرّح ابن إدريس بأنّ الحكم في القرض والغصب بسواء لا يفترقان.

ثمّ القائل بقيمة يوم القرض نادر، ومع ندرته غير جازم مع أنّ خلافه مقصور على مسألة الدراهم الساقطة. وعمدة دليله الرواية المخصوصة بتلك المسألة.

اعتراض:

إنّ هذه الرواية ضعيفة الدلالة، مطروحة الظاهر، معارضة بأقوى منها، فلا يعتمد عليها.

فقد روي عن يونس قال: ((كتبت إلى الإمام أبي الحسن الرضا عليه السلام: إنّه كان لي على رجل عشرة دراهم وأنّ السلطان أسقط تلك الدراهم. وجاءت دراهم أعلى من تلك الدراهم الأولى، ولها اليوم وضعية, فأيّ شيء لي عليه؟ الأولى التي أسقطها السلطان، أو الدراهم التي اجازها السلطان؟ فكتب: لك الدراهم الأولى))([510]).

ولما روي عن صفوان بن يحيى: سأل معاوية بن سعيد الإمام الصادق عليه السلام عن رجل أستقرض دراهم من رجل، وسقطت تلك الدراهم أو تغيّرت ولا يباع بها شيء، ألصاحب الدراهم الدراهم الأولى؟ أو الجائزة التي تجوز بين الناس؟ فقال لصاحب الدراهم الدراهم الأولى))([511]).

2. قيمة يوم الإعواز أو التعذّر:

وهو مذهب الحنابلة وعليه جماهير فقهائهم.

قال المرداوي([512]): ((وإن أعوز المثل فعليه قيمته مثله يوم إعوازه)).

ودليلهم أنّ القيمة وجبت في الذمّة حين انقطاع المثل، فاعتبرت القيمة حينئذ كتلف القيمي.

ودليل وجوبها حينئذ أنّ المالك يستحقّ طلبها واستيفاءها, ويجب على الضامن أداؤها([513]).

وهو قول الشافعيّة إن كان ذلك ممّا يكون في وقت وينقطع في وقت كالعصير، وجبت قيمته وقت الانقطاع؛ لأنّه بالانقطاع يسقط المثل وتجب القيمة.

ويحكى هذا عن أبي علي الزجاجي والحناطي والماوردي وأبي خلف السلمي من فقهاء الشافعية([514]).

وذهب محمد تلميذ أبي حنيفة إلى تعيين قيمة المثل المتعذّر يوم الانقطاع. ووجه قوله: إنّ الضمان – الغصب – أوجب المثل على الضامن – الغاصب – والمصير إلى القيمة للتعذّر، والتعذّر حصل بسبب الانقطاع، فتعتبر قيمته يوم الانقطاع كما لو استهلكه في ذلك الوقت, وهو مذهب زفر وعليه الفتوى عند الحنفيّة، كما في ذخيرة الفتاوي، وبه أفتى كثير من المشايخ، كما في كفاية حلبي والهندية كالصدر الكبير برهان الأئمّة، والصدر الشهيد حسام الدين. ورجّحه القهستاني. وقال الإتقاني: نأخذ بقول محمد وقال في منظومة الخلافيات:

لـو غصــب المثلــي ثمّ انصرما
 

 

فالواجب القيمة يوم اختصما
 

ويوم غصب العين عند الثاني
 

 

وحالة الفقد لــدى الشيباني([515])
 

 

جاء في تبيين الحقائق: ((قال محمد: يوم الانقطاع؛ لأنّ المثل هو الواجب بغصب ذات المثل، فلا ينتقل إلى القيمة الا بالعجز عنه والعجز عنه يحصل  بالانقطاع، فتعتبر قيمته يومئذ؛ وهذا، لأنّ المثل أعدل على ما بيّنّا، فلا يصار إلى القيمة مع القدرة عليه لقصورها، فلا تجب قبل انقطاع المثل للقدرة عليه؛ لأنّها خلف عنه، ولا يبقى وجوب المثل بعد انقطاعه للعجز عنه، فتعيّن اعتبار قيمته يوم الانقطاع([516]).

وردّ ابن العيني قول محمد بأنّه: ((لا يضمن المثلي بالقيمة إذا غصب ثمّ انقطع المثل تحت أيدي الناس إلا يوم الخصومة؛ لأنّ المثل القاصر لم يشرع مع احتمال الأصل، والأصل موهوم بالتربّص إلى أوانه، وانقطاع الاحتمال بالخصومة، وذلك وقت القضاء))([517]).

وهو وجه عند الإماميّة في التحرير والإرشاد، وغاية المرام وجامع المقاصد ومسالك الأفهام والسرائر في المبيع بالبيع الفاسد حيث أجاز ابن إدريس فيه قيمته يوم الإعواز مع دعواه أنّ المبيع بالبيع الفاسد يجري مجري الغصب عند الفقهاء([518]).

ولعلّه نظر في ذلك إلى أنّ إعواز المثل بمنزلة تلف الشيء الناقل إلى قيمته عند تلفه.

ويظهر من القواعد والنهاية في القرض أنّ العبرة بوقت التعذّر في مسألة الدراهم الساقطة؛ لأنّه وقت الانتقال إلى البدل([519]).

قال العلامة([520]الحلّي: ((ولو تعذّر المثل ردّ القيمة يوم تعذّر المثل)).

ودليلهم على أنّ القيمة يوم الإعواز بأنّ اشتغال الذمّة بالمثل محال عند الإعواز أو التعذّر، فلا تشتغل الذمّة إلا بالقيمة([521])؛ لئلا تخلو ذمّة الضامن أو المديون من شاغل يكون بدلاً عن العين المضمونة أو المقترضة؛ بناءً على أنّ المتعذّر التسليم لا يبقى في الذمّة.

وأعترض على ذلك بما يأتي:

أوّلاً: لو وجبت القيمة وقت الإعواز فاللازم إذا وتمكّن الضامن من المثل بعد الإعواز ولم يسلّم العوض, لا يجزئ تسليم المثل؛ لاستقرار القيمة في ذمّته والأصل بقاؤها والتالي باطل([522]).

ثانياً: أنّ التعذّر بمجرّده لا يوجب الانتقال إلى القيمة بحسب الحكم الوضعي وإن أوجب الانتقال إليها بحسب الحكم التكليفي. فمتى لم يوجب الانتقال لما في الذمّة لم يتعيّن الانتقال إلى القيمة.

ثالثاً: أنّ الاستصحاب القاضي ببقاء المثل في الذمّة بل عموم الدليل القاضي بالاشتغال بالمثل حجّة محكمة، كما ان سبق علم الله تعالى بتعذّر المثل حال الأداء، لا يوجب الانتقال إليها.

رابعاً: أنّ الواجب هو كلّي المثل وتعذّر وجوده ببعض أفراده لا يكون به تالفاً ومعدوماً، وتنزيل ذلك في الحكم منزلة التلف يحتاج إلى دليل صالح؛ لأسقاط حقّ المالك من المثل إذا صبر.

خامساً: إن أريد انقلاب ما في الذمّة إلى القيمة في وقت التعذّر، فلا دليل عليه. وإن أريد وجوب الإسقاط بالقيمة، فهو وأن حدث يوم التعذّر إلا أنّ إسقاطه في كلّ زمان بأداء قيمته في ذلك الزمان، وليس مكلّفاً في الزمان الثاني بما يتحقّق به الإسقاط في الزمان الأوّّل، كما نبّه عليه الشيخ الأنصاري في المكاسب([523]).

3. قيمة يوم التلف:

هو أحد الوجوه المحكيّة عن الشافعيّة في الغصب، وتلف العارية المضمونة، والحنابلة والزيديّة والحنفيّة في تلف المبيع بالعقد الفاسد، والإماميّة في تلف وثيقة الرهن بالتعدّي والتفريط باعتبار قيمة المثل المتعذّر يوم تلف المثلي([524]).

قال الحارثي من فقهاء الحنابلة: ((يلزمه قيمته يوم تلفه)). ويبتني هذا الوجه على انقلاب المثلي بالإعواز قيميّاً، وقد عرف ما فيه من الاعتراضات التي مرّ ذكرها، ومستند هذا الوجه على ما يعتبر في المال القيمي قيمة يوم التلف.

4. أعلى القيم من الضمان إلى التلف:

وهو قول للشافعية([525])، وأحد الاحتمالات للشهيد الأوّل([526])، وقول السيد الجزائري من الإماميّة([527]) بأن كان المثل مفقوداً عند التلف أو قبله كأن غُصِبَ المثلي في شهر رجب مثلاً، وفُقِدَ المثل في شهر رمضان، وتَلَفَ المثلي في شهر شوّال، فيكون المثلي مضموناً بأعلى القيم من شهر رجب إلى شهر شوّال.

وهو مبني على أنّ المثلي مضمون بماليّته وخصوصياته، والمفروض بعد إعواز المثل امتناع ضمان الخصوصيات والذات والخصائص المؤثّرة في الماليّة حسب الفرض، ولكن ما دامت الماليّة مضمونة، فما لم تفرغ ذمّة الضامن فهو مطالب بها، فعليه كلّما زادت القيمة في فترة الضمان كانت تلك الزيادة مضمونة، ونزول القيمة بعد ذلك قبل تفريغها منها لا يكون مبرئاً لها عن الزيادة، بل تبقى مشغولة بها إلى حين تفريغها منها، وهذا هو الأساس لثبوت أعلى القيم في الفترة المشار إليها.

5. أعلى القيم من الضمان إلى حين الإعواز:

ذهب فقهاء الشافعية في الراجح من أقوالهم إلى أنّ القيمة المعتبرة هي أعلى القيم من يوم الضمان إلى الإعواز؛ لأنّ وجود المثل كبقاء المثل من حيث أنّه كان مأموراً بتسليم المثل كما كان مأموراً بردّ المثلي, فإذا لم يفعل غُرَّمَ أعلى قيمة في تلك المدّة؛ إذ ما من حالة إلا وهو مطالب بردّه فيها.

هذا فيما لو كان لمثل موجوداً عند التلف، فلم يسلّمه حتى فُقِدَ.

وهو الصحيح عند السبكي وجزم به في التنبيه([528]).

ووجه للحنابلة في الهداية([529]).

والاحتمال الثالث للشهيد الأوّل([530])، والوجه الرابع عند الشهيد الثاني في مسالك الأفهام، بقوله([531]): ((ورابع باعتبار الأقصى من حينه – من حين الغصب – إلى حين الإعواز)).

ووجه يظهر من مراعاة أعلى القيم في القيمي؛ لأنّه مضمون في جميع الأوقات, فاعتبر المثلي كذلك.

اعتراض:

إنّ ضمان أعلى القيم في القيمي على فرض تسليمه إنّما هو من أحكام القيميات وهو ينافي ثبوت المثل، كما أنّ ثبوت المثل في الذمّة ينافي ارتفاع القيم.

6. أعلى القيم من الضمان إلـى الحكم:

وهو أحد أقوال الشافعيّة، ومستنده أنّ الواجب في الذمّة هو المثل إلى وقت الحكم, كما أنّ الواجب في الغصب ردّ العين إلى وقت التلف([532]).

7. أعلى القيم من الضمان إلى الأداء:

الوجه الرابع عند الشافعية([533]).

قال الرافعي([534]): ((ورابعها أقصى القيم من الغصب إلى وقت تغريم القيمة والمطالبة بها؛ لأنّ المثل لا يسقط بالإعواز, ألا ترى أنّ المغصوب منه لو صبر إلى وجدان المثل ملك المطالبة به، وإنّما المصير إلى القيمة حين تغريمها)).

والأصحّ عند فخر المحققين([535])، والاحتمال الرابع للشهيد الأوّل([536]) والعاملي([537]).

والوجه الثالث للشهيد الثاني([538]): ((باعتبار أقصى القيم من حين الغصب إلى حين دفع العوض، وهو المعبّر عنه بيوم الاقباض)).

كما حكي عن أشهب وعبد الملك من المالكيّة أخذ أرفع القيم إذا حالت الأسواق([539]).

8. أعلى القيم من التلف إلى الإعواز أو التعذّر:

هو الاحتمال الثاني للشهيد الأوّل([540])، والوجه الثاني عند الشافعيّة. قال الرافعي([541]): ((إنّها أقصى قيمة من وقت التلف المغصوب إلى الإعواز؛ لأنّ المثل هو الواجب، ألا أنّه لمـّا فقد تعذّر الوصول إليه فينظر إلى قيمته من وقت وجوبه إلى التعذر)).

ثم فصّل بأنّ الواجب عند إعواز المثل قيمة المغصوب الذي تلف على المالك، أو قيمة المثل؛ لأنّه الواجب عند التلف لتعذّره, كما أنّ لأبي الطبيب بن سلمة وجهين:

أحدهما: اعتبار أقصى القيم من وقت الغصب إلى وقت تلف المغصوب.

والثاني: اعتبار أقصى القيم من وقت تلف المغصوب إلى الانقطاع؛ لأنّ المثل حينئذ يجب إلى وقت الانقطاع، والإعواز.

اعتراض:

أنّه لم يعهد في أحكام الشرع أنّ الكلي الثابت في الذمّة يضمن ارتفاعاته في السعر. والقياس على العين المضمونة مصنوع من وجوه:

أوّلاً: المنع في المقيس عليه.

ثانياً: عدم التشابه بين ما في العهدة محضاً وما في الذمّة.

ثالثاً: أنّ أعلى القيم مختصّ عند الشافعية بالغصب. والمثل غير مغصوب بل هو أشبه بغير المغصوب الذي يضمن عندهم بقيمته يوم التلف([542]).

9. أعلى القيم من التلف إلى حين المطالبة:

ذكره الشيخ البلاغي من الإماميّة([543])، والوجه السادس عند الرافعي من الشافعيّة؛ لأنّ الضمان يومئذ يثبت بأعلى القيم من تلف المثلي إلى وقت المطالبة([544]).

10. أعلى القيم من يوم التلف إلى يوم الأداء:

هو وجه عند الشافعيّة([545]) والحنابلة. جاء في الإنصاف: ((وقيل أكثرهما – يعني أكثر القيمتين – قيمته يوم البدل، وقيمته يوم التلف))([546]).

11. أعلى القيم من الإعواز إلى المطالبة:

هو قول لأبي حامد الغزالي أعلى القيم من وقت انقطاع المثل وإعوازه إلى وقت المطالبة بالقيمة؛ لأنّ الإعواز وقت العدول إلى القيمة، فيعتبر الأقصى من يومئذ([547]).

اعتراض:

إنّ إعواز المثل لا يمنع من ثبوت المثل في الذمّة، ولا يقتضي قلبه إلى القيمة مع أنّه لم يعهد في شرع الإسلام أنّ القيمة التي هي دين تربو بنفسها، فإنّ المثل حين الانتقال إلى قيمته، والتغريم بها غير ثابت في العهدة ولا في الذمّة، فكيف يثبت بضمان ارتفاعه في السعر؟

12. أعلى القيم من حين الإعواز إلى الأداء:

وهو وجه للشهيد الثاني؛ لأنّ الإعواز وقت الحاجة إلى العدول إلى القيمة، فيعتبر الأعلى من يومئذ إلى حين الأداء([548]).

ويمكن الاعتراض على عدم ضمان أعلى القيم على جميع الاحتمالات، وذلك بأنّ المناط في ماليّة المال المتداركة في الماليّة الفعليّة المستقرّة، لا الحادثة الزائلة, خصوصاً مع قلّة زمان الحدوث وسرعة الزوال.

نعم, للمالك المطالبة بماله أيّ وقت شاء بحيث يلزم الضامن دفعها. فلو كانت من الضامن تقصير في تفويت تلك الماليّة على المالك لأمكن القول باستقرارها حينئذ، كما إذا ارتفعت قيمة المثلي إلى ألف دينار مثلاً، وطالبة المالك حينئذ وتمكّن الضامن من الأداء، ومع ذلك تساهل فيه حتّى تنزّلت القيمة ويصدق عليه تسبّبه على المالك.

ولكن إذا تبادلت القيم صعوداً ونزولاً من دون طلب المالك ولا تسبّب من الضامن إلا مجرّد الضمان الذي ربّما يكون مغفولاً عنه بالمرّة، فلا تسبيب ولا تفويت. والشكّ في صدقهما زائد على مسمّى الضمان (الغصب) يكفي عدم صحّة التمسّك بالأدلّة؛ لأنه تمسك بالدليل في موضوع لم يحرز. ومن ذلك يظهر أنّه لا وجه لما ذكروا في ضمان أعلى القيم، سواء كان من حين الضمان إلى حين التلف, أم من حين الضمان إلى وقت الإعواز، أم من حين الضمان إلى حين الأداء. إلى غير ذلك ممّا ذكروا في ضمان أعلى القيم.

أمّا دعوى أنّ زمان القيمة العليا زمان الضمان أيضاً، فتشمله أدلّة ردّ المثلي باطلة؛ لأنّ زمان انخفاض القيمة أيضاً تشمله أدلّة ردّ المثلي، فتعيّن زمان التدارك بزمان الأعلى مجرّد دعوى, بل مقتضى الأصل والقاعدة التي أرسلها الفقهاء من: ((أنّ الظالم لا يظلم)) عدم ضمان أعلى القيم([549]).

وإن اعترض على الكلام المتقدّم بأنّ الظاهر من قوله تعالى: [فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ]([550]). هو التضمين بأعلى القيم من يوم الاعتداء إلى يوم الأداء؛ لفرض أنّ زمان أعلى القيمة وقع الاعتداء فيه أيضاً, فيصح الاعتداء بمثله.

فيمكن الجواب بأنّ المنساق من الآية في الأموال إنّما هو اعتداء بمثل الماليّة المستقرّة الفعليّة، لا الحادثة الزائلة، ومجرّد الشّك في كون المراد من الآية ذلك يكفي في عدم صحّة التمسك بإطلاقها؛ لأنّه تمسّك بالدليل في الموضوع المشكوك.

هذا الكلام كله فيمن أخذ بالاتجاه الثالث، وهو انقلاب المثل الى القيمة حين التعذر.

أمّا على الاتّجاه الأوّل، وهو اعتبار نفس العين في الذمّة، فلا ريب في ضمان تفاوت الماليّة بمعنى إنّه أن أفرغ ذمّته حين ترقي القيمة السوقيّة وجب عليه أداء قيمته ذلك الحين.

وأمّا لو لم يفرغ ذمّته فاستقراره في الذمّة لا دليل عليه من نقل أو عقل، بل الأصل النقلي والعقلي ينفيه.

اعتراض:

إنّ استقرار القيمة في الذمّة من فروع بقاء العين فيها وصحّة اعتبارها في الذمّة، فكلّما دلّ على بقائها في الذمّة يدلّ على اشتغالها بترقّي القيمة السوقيّة أيضاً.

ويمكن الجواب بأنّ للعين حيثيّات كثيرة: حيثيّة العينيّة من حيث هي، وحيثيّة الماليّة، إلى غير ذلك من الحيثيّات، واعتبارها في الذمّة إنّما يكون من الحيثيّة الأولى.

وأمّا من الحيثية الماليّة، فهي لا اقتضاء بالنسبة إلى مراتبها وحدودها، فلا تتعيّن تلك المراتب والحدود إلا بالتفريغ فقط, كما أنّ تفويت أعلى القيم على المالك لا يعدّ إتلافاً، وقد ثبت أنّ العين المضمونة لو ردّها الضامن لا يضمن بعد مدّة التفاوت بين قيمة الردّ ويوم الضمان.

13. قيمة يوم المطالبة:

حكي عن أبي حنيفة ومالك وفي وجه للشافعيّة أنّ قيمة المثل وقت المطالبة.

ولعلّ نظرهم في ذلك إلى أنّ مطالبة المالك قد أسقطت حقّ المالك عن المثل وعيّنت القيمة([551]).

وهو ظاهر عبارة ابن إدريس، والعلامة الحلّي من الإماميّة في السرائر وتذكرة الفقهاء بأنّ العبرة بقيمة المثل المتعذّر يوم المطالبة في القرض([552]).

قال العلامة الحلّي([553]): ((فإنّ تعذّر المثل وجب ردّ قيمته عند المطالبة)). لما قيل: إنّ المطالبة هي المعيّنة للقيمة بعد شغل الذمّة بالمثل([554]).

وأعترض على ذلك بما يلي:

1. أنّ المطالبة بمجرّدها لا توجب الانتقال إلى القيمة بحسب الحكم الوضعي وإن أوجب الانتقال إليها بحسب الحكم التكليفي, فمتى لم توجب الانتقال إلى لما في الذمّة لم يتعيّن ما في حاله من القيمة.

2. أنّ مطالبة المالك وحكم الحاكم إنّما يتوجّهان إلى عنوان البدل والقيمة حيث يقع التبادل والموازنة, لا خصوص قيمة شخصيّة أوّلا وبالذات، ولئن نظر إليها نظراً ثانوياً فباعتبار كونه مصداقاً في ذلك الحال إذا وقعت بها المبادلة، كما فيمن نظر إليها عند طلب المعاوضة عن مال السلم القرض عند التعذّر.

14. قيمة يوم حكم الحاكم:

هو قول أبي حنيفة وصاحب ردّ المحتار والفتاوي الهنديّة ومجمع الضمانات ووجه للحنابلة، والصحيح في التحفة والبهجة، والأصحّ في الخزانة عند الشافعيّة بقيد إذا انقطع في بقعة معيّنة دون جميع البلاد؛ لاعتبارهم أنّ التحوّل إلى القيمة يكون وقت القضاء، لأنّ المثل واجب في ذمّة الضامن وهو المطلوب للمالك حتى لو صبر إلى مجيء أوانه، كان له أن يطالبه بالمثل، فإنّما يتحوّل إلى القيمة عند تحقّق العجز عن المثل وذلك وقت الخصومة والقضاء([555]).

ودليلهم بأن الانتقال من المثل إلى القيمة لا يثبت بمجرّد انقطاع المثل، فلو صبر المالك إلى أن يوجد المثل، كان له الحق في المثل، فلو أتى الضامن بالقيمة لا يجبر المالك على القبول، ولو كان انتقل إليها بمجرّد الانقطاع يجبر، كما في القيمي.

فينتقل المثل المتعذّر إلى القيمة بقضاء القاضي، فيعتبر يوم الخصومة والقضاء([556]).

جاء في كشف الحقائق: ((وإن انصرم المثل فقيمته لتعذّر مراعاة الجنس، فيراعى الماليّة دفعاً للضرر بقدر الإمكان يوم الخصومة. وقال أبو يوسف: يوم الغصب.

وقال محمد: يوم الانقطاع، وله أنّ النقل إلى القيمة لا يثبت بمجرّد الانقطاع, ولهذا لو صبر إلى أن يوجد جنسه له ذلك، وإنّما ينتقل بالقضاء))([557]).

وقال الزيلعي([558]): ((ولأبي حنيفة أنّ المثل هو الواجب بالغصب وهو باقٍ في ذمّته ما لم يقضى القاضي بالقيمة، ولهذا لو صبر إلى أن يعود المثل كان له ذلك، وإنّما ينتقل إلى القيمة بالقضاء حتى لا يعود إلى المثل بوجوده بعد ذلك، فتعتبر قيمته وقت الانتقال.

اعتراض:

إنّ حكم الحاكم لا يغيّر ما في الذمّة بحيث ينتقل المثل إلى القيمة، وإلا للزم عدم وجوب أداء المثل عند التمكّن من بعد حكومة الحاكم، وقبل دفع القيمة، لاستقرار القيمة حينئذ في الذمّة، ومع العلم يمكن الرجوع إلى المثل وإعطائه إلى المالك, فمقتضى حكم الحاكم الإلزام بدفع قيمة ما في ذمّة الضامن عند الإعواز وتفريغ ذمّته من المثل ودفع قيمته.

فلو حكم الحاكم على الضامن بدفع قيمة المثل، لأجل فراغ ذمّته في زمان كان اللازم عليه دفع قيمة ذلك الزمان؛ إذ لا يتحقّق الفراغ إلا به، فلو لم يدفع قيمة في ذلك الزمان مثلاً ثم زادت قيمته أو نقصت في الزمان الثاني مثلاً، كان فراغ الذمّة أيضاً بدفع قيمة ذلك الزمان الثاني بعد فرض بقاء شغل الذمّة بالمثل فيه.

وليس للحاكم تعيين قيمة ما في الذمّة كما لا يخفى، وإنّما له الإلزام بدفع قيمة ما في الذمّة لأجل البراءة منه وهي إنّما تحصل في كلّ زمان بدفع قيمته في ذلك الزمان, كما يقتضيه شغل ذمّة الضامن به إلى زمان قبض القيمة وإن حكم الحاكم بها قبل القبض.

قال الشيخ الطوسي([559]): ((إنّ حكم الحاكم بالقيمة عند الإعواز لم يؤثّر حكمه فيه، فكان له المطالبة بقيمته يوم القبض، ولا يلتفت إلى حكم الحاكم به)).

ودليله: ((إنّ الذي ثبت في ذمّته هو المثل، وحكم الحاكم عليه بالقيمة لا ينقل المثل إلى القيمة بدلالة أنّه متى زال الإعواز قبل القبض طولب بالمثل، وإن كان الذي ثبت في الذمّة هو المثل، اعتبر بدله مثله حين قبض البدل، ولا ينظر إلى اختلاف قيمته بعد الإعواز ولا قبل الإعواز)) فإذا ترافع المالك والضامن إلى الحاكم بعد الاعواز فحكم بالقيمة ولم يدفعها الضامن برضى من المالك أو عدمه فاتّفق زيادتها أو نقصانها، لم يلزم قيمة الحكم لو حكم الحاكم بها، فإنّ حكم الحاكم بالقيمة إنّما هو لرعاية قيمة اليوم ووظيفة الوقت وهو بمنزلة المفتي بها حتى إذا كان اختلافهما في مقدار القيمة فترافعا إليه فعيّن قيمة الوقت لا يجب اتّباعه فيها؛ لأنّ حكم الحاكم لا يقلّب ما في الذمّة من المثل إلى القيمة، ولا يغيّر حكم الله الثابت على عامّة المكلّفين.

فلو أعوز المثل فحكم الحاكم بالقيمة على تقدير الإعواز وطلب المالك، فكان لازم الحكم كون المطلوب من القيمة وقت الحكم، فإن دفعها الضامن فذاك، وإلا لم يوجب الحكم تخصيصَها بذلك الوقت من حيث إنّ الحكم تعلّق به؛ لأنّه وقت يجب فيه الدفع, فإن أخّره إلى وقت آخر، فالمعتبر وقت الدفع، ولا ينافي ذلك الحكم؛ لأنّ الثابت في الذمّة المثل، فلا يتعين إلا بدفع بدله على تقدير([560]).

قال الشهيد الثاني([561]): ((ولو حكم الحاكم بالقيمة على تقدير الإعواز على طلب المالك فكان لازم الحكم كون المطلوب من القيمة وقت الحكم، فإن دفعها الغاصب فذاك، وإلا لم يوجب الحكم بتخصيصها بذلك الوقت من حيث إنّ الحكم تعلّق به؛ لأنّه وقت يجب فيه الدفع، فإذا أخّره إلى وقت آخر فالمعتبر وقت الدفع، ولا ينافي في ذلك الحكم؛ لأنّ الثابت في الذّمة المثل، فلا يتغيّر إلا بدفع بدله على كل تقدير)).

15. قيمة يوم الأداء:

المشهور عند فقهاء الإماميّة والمعتبر عند أبي حامد الغزالي الشافعي والقاضي وابن عقيل من الحنابلة في قيمة المثلي المتعذّر يوم الأداء في كلّ مقام اشتغلت فيه الذمّة بالمثل بسبب الإتلاف أو العقد الفاسد أو القرض أو السلم على بعض الوجوه أو الغصب أو تلف وثيقة الرهن بالتعدّي والتفريط، فإنّ مقتضى القاعدة في الجميع كون القيمة بيوم الأداء([562]).

قال الشيخ الطوسي([563]): ((فإن أعوز المثل ضمن بالقيمة، فإن لم يقبض القيمة بعد الإعواز حتى مضت مدّة يختلف فيها القيمة كان له المطالبة بقيمته حين القبض لا حين الإعواز)).

وحجّته بأنّ المثل ثابت في الذمّة وحكم الحاكم والإعواز لا ينقل المثل إلى القيمة، واعتبر بدل المثل هو القيمة حين قبض البدل.

قال الشهيد الثاني([564]): ((وفي القيمة المعتبرة حينئذ أوجه أظهرها عند الأصحاب اعتبار قيمته يوم الاقباض وهو تسليم البدل لا يوم الإعواز؛ لأن الواجب في الذمّة هو المثل، وإنّما ينتقل إلى القيمة عند إرادة التسليم)).

وأوضح أنّ ذكر تعبير الفقهاء باليوم توسّع والمراد حين الأداء لإمكان اختلاف القيمة في ذلك اليوم، كما استحسن صاحب مسالك الأفهام بأنّه إذا حلّ أجل السلم وتعذّر التسليم لعارض فإنّ على المالك – مضافاً إلى الفسخ – الصبر والمطالبة بقيمة المسلم فيه عند الأداء([565]).

وصرّح العلامة الحلّي في مسألة ما لو تعذّر مثل الدراهم المقترضة، فيجب قيمتها مـن غير الجنس حذراً من الربا وقت الأداء لا وقت التعذّر ولا وقت القرض([566]).

ودليلهم أنّ المثل قد ثبت في الذمّة بمجرّد التلف وأنّ مال المالك قد تبدّل بعد تلفه بمثله الكلي، ولا دليل على سقوطه عن الذمّة بالتعذّر وتبدّله بالقيمة؛ إذ الاشتغال به من خطاب الوضع الذي لا يؤثّر فيه التعذّر والتيسّر، كما أن أصل الدين لا يسقط بتعذّر أدائه بالضرورة.

ثمّ إنّ الذمّة مشغولة بالمثل، فيستصحب بقاء الشغل إلى حين التأدية عنه. وتعذّر المثل لا يوجب الانتقال إلى قيمته، بل تبقى الذمّة مشغولة بالمثل، فيستصحب بقاء الشغل إلى حين التأدية عنه، ولذا يجب على الضامن أداء المثل إذا تمكّن منه بعدما كان متعذّراً لو لم يسبقه دفع القيمة، بل ليس هنا شيء قابل لأن يكون موجباً لانقلاب ما في الذمّة سوى التعذر أو هو والمطالبة، ومن البيّن أنّهما لا يوجبان سوى وجوب دفع القيمة، ولا يعملان لقلب ما في الذمّة؛ إذ ليس فيهما جهة اقتضاء لذلك أصلاً. فما في الذمّة بحاله، وعلى ما هي عليه من غير تغيّر، أو تبدّل.

ثم إنّه لمـّا كان بحكم النقل والعقل على الضامن فوراً ففوراً تفريغ الذمّة وتخليص نفسه من العهدة، وكان الأنسب في فراغها في المقام بحكم الإجماع وغيره هو دفع القيمة، وكان هذا تكليفاً مستمرّاً إلى آن الأداء ووصول الحقّ ولا يسقط بعصيان ولا يتقضّى وقته بمخالفته في الآن الأوّل والثاني والثالث وهكذا، وكان للمثل الذي هو دين عليه في كلّ وقت قيمته، وفي كلّ زمان وظيفته فلا جرم يجب عليه في كلّ وقت مراعاة وظيفة ذلك الوقت، كما هو الشأن في كلّ أمر كان كذلك، كالأمر بقضاء الفوائت وتدارك ما فات من الصلوات على القول بالمضايقة، فإنّه يجب على القاضي رعاية وظيفة وقته من الصلاة قائماً أو منحنياً أو جالساً أو مضطجعاً أو مستلقياً لا وظيفة حال الأداء خاصّة، ولا وظيفة حال حدوث الأمر بالقضاء، فكذلك في المقام يجب رعاية قيمة حال الأداء، فإنّ المكلّف به ليس فرداً خاصاً من القيمة بل الكلي المعادل في المالية، وله في كلّ يوم شأن وفي كلّ آن وظيفة وفي كلّ زمان مصداق حتى أنّه لو دفع في هذا اليوم قيمته السابقة لا يصدق أنّه دفع القيمة، فلا يحصل الامتثال المبرئ للذمة والمفرغ للعهدة. بل لو فرض أنّ الضامن دفع قيمة حين الأداء فاتّفق زيادة قيمة المثل الذي في ذمّة الضامن قبل قبض المالك لها، فعلى الضامن دفع تلك الزيادة ما لم يتحقّق القبض من المالك، كما أنّه لو اتّفق حين الأداء وقبل قبض المالك نقيضها فللضامن ردّ تلك النقيصة، وليس للمالك المطالبة بها ضرورة بقاء المثل في الذمّة، وعدم الفراغ بالشروع في الأداء في الصورتين؛ إذ لا دليل على سقوطه بذلك، كما لا دليل على سقوطه بالتعذّر. فلا ينتقل حقّ المالك إلى القيمة على وجه تفرغ من ذمّة الضامن إلا حيث يتحقّق الأداء.

