بطل العلقمي

أبو الفضل العباس ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وارث تلك الشمائل العلوية وحائز جل تلك الصفات الحيدرية، فالبطولة والفصاحة والعلم والسخاء والنجدة والمهابة والصلاح والتقوى والزهد والبصيرة وقوة الإيمان والجمال والصباحة والقوة والذكاء. ولد عليه السلام سنة 26 هجرية فيكون عمره عند وفاة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام دون البلوغ، وقد تربى في أحضان الإمامة ونشأ في حجور العصمة وشب مرتضعاً در النبوة ونشأ في مدينة النبي طيبة مدينة الوحي عاصمة النبوة، ولا خلاف أنّه هاجر مع أبيه الإمام علي ابن أبي طالب عليه السلام إلى العراق مدة خلافته، ثم رجع مع أخويه الإمامين الحسن والحسين عليهما السلام وأقام في خدمتهما حتى خرج مع أخيه الحسين عليه السلام إلى العراق مدة خلافته.
 ولسيدنا العباس ابن أمير المؤمنين عليه السلام أربع كنى: اثْنَتانِ عرف بهما قديماً واثْنَتانِ عرف بهما حديثاً عرفته به العوام، وكنيته أبو الفضل هي المشهورة حتى لا يكاد يعرف غيرها، وإن هذه الكنية له عليه السلام قد اشتقت من فضائله فإنه عليه السلام قد توسموا فيه سمات الفضل منذ الصغر وزمن الطفولية فلقبوه به وإليه يشير الشاعر:
أبا الفضل يا من أسس الفضل والإبا      أبى الفضل إلا أنْ تكون له أبا
وأما الكنيتان العاميتان فأبو فاضل وابن البدوية، فأبو فاضل هو أبو الفضل سواء، وابن البدوية نظراً إلى أم العباس عليه السلام كانت من العرب التي تقطن البادية أنفة من ذل الأمصار، وفراراً من هوان الحضارة الذي تأباه نفوس العرب الأقحاح. وأما ألقابه فهي نوعان قديمة ومستحدثة أمّا القديمة فالسقاء أو سقّاء عطاشى كربلاء ويسمى لذلك أبا قربة وقمر العشيرة أو قمر بني هاشم وبطل العلقمي وبطل المسناة وحامل اللواء أو حامل لواء الحسين عليه السلام وكبش الكتيبة والعميد أو عميد عسكر الحسين عليه السلام، وحامي الظعينة أو حامي ظعينة كربلاء وهذا اللقب مشهور قال السيد جعفر الحلي:
حامي الظعينة أين منه ربيعةٌ              أم أين من عليا أبيه مُكَدَّمُ([1])
وقد عرف أن حماية العباس عليه السلام للظَّعائن كانت من حين سار الحسين عليه السلام من المدينة إلى أن نزل الغاضرية، وكذلك الأيام العَشَرة التي أقامها الحسين عليه السلام حتى استشهد وكان العباس أبن أمير المؤمنين عليهما السلام أمير الحرس الحسيني الذي يقوم بحراسة المخيم الحسيني.
وقد عَقّدَ الإمامُ الحُسَيْنُ عليه السلام اللواءَ لأَخِيْهِ أبي الفضل العباس منذ خروجه من الحجاز وقد أكثر الشعراء في مراثيه عليه السلام من ذكر اللواء كقول بعضهم على لسان الإمام الحسين عليه السلام:
لمن اللوى أعطي ومن هو جامعٌ             شملي وفي ضنك الزحام يقيني
وأما ألقابه العامية فَمِنْها العباس المستعجل يعنون أنه عليه السلام يسرع في قضاء حوائج الراغبين إليه، وأبو الشارة ومعناه أنه يصيب الحالف كذباً أو المعتدي بنكبة إما موت أو حرق أو غرق أو مرض وما شاكل ذلك من النكبات. ومنها أبو رأس الحار ومعناه سرعة غضبه في ذات الله وعدم سماحه للجائر وعدم عفوه عن المجرم مهما كان. ومنها باب الحوائج وقاضي الحاجات.
وأما صفاته البدنية فقد كان سيدنا العباس بن علي عليهما السلام من أحسن الناس خلقة وشكلاً وأتمهم بدناً ومحاسِنَ ويعدّ من رجال بني هاشم المتميزين بصفاتهم الجسمانية من الجسامة وطول القامة والجمال الباهر وكان يركب الفرس المطهم ورجلاه تخطان في الأرض، وقد اجتمعت الصفات الأربعة وهي طول القامة وطول العنق وطول الساعد والجسامة في العباس الأكبر ابن أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليهما السلام، وهذه هي البطولة العربية، فليس البطل عند العرب إلا الشجاع الجريء الطويل القامة الضخم الجسم الشديد العضد الطويل الساعد.