الرأي المختار:

أنّ مقتضى الاتّجاه الأوّل الذي يقرّ ببقاء العين في الذمّة سواء كانت باقية أو تالفة، وهو ما اخترته فيما سلف اعتبار قيمة المثلي يوم الأداء، لا يوم الإعواز ولا سائر الاحتمالات؛ لما عرف من أنّ الذمة على هذا الاتّجاه مشغولة بالمثلي التالف لا بالمثل ولا بالقيمة، وإنّما يجب دفعهما للتدارك والخروج عن العهدة على نحو يتبع في تعيين أحدهما الممكن منهما في حين إرادة التدارك، وهو قيمة يوم الأداء في الضمان.

أمّا في القرض، فلا مجال للقول بدخول العين المقترضة نفسها في الضمان والعهدة؛ لاستلزم منع المقترض من التصرّف فيها، وعدم ترتيب آثار الملكيّة وهو باطل كما هو معلـوم.

فلا بدّ من تحديد ماهيّة القرض لتحديد مناط قيمة المثل المتعذّر.

إنّ ماهيّة القرض من الماهيات التي اختلفت على حدودها كلمات الفقهاء، فهي مردّدة بين أن تكون معاوضة([567]) وبين أن تكون من الضمانات([568])، ولكن لي محاولة في تحديد معنى القرض بنحو يمتاز عن سائر المعاوضات والضمانات، وذلك بأن ترى أنّ المعاوضات على أقسام منها:

1. ما يكون فيها المعاوضة بين ذاتين، كما في البيع حيث المعاوضة بين الثمن والمثمن.

2. ما تكون المعاوضة بين منفعة وعين، كما في الإجارة.

3. ما تكون معاوضة بين فعلين، كما في الهبة المعوضة، حيث إنّ المعوض هبة العين من الواهب الأوّل، والعوض هو هبة المتّهب الأوّل؛ وفاءً للشرط الذي شرط عليه الواهب الأوّل. فالمعاوضة بين الهبتين بما هما فلا المتهبين.

4. أن تكون المعاوضة بين ذات مال والفعل وهو معنى القرض.

فواقع القرض عبارة عن تمليك العين المقترضة بعوض على المقترض، وذلك العوض فعل المقترض أعني الوفاء، وهذا الفعل يتحدّد من حيث القرض بتعيّن متعلّقة مثلاً أو قيمته، فالقرض تمليك عين الوفاء، المتعلّق بالمثل المثلي وبالقيمة في القيمي. وإطلاق القرض ينصرف إلى ذلك، ولا يحتاج إلى تصريح، ولو صرّح به كان ذلك تأكيداً لما يقتضيه الإطلاق، فتكون قيمة المثل المتعذّر في القرض يوم الأداء ايضاً.

نعم, لو أراد العدول عن المثل أو القيمة كان متوقّفاً على التراضي بين الطرفين، ولا يلزم أحدهما بغير ما قتضاه أطلاق القرض.

ويؤّكد ذلك بأنّ المستفاد من الروايات ثبوت وجوب الوفاء في القرض فقط:

1. ما روي في صحيحه حنّان بن سدير عن الإمام  أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: ((كلّ ذنب يكفّره القتل في سبيل الله إلا الدين لا كفّارة له إلا أداؤه))([569]).

2. ما رواه بشّار عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: ((أوّل قطرة من دم الشهيد كفّارة لذنوبه إلا الدين، فإنّ كفّارته قضاؤه))([570]).

3. ما رواه الصدوق عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام قال: ((إيّاكم والدين فإنّه مَذلّةٌ بالنهار، مَهَمَّةٌ بالليل، وقضاء بالدنيا، وقضاء في الآخرة))([571]).

4. ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: ((من استدان ديناً ولم ينوِ قضاءه كان بمنزلة السارق))([572]).

5. ما روي عن حسن بن علي الرباط قال: سمعتُ الإمام أبا عبد الله الصادق  عليه السلاميقول: ((من كان عليه دين ينوي قضاءه كان معه من الله حافظان يعينانه على الأداء عن أمانته، وإن قصرت نيّته عن الأداء قصر عنه المؤنة بقدر ما قصر من نيّته))([573]).

فتكون القيمة في القرض على ما تقدّم هي قيمة المثل المتعذّر يوم الأداء.

تحديد قيمة المثل المتعذّر في القانون:

ذكر القانون المدني العراقي في مورد القرض بأنّ المثل المنقطع عن أيدي الناس تجب قيمته يوم القرض، فقد جاء في المادّة (691) بأنّه: ((إذا لم يكن في وسع المستقرض ردّ مثل الأعيان المقترضة بأن استهلكها، فانقطعت عن أيدي الناس، فللمقرض أن ينتظر إلى أن يوجد مثلها أو أن يطالب بقيمتها يوم القبض))([574]).

ومثال ذلك إن يقرض بائع كتب بائعاً آخر كتباً ليبيعها بشرط أن يردّ كتباً أخرى مثلها من نفس النوع ونفس الطبعة، فإذا نفذت الطبعة، فقد استحال على المقترض تنفيذ التزامه استحالة مؤقّتة، ويكون قد انقطع وتعذّر المثل, فتجب قيمة الكتب حين قرضها([575]).

وذكر شرّاح القانون العراقي تعيين قيمة المثل المتعذّر في الضمان بيوم الضمان([576]), كما أوضحت قرارات التمييز بأنّ تعيين قيمة المثل بيوم الضمان والقرض والتلف([577]).

ويلاحظ أنّ القانون المدني قد خلط بين سبب الضمان والمضمون، فإنّ السبب يقتضي الضمان يوم حدوثه ولكن لا يحدّد المضمون هل هو المثل أو القيمة؟ وعلى تقدير تحوّله من المثل إلى القيمة لتعذّر المثل، فوقت التحوّل ليس لتأثير بسبب الضمان في ذلك؛ فإنّ المقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون المدني، في تحديد قيمة المثل المتعذّر أو المثلي عند تعذّر مثله على المختار بيوم الأداء, يوقفنا على دقّة وعمق وسعة الفقه الإسلامي عمّا سواه.

 

المبحث الخامس

التمكن من المثل بعد دفع القيمة

إذا طالب المالك بالقيمة من جهة عدم التمكن من المثل ودفع الضامن القيمة ثمّ وجد المثل ولم يرض، بها المالك، فهل يجب على الضامن إعطاء المثل ثانياً واسترجاع القيمة أم لا يجب ذلك؟ فهنالك قولان:

القول الأوّل: عدم وجوب دفع المثل واسترداد القيمة:

هو قول الحنابلة، والمشهور من الإماميّة، بل أدّعي الإجماع عليه، والأصحّ عند الشافعية، لأنّ أخذ المالك القيمة بعنوان استيفاء الدين والحقّ بغير جنسه برضى من له الحقّ وهو مبرئ للذمّة، ومفرغ للعهدة بالمرّة بحيث لو تمكّن الضامن من المثل بعد ذلك لم يجب عليه دفعه؛ لوصول بدل الحقّ إلى مستحقّه برضاً منه، وهو ممّا لا خلاف فيه ولا شبهة تعتريه([578]).

قال السيوطي([579]): ((إنّه إذا غرّم الضامن قيمة المثل في الغصب أو الإتلاف أو السلم أو القرض، فالأصحّ أنّه لا رجوع للمالك بالقيمة لأخذ المثل بعد وجدانه)).

وجاء في كتاب الفروع للحنابلة: ((أنّ الضامن إذا غرّم القيمة ثمّ قدر على المثل لم يرد القيمة في الأصحّ))([580]).

وذهب العلامة الحلي إلى أنّه لو تمكّن الضامن من المثل بعد أداء القيمة وقت الإعواز لا يجب عليه دفع المثل إلى المالك، واسترداد القيمة، كما يجب ذلك في بدل الحيلولة بقوله([581]):

((ومهما غرّم الغاصب أو المتلف، القيمة لإعواز المثل ثمّ وجد المثل هل للمالك بردّ القيمة وطلب المثل؟ الأقرب المنع لبراءة ذمّة الغاصب بأداء بدل المثل، فلا تعود الذمّة مشغولة بالمبدل، كما لو صام الفقير عن الكفّارة، ثمّ استطاع العتق بخلاف ما لو غرّم قيمة العبد ثمّ وجد؛ لأنّ القيمة ليست بدلاً عن العبد حقيقة، وإنّما هي مأخوذة للحيلولة؛ ولأنّ العبد عين حقّ المغصوب منه والمثل بدل حقّه، ولا يلزم من تمكين المالك من الرجوع إلى عين حقّه تمكينه من الرجوع إلى بدل حقّه)).

وادّعى صاحب جواهر الكلام عدم الخلاف في ذلك بأنّ دفع القيمة وقت الإعواز تبرئ ذمّة الضامن حتى لو تمكّن من المثل بعد ذلك لم يجب عليه دفعه، وفرّق بين المقام وبين ما يؤدّي في بدل الحيلولة بين المالك وملكه، فإنّ المقام شبه أداء الدين بغير جنسه مع التراضي بخلاف ما يؤدّي للحيلولة؛ فإنّه ليس بدلاً عن العين نفسها، بل هو بدل عن حيلولتها([582]).

وهذا قول مبني أوّلاً على بقاء المثل في الذمّة وعدم انتقاله إلى القيمة إلا حين الأداء وهو مقتضى الاتّجاه الثاني كما تقدّم. فلا وجه لعود المثل ثانياً إلى الذمّة؛ لأنّه دين في الذمّة، فقد سقط بأداء عوضه مع التراضي، فلا يجوز لصاحب الدين أن يرجع إلى الساقط ثانياً؛ لأنّ الساقط لا يعود إلا أنّ السيّد الخوئي لم يستبعد دفع المثل بعد أن دفع الضامن القيمة على القول بعدم انقلاب المثل المتعذّر إلى قيمي وبقاء المثل في الذمة؛ لأنّ دفع القيمة من جهة دفع البدل، وعليه فيجب دفع نفس ما اشتغلت به الذمّة عند التمكّن منه، كما ناقش دعوى أنّ بدل الحيلولة مختصّ بالأعيان ومحلّ البحث في الذمم، فلا صلة بينهما بوجه بتوضيح أنّ مدرك وجوب بدل الحيلولة إنّما هو قاعدة الجمع بين الحقّين، ومن الواضح أنّه لا اختصاص لهذه القاعدة بالأعيان، بل تعمّ الذمم أيضاً, فيستظهر وجوب دفع المثل عند وجوده دون القول بالانقلاب.

ولكنّه يستدرك بقوله([583]): ((ولكن الصحيح عدم وجوب دفع المثل مطلقاً، وذلك أنّه لم يثبت وجوب دفع بدل الحيلولة من أصله ولم يدلّ عليه دليل شرعي ولا عقلي)).

ثانياً: أن تعذر المثل أوجب تبدّل العين المضمونة من مثليّة إلى قيميّة، بمعنى أنّها كانت مثليّة. وبعد تعذّر المثل انقلبت قيميّة.

فعدم عود المثل إلى الذمّة ثانياً أولى منه في فرض الاتّجاه الأوّل؛ لأنّ المدفوع وقتئذ إنّما هو نفس الموجود في الذمّة لا عوضه، أي القيمة.

القول الثاني: وجوب دفع المثل واسترداد القيمة:

وهو أحد قولي الشافعيّة بأنّه لم يسقط عن ذمّة الضامن بدفع القيمة على وجه لو تمكّن منه بعد ذلك. فلا بدّ حينئذ من استرداده كبدل الحيلولة والسلطنة الفائتة بالتعذّر لا بعنوان نفس المثل، بل بعنوان الملكيّة الفعليّة المتعذّرة نظير بدل الحيلولة حال وجود العين المغصوبة وتعذّر ردّها.

جاء في فتح العزيز لو: ((غرّم الغاصب أو المتلف القيمة لإعواز المثل ثمّ وجد المثل، هل للمالك ردّ القيمة وطلب المثل؟ فيه وجهان:

أحدهما: نعم؛ لأنّه حقّه المثل وإنّما أخذت القيمة للعجز عنه، وإذا حصلت القدرة عدل إليه، كما إذا غرّم قيمة العبد الآبق ثم عاد))([584]).

وتوضيح ذلك أنّ وجوب دفع القيمة على الضامن عند مطالبة المالك إنّما كان لأجل دفع ظلامته بما لا ينافي مراعاة الضامن، وعدم ظلامته أيضاً كما سبق، وهو كما يتحقّق بدفع القيمة بدلاً عن المثل بحيث يسقط المثل عن ذمّة الضامن أصلاً. كذلك يتحقّق أيضاً بدفع القيمة على أنها بدل مراعى إلى حين تمكّن الضامن من المثل فيدفع ويستردّ القيمة، وحينئذ فالشكّ في فراغ ذمّة الضامن من المثل – بعد اليقين بشغل الذمّة به – متحقّق فيستصحب بقاؤه حتى يحصل اليقين بالفراغ.

ويستظهر ممّا تقدّم أنّ دفع القيمة في المقام يوجب براءة ذمّة الضامن من المثل براءة متزلزلة مقيّدة بعدم التمكّن من المثل، فإذا تمكّن منه عادت الذمّة مشغولة به؛ فإنّه لا دليل على فراغ ذمّة الضامن بهذا المعنى.

وبعبارة أوضح أنّ دفع القيمة إلى المالك على أنّها باقية على ملك الضامن حقيقة وإنّما أبيح للمالك التصرّف بها إلى حين قبض ماله الذي هو في ذمّة الضامن, فيكون المثل مستقرّاً في ذمّة الضامن وقيمته في يد المالك إلى حين دفعه له، فيرجع حينئذ بالقيمة ويكون قد أخذ كلّ واحد منهما ماله الذي لم يتحوّل إلى ملك الآخر أصلاً؛ إذ به ترتفع ظلامة المالك بما لا ينافي مراعاة الضامن، فيستصحب استقرار المثل في الذمّة إلى حين اليقين بالفراغ.

اعتراض:

إنّ ما ذكر أعلاه مناف لحقّ الضامن؛ إذ على تقدير موته قبل التمكّن من دفع المثل تبقى ذمّته مشغولة بالمثل وماله في يد المالك، فيكون المالك حينئذ قد جمع بين الحقّين.

الجواب:

إذا فرض موت الضامن ونحوه, فلا بدّ للمالك من قبول القيمة بدلاً عن المثل أو شراء المثل بها؛ تحصيلاً لبراءة ذمّة الضامن ميّتاً كحالة حيّاً في كون ماله في يد لمالك يتصرف به إلى حين التمكّن من المثل.

إنّ هذا القول مبني على الاتّجاه الثالث القائل بأنّ تعذّر المثل قد أوجب انقلاب المثل الثابت في الذمّة إلى القيمة، فكأنّه يتلف بتعذّره فلزمت قيمته.

فاحتمل وجوب المثل عند وجوده؛ لأنّ القيمة حينئذ بدل الحيلولة عن المثل، وأنّ حكمه إنّما هو عود المبدّل عند انتفاء الحيلولة.

اعتراض:

إنّ الالتزام بدفع القيمة في هذا الفرض على الاتّجاه الثالث القائل بأنّ تعذّر المثل يوجب الانقلاب إلى القيمة هو لأجل انقلاب المثل إلى القيمة لا دفع البدل من جهة الحيلولة؛ لأنّه يجتمع مع الانقلاب كما هو مفروض؛ فإنّ المدفوع على فرض الانقلاب إنّما هو نفس ما اشتغلت به الذمّة لا أنّه بدله, فلا فرق بين أن تنقلب العين التالفة قيمية وبين أن ينقلب المثل الثابت في الذمّة قيميّاً.
الرأي الراجح:

التحقيق أنّ ذمّة الضامن قد برئت من الدين بدفع القيمة؛ إذ بدفعها قد حصل الوفاء ولا معنى لبقاء اشتغال ذمّة الضامن بعد ذلك بالمثل؛ لانقطاع مقتضيه وعدم حصول سبب آخر، ووجوب أداء المثل ثانياً يحتاج إلى اشتغال جديد، بل لو أراد بقاء ذمّته مشغولة بالمثل بعد دفع القيمة لزم الجمع بين العوض والمعوض، وأمّا دعوى أنّ المأخوذ في المقام ليس عوضاً عمّا في الذمّة ووفاءً به، وإنّما هو بدل من السلطنة على المثل الفائت فواهية؛ لأنّ كيفيّة التدارك موكوله إلى العرف فإذا عرض الأمر إليهم فهم لا يحكمون في الديون باستحقاق المالك على المدين بأمرين: أحدهما: المثل والآخر السلطنة عليه، وإنّما يحكمون بحقّ واحد، بخلاف ما إذا تعذّر ردّ المضمون مع وجوده لسرقة مثلاً؛ فإنّهم يفكّكون بين السلطنة وأصل المال, فقياس ما نحن فيه ببدل الحيلولة قياس مع الفارق، ولذا ذكر الفقهاء في المقاصّة أنّ ذمّة المدين تتبرّأ بعد المقاصّة، وما نحن فيه أولى منها, بل قد عرفت التشكيك في أصل بدل الحيلولة أصلاً؛ فإنّ وجوب دفع القيمة مع بقاء المبدل منه في ملك المالك يفتقر إلى دليل واضح، ولا دليل يدلّ عليه.

 

الفصل الثاني

سقوط ونقصان وزيادة قيمة المثل

المبحث الأول

سقوط المثل عن المالية

لو خرج المثل باختلاف الزمان أو المكان عن الماليّة بالمرّة، كما إذا أتلف الضامن على المالك ماء في مفازة ثم اجتمعا على جرف نهر أو أتلف عليه ثلجاً في الصيف، ثمّ اجتمعا في الشتاء، أو أخذ ملحاً في محلّ يندر وجوده فيه وله قيمة عند موضع معيّن، وعوضه في مكان ليس له فيه قيمة، كقرب مناجم الملح مثلاً فهل سقوط المثل عن الماليّة يؤدّي إلى انتقال القيمة؟ ومعلوم أنّ الأنتقال من المثل إلى القيمة في صورة التعذّر إنّما كان لأجل تعذّر المكلّف به الذي هو المثل، فيكلّف بدفع القيمة لغرض التعذّر، ولكن للمثل هنا وجود خارجي مع فقد الماليّة فهل يدفع نفس المثل أو القيمة؟

المطلب الأوّل: القول بدفع القيمة:

المشهور عند الفقهاء والأقرب في تذكرة الفقهاء والدروس وجامع المقاصد القول بدفع قيمة المثل لو خرج المثل عن الماليّة باختلاف الزمان أو المكان([585]).

جاء في إيضاح الفوائد: ((وهو الأصحّ لأنّ الاعتبار في المعاملات والضمانات بالقيمة؛ لعدم ملك وضمان ما لا قيمة له، ولا تصحّ المعاملة عليه، فتكون معتبرة في المماثلة من جهة المالية))([586]).

قال البجيرمي([587]): ((إنّما يضمن المثلي بمثله إذا بقي له قيمة، أي ولو تافهة، فالواجب فيه المثل؛ لأنّه الأصل، فلا يعدل عنه إلا إذا زالت ماليته)).

ودليلهم أنّ المثل لو سقط عن الماليّة بالمرّة لم يكف أداء المثل، بل يجب على الضامن أداء ماليّته؛ لأنّه وإن حكم بثبوت المثل في الذمّة – بعد تلف العين – إلا أنّه ليس على وجه الإطلاق، بل بما أنّه مال فإذا سقط المثل عن الماليّة انتقل الضمان إلى القيمة([588]).

اعتراض:

ما ورد في رواية الدراهم الساقطة عن الرواج يدلّ بإطلاقها على جواز ردّها إلى مالكها الأوّل وإن سقطت عن الماليّة وهي: ((ما روي عن يونس.

قال: كتبت إلى الإمام أبي الحسن الرضا عليه السلام: أنّه كان لي على رجل عشرة دراهم وأنّ السلطان أسقط تلك الدراهم وجاءت دراهم أعلى من تلك الدراهم الأولى ولها اليوم وضعية, فأيّ شيء لي عليه، الأولى التي أسقطها السلطان أو الدراهم التي أجازها السلطان؟ فكتب: لك الدراهم الأولى))([589]).

فإذا ثبت هذا المعنى في الدراهم ثبت في غيرها؛ لعدم القول بالفصل.

الجواب:

أنّ الدراهم كانت لا تصاغ إلا من الفضّة، فلا معنى لسقوطها عن الماليّة بالمرّة فلا إشعار في ذلك بجواز ردّ الدراهم الساقطة عن الماليّة إلى مالكها الأوّل، فضلاً عن الدلالة عليه.

المطلب الثاني: القول بدفع المثل:

هو الاحتمال الأوّل في ايضاح الفوائد بإطلاق النصّ بوجوب المثل([590])، ومال إليه صاحب جواهر الكلام بتكليف الضامن بالمثل وإن سقط عن الماليّة.

وأدلّتهم على ذلك:

1. أنّ المبنى المشهور عند الفقهاء اعتبار المثل في ذمّة الضامن؛ وذلك لأنّ المثل ملك للمالك فيجب دفع ملكه، فكما أنّ العين المضمونة بالغصب أو بالبيع الفاسد لو كانت موجودة وجب دفعها بنفسها وإن لم تحمل سعراً سوقيّاً، كذلك المثل المضمون عند تلفه؛ ضرورة عدم فارق في البين بالنسبة؛ لوجوب الدفع بين السقوط عن الماليّة حين الردّ أم لا([591]).

اعتراض:

أنّ معنى شغل الذمّة بالمثل في المثليّات هو أنّ المثل لا موضوعيّة له من حيث التدارك، بل طريق لتدارك التالف وهو المال بالحمل الشائع([592])، وذلك إذ لا معنى للتدارك بما لا ماليّة له.

نعم, لو كان لعنوان المثل موضوعيّة كما في القرض كان الأمر كذلك؛ فإنّ هنا فرقاً واضحاً بين ضمان الغرامة وضمان اليد، فوجوب دفع العين يكون على مقتضى قاعدة اليد، ولكن المثل هاهنا ضمان الغرامة ولا يماثل ضمان اليد.

2. أنّ المثل الذي تعهّد به الضامن هو المماثل بالذات والصفات.

أما الحيثيّة الماليّة، فلم تكن متعلّق الضمان في المثليّات؛ وذلك لبداهة أنّ تعهّد الضامن به إنّما هو لأجل جهاته الذاتيّة والوصفيّة دون الماليّة، والدليل على ذلك عدم ضمان زيادة ماليّة المثل ونقصانها، كما لو كان سعره عند التلف أكثر. فللضامن دفع المثل من دون أن يتدارك الفرق بين وقت التلف ووقت الأداء، وكذا الحال بالنسبة؛ لنقصان قيمة المثل فيستكشف عدم العبرة للحيثيّة الماليّة في المثل؛ لوضوح أنّه لو كانت معتبرة للزم أداء ما به التفاوت في كلتا الحالتين، بل المعتبر فيه الذات والصفات([593]).

اعتراض:

إنّ ثبوت المثل في الذمّة ليس على نحو الموضوعيّة, بل يحمل عنوان الطريقيّة إلى التدارك، ومن المعلوم أنّه لا معنى لتدارك المال بالساقط عن الماليّة.

ثمّ إنّ قياس سقوط المثل عن الماليّة بما تتغيّر ماليّة المثل من زيادة أو نقصان قياس مع الفارق.

3. الأصل ضمان الأموال المثليّة بالمثل، فلو شكّ الضامن بأنّ المضمون به انتقل إلى القيمة بسقوط المثل عن الماليّة أم لا؟ فاستصحاب عدم الانتقال محكَّم، فيحكم ببقاء المثل في الذمّة([594]).

اعتراض:

إنّ استصحاب بقاء المثل في الذمّة ممّا لا شبهة تعتريه، إلا أنّ تدارك المال لا يكون إلا بالمال لا بشيء لا ماليّة له، فلا يتحصّل شكّ لكي يستصحب الأصل كما يضاف إلى ذلك بأنّ ثبوت المثل في الذمّة – بناء على اشتغال الذمة بالمثل في المثلي بعد التلف – وإن كان لأجل كونه مثلاً إلا أنّ المثليّة تتقوّم بالماليّة والصفات الذاتيّة المؤثّرة في الماليّة والمؤثّرة في رغبة الناس في الاقتناء، فالمماثلة لا تتحقّق بمجرّد التشابه في الشكل والصورة, فعليه مع سقوط المثل عن القيمة ما هو متوفّر في يد الضامن أو هو متمكّن منه ليس بمثل حسب الواقع، فلا معنى لجريان الاستصحاب حينئذ.

الرأي الراجح:

الراجح هو القول بدفع القيمة في ضمان المثل الساقط عن الماليّة؛ لأنّ الضامن يضمن الشيء بنفسه وماليّته بحكم الكلمة الجامعة, فيجب عليه تداركه بجميع جهاته بدفعه إن كان موجوداً أو بدفع بدله أو بدل ما فات منه إن كان معدوماً. فلا مناص من دفع القيمة ليحصل به تدارك الماليّة الفائتة التي هي العمدة في باب الضمان.

المطلب الثالث: تعيين قيمة المثل الساقط عن المالية:

وقع الاختلاف بين الفقهاء في تعيين قيمة المثل الساقط عن الماليّة بناءاً عن القول الثاني بأنّ المثل الساقط عن الماليّة يضمن بالقيمة. وهذه القيمة المعتبرة، هل هي قيمة يوم حدوث سبب الضمان – الغصب أو القرض – أو مكانه، أو ادنى القيم التي تفرض للمثل أو القيمة الوسطى؟

أَوّلاً: قيمة أوّل يوم الضمان ومكانه:

صريح القواعد هو وجوب قيمة أوّل يوم الضمان ومكانه للمثل الساقط عن الماليّة([595]). والظاهر من قول السيّد السبزواري([596]): ((أنّه يراعى قيمة المغصوب في زمان الغصب ومكانه، لعدم الموضوع لملاحظة زمان الأداء لفرض ذهاب الماليّة رأساً إلى أن تلحظ الماليّة التقديريّة، ولا دليل على ذلك من عقل أو نقل، فيكون المنساق من أدلّة ردّ المغصوب حينئذ هو زمان الغصب ومكانه بعد عدم أمارة معتبرة على الخلاف)).

وهو قول الشافعية([597]).

جاء في حاشية الجمل: ((فلو أتلف ماء بمفازة مثلاً ثمّ اجتمعا عند النهر وجبت قيمته بالمفازة))([598]).

وجاء في الأنوار لأعمال الأبرار: ((لو خرج المثلي باختلاف الزمان والمكان عن التقوّم بأن أتلف ماء في مفازة أو جمداً في الصيف واجتمعا في شطّ نهر أو في شتاء، لم يكن للمتلف بذل المثل ولزمته قيمة المفازة والصيف ولا تراد))([599]).

ثانياً: أدنى قيم المثل:

أعتبر بعض الفقهاء كصاحب الجواهر والشيخ الأنصاري([600]) وجوب أدنى القيم أو قيمة زمن سقوط المثل عن الماليّة؛ لأنّه في جميع حالاته التي كان معها متموّلاً ومتقوّماً يجب ردّ المثل لا بدل المثل وهي القيمة.

فإذا سقط المثل انتقل من حينه إلى القيمة، فيراعى قيمته في ذلك الحين؛ لأنّ سقوط المثل عن الماليّة بحكم التلف، وهكذا يقال في العين الخارجة عن الماليّة على القول بوجوب دفع القيمة دون العين, مثاله: لو غصب شخص ماءً في مفازة وحمله إلى النهر وفرض نزول قيمته شيئاً فشيئاً بأن يكون كلّما يقترب من النهر نزلت قيمته إلى أن يخرج عن الماليّة، فتشتغل ذمّته بالقيمة عند ذهاب الماليّة بالمرّة([601]).

قال السيّد الخوئي([602]): ((الظاهر هو قيمة سقوط المثل عن الماليّة؛ وذلك لأنّ الثابت في ذمّة الضامن بعد تلف العين إنّما هو المثل، وأنّه باق فيها إلى حين الأداء، وعليه فيحكم ببقاء المثل في الذمّة إلى زمان سقوطه عن الماليّة، وحينئذ يتنقل الضمان إلى القيمة)).

لعدم الدليل على استحقاق المالك عليه أكثر من ذلك، فإنّ المثل بحكم ما دلّ على ضمان المثلي بالمثل، وإن تعذّر ثابت في الذمّة، ويحصل البراءة منه بدفعه في أيّ حال، وعلى أيّ قيمة يكون، ومنها حالة أدنى القيم, فالقدر الثابت وجوبه هو الأدنى ولا دليل على وجوب غيره؛ ولأنّه أقرب إلى يوم الأداء من غيره.

اعتراض:

عدم حصول تدارك الماليّة الفائتة بدفع أدنى قيمة المثل على أن ّمدرك هذا الدليل خاصّ، وإلا فالدليل العامّ قاض بتدارك الماليّة الفائتة بالغاً ما بلغت، ولازمه رعاية ماليّته حال أوّل الضمان – الغصب أو القرض.

الرأي المختار:

ينبغي ملاحظة أمور ثلاثة مقدّمةً لعرض الرأي المختار:

الأوّل: تقدم أنّ مقتضى أدلّة الضمان أستقرار العين المضمونة على الإطلاق في الذمّة، وتستمرّ فيها إلى حين التفريغ الفعلي بالمثل أو القيمة، يبتني على هذا بأنّ التحوّلات في القيمة السوقيّة الطارئة المتخلّلة بين الضمان والتفريغ لا تكون مضمونة.

الثاني: أنّ باب الضمانات لا يمكن الاحتياط فيه؛ لأنّ الاحتياط إمّا بدفع الزيادة للمالك وإمّا بتنقيص ما يحتمل ثبوته على الضامن. وفي الأوّل احتياط بإيصال الحقّ إلى المالك، وفي الثاني احتياط بعدم إلزام الضامن بما لا نعلم ثبوته عليه. فلو كان متبنّي الاحتياط أحد الخصمين، فله الحقّ أن يتنازل أحتياطاً للآخر إلا أنّ الفقيه والباحث ليس له الحكم بأيّ منهما؛ إذ ملاحظة أحدهما تقتضي هضم حقّ الآخر فالمسألة في مقام الحكم الفقهي تدور بين محذورين.

الثالث: أنّ دعوى ملاحظة قيمة يوم الضمان لا يتلاءم مع الالتزام بأشتغال الذمّة بالعين، كما أنّ دعوى ملاحظة أدنى القيم وهي القيمة الأخيرة قبل سقوط المثل عن القيمة، لا وجه له على المباني كافّة، فإنّه لو فرض أنّ الذمّة مشتغلة بالعين مادامت باقية وبالمثل مع تلفها، فإنّ شغلها بالمثل ليس يماثل التالف؛ لأنّ المماثلة لا بدّ أن تكون كذلك في الماليّة والخصوصيات، وليس فقط  في الشكل والصورة. فملاحظة القيمة الدنيا التي بالقياس إلى ماليّة المضمون لا يعدّ شيئاً وفيه ظلم على المالك, كما أنّ فتح مثل هذا الباب يجزيء الناس على اتّخاذ ذلك تجارة مربحة، فمثلاً لو كان للماء الصافي المقطّر قيمة عالية في بعض المناطق فيغصبه الغاصب ثمّ يستصحب الغاصب المالك إلى منطقة يباع فيها ذلك الماء بقيمة ضئيلة قريبة السقوط، ليوفيه تلك القيمة, أليس هذا ظلماً على المالك؟

ففي ضوء هذه الأمور لا ينبغي الحكم بقيمة يوم الضمان أو مكانه؛ إذ المفروض أنّ الثابت في الذمّة العين إلى حين تفريغ الذمّة، وملاحظة قيمة ذلك اليوم أو المكان دون سائر القيم، ترجيح بلا مرجّح، ولا دليل عليه

ومعلوم أنّه ليس دائماً نزول القيمة مستمرّاً إلى حين الأداء بحيث لا تفرض الزيادة؛ إذ لا يمكن فرض صعود القيمة في مكان أو زمان ثمّ النزول إلى أن تسقط القيمة، فملاحظة قيمة وقت معيّن أو مكان تفتقر إلى دليل كما لا يمكن ملاحظة قيمة يوم الأداء لأنّ فيه ظلماً على المالك، ولا أعلى القيم من حين الضمان إلى حين الأداء؛ إذ لا دليل عليها, كما أنّه ينافي استقرار العين في الذمّة إلى حين التفريغ, فالمخلص الوحيد من المثل هذه المسألة إلزام الخصمين بالمصالحة, وبهذا تبرأ ذمّة الضامن والمالك.

 

المبحث الثاني

نقصان قيمة المثل عن قيمة المثلي

المشهور عند الفقهاء أنّه لو نقصت قيمة المثل عن قيمة المثلي فللمالك المثل خاصّة، وأنّ حاله كحال المثلي إذا نقصت قيمته السوقيّة من غير حصول نقص فيه، فكلما يردّ المثلي فكذلك يردّ المثلي فكذلك يردّ المثل هنا([603]).

قال السيّد الخوئي([604]): ((إنّ نقص القيمة السوقيّة لا يضمن عند أداء نفس العين، فكيف يضمن عند أداء مثلها؟ وعليه, فإذا أخذ شيئاً بالبيع الفاسد ثمّ نزلت قيمته لم يجب عليه شيء زائداً على ردّ نفس المبيع. فإذا تعذّر ردّه لتلف ونحوه انتقل الضمان إلى مثله دون زيادة)).

وادّعى السيّد السبزواري الإجماع على ذلك، واستدلّ بإطلاق أداء المثل وأصالة البراءة عن الزائد عن المثل بقوله([605]): ((لو وجد المثل، ولكن تنزّل قيمته لم يكن على الغاصب إلا اعطاؤه، وليس للمالك مطالبته بالقيمة، ولا بالتفاوت لإطلاق أداء المثل وأصالة البراءة عن الزائد عليه وظهور الإجماع. فلو غصب مَنّاً من الحنطة في زمان كانت قيمتها عشرة دراهم وأتلفها ولم يدفع ثمنها قصوراً أو تقصيراً إلى زمان قد تنزّلت قيمتها فيه وصارت خمسة دراهم لم يكن عليه إلا إعطاء منّ من الحنطة ولم يكن للمالك مطالبة القيمة ولا مطالبة خمسة دراهم مع منّ من الحنطة)).

وقال ابن قدامة([606]): ((إنّ المستقرض يردّ المثل من المثليات سواء رخّص سعره أو غلا أو كان بحاله)).

وجاء في حاشية ردّ المحتار: ((كلّ ما يكال ويوزن لما مرّ أنّه مضمون بمثله فلا عبرة بغلائه أو رخصه. ذكره في المبسوط من غير خلاف, وجعله في البزازية وغيرها قول الإمام))([607]).

وقال البجيرمي من الشافعيّة([608]): ((إنّما يضمن المثل بمثله إذا بقي له قيمة، أي ولو تافهة، فالواجب فيه المثل؛ لأنّه الأصل، فلا يعدل عنه إلا إذا زالت ماليّته من أصلها)).

وقد يناقش هذا الرأي بأنّ العمدة في الضمانات تدارك الماليّة، وهي لا تحصل بأداء المثل بعد تنزّله سيّما إذا كان كثيراً لأنّ الواجب على الضامن تدارك ما فات على المالك من أصل المال  وصفاته التي أعظمها الماليّة، ومجرّد ثبوت معادله في الذمّة في حال التلف لا يحصل منه تدارك ما فات منه، بل التدارك إنّما يحصل بالأداء.

ويمكن الجواب عنه بأنّ عمدة ما يدلّ على الضمان هو الضمان أوّلاً بالمعادل التامّ وهو المثل ما دام له ماليّة، أي ضمان المثلي بالمثل.

 

المبحث الثالث

زيادة قيمة المثل عن المثلي

إذا لم يجد الضامن المثل إلا بأكثر من ثمن المثلي إمّا لعزّته وإمّا لعدم وجوده إلا عند من يطلبه بأكثر من قيمته أو لكثرة الراغبين فيه.

فهل يجب على الضامن شراؤه ودفعه إلى المالك؟ أو لا يجب ذلك؟ بل لا بدّ أن يصبر المالك إلى أن يكثر المثل أو تنزّل قيمته السوقية أم يفصّل بين ما كانت زيادة القيمة من جهة السوق والرواج وبين ما كانت الزيادة لمطالبة من عنده المثل بالزيادة؟

القول الأوّل: عدم وجوب شراء المثل عند وجوده بأكثر من ثمنه:

الأظهر عند الشافعيّة والأصحّ عند الغزالي والنووي والشاشي، عدم وجوب شراء المثل عند وجوده بأكثر من ثمنه([609]).

قال أبو إسحاق الشيرازي([610]): ((يحتمل وجهين: أظهرهما أنّه يلزمه عدم شراء المثل؛ لأنّ وجود الشيء بأكثر من ثمن المثل كعدمه, كما قلنا في الماء في الوضوء والرقبة في الكفّارة)).

وجزم ابن المقري بعدم تحصيله إذا وجد بزيادة عن ثمنه بقوله([611]): ((لزم تحصيله إن وجد بثمن المثل وان وجد بزيادة فلا)).

واعتبر صاحب النهاية أنّ وجود المثل بأكثر من ثمن المثل من فقدان المثل، وتجب فيه القيمة))([612]).

وتوقّف صاحب تذكرة الفقهاء وجامع المقاصد من الإماميّة من شراء المثل بأكثر من ثمنه، واعتبر المثل كالمعدوم.

واحتجّا بأنّه يمكن معاندة المالك وطلب أضعاف قيمة المثل وهو ضرر منفي في الشريعة، كما أنّه بمنزلة أخذ المالك للقيمة الزائدة الذي أجمع الفقهاء على عدم جوازها([613]).

قال العلامة الحلّي([614]): ((إذا أتلف المثلي وجب عليه تحصيل المثل، فإن وجده بثمن المثل وجب عليه شراؤه بلا خلاف، وإن لم يجده إلا بأزيد من ثمن المثل ففي إلزامه بتحصيله إشكال ينشأ من أنّ الموجود بأكثر من ثمن المثل كالمعدوم كالرقبة في الكفّارة، والهدي)).

القول الثاني: وجوب شراء المثل الموجود بأكثر من ثمنه:

الأظهر عند صاحب التهذيب والقاضي الروياني والبغوي والسبكي من الشافعيّة، والمشهور عند فقهاء المالكيّة وجوب شراء المثل الموجود بأكثر من ثمنه([615]).

قال السيوطي([616]): ((استواء السلم والقرض والغصب والإتلاف على المختار في وجوب التحصيل بأكثر من ثمن المثل)).

وقاس الفقهاء وجوب شراء المثل الموجود بأكثر من ثمنه على المسلم فيه، فيجب تحصيله ولو بأكثر من ثمن المثل؛ إذا لم يوجد بثمن المثل ولا ينزّل ذلك منزلة الانقطاع؛ لأنّ المسلم فيه قد وقع العقد عليه، فكأنّه بحكم العين يجب ردّها مهما كلّفت من ثمن.

وهو قول الشيخ الطوسي وابن إدريس وفخر المحقّقين والشهيد الأوّل من الإماميّة بوجوب شراء المثل([617]).

وحجّتهم في  ذلك:

صدق القدرة على المثل؛ لأنّه كالعين الواجب ردّها على كلّ حال، وإن كانت مؤنة ردّها أضعاف قيمتها، وضرر الضامن لا يزول بضرر المالك، والغاصب مؤاخذ بأشقّ الأحوال، مؤيّد ذلك كلّه بفحوى حكمهم بأن تنزّل قيمة المثل حين الدفع عن يوم التلف لا يوجب الأنتقال إلى القيمة، بل ربّما احتمل بعضهم ذلك مع سقوط المثل في زمان الأداء عن الماليّة بالمرّة.

قال الشهيد الأوّل([618]): ((ولو تعذّر المثل إلا بأضعاف قيمته كلّف الشراء على الأقرب)). وإضافة إلى ما ذكر نفي الخلاف في كتاب الخلاف حيث جاء فيه: ((إذا غصب ماله مثلٌ كالحبوب والأدهان، فعليه مثل ما تلف في يده ويشتريه بأيّ ثمن كان بلا خلاف))([619]). وما ذكر ابن إدريس من جواز إلزام الضامن بالمثل في محلّ الظفر وإن كان أعلى قيمة من محلّ الضمان، وكان حمله يحتاج إلى مؤونة؛ لأنّه يقتضيه عدل الإسلام والأدلّة([620]).

وتفصيل المسألة وتحقيقها بأنّ زيادة المثل تكون على صورتين:

الصورة الأولى: زيادة قيمة المثل لزيادة القيمة السوقيّة:

أنّ هذه الزيادة ناتجة لعزّة وجود المثل أو لكثرة الراغب فيه عن قيمته يوم التلف، والظاهر أنّه لا إشكال في وجوب شراء المثل ولو بأضعاف قيمته؛ لأنّ الثابت في ذمّة الضامن ابتداءً ليس إلا نفس المثلي بجميع خصوصياته النوعيّة والماليّة والشخصيّة وإذا تلف المثلي وجب على الضامن أداء مثله وهو الكلّي الجامع لجميع الخصوصيات الدخيلة في الماليّة، لا الخصوصيات الدخيلة في التشخّص الخارجي.

فزيادة القيمة السوقيّة لا تؤثّر في جواز تأخير الأداء تمسّكاً بأدلّة نفي الضرر، ضرورة أنّه لم يتوجّه على الضامن ضررٌ آخر غير الضرر المتوجّه عليه من ناحية حكم الشارع بأداء المثل، فإنّ الحكم بالضمان لوروده مورد الضرر لا يرتفع بدليل نفي الضرر، ويضاف إلى ذلك أنّ أدلّة نفي الضرر مسوقة للامتنان.

ولا ريب أنّ رفع الضمان خلاف الامتنان على الأمة، بل الامتنان في ثبوته.

ونقل الشيخ الطوسي الإجماع عليه في المبسوط وحجّته: ((عموم النصّ والفتوى بوجوب المثل في المثلي، ويؤيّده فحوى حكمهم بأن تنزّيل قيمة المثل حين الدفع عن يوم التلف لا يوجب الانتقال إلى القيمة))([621]).

والغرض من الفحوى هو أنّ عدم الانتقال إلى القيمة عند نزول قيمة المثل حين الأداء إنّما هو لصدق المماثلة، ومن الواضح أنّه إذا صدقت المماثلة مع نقص القيمة، مع أنّ المثل عندئذ لا يساوي المثلي في الماليّة صدقت مع زيادة القيمة السوقيّة أيضاً بالأولويّة.

واستشكل السيّد الخوئي على الإجماع على أنّه ليس تعبّديّاً وكاشفاً، وأمّا النصوص فعدم تماميّتها إمّا من حيث السند وإمّا من حيث الدلالة، وإمّا الفتوى فلا اعتبار بها.

وأمّا الفحوى، فلأنّ الكلام ليس في صدق المماثلة وعدم صدقها لكي نتمسّك في ذلك بالفحوى، بل محلّ البحث إنّما هو لزوم شراء المثل بالقيمة العالية وعدم لزوم شرائه بذلك، وقد عرف لزومه من ناحية السيرة([622]).

فالراجح أنّه لا مجال للتردّد والتوقّف لأنتفاء الضرر الذي هو منشأ له، بل المتّجه فيها هو وجوب الشراء قضاء لحقّ عدل الإسلام وقواعده السليمة عن المعارض والسيرة.

الصورة الثانية: زيادة ثمن المثل لزيادة شخصية:

وهي زيادة قيمة المثل؛ لعدم وجوده حين المطالبة إلا عند من يدفعه بأضعاف قيمته بحيث يعدّ بذل المال بإزائه ضرراً عرفاً لقاعدة نفي الضرر الحاكمة على كافّة القواعد، والخروج عنها في خصوص مسألة ردّ العين المغصوبة للإجماع.

وأمّا دعوى مقايسة ردّ المثل بردّ المثلي ففاسدة؛ وذلك لعدم مشابهة ردّ المثل بأضعاف قيمته في هذه الصورة للزيادة الشخصيّة، كما في صورة ردّ العين المغصوبة إن استلزم ضرره بأضعاف قيمتها، فإنّ ذلك لأجل رعاية العلاقة الخاصّة بين المالك والذات المملوكة، كما يقتضيه الحديث: ((على اليد ما أخذت حتى تؤدّي))([623]).

وقول الإمام موسى الكاظم عليه السلام: ((المغصوب كلّه مردود))([624]).

وأمّا المثل, فلا علاقة للمالك معه ولا تعدّي فيه ولإن أوجب العدل مراعاته في الغرامة، فلا يوجبه الإضرار.

فزيادة القيمة في هذه الصورة لم تنشأ من ناحية ثبوت المثل في الذمّة، إنّما نشأت من ناحية الأمور الخارجيّة, فوجوب أداء المثل يدفع بأدلّة نفي الضرر، فاتّضح أنّه إذا توقّف ردّ المثل إلى المالك على تضرّر الضامن لم يجب ردّه لأدلّة نفي الضرر في صورة زيادة ثمن المثل لزيادة شخصيّة.

ثمّ إنّ ما استند إليه من الوجوه في الصورة الأولى وهي زيادة ثمن المثل لزيادة قيمته السوقيّة لا يرجع إلى معنى محصّل؛ لما عرفت لكي نعتمد عليه في الصورة الثانية وهي زيادة قيمة المثل لزيادة شخصيّة، وإنّما التزم بوجوب شراء المثل في الصورة الأولى من جهة السيرة، ومن الواضح أنّه لا تجري في الصورة الثانية.

اعتراضات وأجوبتها:

الاعتراض الأوّل:

يجب تحصيل المثل في صورة زيادة قيمة المثل لزيادة شخصية وإن كان تحصيله بقيمة عالية؛ لأنّ الغاصب يؤاخذ بأشقّ الأحوال.

الجواب:

لا دليل على أخذ الغاصب بأشقّ الأحوال، فهو ليس حديثاً ولا معقد إجماع، وإن سلّم بذلك، فهو مختصّ بردّ الأعيان([625]).

الأعتراض الثاني:

إنّ الضرر في صورة زيادة ثمن المثل لزيادة شخصيّة ليس في متعلّق التكليف أي بأداء المثل، وإنّما هو في مقدّماته، أعني بها تحصيل المثل بأكثر من القيمة السوقيّة، ومن الظاهر أنّ أدلّة نفي الضرر لا تشمل مقدّمات التكليف، لأنّ وجوب المقدّمة عقلي لا شرعي، فيجب تحصيل المثل ولو لزيادة ثمن المثل لزيادة شخصيّة.

الجواب:

أنّ أدلّة نفي الضرر مسوقة لرفع التكاليف الضروريّة، سواء أكان التكليف أصليّاً أم كان مقدّميّاً، فلا يحكم بوجوب الصلاة قائماً على من يقدر على القيام، ولكن كان القيام عليه ضرريّاً، وكذلك لا يحكم بوجوب الحجّ على من يقدر على الإتيان بمناسك الحجّ ولكن كانت مقدّماته ضرريّة.

فأدلّة نفي الضرر ترفع وجوب المقدّمة بناء على وجوب المقدّمة شرعاً.

أمّا بناء على وجوب المقدّمة عقلاً، فإنّ أدلّة نفي الضرر إنّما هي تنفي الحكم الناشئ من قبله الضرر، فكلّ حكم ضرري مرتفع في الشريعة سواء أكان الحكم بنفسه ضرريّاً أم كان الضرر ناشئاً من قبله.

فوجوب المقدّمة وإن كان عقليّاً، إلا أنّه إذا كان ضرريّاً كان مشمولاً بأدلّة نفي الضرر بداهة أنّ الضرر هنا إنّما نشأ من قبل حكم الشارع بوجوب ذي في المقدّمة([626]).

فالراحج أنّه لا يجب شراء المثل، لزيادة قيمته لزيادة شخصية لأدلّة نفي الضرر.

زيادة ونقصان قيمة المثل عن المثلي في القانون المدني:

أوضح القانون المدني العراقي في مورد القرض أنّ المثل إذا نقص أو زاد قيمته عن المثلي وجب ردّ المثل ولا عبرة بالزيادة والنقصان مطلقاً من غير تفصيل بين كون الزيادة حاصلة من جهة السوق والرواج، وبين ما كانت الزيادة لمطالبة من عنده المثل بالزيادة، فقد جاء في المادة (690): ((إذا وقع القرض على شيء من المكيلات أو الموزونات أو المسكوكات أو الورق النقدي، فرخّصت أسعارها أو غلت، فعلى المستقرض ردّ مثلها، ولا عبرة برخصها وغلائها))([627]). وخلال المقارنة نلاحظ دقّة وتفصيل الفقه الإسلامي، والعمق الفكري في مجال الوقائع الحياتيّة عن القانون المدني.

 

الفصل الثالث      

العوامل المؤثرة في تحديد قيمة القيمي

اختلف الفقهاء في تعيين القيمة المضمونة للمال القيمي بعد تلفه – بعد اتّفاقهم على ضمان المال القيمي بالقيمة، كما مرّ في الباب الأوّل – عند اختلاف القيمي للمال القيمي بحسب السوق في الأزمنة من يوم حدوث العهدة إلى يوم الأداء على أقوال, وسنتكلّم على كلّ قول في مبحث مستقلّ.

 

المبحث الأوّل

قيمة يوم العهدة أو الضمان

ذهب جمع من الفقهاء إلى ضمان المال القيمي بقيمة يوم العهدة أو الضمان، ونعـرض آراء الفقهاء القائلين بيوم العهدة أو الضمان حسب المذاهب الفقهية:

الحنفيّة:

اتّفق فقهاء الحنفيّة على أنّه إذا أتلف الضامن المال القيمي فيضمن قيمته يوم الضمان أو العهدة([628]).

جاء في الفتاوي المهدية: ((في رجل باع لآخر جاموسة بثمن معلوم، ووضع المشتري يده عليها مرّة وهو يتعهّدها ويصلحها ثمّ بعد ذلك أخذها شيخ البلد الذي هو البائع من أولاد المشتري وذبحها في غيبة المشتري، وباع لحمها مدّعياً أنّها كانت تحت يد المشتري وديعة فقط.

فهل إذا حضر المشتري وأثبت البيع منه بشهادة البيّنة وإقراره بذلك مراراً, يحكم عليه بضمان قيمتها التي بيعت بها بعد الذبح؟

أجاب: على من تعدّى على ملك غيره واستهلكه بغير وجه شرعي ضمانه لمالكه ببدله الشرعي وقت غصبه لا بما بيعت به بعد الذبح))([629]).

الحنابلة:

روي عن أحمد بن حنبل بتعيين قيمة المال القيمي المضمون بقيمة يوم العهدة أو الضمان في الغصب.

فقد ذكر الحارثي بأنّه خرج قول أحمد بن حنبل في حوائج البقال – عن يوم التلف – بأنّه يعطيه على سعر يوم الأخذ – أي يوم الضمان أو العهدة – وفرّق بينهما بأنّ الحوائج يملكها الآخذ بأخذها بخلاف المغصوب([630]).

جاء في الشرح الكبير: ((روي عن أحمد في رجل أخذ من رجل أرطالاً من كذا وكذا أعطاه على السعر يوم أخذه لا يوم محاسبته، ولذلك روي عنه في حوائج البقال: عليه القيمة يوم الأخذ.

وهنا يدلّ على أنّ القيمة تعتبر يوم الغصب))([631]).

المالكيّة:

هو قول مالك والمشهور عند فقهاء المالكيّة قيمة يوم الضمان أو العهدة سواء زادت القيمة بعد ذلك أم نقصت([632]).

جاء في المدوّنة الكبرى: ((قال مالك من اغتصب حيواناً فإنّما عليه قيمته يوم اغتصبه، ولست التفت إلى نقصان قيمة الحيوان أو زيادته بعد ذلك([633]).

الزيديّة:

وهو قول الزيديّة في السيل الجرار: ((إنّ المال القيمي مضمون بقيمته يوم الضمان أو العهدة في الغصب))([634]).

الإماميّة:

هو قول صاحب المقنعة والمراسم والمبسوط والنهاية والمختصر النافع وكشف الرموز ومختلف الشيعة وشرائع الإسلام.

وحكي في التحرير أنّه مذهب الأكثر ومشارق الأحكام([635]).

وأدلّتهم على ضمان المال القيمي بقيمة يوم العهدة أو الضمان هي:

أولاً: رواية أبي ولاّد:

لما كان أشهر ما يستدلّ به للقول بقيمة يوم الضمان أو العهدة أو الغصب في ضمان المال القيمي عند الإماميّة, هي رواية أبي ولاّد، ناسب ذكرها والتعرّض لها وبيان ما فيها من الفقرات بحسب ما يبلغ إليه النظر القاصر.

متن رواية أبي ولاّد:

روى الكليني عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن أبي ولاّد الحنّاط, ((قال: أكتريت بغلاً إلى قصر أبي هبيرة ذاهباً وجائياً بكذا وكذا، خرجت في طلب غريم لي، فلمّا صرت قرب قنطرة الكوفة خُبَّرتُ أنّ صاحبي توجّه إلى النيل، فتوجّهت نحو النيل, فلمّا أتيت النيل خُبَّرتُ أنّ صاحبي يتوجّه إلى بغداد, فأتبعته وظفرت به وفرغت فما بيني وبينه ورجعنا إلى الكوفة، وكان ذهابي ومجيئي خمسة عشر يوماً، فأخبرت صاحب البغل بعذري وأردت أن أتحلّل منه ممّا صنعت وأُرضيه، فبذلت له خمسة عشر درهماً فأبى أن يقبل، فتراضينا بأبي خفية، فأخبرتُه بالقصّة وأخبره الرجل, فقال لي: ما صنعت بالبغل، فقلت له دفعته إليه سليماً, فقال: نعم بعد خمسة عشر يوماً. قال: فما تريد من الرجل؟ فقال: أريد كراء بغلي فقد حبسه عليَّ خمسة عشر يوماً.

فقال: ما أرى لك حقّاً لأنّه اكتراه إلى قصر ابن هبيرة فخالف وركبه إلى النيل وإلى بغداد، فضمن قيمة البغل وسقط الكراء، فلمّا ردّ البغل سليماً وقبضته لم يلزم الكراء، قال: فخرجنا من عنده وجعل صاحب البغل يسترجع, فرحته ممّا أفتى به أبو حنيفة فأعطيته شيئاً وتحلّلت منه، وحججت تلك السنة فأخبرتُ أبا عبد الله الصادق عليه السلام بما أفتى أبو حنيفة فقال: في مثل هذا القضاء وشبهه تحبس السماء مائها، وتمنع الأرض بركاتها، قال: فقلت لأبي عبد الله عليه السلام فما ترى أنت؟ قفال أرى له عليه مثل كراء بغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل ومثل كراء بغل راكباً من النيل إلى بغداد، ومثل كراء بغل من بغداد إلى الكوفة توفّيه إياه([636]), قال: فقلت: جعلت فداك قد علفته بدراهم فلي على علفه؟ فقال: لا؛ لأنّك غاصب, قال: فقلت: له أرأيت لو عطب([637]) البغل أو نفق([638]) أليس كان يلزمني؟ قال: نعم قيمة بغل يوم خالفته, قلت: فان أصاب البغل كسر أو دبر أو غمز؟

 فقال: عليك قيمته ما بين الصحّة والعيب يوم تردّه عليه, فقلت: من يعرف ذلك؟ قال: أنت وهو إمّا أن يحلف هو على القيمة فيلزمك، فإن ردّ اليمين عليك فحلفت على القيمة لزمه ذلك، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا فيلزمك))([639]).

سند رواية أبي ولاّد:

لا بدّ من بيان سند رواية أبي ولاّد من بيان رجال الرواية:

1. أحمد بن محمد: وهو ابن محمد بن عيسى بن عبد الله بن سعد بن مالك الأشعري المكنّى بأبي جعفر، أوّل من سكن قمّ من آبائه سعد بن مالك بن الأحوص، وهو شيخ القمّيّين ووجههم وفقيههم ولقي الأئمة: عليّ بن موسى الرضا، ومحمد الجواد، وعليّ الهادي  عليهم السلام([640]).

وذكر العلامة الحلّي أنّه كان ثقة([641]).

ويدلّ على أنّ المراد من أحمد هو هذا الرجل في هذا السند أمور. وقوعه في وسط السند وروايته عن ابن محبوب وانصراف الإطلاق إليه؛ لكونه أشهر وأعرف.

ثمّ إنّ للشيخ الطوسي أسانيد عديدة إليه أكثرها بل جميعها أسانيد صحيحة قد ذكرها في الفهرست والاستبصار والتهذيب, كما عدّه الكليني في غاية الصحة([642]).

2. ابن محبوب: الظاهر أنّه الحسن بن محبوب السراد المكنّى بأبي علي مولى بجيلة, وهو كوفي ثقة روى عن أبى الحسن الرضا عليه السلام، وروى عن ستّين رجلاً من أصحاب أبي عبد الله الصادق عليه السلام. وكان جليل القدر وقد استفاضت حكاية وثاقته وعدالته, ووثّقه جمع من علماء الحديث بحديث يقطع الخالي الذهن بوثاقته([643]).

3. أبو ولاّد: هو حفص بن سالم – يونس – أبو ولاّد المخزومي، يكنّى الحنّاط كوفي مولى جعفي، روى عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام وهو ثقة لا بأس به([644]).

فالراجح أنّ الرواية صحيحة عند المشهور، ولو تنزّل، فلا أقلّ من كون الرواية موثوقاً بها، مفيد للظن الاطمئناني بصدقها، فلا مجال للمناقشة في سندها، سيّما بعد اعتضادها بالعمل، فلا إشكال فيها من حيث السند بوجه عام.

الاستدلال برواية أبي ولاّد:

استدلّ الشيخ  الطوسي في المبسوط, كتاب الغضب وابن إدريس في السرائر, والسيّد الطباطبائي في الرياض، والنجفي([645]) برواية أبي ولاّد بكشفها عن معنى التدارك والغرامة في الضمانات بيوم الضمان أو العهدة أو الغصب بجملة: ((أرأيت لو عطب البغل ونفق، أليس يلزمني؟ فأجاب عنه الإمام الصادق عليه السلام بقوله: نعم, قيمة بغل يوم خالفته)).

والاستدلال في تعيين القيمة يوم الضمان بوجهين:

الوجه الأوّل:

الاستدلال بقوله عليه السلام: ((نعم, قيمة بغل يوم خالفته)).

على ضمان المغصوب بقيمة يوم الغصب بأن يكون الظرف متعلّقاً بقوله عليه السلام: ((نعم))؛ لأنّ لفظ ((نعم)) من جهة قيامه مقام الفعل المقدّر ((يلزمك))، تكون القيمة يوم المخالفة وهو يوم الضمان.

وقد اُعتُرِضَ على ذلك بما يلي:

الاعتراض الأوّل:

لا دلالة في الرواية على الضمان بقيمة يوم الضمان أو يوم المخالفة دلالة مطابقية؛ لأنّ معنى الفقرة: ((إنّك تلزمك القيمة يوم المخالفة)) من غير تعرّض لبيان أنّ هذه القيمة يوم المخالفة، أي يوم الضمان، أو هي قيمة يوم الأداء، أو قيمة يوم التلف أو غير ذلك من القيم.

نعم, لا بأس بدلالة فقرة الرواية على ذلك التزاماً؛ فإنّ ذكر القيمة فيها ثمّ إضافتها إلى كلمة بغل ثمّ ذكر يوم المخالفة بعد ذلك من القرائن الظاهرة بأنّ الإمام الصادق عليه السلام علّق الضمان بيوم المخالفة وقدّر ماليّة المضمون بها، فبناءً على ذلك؛ فإنّ الضمان بقيمة ذلك اليوم.

الاعتراض الثاني:

إنّه لا معنى لجعل الظرف متعلّقاً بلفظ ((نعم)) من جهة قيامه مقام الفعل، ضرورة أنّ ذلك يقتضي الحكم بضمان القيمة من يوم الضمان، مع أنّه واضح البطلان؛ لأنّ الضمان لا يتعلّق بالقيمة قبل تلف العين؛ إذ الانقلاب إلى القيمة إنّما يكون بعد تلفها.

الوجه الثاني:

أنّ الظرف، وهو لفظ ((يوم)) قيد كلمة ((قيمة))، وتقريب ذلك بما يلي:

1. أن يكون الظرف متعلّقاً بكلمة ((قيمة)) بدعوى أنها وإن لم تكن معنى حدثيّاً، ولكن فيه شائبة الحدثيّة, لأنّها ليست من الجوامد المحضة حتى لا يصحّ تعلق الظرف بها، وعليه فينوّن لفظ ((بغلٍ)) على الجرّ بإضافة القيمة إليه. كما اختاره الشيخ الأنصاري([646]).

ويؤيّد هذا التقريب أنّ لفظ ((البغل)) في نسخة الوافي وفي بعض نسخ التهذيب محلّى بلام التعريف، وحينئذ, فلا يصلح للإضافة إلى ما بعده([647]).

فمفاد الرواية هو أنّ الثابت على الغاصب إنّما هو قيمة يوم المخالفة، فتدلّ على ضمان المغصوب بقيمة يوم الغصب.

اعتراض:

إنّه كما يحتمل ما تقدّم كذلك يحتمل أيضاً تعلّق الظرف بــ((نعم)) القائمة مقام الفعل المدلول عليه بالسؤال، فكأنّه قال عليه السلام: يلزمك يوم المخالفة قيمة ((بغل)), فلا يدلّ على المطلوب، ودعوى ظهور الرواية في الوجه الأوّل كدعوى ظهورها في الوجه الثاني، لا شاهد عليها، بل الإنصاف أنّه لا تطمئنّ النفس بظهور أحد الاحتمالين على وجه يكون حجّة على المطلوب([648]).

مضافاً إلى احتمال ورود القيد بيوم المخالفة في الرواية، أي يوم الغصب؛ لمساواة قيمة يوم الغصب لقيمة يوم التلف في المدّة القليلة، فلا يكون التقيّد به مناطاً, ومع فرض اختلاف القيمتين فاختيار التعبير به من جهة سهولة إقامة الشهادة فيه.

2. أن تضاف شبه الجملة ((قيمة بغل)) – أي مضاف ومضاف إليه – إلى قوله ((يوم خالفته))، وحينئذ يكون الغرض من تلك الجملة هو أنّ القيمة المتخصّصة بإضافتها إلى البغل الثابتة يوم المخالفة لازمة على الغاصب.

ولا بُعدَ في هذه الإضافة لوقوعها كثيراً في لغة العرب وغيرها, فيقال: ماء ورد خالد وحب رمّان زيد وإن لم يكن لخالد ورد ولا لزيد رمّان. وإلى غير ذلك من الاستعمالات المتعارفة.

3. أن تضاف كلمة ((القيمة)) إلى ((كلمة)) البغل وتضاف كلمة ((البغل)) إلى كلمة اليوم, فيكون معنى الرواية: أنّه تلزم على الغاصب قيمة هي قيمة البغل يوم المخالفة.