وأما صِفاتُهُ عليه السلام الخُلُقِيّة كان كريماً سخياً فلاشك أنه عليه السلام عاشر أكرم الخلق وأجودهم أباه علياً وأخَوَيه الحسن والحسين عليهما السلام ويدل على كرمه أّنه جاد بنفسه لأخيه الإمامِ الحُسَينِ عليه السلام.
وجاد بالنفس إذْ ضَنَّ الجوادُ بها     والجودُ بالنفسِ أقصى غايةِ الجُوْدِ
كما يدل على سخاء أبي الفضل ابن أمير المؤمنين عليه السلام إيثاره العطاشى من أهله على نفسه، وكان عليه السلام من الفقهاء العظام والعلماء الأعلام وكان معروفاً بفصاحة اللسان، وأمّا شجاعته عليه السلام فهي المثل الأعلى ووصفها الأكمل ونعتها الأتم وهي عظيمة الأثر في صفوف أهل الكوفة، ويكفي من شجاعته عليه السلام ما كان منه يوم كربلاء فقد قتل ثمانين بطلاً، وروي أن العباس ابن علي عليه السلام كان حامل لواء أخيه الحسين عليه السلام وعندما رأى جمع عسكر الحسين عليه السلام قتلوا وأخوته وبني عمه بكى وإلى لقاء ربه اشتاق وحن فحمل الراية وجاء نحو أخيه الحسين عليه السلام وقال يا أخي هل من رخصة فبكى الحسين بكاءاً شديداً حتى ابتلت لحيته بالدموع ثم قال: يا أخي كنت العلامة من عسكري ومجمع عددي فإذا أنت قتلت يؤل جمعنا إلى الشتات وعمارتنا تنبعث إلى الخراب فقال العباس عليه السلام: فداك روح أخيك يا سيدي قد ضاق صدري من حياة الدنيا وأريد أخذ الثأر من هؤلاء المنافقين فقال الحسين عليه السلام: إذا عزمت 
على الجهاد فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء فلما أجاز الحسين عليه السلام 
أخاه العباس برز كالجبل العظيم وقلبه كالطود الجسيم لأنه كان فارساً 
هماماً وبطلاً ضرغاماً وكان جسوراً على الطعن والضرب في ميدان الكفاح والحرب فالشجاعة العلوية غدت منها غداً وهذا الشبل من ذاك الاسد وقد قيل فيه:
بطل تورث من أبيه شجاعة         فيها أنوف ذوي الضلالة ترغم
وإنَّهُ كان عليه السلام وفياً كريماً والوفاء شيمة موروثة له من أسلافه الكرام وسجية طُبِعَ عليها وهو غلام والوفاء من أكرم خصال العرب. ومن الصفات المحمودة التي عرض لها التاريخ عليها وأكد الالتزام بها، وشهد الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام بوفاء العباس عليه السلام بقوله: (أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبي المرسل والسبط المنتجب والدليل العالم والْوَصِيّ المبلغ والمظلوم المهتضم). وفي موضع آخر من زيارته عليه السلام (فجزاك الله أفضل الجزاء وأوفر الجزاء واكثر الجزاء وأوفى جزاء احد ممن وفّىِ ببيعته واستجاب له دعوته وأطاع ولاة أمره). وكان عليه السلام ذا إباء وحمية خالصة وأنفة عربية فقد بُذِلَ له الأمان من قبل شمر بن ذي الجوشن حين نادى: أين بنوا أختي عبد الله وجعفر والعباس وعثمان فقال الحسين عليه السلام: أجيبوه ولو كان فاسقاً فإنه بعض أخوالكم، فقال له ما شأنك، فقال: يا بني أختي أنتم آمنون فلا تقتلوا أنفسكم مع أخيكم الحسين والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد، فقال لهم العباس بن علي تبت يداك وبئس ما جئت به من امانك يا عدو الله أتأمرنا أن نترك سيدنا الحسين بن فاطمة وندخل في طاعة اللعناء فرجع الشمر إلى عسكره مغضباً. وقد واسى العباس لأخيه الحسين عليهما السلام وقد مدح أهل البيت e مواساة العباس لأخيه فقد قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: (أشهد لقد نصحت لله ولرسوله ولأخيك فنعم الإخ المواسي لأخيه). وأما مناصحة أبي الفضل العباس ابن أمير المؤمنين (عليه السلام) لأخيه الحسين عليه السلام فقد كانت قولية وفعلية أمّا القولية فقوله لأخوته (حاموا عن سيدكم وإمامكم الحسين عليه السلام) وقوله عليه السلام لأشقائه (تقدموا با بني أمي حتى أعلم أنكم قد نصحتم لله ورسوله). وأما المناصحة الفعلية فأثرها ظاهر قطعت يمينه وشماله وهو واقف في حومة الحرب ثابت في ساحة القتال لم يطلب لنفسه ملجئاً ولا مأمناً ولم يعد لأخيه الحسين يحتمي به من الأعداء حاذر أن يغتنم لأجله الحسين