وقد اعترض على ذلك بما يلي:

الاعتراض الأوّل:

لا يعرف وجه صحيح لإضافة لفظ ((بغل)) إلى لفظ ((يوم))؛ إذ لا يمكن أن يتخصّص لفظ البغل بجملة يوم المخالفة، كما لا يصحّ أن يقال: دار يوم، وأرض أمس، وغرفة غد. أضف إلى ذلك أنّ هذا الوجه لا يتمّ على نسخة الوافي وبعض نسخ التهذيب من اقتران لفظ ((بغل)) بلام التعريف، ضرورة أنّ الاسم المحلّى باللام لا يضاف إلى ما بعده([649]).

الجواب:

إنّ السؤال والجواب في الرواية إنّما يدوران حول البغل الشخصي، سواء كانت كلمة لفظ ((بغل)) محلاة بالألف واللام أم لا. ولا يعقل تقييد البغل الشخصي بقيد وإنّما يعقل التقييد في المفاهيم وليس بالأشخاص.

نعم, يمكن تقييد الشخص باعتبار الأحوال, مثل ضربت زيداً مشدوداً، فإنّ لزيد أحوالاً يمكن تقييده ببعضها, كذلك البغل وإن كان المقصود به شخص معيّناً إلا أنّ له أحوالاً مثل كون ملاحظته يوم الاكتراء وملاحظته يوم مخالفته وملاحظته يوم الأداء.

فلا ريب في أنّ اختلاف تلك الأحوال الطارئة عليه تقتضي اختلاف الحكم, فما جاء من امتناع تقييد البغل بيوم المخالفة غير واضح.

الاعتراض الثاني:

أنّه لو كان المناط في الضمان هو قيمة المخالفة أو يوم الغصب لما تعرّض الإمام الصادق عليه السلام لقيمة يوم الاكتراء بقوله: ((أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا وكذا)), فيعلم من هذا الجملة أنّه لا خصوصيّة لقيمة يوم المخالفة؛ لكي يكون المدار في الضمان عليها([650]).

الجواب:

أنّ هذه الجملة لا تنافي جملة ((قيمة بغل يوم خالفته)) في الدلالة على المقصود، وهي تعيين قيمة القيمي يوم الضمان، بل تساعدها وتوافقها في ذلك؛ لأنّ اكتراء المراكب واستئجارها قد يكون للمسير إلى مسافات بعيدة، مثل مكّة والمدينة ودمشق.

وقد يكون ذلك للذهاب إلى مسافات قريبة، كالمشي من النجف إلى الكوفة، وعلى الأوّل فقد جرت العادة في اكتراء المراكب قبل الخروج إلى المقصد بعدّة أيّام.

وعلى الثاني، فلا يكون الاستئجار إلا يوم الخروج، وحيت إن أبا ولاّد بمقتضى الظاهر قد اكترى البغل إلى قصر أبي هبيرة يوم خروجه من الكوفة؛ لقرب المسافة بينهما، فلم يفصّل بين زمانه مخالفته – حين ما وصل إلى قرب قنطرة الكوفة – وبين اكتراء البغل ساعة أو ساعتين, فيوم المخالفة يتّحد مع يوم الاكتراء, فالإمام الصادق عليه السلام، قد عبّر عن يومٍ المخالفة بيوم الاكتراء؛ لأجل أنّ يوم الاكتراء, إنّما هو يوم يعرفه الشهود غالباً، ومن الظاهر أنّه لا تتفاوت قيمة البغل في ساعة أو ساعتين([651]).

واعتبر السيّد الخوئي أنّ رواية أبي ولاّد موردها خصوص الغصب بقوله([652]): ((الظاهر أنّه لا دلالة في الصحيحة على القول بضمان قيمة يوم الدفع ولا على القول بضمان قيمة يوم التلف، ولا على غير ذلك من الوجوه، بل هي ظاهرة في خصوص قيمة يوم الغصب)).

ولكن إذا تمّ الاستدلال بها على ضمان المغصوب بقيمة يوم الغصب, صحّ الاستدلال بها بالأولوية القطعيّة على ضمان المقبوض بالعقد الفاسد بقيمة يوم القبض، ضرورة أنّ العين التالفة قد تكون قيمتها يوم الأداء أكثر من قيمتها يوم القبض، فإذا التزم بضمان المغصوب بقيمة يوم الغصب والتزم بضمان المقبوض بالعقد الفاسد بقيمة يوم الأداء, لزم أن يكون الثاني أسوأ حالاً من الأوّل وهو واضح البطلان.

الاعتراض الثالث:

يمكن أن يكون لفظ ((يوم)) قيداً لفعل ((يلزمك)) المدلول عليه بحرف الإيجاب, أي ((نعم))، ويمكن أن يكون قيداً للقيمة أو قيداً للبغل. كذلك يحتمل أن يكون لفظ يوم قيداً لمخالفته، فيكون معنى الجملة أنّ قيمة البغل لازمة على الغاصب ولكن أصل اللزوم من يوم المخالفة، فتكون الرواية ساكتة عن بيان المناط في تحديد القيمة.

ويؤيّد هذا الاحتمال أنّ الراوي لم يستفسر من هذه الجملة في تحديد القيمة، ولذلك سأل الإمام عليه السلام في ذيل الرواية بقوله: ((من يعرف ذلك؟))؛ فإن السؤال وإن كان على مقدار الأرش إلا أنّ جعل المناط في تحديد الأرش يوم الأداء، يقتضي أن يكون هو المناط في قيمة البغل بكامله؛ إذ لا يعقل أن يكون المناط لتحديد قيمة البغل يوم الغصب، والمناط في تحديد مقدار الأرش الذي هو جزء القيمة يوم الأداء.

فالرواية – بلحاظ هذه الجملة – ليست واضحة الدلالة على اعتبار يوم المخالفة مناطاً لتحديد قيمة تكون يوم الغصب.

وإذا عرفت هذه الوجوه والاحتمالات، فاعلم أنّ الناظرين في هذه الرواية الشريفة يظهر لهم الاختلاف في فهم هذه الفقرة ((قيمة بغل يوم خالفته)). وكيف كان، فلا دلالة في الرواية على تعيين قيمة المال القيمي المضمون بقيمة يوم الضمان أو العهدة.

ثانياً: بما أنّ دخول العين المضمونة في عهدة الضامن يوم الضمان، وضمان القيمي بقيمته، فيكون قيمة حال الضمان. فيقتضي بالقيمة حال ابتداء الضمان([653]).

جاء في مسالك الأفهام: ((ووجه أنّه أوّل وقت دخول العين في ضمان الغاصب والضمان إنّما هو القيمة، فيقضى به حال ابتداء))([654]).

اعتراض:

إن أريد اشتغال ذمّة الضامن بالقيمة من يوم الضمان فعلاً بمجرّد الغصب مثلاً، وإنّه مدين مع وجود العين، فهو ممنوع بلا خلاف، بل الإجماع على ذلك؛ إذ لم يقل أحد بأنّ الضامن مع وجود العين مدين ببدلها، بل لعلّه مستحيل من جهة اجتماع بين العوض والمعوض في ملكيّة المالك([655]).

ثمّ إنّه يلزم من هذا إلزام الضامن بأعلى القيم من حين الضمان إلى الردّ؛ لعدم الفرق بين حدوث الضمان واستمراره، فإذا وجب في الأوّل وجب في الثاني.

ودعوى أنّه يضمن في الاستمرار بقيمته ابتداء باطلة؛ إذ العلّة التي اقتضت ضمانه ابتداءً بقيمته يوم الضمان بعينها اقتضت ضمانه بأعلاها بعد زمان الضمان أو الغصب.

ثالثاً: مقايسة ضمان المال القيمي بقيمة يوم الضمان كيوم الغصب أو غيره بضمان الحيلولة([656]).

وتوضيح ذلك أنّه كما لا ينتفع مع وجود العين في بدل الحيلولة في براءة ذمّة الضامن عن القيمة باشتغال ذمّته بها منجّزاً, وبوجوب أدائها وإن استردّ القيمة بعد العين, كذلك وجود القيمة في يد الضامن كالغاصب المتمكّن من تسليم العين, لا يقتضي عدم ضمان القيمة فعلاً.

وبعبارة أخرى أنّ ضمان الحيلولة إذا كان مستنداً إلى فوات سلطنة المالك على ماله على أن يكون البدل بدلاً عن فوات السلطنة لا عن العين. وهذا المستند بعينه موجود مع الضمان كالغصب وغيره؛ إذ العبرة في فوت السلطنة بعجز المالك عن التصرّف، لا عجز الغاصب عن التسليم، فكما أنّ الحيلولة سبب لاشتغال ذمّة الحائل، كذلك الغصب سبب لاشتغال ذمّة الضامن بجامع تفويت السلطنة دون تلف العين.

وأمّا الأمر بردّ العين، فإنّما هو لقصور ردّ البدل عن التدارك التامّ مع إمكان ردّ العين، لا لعدم استقرار بدل السلطنة في ذمّته؛ لأنّ تدارك السلطنة ليس تداركاً للعين مع وجودها, فردّ العين تكليف زائد بجامع اشتغال الذمّة بالقيمة.

ويلاحظ عليه:

1. أنّ بدل الحيلولة لو فرض أنّه عوض عن فوت السلطنة، فليست العلّة فيه مجرّد فواتها حتى يشمل تمكّن الضامن من إرجاع العين إلى المالك، بل مورد بدل الحيلولة صورة عجر الضامن عن إرجاع العين إلى المالك، وأمّا مع التمكّن، فيلزم بإرجاعها، ولا يقبل منه البدل.

2. أنّ القيمة في بدل حيلولة المال القيمي بدلاً اضطراريّاً وليس اختياريّاً، والقيمة في الضمان مع وجود العين القيميّة ليس بدلاً اضطراريّاً, فقياسها على بدل الحيلولة قياس مع الفارق.

3. أنّ بدل الحيلولة إنّما تلاحظ فيه القيمة حين دفع بدل الحيلولة، وليس حين الضمان، فلو تمّت المقايسة كان اللازم مراعاة يوم الأداء في الضمان، وليس يوم الضمان.

وبعبارة واضحة أنّ بدل الحيلولة عن العين المضمونة، وتلاحظ فيه الماليّة وغيرها ممّا يعتبر فيه حين الأداء، أي حين دفع بدل الحيلولة، فلو تمّت المقايسة بأن كانت القيمة كبدل الحيلولة، فلازم مراعاة حال الأداء ليست حال الضمان.

4. أنّ بدل الحيلولة لا تشتغل به الذمّة وإنّما هو متعلّق حكم تكليفي متوجّه إلى الضامن، وليست القيمة في فرض الكلام كذلك، بل المفروض إثبات اشتغال الذمّة بها في ظرف اشتغالها بالقيمي.

 

المبحث الثاني

ضمان أعلى القيم من حيـن الضمان إلـى حيـن التلف

وهو قول فقهاء الشافعية في الغصب والمقبوض بالشراء الفاسد والأمانة إذا خان فيها، وكذلك إذا حصل التلف بتدرّج وسراية واختلفت القيمة في تلك المدّة, كأن جنى على بهيمة قيمتها كانت مئة يومئذ ثمّ هلكت وقيمة مثلها خمسون يلزمه المئة؛ لأنّها باعتبار الأقصى في اليد العادية ففي نفس الإتلاف أولى([657]).

قال القفال([658]): ((وإن تلف العين في يد الغاصب وكانت ممّا لا مثل له ضمنها بقيمتها أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف)).

وجاء في حاشية الجمل: ((وفي معنى الغصب التعدّي في الأمانة والبيع الفاسد([659]).

وهو قول صاحب مسائل الخلاف ومختلف الشيعة والوسيلة والغنية واختيار صاحب السرائر واستحسنه صاحب شرائع الإسلام وايضاح الفوائد واللمعة الدمشقية والتبصرة على إشكال وجامع المقاصد ونسبه صاحب الدروس والروضة البهية إلى أكثر الإماميّة([660]).

جاء في الروضة البهية في ضمان المال القيمي: بـ((القيمة العليا من حيث الغصب إلى حين التلف؛ لأنّ كلّ حالة زائدة ما حالاته في ذلك الوقت مضمونة))([661]).

وحكى الحارثي عن بعض فقهاء الحنابلة ونسب إلى الخرقي وجوب أقصى القيم من يوم الغصب إلى يوم التلف في ضمان قيمة المال القيمي([662]), وهو قول أشهب وابن وهب وعبد الملك من فقهاء المالكيّة بضمان أعلى القيم من يوم الضمان إلى يوم التلف([663]).

والقول الراجح عند الزيديّة سواء كان في الغصب أو غيره([664]).

وأدلّتهم على ذلك:

1. استدلّ الشهيد الثاني برواية أبي ولاّد المتقدّم ذكرها بقوله([665]): ((إنّ في صحيح أبي ولاّد فيمن أكترى البغل وتجاوز محلّ الشرط ما يدلّ على وجوب أعلى القيم بين الوقتين)).

ويمكن توجيه دلالتها على ذلك بأنّ القيمي مضمون على الضامن في جميع أزمنه الضمان التي منها زمان ارتفاع القيمة؛ إذ يصدق على ذلك زمان المخالفة أيضاً, ضرورة أنّ المراد من يوم المخالفة في الرواية إنّما هو طبيعي المخالفة الذي يصدق على كلّ يوم من أيّام الغصب لا اليوم الخاصّ. فإن ردّ الضامن أعلى القيم فقد ردّ قيمة يوم المخالفة بقول مطلق؛ لدخول القيمة السفلى في القيمة العليا بداهة أنّه لا يجب على الضامن من قيم متعدّدة حسب تعدّد أيّام المخالفة, كما أنّ الضامن لو ردّ أدنى القيم، لما ردّ قيمة يوم المخالفة بقول مطلق, بل أدنى قيمة بعض أيّام المخالفة.

اعتراض:

أنّ الظاهر من قول الإمام الصادق عليه السلام في الرواية: ((نعم قيمة بغل يوم خالفته)) هو أوّل يوم حدثت فيه المخالفة لا مطلق أيّام المخالفة؛ إذ يوجد الطبيعي في الخارج أوّل وجود فرده؛ لأنّ موضوع الضمان في الرواية إنّما هو صرف وجود المخالفة نظير ما إذا قال المولى لعبده: ((إذا خالفتني في الأمر الفلاني, وجب عليك أن تصوم يوم مخالفتك)) فإنّ الظاهر من هذه العبارة أنّه يجب على العبد صوم أوّل يوم من أيّام مخالفته لا جميع أيّامها.

أضف إلى ذلك إنّ ذيل الرواية شاهد صدق على عدم إرادة الطبيعة السارية من يوم المخالفة, بل المراد منه هو اليوم الخاصّ المعهود، لذيل الرواية وهو قول الإمام الصادق عليه السلام: ((أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين الاكتراء كذا وكذا)).

إذ لو كان المراد من يوم المخالفة هو الطبيعي، لما كان وجه لتعيين ذلك اليوم بيوم الاكتراء في هذه الفقرة، ولا لتعيين قيمة المغصوب في ذلك اليوم بالشهود. وقد عرف أنّ المراد من يوم الاكتراء هو يوم المخالفة, لذا ذكر السيّد الطباطبائي عدم الاستفادة من الرواية بما استدلّ الشهيد الثاني([666]) به من ضمان المال القيمي بأعلى القيم من حين الضمان إلى التلف في الغصب([667]).

بل في جواهر الكلام عدم الإشعار بذلك بقوله: ((لا يخفى عليك بعد الإحاطة بما ذكرناه من عدم إشعار في الحجّيّة المزبورة فضلاً عن الدلالة))([668]).

وجاء في المكاسب: ((وأضعف من ذلك الاستشهاد بالرواية على اعتبار أعلى القيم من حين الغصب إلى التلف كما حكي عن الشهيد الثاني؛ إذ لم يعلم لذلك وجه صحيح))([669]).

2. أصالة اشتغال الذمّة بأعلى القيم لاشتغال ذمّة الضامن بالقيمة يقيناً، والاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة، ولا تحصل إلا بدفع أعلى القيم.

وبعبارة أوضح أنّ الضامن إذا وضع يده على العين القيميّة المضمونة اشتغلت ذمّته بها، فلو أدّى العين المضمونة مع بقائها أو أدّى قيمتها العليا مع تلفها لفرغت ذمّته يقيناً، ولو أدّى قيمته المتوسّطة أو قيمته السفلى لما حصل العلم بفراغ ذمّته([670]).

اعتراض:

إنّ المورد من موارد البراءة والأخذ بالأقلّ عند دوران الأمر بينه وبين الأكثر, كما لو تردّد الدين بين ثمانية دنانير أو عشرة دنانير؛ لأنّ متعلّق التكليف هو خصوص دفع القيمة في القيميات، وتعلّق التكليف بالزائد مشكوك فيه مدفوع بأصل البراءة.

فإن قيل: إنّ المورد ليس من موارد الشكّ في التكليف، بل من موارد تعلّق الشك في المكلّف به بناء على أنّ المستفاد من الأدلّة هو الخروج عن العهدة، فمتعلّق التكليف هو هذا المفهوم المبيّن المردّد المصداق بين الأقلّ والأكثر، فليس المشكوك من موارد البراءة بل من موارد جريان قاعدة الاشتغال.

والجواب:

أنّ هذا القول ضعيف؛ لكون المقام مجرى البراءة من الزائد دون الاشتغال؛ لأنّ الشكّ فيه إنّما هو بين الأقلّ والأكثر غير الارتباطييّن مرجعه إلى الشكّ في التكليف بالزائد وشغل الذمّة به لا في سقوط العهدة بأداء القيمة ليعود الشك إلى المسقط، فإنّ العهدة قد تبدّلت من حين التلف بشغل ذمّة المفروض تردّده من أوّل الأمر بين الأقلّ والأكثر([671]).

3. ذكر صاحب مسالك الأفهام والرياض أنّ بعض الفقهاء استدلّوا لهذا القول في خصوص الغصب بالقول المتعارف عندهم: ((إنّ الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال)) لمناسبته لعقوبة الغاصب، وجعلوا هذا القول هو الراجح([672]).

اعتراض:

إنّ هذا القول لم يقم عليه دليل شرعي، وإنّما صدر عن أرباب هذا القول، فالاستدلال به مصادرة, كما أنّ خلاف القواعد الشرعيّة والعقليّة المجمع عليها، فلا يخرج به عنها إلا حيث تقوم عليه حجة قطعيّة وهي في المقام منفيّة، والخروج به في مقام ردّ العين المغصوبة؛ لقيام الإجماع هناك، وهذا لا يوجب الخروج عنه هنا؛ إذ لا سبيل للقياس. ولم يقم الإجماع على العمل في جميع موارد هذا القول أو القاعدة، كما قام في خصوص ردّ العين نفسها لا مطلقاً.

جاء في مسالك الأفهام والرياض: ((ومؤاخذة الغاصب بالأشقّ لا يجوز من غير دليل يقتضيه وقد تبيّن ضعفه))([673]).

وأوضح صاحب جامع المقاصد أنّ مؤاخذة الغاصب بأشقّ الأحوال عقوبة بغير وجه لا تجوز([674]).

وذكر صاحب جواهر الكلام أنّ أخذ الغاصب بأشقّ الأحوال إنّما هو بالنسبة إلى ردّ العين بنفسها لا مطلقاً؛ لعدم الدليل، بل الأصول يقتضي خلافه. فليس هو بلفظ حديث فيؤخذ بإطلاقه في سائر موارده وجزئيّاته وحكومته على القواعد المقررة المجمع عليها([675]).

4. أستدلّ فقهاء الشافعيّة([676])، وابن مرتضى من الزيديّة([677])، والإماميّة في كتاب مسائل الخلاف وجامع المقاصد ومسالك الأفهام والروضة البهية وجواهر الكلام والمكاسب من أنّه لو تلف القيمي وقت الزيادة لكان مضموناً، فكذا إذا تلف بعد الزيادة([678]), أي إن كان كلّ زمان من أزمنة الضمان قد أزال الضامن فيه يد المالك عن ملكه على حسب ماليّته فيه، ففي الزمان الأوّل عن مقدار دينار من الماليّة مثلاً، وفي الزمان الثاني عن مقدار عشرة دنانير مثلاً، وفي الزمان الثالث عن مقدار مائة دينار مثلاً، فلمّا استمرّت الإزالة إلى أن تلف القيمي، فيجب عليه غرامة أكثرها.

قال الشيخ الطوسي([679]): ((وإن كان ممّا لا مثل له كالثياب والحيوان، فعليه أكثر قيمته من حين الغصب إلى حين التلف وبه قال الشافعي.

وقال أبو حنيفة: عليه قيمة يوم الغصب ولا اعتبار بما زاد بعد هذا أو نقص.

ودليلنا: أنّ كلّ زمان يأتي عليه وهو في يده فإنّه مأمور بردّه على مالكه، وكلّ حال كان مأمور بردّ الغصب فيها لزمته قيمته في تلك الحال مثل حال الغصب.

وجاء في المكاسب: ((إنّ للعين في كلّ زمان من أزمنة تفاوت القيمة مرتبةً من الماليّة أزيلت يد المالك منها وانقطعت سلطنته عنها، فإن ردّت العين، فلا مال سواها يضمن، وإن تلفت استقرّت عليها تلك المراتب؛ لدخول الأدنى تحت الأعلى([680]).

أي أنّ القيمي مضمون في جميع حالاته التي من جملتها حالة أعلى القيم، فلو تلف لزمه ضمان قيمته حالة أعلى القيم فكذا بعدها.

اعتراض:

إنّ ضمان المال القيمي – في حالة أعلى القيم – إن أريد به وجوب قيمة ذلك الزمان على فرض تلف المال القيمي فيه، فهو حقّ إلا أنّ المقدّم غير ثابت.

وإنّ أريد وجوب قيمته في ذلك الوقت وإن فرض تلفه في غيره، بمعنى إنّه إذا تلف استقرت قيمة الأعلى في ذمّة الضامن حال التلف، فهو وإن كان أمراً معقولاً، إلا أنّه يحتاج إلى دليل، والاستناد إلى هذا الدليل لإثباته كالمصادرة، بل هي بعينها ولا يساعده النقل والاعتبار، بل هو مخالف لأصالة البراءة من غير دليل شرعي؛ إذ الضمان على هذا الوجه أوّل الكلام.

وإن أريد استقرار قيمة ذلك الزمان عليه فعلاً قبل التلف وهو مخالف للإجماع، ولا يقول به المستدلّ، ومستلزم للقول بضمان ارتفاع القيمة السوقيّة فلم يكن لنفس التلف مدخليّة في الزمان، ولازمة وجوب دفع زيادة القيمة مع العين، لو كانت باقية وهو مخالف لما تسالموا عليه من عدم ضمان زيادة القيمة السوقيّة مع العين إجماعاً([681]).

جاء في حواشي الشيرواني وابن قاسم العبادي: ((إنّه مع بقاء العين يتوقّع زيادتها – القيمة السوقيّة – على أنّه لا نظر مع وجودها للقيمة أصلاً))([682]).

اللّهمّ إلا أنّ يدعى أنّ نفس التلف شرط كاشف عن استحقاق الزيادات السوقيّة، أو يدعى أنّ مقتضى قاعدة اليد ضمان ارتفاع القيمة السوقيّة مطلقاً، إلا أنّه خرج الارتفاع مع بقاء العين، وأمّا مع تلفه، فلا دليل على خروجه.

فالحاصل أنّ الضمان في جميع الأزمنة إمّا أن يراد به التنجيزي بمعنى عدم انتظار التلف فهو واضح المنع، ولذا لو ردّ القيمي لم يجب شيء آخر، ولعلّه غير المراد.

وإمّا أن يراد به التعليقي وهو إن أريد به التعليق على التلف في ذلك الزمان فمسلّم، لكن المفروض عدمه، وإن أريد به التعليق على التلف مطلقاً ولو في الزمان المتأخّر، فهو عين الدعوى؛ إذ لم يقم عليه دليل، بل فتوى الفقهاء على عكس ذلك.

كما يرد على الدليل أنّ قاعدة اليد المستفادة من الحديث النبوي الشريف ((على اليد ما أخذت حتى تؤدّي))([683]) لا بدّ فيها الضامن من إرجاع العين إلى المالك مع بقائها حتى لو ارتفعت قيمتها السوقيّة أو انخفضت ولا يدفع الفرق؛ لأنّ ماليّة العين حيثيّة تعليليّة وليست تقيديّة، بمعنى أنّ العين مضمونة؛ لأنّها مال لا أنّ المضمون شيئان:

أحدهما: المال، والآخر العين حتى يقال: إنّه كلّما ارتفعت القيمة فقد زادت الماليّة، وقد حال الضامن دون وصولها إلى المالك، بل على الضامن العين لأجل ماليّتها, فما دامت هي في الذمّة لا ينظر إلى الماليّة، سواء ارتفعت أو انخفضت.

5. استدلّ صاحب الرياض([684]) بقاعدة نفي الضرر بأنّ القيمة وإن كانت أمراً اعتبارياً إلا أنها مقوّمة للمالية، فنقصها ينقص القيمي من حيث الماليّة وهو ضرر على المالك نشأ من فعل الضامن، وهو إخراج المالك عن سلطنة ماله وحبسه عن التصرّف فيه حين ارتفاع القيمة، فلا بدّ من الخروج عن عهدته بمقتضى إطلاق نفي الضرر([685]).

اعتراض:

أ) أنّ أدلّة نفي الضرر إنّما تنفي الأحكام الضرريّة فقط، ولا تثبت حكماً آخر لكي يدفع به الضرر([686]).

ب) يلزم من نفي الضرر عن المالك ضمان زيادة القيمة السوقيّة على الضامن في صورة بقاء العين يوم أدائها عن قيمتها السابقة ولم يلتزم به أحد.

ثمّ إنّ الضرر عبارة عن النقص في الأموال أو الأعراض أو الاعضاء والأطراف أو الأنفس.

ومن البيّن أنّ نقصان وزيادة القيمة السوقيّة بعيد عن تلك الجهات كلّها.

ج) إنّ أدلّة نفي الضرر واردة في مقام الامتنان على الأمة، ومن الظاهر أنّ الحكم بكون أعلى القيم مضموناً على الضامن مناف للامتنان عليه فلا يكون مشمولاً لأدلّة نفي الضرر([687]).

6. أنّ القيمي المغصوب مضمون على الغاصب بقاعدة ضمان اليد، فتستصحب ضمانه إلى زمان دفع أعلى القيم من زمان الغصب إلى زمان التلف؛ للشكّ في ارتفاع الضمان بدفع ما هو أقلّ من ذلك([688]).

اعتراض:

إنّ المراد من استصحاب الضمان إن كان استصحاب ضمان نفس القيمي، فلازمه أن يدفع الغاصب قيمة يوم الردّ إلا أنّ هذا لا يحتاج إلى الاستصحاب؛ لأنّ القاعدة الأوّليّة تقتضي ذلك.

وإن كان المراد من الاستصحاب استصحاب ضمان القيمة، ففيه أنّ اشتغال الذمّة لم يثبت إلا بالقيمة النازلة، والزائد عليها فهو مشكوك فيه، فتجري عنه البراءة.

فالاستصحاب إمّا أنّه غير جار أصلاً أم أنّه يجري، ولكن لا يثبت إلا الاشتغال بقيمة يوم الردّ دون أعلى القيم.

7. استدلّ العلامة الحلّي بقاعدة الحيلولة؛ لأنّ المناط واحد وهو سلب سلطنة المالك، فإنّ زمان أعلى القيم زمان إزالة يد المالك عن ماليّته, فيضمن الضامن ما أزال عن المالك من ماليته على تقدير التلف، وذلك أنّ قيمة المال في كلّ زمان مضمون عليه ولمـّا كان عدم وجوب ردّ جميع القيم؛ لأنّ المال الواحد ليس له سوى بدل واحد، فتتداخل القيم الناقصة في القيمة الأعلى([689]).

اعتراض:

أنّه على الكلام المتقدّم يجب دفع زيادة القيمة على تقدير ردّ القيمي أيضاً؛ لأنّ ردّه ليس تداركاً للماليّة الفائتة، بل للماليّة التي حيل بين المالك وبينها في زمان الردّ، وهذا خلاف الإجماع كما مرّ.

قال الباجي([690]): ((ولا يؤثّر في ضمانه تغيير الأسواق بزيادة أو نقصان، ولا طول المدّة وإن كانت سنين كثيرة.

رواه في المجموعة ابن قاسم عن مالك وإن تغيّر الأسواق لا يؤثّر في حيوان وغيره؛ وجه ذلك أنّ حوالة الأسواق غير مؤثّرة في عين ما غصبه الغاصب، فلا يؤثّر في ضمانه.

ثمّ إنّ قياس الحيلولة بالتلف قياس مع الفارق؛ لأنّه إذا ردّ القيمي فقد ردّ ماله بعينه، ولو تنزّل قيمته في حين الردّ عن قيمته في زمان الحيلولة، والسرّ في ذلك أنّ القيمة السوقيّة إنّما تعدّ مالاً بماليّة القيمي لا ماليّة مغايرة.

فإذا ردّ القيمي أنتقى الضمان عمّا به قوام ماليّته.

أمّا إذا تلف القيمي فيدخل في ضمان الضامن، ويعيّن مالية القيمي([691]).

 

المبحث الثالث

ضمان أعلى القيم إلـى ردّ القيمة

حكى الشهيد الثاني عن المحقّق الحلّي في أحد قوليه أنّه لا يضمن المال القيمي إلا أعلى القيم من حين العهدة إلى حين ردّ القيمة وتردّد فيه([692]).

وهو اختيار المحقّق البهائي ومحمد باقر البهبهاني فيما حكي عنهما([693]).

وأدلّتهم على ذلك:

1. أنّ القيمي مضمون بمثله كالمثلي وإنّما ينتقل إلى القيمة عند دفعها؛ لتعذّر المثل، فيجب أعلى القيم من يوم الضمان إلى دفع القيمة؛ لأنّ المثل في كلّ آن سابق على الدفع من حين التلف مضمونة على الضامن، ومن جملة حالاته حال ارتفاع القيمة، ولذا لو تمكّن من دفع المثل حالة الزيادة، كانت للمالك، فإذا تلفت في يد الضامن ضمنها([694]).

جاء في مسالك الأفهام: ((نعم, لو قلنا بأنّ الواجب في القيمي مثله كما ذهب إليه ابن الجنيد مخيّراً بين دفع المثل أو القيمة، ومال إليه المصنّف المحقّق في باب القرض أتّجه وجوب ما زاد من القيمة إلى حين دفعها, كما في المثلي))([695]).

اعتراض:

إنّ كون القيمة أعلى في وقت لا يقتضي لزوم دفعها، بل اللازم دفعها لو تلف القيمي في ذلك الوقت، مضافاً إلى أنّه لا وجه لبقاء مثل القيمي في الذمّة؛ إذ لو كان له مثل لوجب دفع مثله، والمفروض أنّه غير موجود، ولا وجه لضمان الممتنع، إذ معنى الضمان لزوم الدفع وهو محال. ثمّ إنّ المثلي إذا تعذّر مثله يضمن يوم الأداء، كما تقدّم لا أرفع القيم.

2. قاعدة نفي الضرر، وأصالة الاشتغال،  كما مرّ فيما سبق.

اعتراض:

المشهور عند الفقهاء في الرياض ومفتاح الكرامة على خلاف هذا القول. والإجماع على عدم الاعتداد بهذا الضرر الناشئ من محض سقوط الرغبة السوقيّة([696]).

وقد تقدّم الكلام – كما جاء في القول السابق – فلا داعي للتكرار.

 

المبحث الرابع

ضمان قيمة يوم التلف

الإماميّة:

وهو القول المشهور عند فقهاء الأماميّة كالشيخ الطوسي وابن البرّاج والعلامة الحلّي والشهيد الأوّل والشهيد الثاني والمحقّق الكركي والأردبيلي والمحقّق السبزواري([697]), ضمان قيمة التلف, بل أدّعي الإجماع عليه لو لم يحصل ميل من المحقّق الحلّي، كما سبق ذكره في باب القرض إلى ضمان القيمي بالمثل قدحاً بالإجماع([698]).

قال المحقّق الكركي([699]): ((الأصحّ أنّ الواجب قيمته يوم التلف))، وهو مختار ابن البرّاج، والمصنّف في المختلف، وفي الدروس: ((أنّه قوّاه الأكثر، وأنّ الأنسب بعقوبة الغاصب وجوب أعلى القيم. وما صحّحنا أصحّ؛ لأنّ العين مادامت موجودة, فلا حقّ لمالكها في القيمة، وإنّما ينتقل حقّه إلى القيمة عند تلف العين، فحينئذ يعتبر قدرها؛ لأنّه أوّل وقت وجوبها. وعقوبة الغاصب بغير وجه لا يجوز)).

وذكر صاحب أنوار الفقاهة: أنّ قيمة القيمي هي قيمة يوم التلف وهو الأوفق بالقواعد؛ لأنّه وقت تعلّق الخطاب بالأداء([700]).

وقال الشيخ هادي كاشف الغطاء([701]): ((إنّ مقتضى القاعدة بحسب إطلاقات الضمان هو اعتبار قيمة يوم التلف؛ لأنّ الضمان عرفاً هو تدارك الشيء، والخروج عن عهدته لو تلف، ومع ذلك جعله كأنّه لم يتلف، ويتحقّق بذلك بشغل مكان التالف بما كان مشتغلاً به، وذلك بوضع مثله في مكانه لو كان مثليّاً، وقيمته لو كان قيميّاً والقيمة الشاغلة لمكان التالف لا تكون إلا القيمة الثابتة له حين التلف)).

الشافعيّة:

وهو قول فقهاء الشافعية في ضمان القيمي في غير الغصب، كالمأخوذ بالسوم والمعار التالف بغير الاستعمال المأذون فيه([702]).

الحنفيّة:

وهو قول محمد وأبو يوسف في تلف المبيع بالعقد الفاسد وتلف الغاصب المال المغصوب بعد أن حصلت الزيادة فيه وهو في يده, مثاله لو استهلك الغاصب الشاة التي غصبها والتي قيمتها وقت الغصب مائة دينار وبعد أن سمنت عنده وصارت قيمتها مائتي دينار ذبحها واستهلكها, فيلزم الغاصب بقيمة يوم الغصب مائة دينار عند أبي حنيفة، ويلزم عند محمد وأبي يوسف مائتي دينار وهي قيمتها وقت الذبح([703]).

وهو قول صاحب فتح القدير فيما لا مثل له قيمة يوم التلف مطلقاً بقوله([704]): ((إنّ الموجب الأصلي في الغصب – على ما قالوا – هو ردّ العين وإنّما ردّ القيمة مخلص خلفاً؛ إذ المطالب بأصل السبب حينئذ فيما لا مثل له أيضاً إنّما هو ردّ العين، لأنّه الواجب الأصلي مطلقاً وإنّما ينتقل إلى القيمة بهلاك العين، فينبغي أن تعتبر قيمته وقت هلاك عينه لا وقت وجود أصل السبب وهو الغصب)).

الحنابلة:

هو مذهب الحنابلة نقله جماعة عن الإمام أحمد بن حنبل. وقال الحارثي: هو الصحيح المشهور وذكر الزركشي بأنّ هذا القول هو المشهور المختار. وجزم به في الوجيز ونظم المفردات والمنور وغيره.

وقدم هذا القول على سائر الأقوال في الهداية والمذهب والمستوعب والخلاصة والمغني والتلخيص والشرح والرعايتين والحاوي الصغير والفروع والفائق والحارثي وغيره سواء كان القيمي المقبوض بعقد فاسد أم بغصب في اعتبار الضمان، وكذا المتلف بلا غصب والمقبوض على وجه السوم([705]).

قال البهوتي([706]): ((ويضمن غير المثلي إذا تلف أو أتلف بقيمته يوم التلف)).

المالكيّة:

هو المشهور عند فقهاء المالكيّة في الغصب والإتلاف([707]). قال الباجي: ((فيمن استهلك شيئاً من الحيوان بغير إذن صاحبه أنّ عليه قيمته يوم استهلكه ليس عليه أن يؤخذ بمثله من الحيوان، ولا يكون أن يعطي صاحبه فيما استهلك شيئاً من الحيوان، ولكن عليه قيمته يوم استهلاكه. القيمة أعدل ذلك فيما بينهما في الحيوان والعروض)).

الزيديّة:

ذهب فقهاء الزيديّة إلى ضمان المال القيمي يوم التلف لغير الغصب([708]).

وأدلتهم على ذلك:

1. الروايات الواردة في العتق منها:

أ) ما روي عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله, قال: ((سألت أبا عبد الله الصادق عليه السلام عن قوم ورثوا عبداً جميعاً فأعتق بعضهم نصيبه منه كيف يصنع بالذي أعتق نصيبه منه؟ هل يؤخذ بما بقي؟ فقال: نعم, يؤخذ بما بقي منه بقيمته يوم أعتق))([709]).

ب) ما روي عن محمد بن قيس عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: ((من كان شريكاً في عبد أو أمة قليل أو كثير فأعتق حصّته ولم يبعه، فليشترِ من صاحبه فيعتقه كلّه، وإن لم يكن له سعة من المال، نظر قيمته يوم أعتق منه ما أعتق، ثم يسعى العبد في حساب ما بقي حتى يعتق))([710]).

ويرد على الروايات الواردة في العتق أنّ يوم العتق ويوم المخالفة واحد. ويوم المخالفة في رواية أبي ولاّد هو يوم الضمان، أي الغصب، فلا منافاة بين روايات العتق ورواية أبي ولاّد بناء على دلالتها على اعتبار يوم المخالفة في تحديد القيمة. فيوم العتق هو يوم المخالفة.

ثمّ إنّ عتق العبد شائبة التعبّد، فلا يمكن الاعتماد على الروايات الواردة فيه لتأسيس قاعدة فقهية, كما يلاحظ على روايات العتق بأنّ الشريك حينما أعتق شقصاً من العبد، فهو إنّما أتلف بمقدار المعتق، والمقدار الباقي لم يتلف إلا بناء على أنّ العبد يقوّم بكامله على المعتق، فيطالب بقيمة الباقي الذي هو حصّة شريكه، ومن الواضح أنّه حينئذ يتحّد زمان التلف مع زمان الأداء، فلا يكون للرواية دلالة على اعتبار يوم التلف، إذا انفصل عن يوم الأداء.

أمّا في صورة عجز الشريك المعتق عن دفع قيمة الباقي، فليس في الرواية ما يدلّ على أنّ العبد إذا استسعى يجب عليه قيمة الحصّة الباقيّة في الرقّ حين انعتاق بعضه، بل لو فرض استفادة ذلك من روايات العتق كان خلاف القاعدة بالمرّة؛ إذا المفروض أنّ الشقص الباقي ما زال في ملك صاحبه، فلم يحصل الإتلاف. فلا وجه لاستقرار قيمته حين انعتاق البعض؛ إذ المفروض أنّ العين باقية، فلا وجه للاشتغال بالقيمة. فالصحيح أنّ الحكم في باب العتق المستفاد من روايات العتق أنّ الشريك المعتق يلزم بدفع قيمة حصّة شريكه إن تمكّن منه حينئذ فتلزمه قيمته زمان التلف، وهو زمان الأداء أيضاً.

وفي صورة عجز الشريك يستسعى العبد في قيمة الحصّة الباقية في ملك الشريك الآخر، فليس في روايات العتق شاهد على ما هو مناط لقيمة تلك الحصّة، فلا بدّ من الرجوع إلى مقتضى القاعدة وهو على المختار قيمة يوم الأداء, كما سيأتي.

ولو فرض دلالة روايات العتق إلزام العبد بقيمة الحصّة الباقية التي هي قيمته حين انعتاق بعضه، فذلك لأجل أنّه لا يمكن بدون ذلك تحديد ما يلزم به العبد بأدائه، ولأجل ذلك وجب تحديد قيمة الحصّة من حين بدء السعي تعبّداً وليس للضمان.

2. الروايات الواردة في الرهن الظاهرة في أنّ القيمي إذا تلف انتقل ضمانه بمجرد التلف إلى القيمة؛ لأنّها تدلّ على لزوم رعاية قيمة العين المرهونة حين تلفها. منها:

أ) ما روي عن أبي بكير قال: ((سألت أبا عبد الله الصادق عليه السلام في الرهن؟ فقال: إن كان الأكثر من مال المرتهن فهلك أن يؤدّي الفضل إلى صاحب الرهن، وإن كان أقلّ من ماله فهلك الرهن، أدّى إليه صاحبه فضل ماله، وإن كان الرهن سواء فليس عليه شيء))([711]).

ب) ما روي عن أبي حمزة. قال: ((سألت أبا جعفر الباقر عليه السلام عن قول علي عليه السلام في الرهن يترادّان الفضل؟ فقال: كان علي عليه السلام يقول ذلك, قلت: كيف يترادّان الفضل؟ فقال: إن كان الرهن أفضل ممّا رهن به ثمّ عطب ردّ المرتهن الفضل على صاحبه، وإن كان لا يساوي ردّ راهن ما نقص من حقّ المرتهن, قال: وكذلك كان قول عليه عليه السلام في الحيوان وغير ذلك))([712]).

ج) ما روي عن عبد الله بن الحكم عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: سألته عن رجل رهن عند رجل رهناً على ألف درهم والرهن يساوي ألفين فضاع. قال: يرجع عليه بفضل ما رهنه، وإن كان أنقص ممّا رهنه عليه، رجع على الراهن بالفضل، وإن كان الرهن يساوي ما رهنه عليه، فالرهن فيه))([713]).

فالظاهر من روايات الرهن أنّ القيمي إذا تلف انتقل ضمانه بمجرّد التلف إلى القيمة؛ لأنّها تدّل على لزوم رعاية قيمة العين المرهونة حين تلفها وملاحظة نسبتها مع الدين إن كانت مساوية له، فلا شيء على الراهن، وإن زادت عليه أخذ الزيادة، وإن نقصت عنه ردّ على المرتهن مقدار ما نقص فتعيّن يوم التلف في ضمان القيمي.

اعتراض:

إنّ مورد هذه الروايات إنّما هو الإتلاف، أو التفريط؛ إذ لا ضمان في تلف الرهن على المرتهن من دون تعدّ وتفريط. فزمان التلف والضمان واحد في صور الإتلاف.

أمّا في صورة التفريط، فيمكن أن يتغاير يوم التلف مع يوم الضمان، ولكن يتوجّه أيضاً أنّه لا دلالة في روايات الرهن على الضمان بقيمة يوم التلف ولا بقيمته يوم المخالفة، أي الضمان، بل الظاهر منها هو ثبوت أصل الضمان بالقيمة في فرض التعدّي والتفريط([714]).

3. أنّ مقتضى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((على اليد ما أخذت حتى تؤدّي))([715])، كون القيمة المعتبرة قيمة يوم التلف في المال القيمي؛ لأنّ المال في حال بقائه كان بنفسه في عهدة الضامن، فإذا تلف يوم بدله مقامه وبدله في حال التلف ليس إلا قيمته يوم التلف، فيكون الضامن ضامناً لها. فقيمة يوم التلف هو البدل الفعلي والعوض الحقيقي للمال المضمون التالف لا غيرها. بل كلّما فرضت غيره هذه القيمة فهي قيمة فرضيّة لا واقعيّة.

اعتراض:

إنّ الرواية مهملة من حيث تعيين القيمة، وإنّما مفادها الحكم بثبوت أصل الاشتغال بالقيمة على القول بانتقال الذمّة من العين إلى القيمة حين التلف.

الجواب:

إنّ هذا الاعتراض غير سليم نظراً إلى وجود مقدار كاف من الدلالة في الرواية في إفادة المقصود؛ ضرورة أنّه لا معنى للحكم بضمان الأخذ لبدله، وما يقوم مقامه عند تلفه إلا قيام قيمة آن التلف، فإنّها البدل الحقيقي للمال لا غيرها. وقد صدق اعتبار صدق المشتقّ اتّصاف الذات بالمبدأ في حال النسبة.     وقد عرفت أنّ معنى ضمان الشيء قيام بدله مقامه عند التلف واشتغال ذمّة الضامن به, فلا بدّ في صدق هذه القضيّة من صدق البدليّة في حال التلف وهو ليس إلا معادلة يوم التلف، لا غير.

وهذا ما أفاده الشيخ الأنصاري بقوله([716]): ((إنّ الانتقال إلى البدل إنّما هو يوم التلف؛ إذ الواجب قبله هو ردّ العين، وربّما يورد عليه أنّ يوم التلف يوم الانتقال إلى القيمة، أمّا كون المنتقل إليها قيمة يوم التلف، فلا.

ويدفع بأنّ معنى ضمان العين عند قبضه كونه في عهدته، ومعنى ذلك وجوب تداركه ببدله عند التلف حتى يكون عند التلف, كأنّه لم يتلف وتداركه ببدله على هذا النحو بالتزام مال معادل له قائم مقامه)).

ويلاحظ أن ما جاء في تقريب الاستدلال وردّ الاعتراض جيّد، بناءً على انتقال الذمّة من العين إلى بدلها عند التلف مثلاً أو القيمة.

ومعلوم أنّ هذا الانتقال إنّما يُلتَزم به بناءً على امتناع استمرار اشتغال الذمّة بالعين بعد تلفها، ومعلوم أنّه لا محذور فيه, وسيأتي توضيح ذلك.

4. أستدلّ بقاعدة السببيّة على ضمان القيمي بقيمة يوم التلف؛ لأنّ سببيّة التلف تثبت شيئاً في الذمّة من المثل، أو القيمة كسائر الأسباب الشرعيّة التعبديّة من البيع والصلح من أسباب اشتغال الذمّة بأمر كلّي؛ لاستحالة تخلّف السبب عن المسبّب، فإذا حصل التلف الذي هو سبب استقرار الذمة بالقيمة، استقرّت فيها من حينه، وبعد الاستقرار فلا موجب للعدول عنها إلى غيرها من الأقوال.

قال العلامة الحلي([717]): ((فاذا تلفت وجبت قيمة العين وقت التلف، لانتقال الحق اليها لتعذر المبدل ومع ثبوت العين ووجودها لا تتعلق القيمة بالذمة، وانما الذمة مشغولة برد العين، والانتقال الى القيمة انتقال الى البدل، وهو أنما يثبت حال وجوبه، وهو حال التلف)).

اعتراض:

إنّ اقتضاء التلف لا يعني استقرار القيمة في الذمّة من حين التلف، بل هو أعمّ من أن تكون القيمة المستقرّة قيمة يومه، فيمكن أن تكون يوم الضمان أو قيمة يوم المطالبة أو يوم الأداء أو غيرها؛ إذ لا استحالة في ذلك.

كما أنّ التلف إنّما يوجب استقرار القيمة وهي أمر كلّي مختلف المصاديق, وتعيين بعضها يحال إلى زمان المطالبة أو الأداء أو أعلى القيم وغيرها.

فسببيّة التلف لاشتغال الذمّة لا يقتضي تعيين قيمة يومه, وأن الخروج عن العهدة يراعى فيه كيفيّة يوم الخروج عن العهدة، فكلّ زمان أريد فيه امتثال هذا التكليف يراعى قدرة الضامن في ذلك الزمان، فإن قدر على ردّ القيمي فهو وإلا وجب عليه ردّ البدل الذي هو القيمة، وهي أمر كلّي يتشخّص كلّ يوم في ضمن فرد معيّن، فالواجب القدر المشترك([718]).

الجواب:

أنّ التلف إنّما أوجب اشتغال الذمّة بالبدل المتّصف بالبدليّة بالفعل, والبدل الفعلي ليس سوى قيمة يوم التلف؛ لأنّ القيم المفروضة في الأزمنة المتقدمّة والمتأخرة كلّها أبدال فرضيّة بعضها لعدم تحقّق شرط الضمان الذي هو شرط صيرورة القيمة بدلاً نظراً إلى منافاة اتّصاف الشيء بالبدليّة مع كون مبدله موجوداً، وبعضها لعدم حصول زمانه الذي يعتبر في وجوده الفعلي أيضاً.

ومن هذا يظهر فساد وجوه سائر الاحتمالات([719]).

ثمّ إنّ يوم الضمان لمـّا كان أوّل أزمنة دخول المضمون في ضمان الضامن، ومعنى الضمان اشتغال الذمّة بالقيمة معلّقاً على حصول التلف، وجب مراعاة قيمة ذلك اليوم لا قيمة يوم المعلّق عليه.

ولو سلّم أنّ قاعدة السببيّة لم تقتضِ سوى التكليف بالخروج عن العهدة إلا أنّ الخروج عنها يقتضي تعيين ما يتحقّق به الخروج وهو البدل؛ لأنّ التالف لتعذّر الرد به حقيقة لا بدّ أن يقوم مقامه شيء في الاتّصاف بذلك الحكم التكليفي الذي هو الخروج.

ولعلّ ظاهر كلمات الفقهاء في الضمانات هذا المعنى حيث يفسّرونه باستقرار بدل التالف في الذمّة([720]).

جاء في حاشية الروض المربع: ((إنّما اعتبر يوم التلف؛ لأنّه محلّ الضمان حيث وجد سببه فيه، فوجب الاعتبار به))([721]).

وعلى هذا, فإنّ قيمة التلف لابدّ من قيامها مقام القيمي التالف؛ لتوجّه الأمر بالردّ، فإذا قامت قيمة يوم التلف على شخصها وتميّزها من سائر القيم، فلا موجب للعدول عنها إلى غيرها([722]).

ويلاحظ أن ما جاء جيّد بناءً على ما هو المشهور من انتقال الذمّة من العين القيميّة بعد تلفها إلى بدلها، وليس ذلك إلا قيمتها حين التلف.

وأمّا على المختار من أنّ العين باقية في الذمّة إلى حين تفريغ الذمّة، فلا وجه لمراعاة قيمة يوم التلف، بل تنحصر بمراعاة قيمة يوم الأداء.

 

المبحث الخامس

ضمان قيمة يوم الأداء

اختار السيد السبزواري هذا القول بدليل أنّ نفس القيمي باقٍ في الذمّة والعهدة ويجب الخروج عن عهدته، لكن لمـّا لم يمكن ردّه بنفسه وجب دفع عوضه وبدله فهو بنفسه باقٍ في العهدة إلى حين الأداء، وإعطاء البدل إنّما هو من باب الوفاء، كما إذا كان له عليه مَنٌّ مِنَ الحنطة، ولم يمكنه اداؤه، فإنّ الذمّة مشغولة بالحنطة حتى حين التعذّر، ودفع البدل من باب الوفاء بغير الجنس، ولا ينتقل إلى البدل من حين التعذّر.

والبدل الواجب أداؤه وهو المثل في المثليات، والقيمة في القيميات بمعنى أنّه لو أراد أحدهما غير ذلك لم يجبر عليه.

وبعبارة أخرى أنّ الذمة مشغولة بنفس العين إلى حين الأداء, أنّ الوفاء بقيمة يوم الأداء للمال القيمي مبني على أنّ القيمي مضمون بنفسه باقٍ بعد التلف في الذمّة إلى حين تفريغ الذمّة كما تقدم، أو على اشتغال الذمّة بالمثل حتى في القيميّات.

جاء في تقريرات الشيخ محمد رضا كاشف الغطاء: ((وإن قلنا: الذي في ذمّته العين إلا أنّها لها مراتب في التأدية هي ومثلها وقيمتها كانت القيمة قيمة يوم الدفع؛ لأنّ العين في الذمّة))([723]).

اعتراض:

لا يمكن القول بأنّ الذمّة وعاء تبقى فيها العين الشخصيّة المعدومة ويتعلّق بها وجوب الأداء، فلا يمكن أن يجري ذلك في العين الشخصيّة المعدومة إلى الأبد، ولا يقاس على الكلّي الذي يمكن أداؤه ببعض أفراده ولو في زمان متأخّر، ولو أنّه فرض امتناع أفراد الكلّي مدة حياة الشخص لم يعقل شغل الذمّة به([724]).

قال صاحب أنوار الفقاهة([725]): ((وضمان قيمة يوم الأداء غير معقولة إلا على وجه أنّ القيمي يضمن بمثله، وكان ذلك القيمي له مثل ولا نقول به.

والسبب في ذلك أنّ القيمي بعد تلفه يمكن فرض قيمته له؛ لأنّه معدوم لا يؤول إلى الوجود، وما كان كذلك، فالقيمة له بخلاف المعدوم الذي يؤول إلى الوجود)).

ويمكن الجواب عن الاعتراض بما يأتي:

1. أنّ كلاً من العين والمثل في ظرف انعدامه مستحيل الوجود، فلو كان المانع من ثبوت العين التالفة في الذمّة امتناع عودها إلى الوجود، فمن الواضح أنّ المثل في ظرف انعدامه يستحيل وجوده في الخارج أيضاً, وإمكان وجوده في المستقبل متقيّد بذلك الظرف الذي يمكن أن يوجد فيه، فلا يتعدّى إلى ظرف استحالة وجوده, فلا وجه للتفرقة بين المثل المعدوم والمستحيل فعلاً وبين العين المستحيلة فعلاً أيضاً، فكما يمكن إثبات المثل في الذمّة مع استحالة وجوده في ظرف تعذّره، كذلك يمكن ثبوت العين بالذمّة مع استحالة وجودها في الخارج.

2. أنّ الوجود الذمّي وجود اعتباري خاضع لدليل الضمان، ولاعتبار الشارع الحاكم بالضمان. أمّا الوجود الخارج فيتّبع الأسباب التكوينيّة التي تتّجه حين توفّرها من جميع شرائطها، فلا يمكن ربط أحد الوجودين بالآخر بوجه، فإنّ الوجود الذمّي خاضع لدليل الضمان، والوجود الخارجي يخضع لأسبابه الواقعيّة.

القانون المدني:

أنّ المال القيمي تعيّن قيمته يوم لزوم الضمان، أي أوّل يوم الضمان في القانون المدني العراقي.

جاء في المادّة (960) إنّ: ((الوديعة إذا لزم ضمانها، فإن كانت من المثليات تضمن بمثلها، وإن كانت من القيميات، تضمن بقيمتها يوم لزوم الضمان))([726]).

واختلف شرّاح القانون المدني في تحديد قيمة القيمي بحسب الزمان بكونه وقت الغصب أو وقت الخصومة بالنسبة لمورد الغصب([727]).

ولذا جاءت قرارات محكمة التميز تارة تعيّن قيمة المال القيمي يوم المطالبة لا أوّل يوم الضمان، أو الغصب.

جاء في القرار (47): ((أمّا القول بوجوب تقدير قيمة الحلي وقت الغصب، فهو قول غير وارد؛ لأنّ التقدير يجب أن يكون بتأريخ إقامة الدعوى))([728]).

وتارة تعيّن قيمة القيمي بعد إتلافه يوم الغصب, أي أول يوم الضمان([729]).

وأكّد الأستاذ منير القاضي أنّ المغصوب القيمي يجب على الغاصب أداء قيمته يوم الغصب, أي أوّل يوم الضمان([730]).

وأخذ القانون المدني في تعيين قيمة القيمي أوّل يوم الضمان من مجلّة الأحكام العدلية في الموادّ (371) و(742) و(803) و(891) من كلّ من تلف المبيع بالبيع الفاسد وتلف وثيقة الرهن بتعدّ وتفريط، والوديعة إذا تلفت بتعدّ وتفريط والغصب([731]).

الرأي الراجح:

ينبغي أن يعلم أنّ المختار في باب الضمانات – كما تقدّم – أنّ المضمون سواء كان مثليّاً أم قيميّاً هو الذي يثبت في الذمّة ويستمر إلى حين تفريغها، وتلفه لا يؤثّر في الوجود الذمّي؛ فإنّ الوجود الذمّي الاعتباري ليس مرتبطاً بالوجود الخارجي التكويني, فبناء على هذا, لا بد من الالتزام بوجوب دفع يوم الأداء في القيمي نظراً إلى أنّ الضامن في وقت الأداء عاجز عن دفع المضمون، فتنتقل الوظيفة إلى البدل الذي هو القيمة فقط.

أمّا القرض, فلو حدّد بأنّه عبارة عن تمليك العين بضمان المثل أو القيمة، كان اللازم الالتزام بقيمة يوم القرض؛ لأنّها هي التي تشتغل بها الذمّة وقت القرض([732]).

وأمّا على المختار في معنى القرض من أنّه عبارة عن تمليك العين بوفاء المثل أو القيمة، فاللازم أيضاً وجوب دفع قيمة يوم القرض، والوجه في ذلك أنّ الحكم التكليفي وجوب الوفاء فلا بدّ من تحديد متعلّقة وتشخيصه وتميّزه على نحو يرتفع به الإبهام؛ إذ لو لم يحدّد ويشخص لو يكن له وجود لا ذهناً، ولا خارجاً، ولا يمكن تعلّيق الحكم به ضرورة لزوم إحراز الموضوع لثبوت الحكم المتعلّق هنا الوفاء فعل المقترض, وهو لا يتشخّص إلا بعد تحديد وتميّز متعلّقه وهو القيمة في القيمي، فعليه حين ثبوت وجوب الوفاء، لا بدّ من تحديد القيمة التي يجب دفعها وفاءاً للقرض، وليس إلا قيمة يوم القرض؛ لأنّ سائر القيم غير معلومة وغير محدّدة، كما أنّ ترجيح بعضها على البعض بلا وجه، فمقتضى وجوب الوفاء من حين القرض لزوم تشخيص القيمة التي يجب دفعها على المقترض.

وهذا الوجوب نظير وجوب نفقة الابن على الأب أو العكس، فإنّه لا تشتغل ذمّة من يجب عليه الإنفاق، ولكّنه مطالب بهذا الإنفاق وإن لم تشتغل ذمّته بالمال.

 

الفصل الرابع

تحديد حقّ المالك باختلاف الأمكنة

نتناول في هذا الفصل ما لو انتقل المال المثلي والمال القيمي من مكان العهدة أو الضمان ولقي المالك الضامن في مكان آخر فهل له حقّ المطالبة بالمثل أو القيمة بالنسبة للمال المثلي أو القيمة بالنسبة إلى المال القيمي؟

 

المبحث الأوّل

تحديد حقّ المالك في المال المثلي حسب الأمكنة

ينقسم المال المثلي إلى أثمان – وهي الدنانير والدراهم والفلوس الرائجة والعملات الورقية – وغير أثمان.

المطلب الأوّل: تحديد حقّ المالك في غير الأثمان:

لو انتقل المثلي إلى غير مكان العهدة أو الضمان، فهل للمالك إذا لقي الضامن في مكان آخر له حق المطالبة بالمثل؟ ثم إذا ظفر المالك بالضامن في غير محلّ العهدة أو الضمان، وكان المثل متعذّراً فيه فهل للمالك المطالبة بقيمة بلد المطالبة أو بأعلى القيم التي وصل إليها المثل من أمكنة أو أقلّها أو بلد التلف أو يتخيّر المالك بالتعيين أو يتخيّر الضامن؟ فيه أقوال:

أولاً: قيمة بلد الضمان، أو العهدة (الغصب والقرض):

المشهور عند جمهور الفقهاء مطالبة المثل في بلد الضمان، أو العهدة، ان كان موجوداً، فان تعذر فقيمته في بلد الضمان أو العهدة.

هذا إذا كان لنقله مؤونة وارتفاع لسعر المثل في الأمكنة الأخرى التي وصل إليها عن سعر بلد العهدة أو الضمان كبلد التلف أو المطالبة([733]).

الإماميّة:

أوضح الشيخ الطوسي بأنّه إذا اختلفت قيمة المثل المتعذّر حسب الأمكنة، فللمالك قيمته في بلد العهدة أو الضمان أو يصبر حتى يصل إليه بقوله([734]): ((إذا غصب منه مالاً مثلاً بمصر فلقيه بمكّة وطالبه به لم يخل من أحد الأمرين إمّا أن يكون لنقلـه مؤونة أو لا مؤونة لنقله – ثمّ يكمل – وإن كان لنقله مؤونة لم يخل من أمرين:

أمّا أن يكون له مثل أو لا مثل له, فإن كان له مثل كالحبوب والأدهان نظرت، فان كانت القيمتان في البلدين سواء كان له مطالبة بالمثل؛ لأنّه لا ضرر عليه في ذلك.

وإن كان القيمتان مختلفتين فالحكم فيما له مثل، وفيما لا مثل له سواء.

فالمغصوب منه إمّا أن يؤخذ من الغاصب بمكّة قيمته بمصر، وإمّا أن يدعه حتى يستوفي ذلك منه بمصر؛ لأنّ في النقل مؤونة والقيمة مختلفة, فليس له أن يطالبه بالفضل، فإن صبر فلا كلام، وإن أخذ القيمة ملكها المغصوب منه)).

وحكي كذلك في الدروس وجامع المقاصد ومفتاح الكرامة وجواهر الكلام([735]).

الشافعية:

أوضح فقهاء الشافعيّة في مورد القرض أنّه لا قبول للمثل في غير محلّ القرض إن كانت لنقله مؤونة ولم يتحمّلها المقترض أو كان الموضع مخوفاً, أي إذا كان لنقله مؤونة من محلّ الإقراض إلى محلّ الظفر أو كانت قيمته بمحلّ الظفر أكثر من قيمته بمحلّ الإقراض, فإذا أقرضه حنطة في العراق ثمّ لقيه بمكّة لم يلزمه دفعه إليه؛ لأنّه بمكّة أغلى، ولأنّ في نقله إلى مكّة ضرر, ولكن له مطالبته في غير محلّ الإقراض بقيمة ماله.

وكذا ما إذا كان محلّ الظفر أقلّ قيمة، كما إذا أقرضه طعاماً بمكّة ثمّ لقيه بالعراق، ليس له في الصورة مطالبته بالقيمة بل لا يلزمه إلا مثله.

فشرطا مؤونة النقل، وارتفاع السعر مانع من الإجبار على الأداء في القرض والمسلم فيه والغصب([736]).

الحنابلة:

ذكر فقهاء الحنابلة أنّه ليس للمالك المثل إلا في بلد العهدة أو الضمان إن كان لنقله مؤونة. قال ابن قدامة([737]): ((وإن كانت – قيمة المثل – أكثر فليس له المثل؛ لأنّنا لا نكلّفه النقل إلى غير البلد الذي غصبه فيه، وله المطالبة بقيمته في بلد الغصب)).

الحنفية:

الأصل عند فقهاء الحنفيّة مطالبة المثل في مكان العهدة أو الضمان. جاء في فتاوي الخانية: ((رجل غصب من رجل حنطة بمكّة وحملها إلى بغداد, قال: عليه قيمتها بمكة))([738]). وإن كان سعر المثل في مكان المطالبة أقلّ من سعر المثل في مكان العهدة أو الضمان فالمالك بالخيار إن شاء أخذ قيمة العين في مكان العهدة وقت العهدة وإن شاء انتظر([739]).

المالكية:

ذكر أشهب وأصبغ وابن عرفة من فقهاء المالكيّة أنّ الأصل مطالبة المثل في مكان السبب والعهدة والضمان([740]), فلو وجد المالك الضامن في بلد غير بلد العهدة – بلد الضمان – ومعه المثلي، فللمالك التخيير في أخذه أو مثله ببلد المطالبة.

وفصّل بعض فقهاء المالكيّة بين ما إذا لقي المالك الضامن في بلد بعيد عن بلد العهدة – الغصب – فله المثل في بلد العهدة، وبين أن لقيه في بلد قريب عن بلد العهدة – الغصب – فله التخيير بين أخذ المثلي، أو مطالبة المثل في بلد العهدة. وهذا رأي ابن رشد عن ابن قاسم، لأنه رأى ان النقل فوت للمثلي([741]).

ودليلهم على ذلك:

أنّ مقتضى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((على اليد ما أخذت حتى تؤدّي))([742]) هو التأدية إلى محلّ العهدة أو الضمان بحكم انصرافه إليه، لذا حكم الفقهاء فيما إذا نقل المغصوب إلى غير بلد الغصب بوجوب إعادته إليه، بل لو دفعه الضامن إلى المالك في غير بلد الغصب يتخيّر المالك بين قبضه منه، وأمره بالردّ إلى المكان الذي غصبه فيه، ولازم هذا المعنى أنّه لا يجب على الغاصب تأدية العين في غير محلّ الغصب، ومن المعلوم أنّ حكم البدل في ذلك حكم المبدل منه، بل لعلّ الأمر بعد التلف أسهل، نظراً إلى أنّه يصير من قبيل سائر الديون([743]).

فالأصل أن تكون المطالبة بالمثل في بلد الضمان أو العهدة.

اعتراض:

أنّه لو سلّم دلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((على اليد ما أخذت حتى تؤدّي)) على وجوب التأدية إلى مكان الأخذ أو العهدة أو الضمان فهو لا ينفي وجوبها في غير الأمكنة، بل يفيد وجوب التأدية إليه زائداً على وجوب التأدية المطلقة، فكأنّ الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: يجب على الضامن التأدية إلى المالك، ويجب عليه أيضاً تأديته إلى محل الأخذ أو الضمان أو العهدة.

وبعبارة أخرى لا دلالة في الحديث الشريف على تقييد الوجوب بمكان الأخذ غاية الأمر أنّه يفيد أمراً زائداً على أصل وجوب التأدية وهو خصوص التأدية إلى محل الأخذ أو العهدة، أو الضمان، ولا دلالة في كلام الفقهاء على نفي وجوب التأدية إلى غير محلّ الأخذ أو العهدة أو الضمان.

ثانياً: تخيير المالك:

ذهب الشهيد الأوّل إلى تخيير المالك في المطالبة بين المثل أو قيمة المثل في الغصب؛ إذا انتقل المثلي من مكان العهدة أو الضمان، وإن كان في نقله مؤونة أو كانت قيمة المثل أكثر من قيمة المثلي في مكان العهدة أو الضمان اعتماداً على أنّ الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال([744]).

ثالثاً: مطالبة المثل في بلد المطالبة:

ذهب ابن إدريس والمحقّق الكركي والعلامة الحلّي من الإماميّة إلى أنّه يجب دفع المثل في بلد المطالبة وإن كان أعلى قيمة من بلد العهدة أو الضمان بمراتب([745]).

قال ابن إدريس([746]): ((إنّه له – المالك – إلزامه به – الضامن – في ذلك المكان، وإن كان هو أعلى قيمة من مكان الغصب، وكان حمله يحتاج إلى مؤونة، لأنّه الذي يقتضيه عدل الإسلام والأدلّة)).

وجاء في تذكرة الفقهاء: ((ولو أتلف مثلياً أو غصبه ثمّ تلف عنده في بلد ثمّ ظفر المالك في بلد آخر، كان للمالك مطالبته بالمثل، سواء كان لنقله مؤونة أو لا))([747]).

وجوّز السيّد السبزواري مطالبة المالك عوض ماله مثلاً كان، أو قيمةً من الضامن في أيّ مكان شاء وأراد, سواء وصلت إلى ذلك المكان عين ماله أو لا؛ لعموم: ((الناس مسلّطون على أموالهم)) لكنّه مع تعذّر المثل في المثلي ينقل إلى القيمة، كما في سائر الموارد([748]).

ثمّ فصل بين تساوي وتفاوت قيم المثل بقوله([749]): ((وليس للمالك الإلزام بالرّد إلا إلى  المكان الذي وصلت إليه العين، وكذا ليس له الإلزام بالمثل الا في الأمكنة التي وصلت إليها العين؛ وذلك لظهور أدلّة الضمانات في ذلك، فتكون نسبة الأمكنة التي مرّت عليها عين ماله نسبة الأيادي التي جرت عليها في صحّة الإلزام بالردّ لغرض جريان حكم الغصب والعدوانيّة بالنسبة إلى الجميع، فيكون جواز المطالبة أعمّ مورداً من الإلزام بالدفع، هذا مع التفاوت.

وأمّا مع التساوي من كلّ جهة، فيصح الإلزام بالردّ أيضاً في كلّ مكان)).

الشافعية:

المشهور عند فقهاء الشافعيّة مطالبة المالك للضامن في أيّ مكان حلّ به المثلي، سواء كان المكان الذي حلّ به هو الذي تلف فيه، أو مكان آخر، وإن لم يكن لنقله مؤونة وأَمن الطريق. وهذان شرطان لإجبار المالك الضامن على دفع المثل، ولإجبار المالك الضامن على أخذه.

وذهب الإسنوي إلى ثبوت الطلب في أيّ موضع شاء من المواضع إلى وصل إليها المثلي في طريقه بين البلدين، أمّا إذا كان لنقله مؤونة أو خاف الطريق فبأقصى قيم المكان الذي حلّ به المثلي. ولا يطالب الضامن بالمثل ولا الضامن  من تكليف المالك قبول المثل؛ لما في ذلك من الضرر([750]).

جاء في حاشية الجمل: ((لا تتقيّد المطالبة بمحلّ الغصب، ولا بمحلّ التلف بل يطالب في أيّ مكان حلّ به؛ لأنّه كان مطالباً بردّه في أيّ مكان حلّ به، فإن تلف المغصوب المثلي في البلد أو المحلّ المنقول أو المنتقل إليه أو عاد أو تلف في بلد الغصب، طالبه بالمثل في أيّ البلدين أو المحلّين شاء؛ لتوجّيه رد العين عليه فيهما))([751]).

وقال الرملي([752]): ((ولو ظفر بالغصب في غير بلد التلف والمغصوب مثلي والمثل الموجود، فالصحيح أنّه إن كان لا مؤونة لنقله، كالنقد اليسير وكان الطريق آمناً, فله مطالبته بالمثل؛ لعدم الضرر على واحد منهما)).

وهناك قول آخر لفقهاء الشافعيّة يطالب بالمثل مطلقاً وإن لزمت مؤنة لنقله أو زادت القيمـة، كما لو أتلف مثليّاً في وقت الرخص له طلب المثل في الغلاء([753]).

الحنابلة:

اشترط الحنابلة وجوب مطالبة المالك بالمثل للضامن في بلد المطالبة. وأن تكون قيمته متساوية حسب الأمكنة، أو هي أقلّ من بلد سبب العهدة أو الضمان – الغصب – لأنّه لا ضرر على الضامن فيه، وإن كانت أكثر فليس له المثل([754]).

قال المقدسي([755]): ((وإن كان من المثليّات وقيمته في البلدين واحدة، أو هي أقلّ في البلد الذي لقيه فيه فله مطالبته بمثله؛ لأنّه لا ضرر على الغاصب فيه، وإن كانت أكثر فليس له المثل؛ لأنّا لا نكلّفه النقل إلى غير البلد الذي غصب فيه، وله مطالبته بقيمته في بلد الغصب)).

وفصّل العنقري مطالبة المثل في غير بلد القرض وذكر الصور التي يجب دفع المثل في بلد المطالبة بقوله([756]): ((أعلم أنّ البدل المطلوب بغير بلد القرض إمّا أنّ يكون لحمله مؤونة، أو لا، وعلى كلا التقديرين إمّا أن تكون قيمة البدل ببلد القرض أزيد أو أنقص أو مساوية لقيمته ببلد الطلب، فهذه ستّ صور يلزم بذل البدل ببلد الطلب في خمس صور منها: وهي ما إذا لم يكن حمل البدل مؤونة بصورة الثلاثة, أو كان له مؤونة تمكّن قيمته ببلد نحو القرض أزيد أو متساوية. ويلزم بذل قيمة البلد ببلد الطلب في صورة واحدة وهي ما إذا كان لحمله مؤونة وقيمته ببلد نحو القرض أنقص، فتلزم قيمته ببلد نحو القرض حتى مع وجود المثل ببدل الطلب)).

وأدلّتهم على ذلك:

1. أنّ مقتضى القواعد الشرعيّة وجوب دفع الضامن المثل للمالك فللمالك المطالبة بالمثل أينما أراد، ويجب على الضامن تأديته فوراً، لوجوب ردّ المظلمة.

2. أنّ مقتضى الحديثين ((الناس مسلطون على أموالهم([757]))، ((وإنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام([758]))) وقاعدة الإتلاف ووجوب ردّ المظلمة الثابت على الفور لا يجوّز التأخير ولا فرق عندهم في ذلك بين كون المثل في مكان العهدة، أو الضمان أو التلف أو المطالبة.

ويلاحظ على الدليل أنّ قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الناس مسلطون على أموالهم)) أنّه ليس وارداً مورد الضمان ولا خصوصياته، إنّما ورد في مورد دفع مزاحمة المالك, بمعنى أنّ مفاد الحديث لا يجوّز لأحد مزاحمة المالك في ماله فليس للحديث نظر إلى الضمان أو خصوصياته أو مقدار المضمون, وأنّ حديث: ((حرمة ماله كحرمة دمه)) إنّما ينظر إلى حرمة التصرف في المال المسلم بدون رضاه، كما يدلّ لأجل تنظير المال بالدم على أنّ مال المسلم لا يذهب هدراً، فالرواية تدلّ على حكمين: التكليفي، وهو حرمة التصرّف، والوضعي وهو الضمان؛ لأجل التنظير المذكور،  وليس في الرواية شاهد على المقدار، أو كمّيّة العوض الذي يعوّض به المال المتلف, فذكر هذا الحديث كذكر: ((الناس مسلّطون على أموالهم))([759]). في المقام.

3. إنّ تأخير الأداء وردّ المظلمة ضرر على المالك، والضرر لا يزال بالضرر، بل قيل: إذا تعارض الضرران فالترجيح لنفي ضرر المالك، إذ الضرر المنفي هو شرع الحكم والضامن، أو الغاصب – هنا – أدخله على نفسه([760]).

4. أنّ الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال في مورد الغصب، فوجب مطالبة الضامن أو الغاصب بالمثل وإن كان يحتاج إلى مؤنة النقل.

5. إطلاق ما دلّ على وجوب ردّ المظلمة وعلى تسلّط المظلوم على استيفائها متى تمكّن منها، والغرض أنّ الثابت للضامن دفع المثل، ودعوى اعتبار المكان في مثليته واضحة المنع لغة وشرعاً وعرفاً([761]).

ويرد على هذه الأدلّة بما يأتي:

1. إنّ الضامن إنّما أقدم على الضرر بمقدار معيّن، وهو الضرر المتوجّه إليه من جهة وجوب دفع العوض الواقع للمال المتلف، وأمّا الزيادة على ذلك المقدار، فهو لم يقدم على الضرر الذي يتوجّه إليه لأجلها, فالتعارض بين الضررين في المقام إنّما هو بين الضرر على الضامن الناشئ من هذه الزيادة التي لم يقدم عليها، وبين الضرر المتوجّه إلى المالك من جهة تأخير دفع ماله إليه. ومع التعارض لا يعمّ حديث نفي الضرر أيّاً من الضررين.

نعم, لو كانت تلك الزيادة ناشئة من تساهل وتماهل الضامن بأن انتقل إلى مكان زيادة القيمة وكان متساهلاً في تفريغ ذمّته، يثبت حينئذ إقدامه على تلك الزيادة، فلا يدفع عنه ضرر الزيادة بحديث نفيه، وذلك نظير ما إذا أخّر تفريغ الذمّة في القيمي أو المثلي وارتفعت القيمة عمّا كانت عليه في أوّل أزمنة إمكان تفريغ الذمّة.

2. إنّ مطالبة المثل ببلد المطالبة يستدعي عدم حقّ المالك في الامتناع لو بذله الضامن في غير بلد العهدة أو الضمان، وإن اقتضى ضرراً على المالك؛ لقلّة القيمة مثلاً، لذا تردّد صاحب جامع المقاصد في هذا ولم يرجّحه([762]).

3. إنّ مؤاخذة الغاصب بأشقّ الأحوال ليس عليها دليل، وقد سبق الكلام على ذلك.

رابعاً: تخيير الضامن:

ذهب فقهاء الحنفيّة إلى أنّه إذا كانت القيمة في مكان الخصومة أكثر من مكان العهدة أو الضمان يخيّر الضامن إن شاء أعطاه مثله في مكان الخصومة، وإن شاء أعطاه قيمة المثل في مكان العهدة أو الضمان، وكذا إن كانت قيمة المثل في مكان الخصومة أو المطالبة أو مكان الضمان أو العهدة متساوية القيمة، كان للمالك أن يطالب الضامن بالمثل([763]).

وعن الخانيّة كان للمالك أن يطالب الضامن بقيمة المثل([764]).

خامساً: قيمة بلد التلف:

نقل الإسنوي أنّ جمعاً كثيراً من فقهاء الشافعيّة  ذكروا إنّ المثلي إذا انتقل من مكان العهدة أو الضمان إلى بلد آخر وتلف فيه، وجبت قيمة بلد التلف([765]).

وفصّل بعض فقهاء الشافعيّة ذلك بأنّه إن كانت قيمة المثل في بلد العهدة أو الضمان مثل قيمة بلد التلف أو أقلّ منه طالبه بالمثل، وإلا فلا يطالبه بالمثل, بل يغرمه قيمة بلد التلف إن كان لنقله مؤونة أو خاف الطريق. والقيمة – هنا – للحيلولة، فإذا غرّم الضامن ثمّ اجتمع المالك والضامن في بلد العهدة أو الضمان، لم يكن للمالك ردّها وطلب المثل، ولا للضامن استردادها وبذل المثل([766]).

سادساً: قيمة أقصى قيم الأمكنة:

ذهب بعض فقهاء الشافعية ومنهم الأسنوي إلى أنّه إذا فقد المثل فقيمة أقصى القيـم التي وصل إليها من سائر الأمكنة التي حلّ بها المثلي في مورد الغصب([767]).

قال النووي([768]): ((فلو تلف في بلد المنقول طالبه بمثله حيث ظفر به من البلدين؛ لتوجّه الطالب عليه بردّ العين في الموضعين. فإن فقد المثل غرّمه قيمة أكثر البلدين قيمة)).

الرأي الراجح:

قد تقدّم: إن اخترت بأنّ العين التالفة هي التي تثبت في الذمّة من حين الضمان إلى حين تفريغ الذمّة سواء كان مثليّاً أو قيميّاً وأنّ الواجب في المثلي المثل سواء زادت القيمة أو نقصت ما دام الضامن متمكّناً منه. فلو فرض أنّ المالك التقى بالضامن في بلد غير بلد الضمان أو العهدة، فللمالك حقّ مطالبة الضامن بالمثل في بلد المطالبة إن كان المثلي تالفاً, وإن تعذّر المثل فله حق المطالبة بقيمة المثل أو المثلي في بلد المطالبة؛ وذلك لأدلّة وجوب تفريغ الذمّة التي تستدعي مسارعة الضامن إلى تفريغ ذمّته وحرمة بقاء المال في ذمّته، وأنّ للمالك حقّاً في المطالبة بحقّه حيثما وجد إليه سبيلاً وأنّ صعود القيمة حسب الأزمنة للمثل لا تنقل الحق من المثل الى القيمة، فكذلك ما اذا حدث اختلاف بالقيمة حسب الأمكنة بالنسبة للمثل، لأن وظيفة الضامن دفع المثل، وان حق المالك منحصر فيه، فلا وجه للانتقال إلى القيمة ما لم يسقط المثل عن الماليّة أو يتعذّر.

نعم, لو كان على المالك ضرر في تسلّم المثل في غير مكان العهدة أو الضمان بأن كان في نقله إلى مكان العهدة أو الضمان ضرر على المالك، ألزم الضامن بالنقل أو بدفع المثل في مكان الضمان أو العهدة؛ لأنّ ضرر المالك نشأ من فعل الضامن، فكأنّ الضامن فوّت على المالك بعض أمواله.

كما ينبغي أن يعلم بأنّ الضامن لو بذل المثل في بلد الضمان أو العهدة وامتنع المالك من القبول، ثمّ ألتقيا في بلد آخر، وكانت قيمة المثل فيه أكثر من بلد الضمان أو العهدة، فيمكن أن يقال: أن ليس للمالك إلزام الضامن بتلك الزيادة. هذا كلّه في الضمان ويأتي نفس الكلام في القرض؛ لأنّ على التحديد المختار للقرض هو إن فعل المقترض بالوفاء متعلّق بالمثل أو القيمة, فيجب على المقترض أينما التقى المقرض به في أيّ مكان.

المطلب الثاني: مطالبة الأثمان حسب الأمكنة:

المشهور عن الفقهاء أنّ المالك له حقّ مطالبة الضامن بالنسبة للأثمان في أيّ بلد، ووجب على الضامن ردّها للمالك؛ لأنّها قيم الأموال، فلا يضرّ اختلاف قيمتها سواء كان ذلك في مورد الضمان أو القرض([769]).

قال البهوتي([770]): ((وإن غصب أثماناً لا مؤونة لحملها فطالبه مالكها بها في غير بلد الغصب، وجب على الغاصب ردّها إليه، أي المالك لعدم الضرر)).

وقال في موضع آخر: ((وإنه أقرضه أثماناً فطالبه بها ببلد آخر لزمته الأثمان، أي مثلها؛ لأنّه أمكنة قضاء الحقّ من غير ضرر فلزَمَه))([771]).

وجاء في الفتاوي الخانيّة: ((رجل غصب من رجل دراهم أو دنانير في بلدة فطالبهم المالك في بلدة أخرى، كان عليه تسليمها، وليس للمالك ان يطالبه بالقيمة وان اختلف السعر))([772]).

وقد فصّل الشيخ الطوسي المال المثلي إلى ما كان من الأثمان او لا، وبيّن أنّ مطالبة الأثمان تكون في أيّ بلد بقوله([773]): ((فإن لم يكن لنقله مؤونة كالأثمان، فله المطالبه به، سواء كان الصرف في البلدين متفقاً أو مختلفاً؛ لأنه لا مؤونة في نقله في العادة، والذهب لا يقوّم بغيرها ولا الفضّة تقوّم بغيرها إذا كانا مضروبين)).

فالمالك له حقّ مطالبة الضامن بالنسبة للأثمان في أيّ بلد، وجب على الضامن ردها إلى المالك؛ لأنّها قيم الأموال، فلا يضرّ اختلاف قيمتها، سواء كان ذلك في الضمان أم القرض.

 

المبحث الثاني

مطالبة القيمة للقيمي حسب الأمكنة

اختلف الفقهاء بالنسبة لمطالبة قيمة القيمي حسب الأمكنة.

أولاً: قيمة بلد التلف:

ذهب فقهاء الإماميّة إلى أنّه إذا اختلفت القيمة باختلاف المكان، كما إذا كان القيمي في بلد العهدة أو الضمان بعشرة دنانير مثلاً وفي بلد التلف بعشرين دينار مثلاً، فالظاهر اعتبار محلّ التلف. ودليلهم بأنّ زمان التلف ومكانه أنّما هو زمان الانتقال إلى القيمة ومكانه([774]).

ثانياً: قيمة أعلى القيم:

ذكر العلامة الحلّي في مورد الغصب أنّ القيمي إذا أتلف في غير بلد الغصب واختلفت قيمة بلد التلف عن بلد الغصب أو العهدة، وجبت أكثر القيمتين للمالك، ولو اختلف النقدان، فالأقرب عنده وجوب القيمة من نقد البلد الذي حصل فيه التلف([775]).

ثالثاً: قيمة بلد العهدة أو الضمان:

إذا اختلفت قيمة القيمي باختلاف المكان وجبت قيمة بلد الضمان أو العهدة على الضامن للمالك عند مطالبة المالك في بلد المطالبة([776]).

رابعاً: الصلح الإلزامي:

ذهب السيّد السبزواري إلى أنّ اختلاف القيمة باختلاف المكان في المال القيمي لا بدّ من التصالح والتراضي فيما به التفاوت بين المالك والضامن([777]).

الرأي الراجح:

إنّ اشتغال الذمّة بنفس القيمي من حين الضمان إلى حين التفريغ في الضمان هو دفع قيمة بلد المطالبة الذي هو بلد التفريغ؛ لأنّ ذمّة الضامن مشغولة بالقيمي، وعليه تفريغها بدفعها أو بدلها وهو منحصر في القيمة، فحين التفريغ تتحول ذمة الضامن من دفع القيمي إلى دفع قيمته، فالواجب قيمة بلد المطالبة أو الأداء.

وأمّا القرض فعلى المختار من تفسيره أنّ ذمّة المقترض لا تشتغل بالمال, وإنّما يجب عليه فعل الوفاء على ما تقدّم توضيحه، وهذا الفعل قد تحدّد بقيمة العين القيميّة المقترضة حين الافتراض، فالوفاء الواجب على المقترض هو متعلّق بالقيمة المحدّدة في زمان أو مكان، ولا يتحوّل من تلك القيمة إلى أخرى, فاللازم الوفاء بدفع قيمة بلد الاقتراض.

قال البهوتي([778]): ((وإن كان المغصوب من المتقوّمات، كالثياب والعبيد وطالب به مالكه في غير بلد الغصب، لزمه الغاصب دفع قيمته في بلد الغصب للحيلولة)).

وجاء في مجمع الضمانات: ((ولو كانت من ذوات القيم، فللمالك قيمة بلد الغصب يوم الخصومة))([779]).

مطالبة المال المثلي والمال القيمي حسب الأمكنة في القانون المدني:

ذكر القانون المدني العراقي أنّ الأصل في مطالبة المال المثلي والمال القيمي حسب الأمكنة وهو مكان السبب أو العهدة. فقد ورد في عقد القرض في المادّة (689) في الفقرة (3): ((وإذا لم يتّفق على المكان – بين المقرض والمستقرض – كان الرّد واجباً في مكان العقد))([780]).

وجاء في الغصب في المادّة (192): ((يلزم ردّ المال المغصوب عيناً وتسليمه إلى صاحبه في مكان الغصب إن كان موجوداً, وإن صادف صاحب المال الغاصب في مكان آخر، وكان المال المغصوب معه، فإن شاء صاحبه استردّه هناك، وإن طلب ردّه إلى مكان الغصب, فمصاريف نقله ومؤونة ردّه على الغاصب، وهذا دون إخلال بالتعويض على الأضرار الأخرى))([781]).

وقد أخذ القانون المدني هذا النصّ من مجلّة الأحكام العدلية من المادّة (890)([782]). وقد أوضح القانون المدني مكان وفاء المثلي في مكان العقد إذا كان له حمل ومؤونة، أو كان العقد مطلقاً لم يعيّن فيه مكان التسليم.

أمّا مكان وفاء المال القيمي، ففي موطن المدين وقت وجوب الوفاء أو مكان أعماله ما لم يتّفق على غير ذلك, كما جاء في المادّة (396) في الفقرة (1) و(2).

1. إذا كان الشيء الملتزم ممّا له حمل ومؤونة كالمكيلات والموزونات والعروض ونحوها، وكان العقد مطلقاً لم يعيّن فيه مكان التسليم يسلم الشيء في المكان الذي كان موجوداً فيه وقت العقد.

2. وفي الالتزامات الأخرى يكون الوفاء في موطن المدين في وقت الوجوب والوفاء، أو في المكان الذي يوجد فيه محلّ أعماله إذا كان الالتزام متعلّقاً بهذه الأعمال ما لم يتّفق على غير ذلك([783]).

وقد فصّل شرّاح القانون المدني العراقي فقالوا: ((إنّه إذا هلك المغصوب أو استهلكه الغاصب ضمنه. ومعنى ضمانه أنّ المغصوب إذا كان من المثليات، فعلى الغـاصـب أداء مثله في مكان الغصب، لكن إذا صادفه المغصوب منه في مكان آخـر كان مخيّراً بين أخذ المثل هنالك، وبين تكليف الغاصب بتسليمه إيّاه في مكان الغصب، وإن كان المغصوب من القيميّات وجب على الغاصب أداء قيمتـه يوم الغصب([784]).

فالأصل مطالبة المثلي والقيمي في مكان السبب أو العهدة، فإن تلف وجب أداء المثل أو القيمة في نفس المكان في القانون المدني العراقي، وقد بيّنت في الرأي الراجح أنّ الأصل في تحديد حقّ المالك حسب الأمكنة هو بلد المطالبة في المال المثلي في الضمان أو القرض.

وأمّا المال القيمي، فالقيمة المعتبرة حسب الأمكنة في الضمان هي قيمة بلد المطالبة، وفي القرض قيمة مكان القرض.

 

الفصل الخامس

إختلاط وانقلاب المال المثلي والمال القيمي

المبحث الأوّل

اختلاط المال المثلي والمال القيمي

نتناول في هذا المبحث اختلاط المال المثلي بمثله أو بغيره، وكذلك اختلاط المال القيمي بغيره سواء كان المال المختلط مغصوباً أو وديعة, أم مال المفلّس المتعلق بحقّ الغرماء، أم وثيقة رهن, أم غيرها.

المطلب الأوّل

اختلاط المال المثلي بمثله

وهذا ينقسم إلى فرعين:

الفرع الأوّل: اختلاط المال المثلي بمثله ويمكن تمييزه:

إذا اختلط المثلي بمثله وأمكن تمييزه مثل صغار الحبّ بكباره أو زبيب أسود بزبيب أحمر، لزم الخالط تمييزه وردّ ملك المالك وأجرة التمييز على الخالط، وإن لم يتمكن تمييز جميعه وجب تمييز ما أمكن([785]).

الفرع الثاني: اختلاط المثلي بمثله ولا يمكن تمييزه:

إذا اختلط المثلي بمثله بحيث لا يمكن تمييزه أو امتزج مزجاً رافعاً للتمييز بينهما، فهنالك رأيان في ذلك:

1. اختلاط المثلي بمثله استهلاك:

الظاهر من كلام أحمد بن حنبل وقول أبي حنيفة وقول الزيديّة ووجه للشافعيّة والمالكيّة إنّ اختلاط المثلي بمثله استهلاك، فيجب على الخالط دفع المثل من غير المخلوط([786]). فقد أوضح في الفتاوي الهنديّة إنّ اختلاط المثلي المضمون بمثله خلط ممازجة، كخلط الجنس بالجنس، مثل الحنطة بالحنطة، واللبن باللبن يضمن الخالط عند أبي حنيفة المثل؛ لأنّه صار مستهلكاً؛ إذ لا يمكن مالك المثلي أن يصل إلى عين حقّه المثلي بسبب فعل الخالط، فيجب عليه الضمان([787]).

وقال أشهب من المالكيّة ((يضمن – الخالط – بمثله؛ لأنّه جناية على من خلط مالاً بمال مثلي لغيره، لا سيّما إنّ التساوي المحقّق في الأغلب غير موجود، فلذلك لزمه الضمان))([788]).

وذهب فريق من الفقهاء الأماميّة والمشهور من الحنابلة والشافعيّة إلى أنّ الخالط إذا خلط المثلي بمثله بالخيار إن شاء أن يعطي للمالك من المخلوط أو من غيره([789]). وهو الصحيح ووجهه واضح، فإنّ ما يدفعه هو المثل الواجب عليه من المختلط أو من غيره.

قال الغزالي([790]): ((وإذا غصب زيتاً وخلّطه بزيته، فالنصّ إنّه كالإهلاك، فيضمن المثل من أيّ شاء))، وذكر القاضي إنّ قياس مذهب الحنابلة إنّ الخالط يلزمه مثله إن شاء من المخلوط وإن شاء من غيره؛ لأنّه تعذّر عليه ردّ عين ماله بالخلط، فأشبه ما لو تلف لأنّه لا يتميّز له شيء من ماله. وأستدلّ القاضي بقدرة الخالط على دفع بعض مال المالك مع ردّ المثل في الباقي, فلم ينتقل إلى المثل في الجميع كما لو غصب صاعاً فتلف نصفه؛ وذلك لأنّه إذا دفع إليه منه فقد دفع إليه بعض ماله وبدل الباقي، فكان أولى من دفعه من غيره([791]).

2. اختلاط المثلي بمثله شركة:

إذا اختلط المثلي بمثله اختلاطاً رافعاً للتمييز كزيت بزيت، فالمشهور عند الشافعيّة والزيديّة والرأي الراجح عند الأماميّة وقول أبي يوسف ومحمد ووجه ثالث للحنابلة أنّه شركة بين الخالط والمالك([792]).

جاء في الوجيز في غصب الزيت وخلطه بمثله, أنّه: ((لا ضمان لأنّه لو خلطه بمثله فهو مشترك))([793]).

وأوضح صاحب البحر الزخّار من الزيديّة إنّ اختلاط المثلي بمثله يصير مشتركاً، فيقسّم كيلاً أو وزناً؛ لأنّه لا يبطل حقّ المالك من العين مع قلّة
التفاوت([794]).

وذكر صاحب المبسوط ومختلف الشيعة إنّ اختلاط المثلي بمثله شركة بين المالك والخالط، ويملك المالك مطالبة الخالط بقسمة المخلوط فيأخذ مثل كيله منه؛ لأنّه قدر على بعض عين ماله وبدل الباقي، ولا معنى أن يجبر على مثل من غيره مع وجود بعض العين.

ودليلهم أنّ العين المثليّة موجودة في المخلوط، فلا ينتقل الحقّ إلى المثل أو القيمة في الجميع مع إمكان حصول العين في البعض([795]).

وأوضح السيّد السبزواري أنّه ليس على الضامن غرامة بالمثل أو القيمة؛ لفرض عدم حصول نقص من الخالط على المال، فلا موضوع للغرامة على كلّ حال، بل الذي عليه تسليم المال والإقدام على الإفراز والتقسيم بنسبة المالين أو البيع وأخذ كلّ منهما حصّته من الثمن، كسائر الأموال المشتركة([796]).

وذهب أبو يوسف ومحمد إلى إنّ المالك بالخيار إن شاء ضمنه مثل حقّه، وإن شاء أشركه في المخلوط واقتسماه على قدر حقّهما؛ لأنّه لا يمكن الوصول إلى عين حقّه صورة، وأمكنه معنى بالقسمة, فكان استهلاكاً من وجه, فيميل إلى أيّهما شاء؛ لأنّ القسمة عند فقهاء الحنفيّة فيما لا تتفاوت آحاده إفراز وتعيين، فيملك كلّ واحد من الشريكين أن يأخذ حصته عيناً من غير قضاء ولا رضاً، فكأنّ إمكان الوصول إلى عين حقّه قائماً معنى فيتخيّر([797]).

وذكر الحارث وجهاً ثالثاً للحنابلة وهو شركة في الثمن دون المثمن بحيث يباع المخلوط ويقسّم الثمن على الحصّة، وهو إطلاق القاضي يعقوب في تعليقه وأبي الخطاب وابن بكروس من الحنابلة([798]).

الرأي الراجح:

أنّ اختلاط المال بمثله بنحو يرتفع فيه التمييز بين المختلطين يعتبر تآلفاً بحكم العرف، فيجب المثل والحكم بالشركة لا وجه له؛ لأنّ الشركة تعني بقاء مال المالكين معاً، وإلزام الممتنع عن التقسيم عليه، وهاهنا لا تؤدّي إلى وصول المال بعينه إلى المالك.

ودعوى إمكان وصوله إلى البعض وإن لم يمكن وصوله إلى جميعه غير واضحة؛ لأنّ كلّ جزء من أجزاء مالهما – مهما قلّ الجزء – نصفه واقع لأحدهما والنصف الآخر للآخر. فما وصل إلى المالك ليس ماله ولا بعض ماله، بل الواصل هو المركّب من المالين، ومعلوم إنّ المركب غير الجزء لصحة سلب كلّ منهما عن الآخر، فيقال: الكل ليس بجزء والجزء ليس بكلّ، كما إنّ القسمة على ما حقّق في كتب الفقه إفراز وليس في المقام إفراز وانّما الواصل إلى المالك مقدار ماله.

ولا يمكن جعله ملكاً له إلا بعد فرض أنّ ما حصل عليه عوضاً عما خرج من يده، فيكون من باب الضمان، وفرق واضح بين جعل المال مشتركاً وبين اعتبار مال المالك تآلفاً؛ إذ على الأوّل لو حصل التلف أو التعيبّ من دون تعدّ أو تفريط من أحدهما كانت الخسارة عليهما بالنسبة بخلاف الثاني؛ فإنّ الخسارة تخصّ الضامن، ولا يخسر المالك شيئاً من ماله.

المطلب الثاني: اختلاط المثلي بأجود منه:

إذا اختلط المثلي بأجود منه وتعذّر تمييزه كخلط زيت بزيت أجود منه. فللفقهاء رأيان في ذلك:

 أولاً: اختلاط المثلي بأجود منه – استهلاك –:

إذا اختلط المثلي بأجود منه، فالصحيح عند الشيخ الطوسي وابن ادريس من الأماميّة ووجه للشافعيّة وقياس مذهب الحنابلة وقول للزيديّة أنّه أستهلاك([799])، فيسقط حقّ المالك من العين؛ لأنّه قد تعذّر الوصول إلى عين ماله بعينها، ويكون الخالط بالخيار بين أن يعطيه من المخلوط فيلزم المالك قبوله لأجل أنّه تطوّع له بخير من المثلي، لا لأنّه أعطاه عين ماله أو مثله من غيره.

قال القفّال من فقهاء الشافعيّة([800]): ((وإنّ خلط بأجود منه وبذل للمالك صاعاً مثله من غيره وأمتنع المالك من قبوله إلا منه فالمنصوص عليه إنّ الخيار إلى الضامن؛ لأنّه تعذّر ردّ المثلي بالأختلاط فقبل منه المثل)).

فبتعذّر المثلي عند الردّ أصبح في حكم التلف أو المستهلك.

وذكر القاضي من الحنابلة إنّ ((قياس المذهب أنّه يلزم الضامن مثله؛ لأنّه صار بالخلط كالمستهلك، وكذا لو اشترى زيتاً فخلطه بزيته ثمّ أفلس صار البائع كأسوة الغرماء، ولأنّه تعذّر عليه الوصول إلى عين ماله، فكان له بدله، كما لو كان تآلفاً))([801]).

ولو باع الخالط المخلوط قسّم الثمن بين الخالط والمالك على قدر([802]).

ويلاحظ عليه أنّ الحكم بثبوت الشركة في القيمة يقتضي الالتزام بالشركة في المثمن، وإلا فكيف ساغ دفع القيمة في المثلي.

فالصحيح كما تقدّم من إنّ المال يعتبر تآلفاً عرفاً، ولا وجه لثبوت الشركة، لا في المخلوط ولا في الثمن، بل يلزم الخالط بالمثل، فإن دفع من المخلوط أجبر على القبول؛ لأنّ فيه حقّه وزيادة، وإن دفع من غيره كان له ذلك.

ثانياً: اختلاط المثلي بأجود منه شركة:

إذا اختلط المثلي بأجود منه فهو شركة بين المالك والخالط. ذهب إلى ذلك العلامة الحلّي من الأماميّة وهو وجه للشافعيّة, ورأي لأبن حنبل وقول للزيديّة([803]).

أوضح العلامة الحلّي أنّ المالك شريك بمقدار عين ماله لا قيمته، لأنّ الزيادة الحاصلة صفة حصلت بفعل الخالط عدواناً في الغصب، فلا يسقط حقّ المالك مع بقاء عين ماله، فلا ينتقل الحقّ إلى المثل أو القيمة في الجميع مع إمكان حصول العين في البعض([804]).

وفيه: إنّما يتمّ في صورة الامتياز الحسّي، وبدونه يعتبر المختلط تآلفاً عرفاً، كما تقدّم.

وأفتَ القفّال من فقهاء الشافعيّة أن يباع المخلوط جميعه ويقسّم الثمن بين الخالط والمالك على قدر قيمتهما؛ لأنّه إذا فعل ذلك أوصل كلّ واحد من المالك والضامن إلى عين ماله، وإذا أمكن الرجوع إلى عين المال لم يلزم الرجوع إلى البدل.

فإن كان ما يقصر عن قيمة مال المالك استوفى القيمة الباقية، ودخل النقص على الضامن؛ لأنّه نقص بفعله فلزمه ضمانه([805]).

ويلاحظ أنّ الشركة بالثمن دون المثمن غير واضحة، لأنّ الثمن عوض المثمن، كما أنّ توجيه الخسارة إلى الضامن فقط غير واضح؛ إذ ربّما لا يكون الضامن مقصّراً ومتعمداً في حصول الخلط، بل ساهياً أو ناسياً أو جاهلاً خلط مال الغير بماله، ففي هذه الصورة تخصيصه بالخسارة ظلم عليه والظلم لا يدفع بالظلم.

والظاهر من كلام أحمد بن حنبل أنّ المالك والضامن شريكان يباع المخلوط أو  يدفع إلى كلّ واحد منهما قدر حقّه، فاذا فعل ذلك أوصل إلى كلّ واحد منهما عين ماله، وإذا أمكن الرجوع إلى عين المال لم يرجع إلى البدل([806]).

وقال المرتضى من الزيديّة([807]): ((يباع ويقسّم الثمن على قدر القيمة)).

وفيه: كيف ساغ وفاء المثلي بالقيمة؟ وكيف أصبحت القيمة عين مال المالك؟ كما أنّه كيف اعتبر المركّب مالاً للمالك؟ فالصحيح ما تقدّم.

مطالبة المالك حقّه من المخلوط:

لو طالب المالك أن يدفع إليه من المخلوط يقدّر قيمة المثلي، كما لو طلب المالك أن يدفع إليه مثلاً من الزيت المختلط بقدر قيمة زيته، كما لو خلط مثلاً كيلوغرام من زيت قيمته دينار بكيلوغرام من زيت أجود منه قيمته ديناران، ففيه ثلاثة آراء:

الرأي الأوّل:

عدم جواز أخذ المالك من المخلوط بقدر قيمة المثلي للمختلط؛ لأنّه يأخذ بعض المثلي عن المثلي وذلك رباً كما يأخذ بعض كيلوغرام عن كيلوغرام من الزيت([808]).

قال الغزالي([809]): ((ولا يقسّم الزيت بعينه على التفاوت، فيؤدّي إلى الربا)).

الرأي الثاني:

الأقرب الجواز عند العلامة الحلّي؛ لأنّ قسمة عين الزيت على نسبة القيمة ليست بيعاً عنده، بل هو أفراز حقّ؛ لأنّ الربا إنّما يكون في البيع وليس ههنا بيع، وإنّما يأخذ هو بعض حقّه ويترك بعضه كرجل له على رجل دراهم أخذ بعضها وترك البعض([810]).

الرأي الثالث:

يجب على الخالط تسليم مقدار المالك من الزيت مثلاً من المخلوط في مورد الغصب؛ لأنّ اكتساب المخلوط صفة الجودة بالخلط لزيادة متّصلة تحصل بسبب الخالط – الغاصب –([811]), ولو بذل للمالك مثل حقّه من المخلوط لزمه قبوله؛ لأنّ الخالط أوصل إلى المالك بعض حقّه بعينه وتبرّع بالزيادة في المثل الباقي([812]).

قال العلامة الحلّي([813]): ((وإن خلط بالأجود، كما إذا خلط صاعاً قيمته درهم بصاع قيمته درهمان، فإن أعطاه صاعاً من المخلوط أجبر المالك على قبوله؛ لأنّ بعضه عين حقّه وبعضه خير منه)).

الرأي الراجح:

إن خلط المال المثلي بأجود منه يعتبر تآلفاً عرفاً، ولا وجه لثبوت الشركة لا في المخلوط ولا في الثمن، بل يلزم الخالط بالمثل، فإن دفع من المخلوط أجبر المالك على القبول؛ لأنّ فيه حقّه وزيادة، وإن دفع من غيره كان له ذلك.

المطلب الثالث: اختلاط المثلي بأردأ منه:

إذا اختلط المثلي بأردأ منه كخلط زيت بزيت أردأ منه، فللفقهاء رأيان في ذلك:

أوّلاً: اختلاط المثلي بأردأ منه أستهلاك:

إذا اختلط المثلي بأردأ منه فالمشهور عند فقهاء الشافعيّة والحنابلة والزيديّة وقول للأماميّة أنّه أستهلاك([814])، ووجب على الخالط المثل، ولا يجب قبول المالك مثل زيته من المخلوط، بل ينتقل إلى المثل؛ لتعذّر ردّ العين كاملة؛ لأنّ المزج في حكم الاستهلاك من حيث اختلاط كلّ جزء من مال المالك بجزء من مال الخالط.

قال القاضي من الحنابلة([815]): ((قياس المذهب أنّه يلزم الضامن مثله؛ لأنّه صار بالخلط مستهلكاً)). ولو رضي المالك بأخذ حقّه من المخلوط وأمتنع الخالط على دفع مال المالك من المخلوط أجبر على ذلك؛ لأنّ المالك رضي بأخذ حقّه ناقصاً ولا أرش له([816]).

ويلاحظ أنّ ما جاء يبتني على إنّ المخلوط يحتوي على عين مال المالك، ومقتضى القاعدة في الضمانات إرجاع عين المالك مهما أمكن.

ثانياً: اختلاط المثلي بأردأ منه شركة:

الأقوى عند الأماميّة. قال الشيخ هادي كاشف الغطاء([817]): ((فإن مُزج بجنسه ولم يتميّز وكان بالأردأ ضمنه بمثله، ولو قيل بتخييره بين المثل والشركة مع الأرش لكان حسناً؛ لأنّه لم يعد تآلفاً وتثبت الشركة قهراً)).

وظاهر كلام أحمد بن حنبل وقول أبي إسحاق من الشافعيّة هو تخيير المالك بين المثل أو الشركة مع الأرش في خلط المثلي بأردأ منه؛ لأنّ حقّ المالك من عين ماله لم يسقط لبقائه كما لو مُزج المثلي بالأجود منه، والنقص بالخلط يمكن جبره بالأرش([818]).

وجاء في حلية العلماء: ((يباع الزيتان – مثلاً – ويقسّم ثمنه بينهما على قدر قيمتهما، فيكون للبائع ما قابل قيمة زيته))([819])؛ لأنّه إن أخذ المالك مثل زيته مثلاً بالكيل، كان ذلك أنقص من حقّه، وأن أخذ أكثر من زيته كان رباً، فوجب البيع وهذا على من يعتبر القيمة بيعاً.

مطالبة المالك حقّه من المخلوط:

لو طلب المالك مثل مكيله بزنته من المخلوط وامتنع الخالط، أجبر الخالط على الدفع؛ لأنّ المالك رضي بأخذ حقه ناقصاً؛ ولأنّه أمكنه من ردّ بعض ماله وردّ مثل الباقي من غير ضرر.

وقيل: لا يلزم الخالط ذلك؛ لأنّ حقّه انتقل إلى الذمّة فلم يجبر على غير المثل([820])، وإن اتّفق المالك والخالط على أن يأخذ أكثر من حقّه من الرديء لم يجز؛ لأنّه رباً، وذلك بأخذ الزائد في القدر عوضاً عن الجودة على من يعتبر القسمة بيعاً.

وإن رضي المالك دون حقّه من الرديء جاز؛ لأنّه لا مقابل للزيادة، وأنّما هي مجرّد تبرّع([821]).

الرأي الراجح:

أنّ مقتضى القاعدة أنّ اختلاط المثلي بالأجود منه أو الأردأ منه أو المساوي له يعتبر تآلفاً بحكم العرف، وبراءة ذمّة الخالط بدفع المقدار المطلوب من المخلوط انّما هي من جهة أنّ المدفوع هو مصداق ما يطلب منه، لا لأنّه عين مال المالك فليس للمالك إلزام الضامن بدفع حقّه من المخلوط, كما ليس له أن يطالب الخالط بتحقيق المثل المطلوب ضمن فرد معيّن.

فلا يخفى أنّه لا وجه لأجبار أيّ من الطرفين: المالك والخالط، أمّا المالك فلأنّ فيه تضييعاً لحقّه؛ إذ المفروض أنّ ماله كان أجود منه. وأمّا الخالط، فليس للمالك إجباره على دفع المثل المطلوب ضمن فرد معيّن.

المطلب الرابع: اختلاط المثلي بغيره:

لو اختلط المثلي بغيره، فهو على نحوين:

النحو الأوّل: اختلاط المثلي بغيره وأمكن تمييزه:

إذا اختلط المثلي بغيره وأمكن تمييزه وهو على ضربين:

الأوّل: ما يمكن تمييزه بلا كلفة ولا مشقّة كما لو خلط المثلي بغيره خلط مجاورة بحيث يمكن التمييز بينهما بلا كلفة ولا مشقّة كخلط الدراهم بالدنانير، فالخالط لا يضمن ويميّز حقّ المالك ويدفعه له([822]).

قال الأشهب([823]): ((فيمن خلط جوّز رجل بحنطة آخر أنّه لا يضمن؛ لأنّه يقدر على التخليص بلا مضرّة على الحنطة والجوز، وكذلك خلط الجوز بالرمان والرمان بالأترج والتفاح إلا أن يكون خلطها يفسد أحدهما، فيضمن الذي يفسد بالخلط)).

الثاني: ما يمكن تمييزه بكلفة ومشقّة، كما لو خلط المثلي بغيره يشقّ تمييزه، كخلط الحنطة بالشعير أو الدخن بالذّرة، فالمشهور من فقهاء الشافعيّة والحنابلة والمالكيّة والزيديّة والعلامة الحلّي من الأماميّة تكليف الخالط تمييز حقّ المالك عن المخلوط، وأعادته؛ لأنّه يمكن ردّ العين فيلزمه ذلك([824]).

قال الغزالي([825]): ((وخلط الحنطة بالشعير ليس إهلاكاً, بل يلزمه الفصل)).

وقال ابن قدامة([826]): ((وخلط المثلي بغيره إذا أمكن تمييزه، كحنطة بشعير أو سمسم لزمه تمييزه وردّه وأجر المميّز عليه، وإن لم يمكن تمييز جميعه وجب تمييز ما أمكن)).

وقال المرتضى من الزيديّة([827]): ((إذا خلط المثلي بغير جنسه كحنطة بشعير لزمه تمييزه لإمكانه)).

وللحنفيّة وقول للأماميّة يضمن الخالط المثل، ويكون المثلي مستهلكاً.

جاء في الفتاوي الهندية: ((لو خلط المثلي بغيره خلط مجاورة بحيث لم يمكن التمييز بينهما إلا بكلفة ومشقّة، كخلط الحنطة بالشعير يضمن الخالط، ولم يكن للمالك الخيار))([828]).

كما جاء في تذكرة الفقهاء: ((لو خلط المثلي بغير جنسه كالحنطة بالشعير يجب عليه الفصل بينهما بالالتقاط ولو طال الزمان))([829]).

والصحيح أن يقال: إن أمكن إفراز عين مال المالك ولو بكلفة، أي بدفع أجرة ألزم الخالط به إن كان الاختلاط بتقصير منه، وامّا إذا لم يكن بتقصير منه فلا دليل على إجباره وتحميله الخسارة التي لم يقدم عليها، فالمتّجه المصالحة في مقدار أجرة التمييز.

وإذا لم يكن إفرازه إلا بمشقة لا تتحمّل مثل أختلاط أطنان من الحنطة بأطنان من الشعير، فمقتضى القاعدة يلزم الخالط بالإفراز بما يتمكّن منه، وما خرج عن القدرة – عادة – يعتبر في حكم التلف، فيدفع مثله من غيره.

النحو الثاني: اختلاط المثلي بغيره ولا يمكن تمييزه:

لو مزج المثلي بغير جنسه كمزج الزيت بالشيرج أو دهن الجوز بدهن الذرة أو دقيق الحنطة بدقيق الشعير، فللفقهاء رأيان في ذلك:

الأوّل: اختلاط المثلي بغيره ولا يمكن تمييزه استهلاك:

المشهور من فقهاء الشافعيّة والحنابلة والمالكيّة والزيديّة والأماميّة وإجماع الحنفيّة([830]) أنّه إذا خلط المثلي بغير جنسه كما لو خلط زيت بشيرج أو دهن جوز أو مزج دقيق حنطة بدقيق شعير، فالمثلي هالك؛ لبطلان فائدته وخاصيته باختلاطه بغير جنسه بخلاف الجيّد مع الرديء.

قال القفال([831]): ((إن خلط المثلي بغير جنسه كخلط الزيت بالشيرج، لزم على الضامن مثله، لأنّه تعذّر ردّ العين بالأختلاط، فعدل إلى مثله)).

وقال القاضي من الحنابلة([832]): ((قياس مذهب الحنابلة أنّه يلزم الخالط مثله؛ لأنّه صار بالخلط مستهلكاً, ولو تراضيا على أن يأخذ المالك أكثر من حقّه أو أقلّ جاز؛ لأنّه بدل من غير جنسه. فلا تحرم الزيادة بينهما)).

وجاء في المنتقى: ((إذا خلط المثلي بغيره، ولم يمكن تمييز بعضه عن بعض ضمن للمالك مثله، وهو قول أشهب وأبن قاسم, ووجه ذلك أنّه قد أتلف عليه المثلي ومنعه من الوصول إليه))([833]).

وأجمع فقهاء الحنفيّة على أنّ خلط المثلي بغيره خلط ممازجة، لا يمكن التمييز بينهما بالقسمة، كخلط دهن الجوز بدهن الذرّة، ودقيق الحنطة بدقيق الشعير, فالخالط ضامن ولا حقّ للمالك في المخلوط؛ لأنّه أنقطع حقّ المالك بالضمان؛ لأنّه أستهلك صورة ومعنى؛ لتعذّر القسمة([834]).

والصحيح – ممّا تقدّم – هو أنّ المال يعتبر تآلفاً، وينتقل حقّ المالك إلى المثل.

الثاني: أختلاط المثلي بغيره ولا يمكن تمييزه شركة:

لو مزج المثلي بغير جنسه، كمزج الزيت بالشيرج، فظاهر كلام أحمد بن حنبل أنّ المالك والخالط شريكان يباع الجميع ويدفع إلى كلّ واحد منهما قدر حقّه([835]).

وشرط أشهب وابن قاسم من فقهاء المالكيّة وقوع الشركة بين المالك والخالط إذا لم يكن للخالط مال.

قال أشهب([836]): ((إذا لم يكن للخالط مال بيع المخلوط، وأشتُري من ثمنه لكلّ واحد منهما مثل المثلي)).

وجوّز بن القاسم وأشهب أن يقتسما بينهما وإن اختلفا في صفة الاشتراك في المخلوط.

فذهب ابن القاسم إلى أنّ المالك والخالط يشتركان في المخلوط، فيباع ويقسّم الثمن بينهما على حسب مقدار المثلي. فلو كان المخلوط طعاماً من الحنطة والشعير، فأنّهما يشتركان في الطعام المختلط: أحدهما: بقيمة قمحه مثلاً، والآخر بقيمة شعيره([837]).

وقال أشهب: ((لا يجوز أن يشتركا فيه إلا على السواء إن كانت مكيلة طعامهما سواء، ولا يجوز على التفاضل فيه؛ لأنّ ذلك يؤدّي إلى التفاضل بين القمح والشعير))([838]).

والأحتمال الأقوى عند العلامة الحلّي وقول للشافعيّة، بثبوت الشركة بين الخالط والمالك، كما لو مزّجاه بالرضا، أو أمتزجا بأنفسهما. فإن كان في المثلي نقص ضمنه الخالط، وإلا فلا([839]).

وأستُشِكل على هذا القول بأنّ جبر المالك على أخذه بالأرش أو بدونه ألزام بغير الجنس في المثلي وهو خلاف القاعدة، وجبر الخالط أثبات لغير المثل عليه بغير رضاه. فالعدول إلى المثل أجود، ووجود العين غير متميّزة من غير جنسها كالتآلفة.

ومن فقهاء الشافعية من قال([840]): ((يباع الجميع ويقسّم الثمن على القدر قيمتهما ليصل كلّ واحد منهما إلى عين ماله)) فهو شركة في ثمن المخلوط.

والصحيح ما تقدّم من الألتزام بالأستهلاك وانتقال الحقّ إلى المثل.

المطلب الخامس: خلط المثلي بالماء:

لو صبّ المثلي في الماء كزيت صب في الماء أو لبن شاة بماء، وجب على الخالط أن يخلصه من الماء حتى يكون لا ماء فيه، وتكون مخالطة الماء غير ناقصة له، وكان لازماً للمالك أن يقبله وإن كانت مخالطة الماء ناقصة له في العاجل أو الآجل ومفسدة له، رجع عليه بمثله؛ لأنه صار كالهالك، وإن لم يفسده ردّه وردّ نقصه، وهذا أعدل حكومة وأبعد عن الضرر عند الشافعي([841]).

وقال الربيع: ((يعطيه هذا المثلي بعينه وإن نقصه الماء))([842]).

وإن احتيج في تخليص المخلوط من الماء إلى غرامة، لزم الخالط ذلك؛ لأنّه بسببه([843]).

والصحيح أن يقال: إن أمكن تخليص المثلي من الماء، وجب على الخالط ذلك؛ لأنّ العين مال المالك يجب أرجاعها ويجبر العيب بالأرش إن كان ذلك بفعل الخالط.

وإن لم يمكن تخليصه وكان الأختلاط بالماء بحكم التآلف عرفاً كأختلاط السكر بالماء، أنتقل الحقّ إلى المثل، وإن لم يمكن تخليصه ولم يكن بحكم التآلف كالحليب المختلط بالماء، فإن أوجب عيباً ضمن الخالط الأرش، وإن لم يوجب لم يكن للمالك شيء على الخالط سوى نفس المثلي المختلط بالماء، كخلط الحليب بماء قليل بحيث لم يؤثّر في قيمته.

المطلب السادس: اختلاط المال القيمي:

إذا اختلط المال القيمي بحيث لا يمكن تمييزه فهو استهلاك فتجب قيمته على الخالط للمالك إلا عند من أوجب في القيمي مثله، فيجب مثله.

أمّا إذا أمكن تمييزه فيجب التمييز وإرجاع العين إلى المالك.

اختلاط المال المثلي والمال القيمي في القانون المدني:

إنّ القانون المدني العراقي تطرّق إلى اختلاط المال المثلي بمثله أو بغيره من خلال الكلام عن خلط الوديعة.

فذكر إنّ الودعي ضامن إذا خلط الوديعة بماله أو بمال غيره بلا إذن من صاحب الوديعة بحيث يتعسّر تفريق المالين، وسواء كان خلط المال المثلي بجنسه أم بغيره.

فلو خلط الودعي الوديعة بماله بأذن صاحبه، أو اختلطت بلا تصرّف بحيث يتعسّر تفريق المالين يصير الودعي شريكاً لمالك الوديعة.

أمّا خلط الوديعة من غير الودعي خلطاً يتعسّر معه تفريقها، فالضمان على الخالط.

جاء في المادّة (955) في الفقرة (1) (2):

1. إذا خلط الوديع الوديعة بمال أو بمال غيره، بلا أذن صاحبها، بحيث يتعسّر تفريق المالي، فعليه ضمانها سواء كان المال الذي خلطه بها من جنسها أم من غيره. وإن خلطها غيره خلطاً يتعسر معه تفريقها، فالضمان على الخالط.

2. أمّا إذا خلط الوديع الوديعة بماله بإذن صاحبها، واختلطت بلا صنعة بحيث يتعسّر تفريق المالين يصير الوديع شريكاً لمالك الوديعة، فإن هلك المال بلا تقصير، فلا ضمان على الوديع الشريك))([844]).

ومن خلال النصّ نلاحظ أنّ القانون المدني فرّق بين خلط الوديعة من دون إذن صاحبها، أو بإذنه في كون الخلط شركة أو استهلاك، وصيرورة الودعي ضامناً أو شريكاً.

ولم يفصّل القانون المدني بين خلط المال المثلي بأردأ أو أجود منه أو بغيره، وكذلك خلط المال القيمي وإنّما أطلق ذلك. فتلاحظ دقّة الفقه الإسلامي في تفصيل المسائل الشرعيّة، والتطرّق لجميع وقائع الحياة بصورة مفصّلة قد سبقت القانون المدني.

 

المبحث الثاني

انقلاب المال المثلي والمال القيمي

نتطرّق في هذا المبحث فيما إذا طرأ على المال حالات: حالة المثليّة، وحالة القيمية، فهل المعتبر في تضمين الضامن هو الحالة الأولى أو الحالة الثانية، أو يتخيّر المالك في تضمينه بمقتضى ما شاء منهما لكونه مالكاً في الحالَين، أو يتخيّر الضامن لكونه غارماً ومأموراً بالأداء؟.

فهنالك عدّة آراء واحتمالات نتطرّق إليها من خلال التعرّض للحالات التي ينقلب إليها المال:

المطلب الأوّل: انقلاب المال المثلي إلى مال قيمي:

اختلف الفقهاء في تضمين الضامن إذا انقلب المال المثلي إلى مال قيمي، ثمّ تلف, كمن غصب حنطة فطحنها وتلف الدقيق عنده أو جعله خبراً وأتلفه، وأعتبر لا مثل للدقيق والخبز.

أو تمراً أتّخذ منه خلاً بالماء، وأعتبر الخل لا مثل له, فلفقهاء الشافعيّة في ذلك ثلاثة آراء([845]):

الأوّل: الأصل تضمين الضامن بالمثل؛ لأنّه أقرب إلى المثلي من القيمة مطلقاً سواء ساوى قيمة القيمي أم لا، كمن غصب تمراً وأتّخذ منه الخلّ بالماء أو الحنطة وجعلها خبزاً, فيضمن التمر والحنطة.

الثاني: إن كان القيمي أكثر قيمة من المثلي، يضمن الضامن قيمة القيمي، وإلا، فالمثل، وهو ما قطع به البغوي.

الثالث: يغرم أكثر القيم عند القاضي حسين وليس للمالك مطالبته بالمثل، فمن غصب حنطة في الغلاء فتلف المغصوب عنده ثمّ طالبه المالك في الرخص فهل يغرمه المثل أو القيمة؟ لم يصحّ إطلاق الجواب بواحد منهما عنده، بل الصواب عنده أن يقال: إن تلفت وهي حنطة غرم المثل وإن صار إلى حالة التقويم ثمّ تلف فالقيمة.

كمن غصب صاع برّ قيمته درهم فطحنه فصارت قيمته درهماً وسدساً فخبّزه فصارت درهماً وثلثاً وأكله، لزمه درهم وثلث؛ لأنّه أستحقّ عليه قيمة خبز درهماً وثلثاً([846]).

وأعترض بأنّ هذا يخالف فيمن غصب بيضاً فتفرّخ أو حبّاً فنبت من أنّه يردّه مع أرش النقص؛ إذ هذا من قبيل صيرورة المثلي متقوّماً.

وأجيب: بأنّه لا مخالفة للقاعدة عند التلف، وإنّما في الاعتراض المذكور مع بقاء المثلي، بينما تقييد القاعدة بالتلف([847]).

كما أنّ لفقهاء المالكيّة في ذلك ثلاثة آراء كذلك([848]):

الأوّل: ذكر ابن القاسم في المجموعة أنّ على الضامن مثل المال المثلي، فمن غصب قمحاً فطحنه فعليه مثله؛ لأنّ الغاصب إذا صنع فيما غصب صناعة لم يكن للمغصوب من أن يأخذ ذلك إلا بأن يدفع إلى الغاصب قيمة تلك الصناعة.

الثاني: ذهب أشهب أنّ للمالك القيمي المنقلب من المثلي. فمن غصب قمحاً فطحنه يأخذ المالك الدقيق ولا شيء عليه في طحينه.

الثالث: التخيير بين أخذ المثلي أو القيمي المنقلب رواه ابن حبيب عن ابن الماجشون أنّ لرب الحنطة أن يأخذها إذا طحنها الغاصب سويقاً أو يضمنه مثلها ولا حجة للغاصب في الصنعة؛ لما روي: ((ليس لعرق ظالم حقّ))([849]).

والصحيح أن يقال: إنّ العين نفسها تثبت في الذمّة ويجب إرجاعها ما دامت باقية بحكم العرف، ولو حصل تحول من حال إلى أخرى، فالحنطة التي تحوّلت إلى طحين بحكم العرف باقية بصورة الطحين، وعلى هذا يبتني حرمة التصرّف فيه وحرمة أكله، وهو باق حتى بعد صيرورته خبزاً، فيجب عليه إرجاع العين في أيّ حال وجدت ما دامت باقية([850])، ولو فرض أنّ التحوّل أوجب نقصاً فيها أرجع العين مع الأرش؛ لأنّ التفاوت عيني وصفي، لا سوقي، وهو مضمون فلو تلفت العين بعد التحوّل، فمن حينه تثبت في الذمّة، فتبقى بالذمّة بحالتها التي ورد عليها التلف, فالمثلي إذا تحوّل إلى قيمي وورد التلف فالذمّة مشغولة بالقيمي إلى حين التفريغ، فيضمن قيمة يوم الأداء لذلك القيمي التآلف، وهو مقتضى المختار من وجوب إرجاع العين مع بقائها ولو مع التغيّر ومن ثبوت العين نفسها في الذمّة حتى مع تلفها إلى حين تفريغها.

أمّا الأقوال الأخرى، فلا تخلو من إشكال؛ لاستلزامها ضمان المال المثلي بالقيمة أو المال القيمي بالمثل، وهو مناف للقاعدة من ضمان المال المثلي بمثله، والمال القيمي بقيمته.

المطلب الثاني: انقلاب المال القيمي إلى مال مثلي:

إنّ انقلاب المال القيمي إلى مال مثلي نادر الحصول، ومثال ذلك أن تحصل في الأسواق الأموال المتماثلة في ذاتها النادرة الوجود، فتتحوّل من أموال قيميّة إلى أموال مثلية، أو كأن يصنع على مال قيمي قالب يخرج منه عدد كبير مثل ذلك.

واختلف الفقهاء في تضمين الضامن إذا انقلب المال القيمي إلى مال مثلي، وتلف فللشافعيّة ثلاثة آراء في تضمين الضامن([851]):

الأوّل: ذهب البغوي إلى أنّه يضمن الضامن مثل المثلي، لأنّه أقرب إلى الحقّ والأصل، كمن غصب رطباً، وأعتبر أنّه قيمي فصار تمراً ثمّ تلف عنده، لزم الضامن مثل التمر؛ لأنّه لا يمكن الجمع بين المثل والقيمة، ولا بدّ من إيجاب أحدهما والمثل أقرب إلى التآلف، فيكون ايجابه أولى.

وكذا الزيتون إذا اعتصر منه زيت، وكان الزيتون قيميّاً والزيت مثليّاً كان للمالك مثل الزيت المستخرج؛ لأنّه لمـّا صار القيمي مثليّاً كان المثل أولى من قيمة الأصل؛ لتقديم المثل على القيمة.

وكذلك الشاة إذا ذبحت وصارت لحماً ثمّ تلف ضمن مثل اللحم.

الثاني: إن كان المال القيمي أكثر قيمة من المثلي لزم الضامن قيمة القيمي؛ لئلا تضيع الزيادة, كما إذا كانت قيمة المال القيمي كالرطب أو الزيتون أو شاة، مثلاً أكثر من قيمة المال المثلي كالتمر أو الزيت أو اللحم، وإن كانت قيمة المال المثلي أكثر من قيمة المال القيمي أو تساوياً, لزم الضامن المثل، كما إذا كانت قيمة التمر أو الزيت أو اللحم أكثر أو مساوياً لقيمة الرطب أو الزيوت أو الشاة.

الثالث: أختار الغزالي أنّه يتخيّر بين مثل المثلي وقيمة القيمي، أي بين مثل التمر والزيت واللحم أو الرطب والزيتون والشاة([852]).

أمّا عند فقهاء الإماميّة، فإنّه إذا أنقلب المال القيمي مثليّاً ثمّ تلف وجب على الضامن المثل؛ لأنّ العبرة بمال المنقلب إليه.

واشترط الرشتي إذا كان قيمة المثلي المنقلب عن القيمي أقل منه وجب على الضامن أن يردّ التفاوت بين القيمتين إلى المالك.

جاء في رسالة الغصب: ((إذا انقلب القيمي مثليّاً كما إذا صار الرطب المغصوب الذي قالوا: أنّه قيمي تمراً أو العكس، فالعبرة بحال المنقلب إليه من حيث وجوب ردّ المثل أو القيمة وهو الواضح؛ لأنّ التلف قبل تلفه باق في ملك المالك ولم يخرج بسبب الأختلاف في صفات يوم الغصب عن ملكه، فإذا تلف انتقل إلى بدله في حين التلف وهو المثل، وكونه قيميّاً فيما قبل غير مؤثّر كما لا يخفى، لكن يجب مع ردّ المثل ردّ التفاوت بين الحالتين من حيث القيمة، كما إذا كان قيمة الرطب المغصوب مثلاً عشرة وقيمة التمر خمسة، فإنّه يردّ التمر مع تكملة القيمة))([853]).

والصحيح أنّه إذا تحول المال القيمي إلى مال مثلي ثمّ تلف تشتغل الذمّة بعين التآلف؛ لما تقدّم من أنّ الذمّة تشتغل بالعين إلى حين تفريغها، فيجب المثل.

المطلب الثالث: انقلاب المال المثلي إلى مال مثلي آخر:

ذهب فقهاء الشافعيّة والحنابلة، وأكّد ذلك الشيخ الخفيف إلى أنّه إذا انقلب المال المثلي إلى مال مثلي آخر ثمّ تلف، كما إذا استخرج من السمسم مثلاً شيرجاً, فالمالك بالخيار إن شاء ضمّن الضامن بمثل المثلي الأصل، أو بمثل المثلي المنقلب إليه؛ لأنّه قد ثبت ملكه على كلّ واحد من المثلين، فرجع بما شاء منهما، فيكون للمالك الخيار في مطالبة الضامن بمثل أيّهما شاء من السمسم أو الشيرج؛ لثبوت ملكه على كلّ واحد منهما؛ ولأنّ كلّ واحد من السمسم والشيرج مال مثلي([854]).

قال البهوتي([855]): ((فإن تغيّرت صفته، أي المغصوب كرطب صار وقت التلف تمراً، أو سمسم صار بعد الغصب شيرجاً، ضمنه المالك للغاصب ونحوه بمثل أيّهما أحبّ؛ لثبوت ملكه على كلّ واحد من المثلين، فإن شاء ضمنه رطباً وسمسماً بحال الغصب، أو تمراً وشيرجاً أعتباراً بحالة التلف)).

وذكر سليمان الجمل أنّ عبارة شرح المنهج بتخيير الضامن، فيما إذا كانت قيمة المثلين متساوية، فإن كانت قيمة المثلي المنقلب إليه أكثر قيمةً من المثلي الأوّل، ضمن الضامن المثلي المنقلب إليه. وهذا ما اتّخذه البغوي([856]), كما إذا انقلب السمسم شيرجاً وكانت قيمة الشيرج أكثر من قيمة السمسم، ضمن شيرجاً، فالظاهر يقتضي أثبات الخلاف في التخيير إذا كان أحدهما أكثر قيمة([857]).

والصحيح أنّ مقتضى القواعد المتقدّمة أنّه إذا تلف المثلي بعد التحوّل إلى مثلي آخر، كالسمسم إلى شيرج، فلا ريب في اشتغال الذمّة بالشيرج إلى حين تفريغها. ولكن لو فرض أنّ قيمة الشيرج أقلّ من قيمة السمسم، وجب حين التفريغ دفع الشـيرج مـع التفـاوت بينه وبين قيمة السمسم لأن الضامن هو سبب لهذا الضمان.

وأمّا مع التساوي في القيمتين، فيكفي دفع المثلي التآلف، وأمّا مع زيادة قيمة التآلف عن المثلي المضمون، أو لا، فهو للمالك من دون أن يكون للضامن شيء عليه.

المطلب الرابع: انقلاب المال القيمي إلى مال قيمي آخر:

لو صار المتقوّم متقوّماً آخر ضمن الضامن قيمة أقصى القيم، كإناء صيغ منه حلي، فيجب فيه أقصى القيم: قيمة النحاس وصنعة الإناء من نقد البلد([858]).

وعين الخفيف القيمة بأنّها هي قيمة وقت التلف؛ لأعتبار أنّ المال القيمي الأوّل قد تلف، فتجب قيمته([859]).

والصحيح أنّ حقّ المالك منحصر في العين ما دامت باقية رغم التحوّلات الطارئة عليها، فيجب دفعها وإن حصل نقص فيها، فمع أرش نقصها، وتنقلب إلى الوجود الذمي حين التلف، وتستمر الذمّة مشغولة بالعين بصفتها التي تلفت عليها حين تفريغها، فحينئذ تثبت قيمة التآلف وقت الأداء، أي قيمة القيمي المنقلب إليه وقت الأداء.

القانون المدني:

فرّق القانون المدني العراقي بين التغيّر الطاريء على المال من دون تدخّل من الضامن، وبين التغيّر الذي كان سببه الضامن. فأعطى في الأوّل الخيار للمالك في أن يسترد المال عيناً مع التعويض عن الأضرار الأخرى التي لحقت به، أو يتركه للضامن ويضمنه.

أمّا في الثاني وهو التغيّر الذي كان سببه الضامن، فأنّه فرق أيضاً بين التغيّر الذي يؤدّي إلى تبدل أسم المال والتغيّر الذي لا يتناول إلا أوصاف المال بزيادة شيء عليه من مال الضامن، فان كان الأوّل كان ضامناً وبقي المال له.

وإن كان الثاني كان المالك مخيّراً بين استرداد ماله مع التعويض عن الأضرار واعطاه الضامن قيمة الزيادة وبين تركه في يد الضامن ويضمنه للمالك([860]).

والقانون المدني العراقي لم يذكر بالتفصيل انقلاب المال المثلي والمال القيمي ولكن في المادّة (194) في الفقرة (2) إشارة مجملة ومطلقة إلى أنّ المال المثلي إذا انقلب إلى مال قيمي ضمن الضامن المال المثلي، فقد جاء: ((أمّا إذا غير الغاصب المال المغصوب بحيث يتبدّل أسمه كان ضامناً وبقي المال المغصوب له. فمن غصب حنطة غيّره وزرعها في أرضه كان ضامناً للحنطة وبقي المحصول له))([861]). واستمدّ ذلك من المجلّة من المادّة (899) في مورد تغيّر المغصوب([862]).

وقسّم بعض شراح القانون المدني تغير المال أو انقلاب المال المثلي والمال القيمي إلى سبب أجنبي أو ضامن, فان كان بسبب أجنبي، فالمالك بالخيار إن شاء استردّ المال مع التعويض أو تضمين الضامن بقوله([863]): ((إذا تغيّرت العين المغصوبة عند الغاصب وكان هذا التغيير بسبب أجنبي، فالمغصوب منه بالخيار إن شاء أستردّ المغصوب عيناً مع التعويض عن الأضرار الأخرى، وإن شاء ترك المغصوب ورجع على الغاصب بالضمان. ويترتّب على هذا أنّه إذا كان المغصوب عنباً، فصار زبيباً أو رطباً فصار تمراً, فإنّ المالك بالخيار إن شاء أخذ الزبيب أو التمر، ورجع على الغاصب بالتعويض، وإن شاء تركها للغاصب ورجع عليه بالضمان)).

وإن كان انقلاب المال المثلي أو المال القيمي بسبب الضامن، فلا يكون للمالك إلا التضمين بمثله أو قيمته، ويتملّك الضامن المال المثلي والمال القيمي المنقلب.

جاء في أصول الألتزام: ((إذا غيّر الغاصب العين المغصوبة تغيّراً كلياً، بحيث فقد ذاتيتها وتغيّر اسمها، فإنّه يتملّك هذه العين المغصوبة ولا يكون للغاصب منه إلا الرجوع عليه بالتعويض ويترتّب على هذا أنّه إذا قام الغاصب بذبح شاة، أو تقطيعها أو بطحن الحنطة أو بذرها في الأرض أو بخبز الدقيق، أو بجعل الحديد سيفاً، والنحاس آنية، واللبن حائطاً، والقطن غزلاً، والعنب عصيراً، والزيتون زيتاً، فإنّه يتملّك العين المغصوبة، ويضمن الغاصب مثله أو قيمته على حسب الأحوال))([864]).

وفصّل منير القاضي تغيّر المال المضمون إلى ما إذا تغيّر من نفسه كما لو كان عنباً، فأصبح زبيباً كان المال مخيّراً بين الاسترداد مع التعويض عن الأضرار الأخرى التي أستصحبها فعل الغصب مثلاً، إن كانت هنالك أضرار، وبين تركه للضامن وتضمينه بدل المال مع الأضرار الأخرى.

أمّا إذا غيّره الضامن فإنّ التغيير بزيادة شيء من مال الضامن، كما لو كان المال ثوباً فصبغه، فالمالك مخيّر بين أن يدفع للضامن من قيمة الزيادة ويستردّ المال مع التعويض عن الأضرار الأخرى، وبين أن يترك المال إلى الضامن ويضمنه البدل مع التعويض عن الأضرار الأخرى، وليس له أن يستردّ المال مع الزيادة بلا دفع عوضها؛ لأنّ في هذا كسب بلا سبب.

وإن كان التغيير مقتصراً على تغيّر الوصف بلا زيادة شيء، كما لو كان المغصوب صفائح النحاس فجعلها الضامن أواني، عدّ الضامن متلفاً للعين المضمونة؛ لأنّ تغييره على هذا الوجه في حكم إتلافه عرفاً ومعنىً، فيضمنه وتبقى العين المغصوبة ملكاً للضامن([865]).

 

الفصل السادس

الفرق بيـن المال المثلي والمال القيمي

المبحث الأول

المقاصة([866]) في الأموال المثليّة والأموال القيميّة

تقع المقاصّة بين الأموال المثليّة المتقابلة في الذمم قهراً وجبراً، بينما لا تقع المقاصّة بين الأموال القيمية المتقابلة في الذمم إلا برضاً من الطرفين.

فمن ثبت له على غريمه مثل ماله عليه من الدين نوعاً وصنفاً وحلولاً، وقعت المقاصّة الجبريّة وتساقط الدينان إن كانا متساويين في المقدار، وإن تفاوتا في القدر سقط من الأكثر بقدر الأقلّ وبقيت الزيادة، ولا تقع هذه المقاصّة الجبريّة إذا ترتّبت على وقوعها محظور شرعي.

الحنفية:

لا يعرف خلاف بينهم في وقوع المقاصّة الجبريّة في الأموال المثليّة التي تثبت ديوناً في الذمم([867]).

الحنابلة:

أورد ابن قدامة أنّ الأموال المثليّة التي تثبت في الذمم ديوناً تقع فيها المقاصّة الجبرية، ولم يشر إلى أيّ خلاف فيه عند الحنابلة([868]).

الشافعية:

الأصحّ والمشهور من مذهب الشافعيّة أنّ المقاصّة الجبريّة تقع في الدينين من النقدين مطلقاً، وتقع في الدينين من سائر المثليات أيضاً إذا كانت سبيلاً إلى حصول العتق.

أمّا جريانها في المثليات بإطلاق أو في الدين من العروض، فهي وجوده في المذهب وليس الأصحّ ولا المشهور([869]).

المالكيّة:

ذهب فقهاء المالكيّة إلى جواز وقوع المقاصّة في الأموال المثليّة ووقوعها عندهم برضا الدائنين([870]).

قال ابن جزّي: ((وأن كان الدينان عرضين فتجوز المقاصّة إذا اتّفقا في الجنس والصفة، سواء حلّ الأجل أو لم يحلّ))([871]).

الأماميّة:

إنّ المقاصّة الجبريّة عندهم تقع في الأموال المثليّة دون الأموال القيميّة. فإن كان المالان متساويين نوعاً ووصفاً تهاترا قهراً، سواء أكانا نقدين أم مثليين. وإن كانا مختلفين نوعاً أو وصفاً أو في الحلول والتأجيل أو كانا قيميين، لم يحصل التقاصّ إلا برضاهما، ولكن قد يناقش بأنّ دليل التهاتر شامل للمال المثلي والمال القيمي. اللّهمّ إلا أن يقال: إنّ دليل التهاتر القهري الأجماع، والمسلّم منه المثلان دون القيميين.

فلو فرض أنّ لكلّ واحد على الآخر حيواناً مثلاً موصوفين بصفات متّحدة لم يتقاصّ إلا بالتراضي؛ لأنّهما مالان قيميان([872]).

القانون المدني:

جاء في القانون المدني في المادّة (409) الفقرة (2): ((يشترط لحصول المقاصّة الجبريّة اتّحاد الدينين جنساً ووصفاً وحلولاً وقوّة وضعفاً))([873]).

فالقانون يشترط التماثل في المحلّ ما بين الدينين ويجب أن يكون محلّ كلّ من الدينين نوعاً واحداً، ودرجة واحدة في الجودة والرداءة، وذلك حتى يتمكّن كلّ من الطرفين من أن يستوفي حقّه عن طريق المقاصّة من ذات الشيء الواجب الأداء. أي لمـّا كانت المقاصّة الجبريّة في حكم الوفاء، فيجب أن تضع كلا الدائنين في الحالة التي يكونان عليها، كما لو أنه استوفى حقّه فعلا، ولا يتحقّق ذلك إلا إذا كان الدينان متماثلين([874]).

ويترتّب على هذا الشرط أن تكون هذه الاشياء مثلية؛ ليقوم بعضها مقام بعض. فلا تجوز المقاصّة الجبريّة القانونيّة بين دين مقداره كذا قنطاراً من القطن، ودين بتسليم حصان، ولا بين التزام بمئة قنطار من الحنطة والثاني بمئة قنطار من الشعير. كما لا تجوز بين دينين أحدهما حنطة عجميّة، ومحلّ الآخر حنطة كرديّة، وكذا إذا كانت الحنطة الكرديّة درجات في الجودة وكان محلّ أحدهما من الدرجة الأولى ومحلّ الأخرى من الدرجة الثانية؛ فإنّ المقاصّة لا تقع لاختلافها في الصفة.

وبعبارة أخرى: أنّ الحقوق الماليّة عند فقهاء القانون تنقسم إلى حقوق شخصيّة وحقوق عينيّة، والفارق الأساس بينهما هو أنّ الحقّ العيني يقع على شيء مادّي.

أمّا الحقّ الشخصي، فيكون في مواجهة شخص, فموضوع الحقّ العيني هو دائماً شيء مادّي محدّد، بينما ينحصر موضوع الحقّ الشخصي في أداء ما يجب أن يقوم به شخص آخر هو المدين بالحقّ، ولا يغيّر من هذا النظر كون محلّ الأداء الذي يلتزم به المدين شيئاً مادّيّاً، وأنّ محلّ المقاصّة يصحّ في الثاني دون الأول من الأموال، كما هو في الشريعة الإسلاميّة حين إنّ التشريعين يتّفقان على أنّ محل المقاصّة هو الديون الثابتة في الذمّة([875]).

وإذا قارَنّا بين الشريعة الإسلاميّة والقانون المدني العراقي نجد أنّ ما يشترطه القانون العراقي مطابق للشريعة الأسلاميّة، وهو التماثل في الجنس والوصف والقوّة والضعف، وأنّ مجال المقاصّة الجبريّة ورد في النقود والأشياء المثليّة التي هي من نوع واحد وصفة واحدة، كما ذهب إلى ذلك رجال الفقه الأسلامي من قبل.

 

المبحث الثاني

الفرق بيـن كون الثمن في السلم مثليّاً أو قيميّاً

المطلب الأوّل: اشتراط معرفة مقدار الثمن إذا كان مثليّاً في عقد السلم:

أشترط أبو حنيفة، والشيخ الطوسي، والأشهر عند العلامة الحلّي من الأماميّة ذكر قدر الثمن في عقد السلم إذا كان مثلياً دون القيمي؛ لأنّ المشاهدة غير كافية في معرفة الثمن إذا كان ممّا يكال أو يوزن، بل لا بدّ من الكيل أو الوزن. ولا يشترط ذكر الصفات سواء أكان رأس المال  مثلياً، أو قيمياً؛ لأنّ المشاهدة تكفي في رفع غرر الصفات([876]).

قال الشيخ الطوسي([877]): ((ورأس المال ان كان معيّناً في حال العقد ونظر إليه، فإنّه لا يكفي إلا بعد أن يذكر مقداره، سواء كان مكيلاً أو موزوناً أو مذروعاً، ولا يجوز جزافاً)).

وجاء في جواهر الكلام: ((لا بدّ أن يكون رأس المال مقدراً بالكيل العامّ أو الوزن. كذلك إذا كان ممّا يعتبر فيه ذلك ولا يجوز الاقتصار في ذلك على مشاهدته للغرر المنفي في البيع الشامل للسلم وغيره, وحينئذ, فلا يكفي دفعه مجهولاً، كقبضة من دراهم وقبّة من طعام ونحو ذلك، خلافاً للمرتضى، فجوّز مكتفياً بالمشاهدة، ولا دليل يعتدّ به, له بل ظاهر الأدلّة خلافه، خصوصاً ما أعتبر المعلوميّة في الثمن من النصوص التي لا تحصل قطعاً في نحو ذلك إلا بهما. نعم, يتبعه الاكتفاء بالمشاهدة  فيما لا يعتبر في بيعه غيرها))([878]).

وأوضح صاحب شرح العناية على الهداية أنّ معرفة قدر رأس المال شرط عند أبي حنيفة إنّ كان يتعلّق العقد بقدر من المكيلات والموزونات، أي المثلي بخلاف ما يتعلّق العقد بقدر من القيمي؛ لأنّ جهالة قدر المسلم فيه ممتنعة شرعاً، وجهالة رأس المال مؤدّية إليها، وما يؤدّي إلى الممتنع شرعاً ممتنع شرعاً.

فإذا لم يكن قدر رأس المال المثلي معلوماً وأنفسخ العقد في المقدار أو استحقّ بعضه، فيلزم كون المسلم فيه مجهولاً، بخلاف ما إذا كان رأس المال قيمياً، كالحيوان، فلا يتعلّق العقد على قدره، ولهذا لو ظهر الحيوان المجعول رأس المال بعض أعضائه معيباً لا ينتقض من المسلم فيه شيء، بل المسلم إليه بالخيار، إن شاء رضي به بكلّ المسلم فيه وإن شاء فسخ, لفوات الوصف المرغوب فيه([879]).

وأدلّتهم على ذلك:

1ـ أنّ عدم معرفة مقدار الثمن إذا كان مثلياً في عقد السلم يؤدّي إلى الغرر, فيكون منهياً عنه؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الغرر؛ لما روي عن الرضا عن آبائه عن علي أمير المؤمنين عليه السلام: ((قد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن بيع المضطرّ وعن بيع الغرر))([880]).

ثمّ إنّ عقد السلم لا يمكن إتمامه في الحال لشرط الأجل، ولتسليم المسلم فيه بعد الأجل. ولا يؤمن انفساخه فوجب معرفة مقدار رأس المال ليرد بدله، فلولا معرفة مقدار رأس المال لأفضى إلى التنازع.

والشارع أرشد إلى المصالح الرافعة للتنازع، كالشهادة وغيرها, ومعلوم أنّ الضرر الناشئ من تجهيل الثمن أشدّ من ضرر ترك الشهادة؛ ولأنّه لا يؤمن أن يظهر بعض الثمن مستحقّاً، فيفسخ العقد في قدره، فلا يدري في كم بقي؟ وفي كم أنفسخ([881]).

2ـ أنّ جهالة رأس المال قد تؤدّي إلى جهالة المسلم فيه وهو ممنوع، وما أدّى إلى الممنوع فهو ممنوع، وقبل بيان وجه تأدية جهالة رأس المال إلى جهالة المسلم فيه، أرى أن أوضح نقطتين متعلّقتين في ذلك؛ كي يستبين وجه الدلالة:

النقطة الأوّلى: أنّ العقد يتعلّق بقدر المثليات، أي أنّها تتسّقط عن المسلم فيه، فإن اسلم ألف دينار بألف كيلو غرام من القمح مثلاً، علم ضرورة أنّ لكلّ دينار مقابل كيلوغرام قمح.

النقطة الثانية: يجب قبض رأس المال في مجلس عقد السلم، فإن انتقض القبض لسبب أنفسخ السلم، وإن انتقض القبض في بعضه أنفسخ العقد بمقداره. إذا أتّضح هذا؛ فأنه قد يظهر بعض رأس المال مستحقّاً للغير، فيكون القبض باطلاً وينفسخ العقد بمقداره، وقد يظهر بعضه معيباً، ولا يرضى به المسلم إليه، فيردّه، فيجب استبداله في مجلس الردّ، وقد لا يتسنّى ذلك فينفسخ العقد بمقداره([882]).

وفي كلا الحالين إن لم يكن رأس المال معلوماً لا يدري في كم انتقض؟ وفي كم بقي؟ فيصير المسلم فيه مجهول المقدار.

المطلب الثاني: عدم اشتراط معرفة مقدار الثمن إذا كان مثلياً في عقد السلم:

ذكر السيّد المرتضى في المسائل الناصريات: أنّ الأقوى أنّ رأس مال السلم، إذا كان معلوماً بالمشاهدة, مضبوطاً بالمعاينة، لم يفتقر إلى ذكر صفاته ومبلغ وزنه وعدده، أي مقداره، سواء كان رأس المال مثلياً أم قيمياً([883]).

وحجّته:

1. ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أنّه قال: ((من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم))([884])، فأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في السلم على هذه الصفات لم يشترط سواها.

أعتراض:

أعترض العلامة الحلّي على ما أحتجّ به السيد المرتضى بأنّه صلى الله عليه وآله وسلم بَيَّن أوّلاً النهي عن الغرر، ومن جملته جهالة مقدار الثمن، فالأذن في السلم بعدما بين أولاً غير دالّ على دعواه([885]).

ويمكن أن يجاب عليه بأنّ السيّد المرتضى يريد أن يقول: أنّ الحديث الشريف أعتبر أمرين في صحّة السلم: أحدهما العلم بالأجل، والثاني: العلم بمقدار الثمن.

ومعلوم أنّ الكيل أو الوزن إنّما هما طريقان إلى العلم به، وليسا بركنين بأنفسهما في السلم، بل حال الكيل أو الوزن في الثمن في السلم حالهما في سائر البيوع إنّما يقصدان ويعتبران؛ لأجل كونهما طريقين إلى المعرفة بالمقدار الرافعة للغرر.

ومعلوم ان تلك المعرفة الرافعة للغرر تتحقق فيما يمكن تحديده بالمشاهدة بدون كيل، أو الوزن، بلا فرق بين ان يكون مثلياً، أو قيمياً، فكأن السيد المرتضى أستفاد من الحديث الشريف أعتبار العلم بمقدار الثمن بأيّ نحو حصل، والعلم بمدّة الأجل المحدّد لتسليم المسلم فيه إلى المشتري.

الرأي الراجح:

يفرق بين كون الثمن مثلياً وكونه قيمياً بإمكان إمضاء البيع فيما يخصّ الثمن المقبوض في المجلس مع ما يقابله من حصّة من المبيع في الثمن المثلي القابل للتجزئة، وبعدم إمكانه فيما كان الثمن قيمياً، لأنّه لا يقبل التجزئة, بل مقتضى القاعدة هو: أمّا أن يرضى الطرف الآخر بالثمن القيمي المعيب في مقابل تمام المسلم فيه، وأمّا أن يطالب صاحب الثمن بالأرش حيث يمكن تحديده.

فالفرق بين الثمن المثلي والقيمي هو إمكان إمضاء البيع في بعض المسلم فيه المقابل للجزء من الثمن المقبوض في المجلس، وعدم إمكان ذلك فيما إذا كان الثمن قيمياً.

وكذلك في المسلم فيه لو جاء البائع ببعضه، فإن كان الثمن قيمياً لا يمكن تبعيضه، فعليه إمّا الفسخ وأمّا الرضا بما حصل عليه من البيع.

وأمّا إذا كان مثلياً, فللمشتري استرجاع بعض الثمن المقابل للجزء من المبيع الذي لم يحصل عليه من البائع.

ومعلوم أنّ هذا ليس من مختصّات بيع السلم، بل يمكن أن يقال: أنّه يجري في مطلق البيع إذا لم يكن هنالك دليل خاصّ يلزم التعبّد به في بيع السلم خاصّة.

فتحصّل ممّا ذكر أنّه لابدّ من معرفة مقدار الثمن؛ لدفع الغرر عن البيع، سواء كان مثلياً أم قيمياً، وما يعرف بالكيل لابدّ من تحديد كيله، وما يحدّد بالوزن لابدّ من تحديد وزنه، وما يكتفي فيه بالمشاهدة لابد من مشاهدته بلا فرق في ذلك كلّه بين أن يكون مثليّاً أو قيمياً.

نعم, إنّما الفرق بين المثلي والقيمي ما أشرتُ إليه من إمكان إمضاء البيع في بعض المسلم فيه مقابل بعض الثمن إذا كان مثليّاً، ولم يسلم البائع تمام المبيع إلى المشتري في الوقت المحدّد له؛ وذلك لأمكان التجزئة في المثلي. هذا بخلاف ما إذا كان الثمن قيميّاً؛ فإنّ إمضاء البيع في بعض المبيع ببعض الثمن غير وارد؛ لعدم إمكان تجزئته.

القانون المدني:

إنّ القانون المدني أغفل الأشارة إلى بيع السلم، وأدخله ضمن البيع المطلق([886])، بينما الشريعة الأسلاميّة قسمّت البيع إلى خمسة أقسام: بيع العين بالنقد وهو البيع المطلق، وبيع النقد بالنقد وهو الصرف، وبيع العين بالعين وهو المقايَضة، وبيع مبيع آجل بثمن عاجل وهو السلم، والعكس هو النسيئة.

 

المبحث الثالث

الثمن المثلي أو القيمي في المرابحة([887]) أو التولية([888])             أو الوضيعة([889])

أتّفق الفقهاء على صحّة الثمن في المرابحة من ذوات الأمثال. وتصحّ المرابحة فيه، سواء كان الربح من جنس الثمن في المرابحة أم من خلاف جنسه بعد أن كان الثمن الأوّل معلوماً والربح معلوماً.

أمّا إذا كان الثمن ممّا لا مثل له وهو المال القيمي، فلا يجوز بيعه مرابحة؛ لأنّه يقع البيع على قيمته وقيمته مجهولة تعرف بالحرز والظنّ؛ لأختلاف أهل التقويم فيها([890]).

الحنفية:

فصّل فقهاء الحنفيّة بأنّ من باع شيئاً مرابحةً على الثمن الأوّل فلا يخلو إمّا أن يكون من ذوات الأمثال، كالدراهم والدنانير والمكيل والموزون والعددي والمذروع المتقارب آحاده.

وأمّا يكون لا مثل له وهو مال قيمي, كالحيوان والعقار ونحوها.

فإن كان الثمن الأوّل مثلياً فباعه مرابحة على الثمن الأوّل بزيادة ربح جاز، سواء كان الربح من جنس الثمن الأوّل أم لم يكن يعني أن يكون شيئاً مقدرّاً معلوماً نحو الدراهم، والثوب المشار إليه؛ لأنّ الثمن الأوّل معلوم والربح معلوم.

جاء في مجمع الأنهر: ((ولا يصحّ ذلك, أي كلّ من التولية والمرابحة والوضيعة ما لم يكن الثمن الأوّل مثلياً كالدراهم والدنانير والكيلي والوزني))([891]).

وقال الحدّادي([892]): ((ولا يصحّ المرابحة والتولية حتى يكون العوض ممّا له مثل كالمكيل والموزون؛ لأنّه إذا كان له المثل قدر المشتري على تسليمه)).

وإن كان الثمن الأوّل لا مثل له وهو المال القيمي، فأراد أن يبيعه مرابحة عليه، فهذا على نحوين:

النحو الأوّل: أن يبيعه ممّن كان المال القيمي في يده وملكه، وهذا على وجهين:

الوجه الأوّل: إن قال: أبيعك مرابحة بالثمن الذي في يدك وبربح عشرة دنانير جاز؛ لأنّه جعل الربح على المال القيمي، كالحيوان مثلاً عشرة دنانير، وهي معلومة، وكأنّ المشتري مرابحة يعرف مقدار الثمن، وكأنّ المال القيمي بمثابة مال مثلي؛ لأنّه معلوم المقدار عند المشتري.

الوجه الثاني: إن قال: أبيعك بأحد عشر ديناراً مثلاً؛ فأنّه لا يجوز لأنّ تسمية أحد عشر ديناراً يقتضي أن يكون الربح من جنس رأس المال؛ لأنّه لا يكون أحد عشر إلا أن يكون الحادي عشر من جنس العشرة، فصار كأنّه باع الثمن الأوّل وهو الحيوان، وبجزء من جنس الأوّل، والحيوان لا مثل من جنسه([893]).

النحو الثاني: أن يبيعه ممّن لم يكن المال القيمي في يده وملكه، فإنّه لا يجوز؛ لأنّه لا يخلو أمّا أن يبيعه مرابحة بذلك المال القيمي أو بقيمته، ولا وجه للأوّل؛ لأنّ العوض ليس في ملك من يبيعه منه، وكذلك لا وجه أن يبيعه مرابحة بقيمته؛ لأنّ القيمة تعرف بالحرز والظنّ فتتمكّن فيه شبهة الخيانة.

جاء في مجمع الأنهر: ((لو لم يكن مثلياً كأشياء متفاوته، كالحيوانات، والجواهر يكون مرابحة بالقيمة؛ لأنّ معرفتها لا تمكن حقيقة، فلا يجوز بيعه مرابحة وتولية إلا إذا كان المشتـري مرابحة ممّن يملك ذلك البدل من البائع بسبب من الأسباب))([894]).

الشافعية:

اشترط فقهاء الشافعيّة في صحّة عقد المرابحة والتولية والوضيعة أن يكون الثمن الأوّل من المثليات، وذلك من خلال تعريفهم لعقد المرابحة أو التولية أو الوضيعة.

أمّا إذا كان الثمن الأوّل قيمياً، فلا يصحّ بيعه مرابحة أو تولية أو وضيعة إلا من ملك ذلك المال القيمي؛ لجهالة ثمن المال القيمي؛ لأنّ بيع المرابحة والتولية والوضيعة مبني على الأمانة؛ لاعتماد المشتري على قول البائع.

جاء في مغني المحتاج: ((إذا اشترى شخص شيئاً بمثلي ثمّ قال بعد قبضه ولزوم العقد، وهو عالم بالثمن لعالم بالثمن قدراً وصفة بإعلام المشتري أو غيره، أو لجاهل به، ثم علم به قبل قبوله كما قال الزركشي: ولّيتك هذا العقد سواء قال بما اشتريت أم سكت، فقبل كقوله: قبلته أو تولّيته، لزمه مثل الثمن جنساً وقدراً وصفة. أمّا إذا أشتراه بعرض فإنّ عقد التولّية لا يصحّ إلا ممّن ملك ذلك العرض))([895]).

المالكية:

ذهب ابن القاسم وابن عبدوس إلى صحّة كون الثمن في عقد المرابحة مالاً مثلياً، وعدم صحّة كون الثمن في عقد المرابحة مالاً قيمياً إلا إذا كان في ملك المشتري.

جاء في المنتقى: ((ولو أشترى سلعاً فباع بعضها مرابحة، فلا يخلو إمّا ان تكون غير مكيلة ولا موزونة، أو ممّا يكال أو يوزن, فإن كانت غير مكيلة أو موزونة كالثياب والحيوان، فإن كانت معيّنة لم يجز أن يبيع بعضها مرابحة))([896]).

وقال ابن رشد الحفيد: ((أختلف أصحاب مالك من هذا الباب فيمن ابتاع سلعة بعروض، هل يجوز له أن يبيعها مرابحة أم لا يجوز؟

فاذا قلنا بالجواز، فهل يجوز بقيمة العرض أو بالعرض نفسه؟ فقال ابن قاسم: يجوز له أن يبيعها على ما اشتراه به من العروض، ولا يجوز على القيمة. وقال أشهب: لا يجوز لمن اشترى سلعةً بشيء من العروض أن يبيعها مرابحة؛ لأنّه يطالبه بعروض على صفة عرضه، وفي الغالب ليس يكون عنده، فهو من باب بيع ما ليس عنده)).

القانون المدني:

أكّد القانون المدني العراقي على أنّ الثمن في المرابحة أو التولية أو الوضيعة من ذوات الأمثال من خلال تعريف عقد المرابحة أو التولية أو الوضيعة.

جاء في المادّة (530) من الفقرة (2): ((والمرابحة بيع بمثل الثمن الأوّل الذي اشترى به البائع مع زيادة ربح معلوم، والتولية بيع بمثل الثمن الأ