عليه السلام فثبت في مركزه بعد قطع يديه ووقف من غير يديه يذب بهما عن نفسه فكأنه قطعة جبل لا يتزعزع أو زبرة حديد لم تتحلحل، وإنّ هيبته تمنع العدو من الاقتراب إليه حتى اغتاله بعضهم مستتراً بنخلة ففضخ هامته بعامود من حديد فانجدل صريعاً على وجه الثرى فهده من أعظم المناصحة وأجلها. وقد مدح بهذه المناصحة وأثنى بها عليه الأئمة المعصومون e قال الإمام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام في زيارته. (أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبي المرسل والسبط المنتخب والوصي المبلغ والمظلوم المهتضم… إلى آخره). وفي محل آخر: (أشهد أنك قد بالغت في النصيحة وأعطيت غاية المجهود) وفي موضع آخر منها: (أشهد أنك قد نصحت لله ولرسوله ولأخيك) وكذلك (أشهد أنك قد بالغت في النصيحة وأديت الأمانة). ومن صفات العباس الأكبر ابن أمير المؤمنين عليه السلام الإيثار وإيثار أبي الفضل العباس لأخيه الحسين عليه السلام يوم كربلاء مما لا شك فيه ولا ارتياب، والإيثار خصله حميدة وسجية فاضلة من سجايا الكرام وأخلاق أهل العفة وأرباب المجد والسؤدد وكونها من صفات المدح فمما لا يرتاب فيه إلا أعوج السليقة أو جاهل محض لا إلمام له بسير العقلاء ولا معرفة عنده بأدلة الأحكام. وإيثار العباس للحسين بنفسه فمستبين من تضحية نفسه أمامه وقد صرحت بهذا أشعاره التي منها:
نفسي لنفس الطاهر الطهر وقا
وكذلك إيثاره حين رمى الماء من يده وقال لا ذقت الماء وابن رسول الله عطشان مع كونه قد أشرف على الموت من الظمأ وقد نطقت بذلك أشعاره كقوله:
يا نفس من بعد الحسين هوني        وبعده لا كنت أنْ تكوني
هذا حســــــــين شــارب المنون        وتشــــــــربين بارد المعــين
إنّ العباس ابن أمير المؤمنين قد شب ونشأ في صحبة أزهد الخلق أبيه أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب وأخويه الحسن والحسين عليهما السلام فاكتسب فضيلة الزهد ببركة صحبتهم فإنّ الطباع تتأثر بالمصاحبة، وقيل: المرء يأخذ من دين صديقه وقد قيل: ولد الفقيه نصف فقيه، فأبو الفضل العباس أولاً كان من بيت خلقهم الله للآخرة لا للدنيا فهو بطبعه وجبلته يطلب ما خلق له ويجانب ما لم يخلق له فلا يجد لنعيم الدنيا ولا لزخارفها فائدة. وأما عبادة العباس ابن أمير المؤمنين عليهما السلام فقد كانت بجميع أعضاءه فلسانه عبد الله بالذكر والشكر والدعاء والاستغفار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعاية إلى إمامه وأخيه الحسين عليه السلام، وأما بجبهته فقد أثر به السجود وأما عينه فقد نبت بها السهم في جهاد دون إمامه وأما يداه فقطعتا من الزند بعد أن عبد بها الله أنواعاً من العبادة جاهد بها الأشرار ورفعها في الأذكار وبسطها في العطاء والسجود والركوع وغير ذلك، وأما رأسه فقد فضخت هامته بعامود الحديد وأما رجلاه فقد قام بها بكل عبادة وسعى بها إلى كل خير ومشى بها إلى الجهاد وحمل الماء لعطاشى آل محمد وآخر عبادة عبد بها أنه جعل يفحص فيها حين سقط على شاطئ العلقمي مفضوخ الهامة مقطوع اليدين، وأما وجهه الكريم فقد سالت عليه الدماء في سبيل الله وسال عليه مخ اليافوخ المفضوخ، وأما صدره الشريف فقد وزعته الأسنة والسيوف والنبال المحددة، وهكذا سبيل سائر أعضائه حتى جاء في وصفه أنه إذا جمل منه جانب سقط الآخر لكثرة ضرب السيوف وطعن الرماح. وكان العباس ابن أمير المؤمنين نافذ البصيرة صلب الإيمان جاهد مع أبي عبد الله كما وصفه الإمام الصادق عليه السلام بقوله: (أشهد أنك لم تهن ولم تنكل وأشهد أنك مضيت على بصيرة من دينك مقتدياً بالصالحين ومتبعاً للنبيين).
وقد أبّن سيد الشهداء أبو عبد الله الحسين عليه السلام أخاهُ أبا الفَضْلِ العَبّاسَ حين استشهاده فأتاه كالصقر إذا انحدر على فريسة ففرقهم يميناً وشمالا بعد أنْ قتل من المعروفين سبعين رجلاً فجاء نحو العباس عليه السلام وهو ينادي وا أخاه وا عباساه الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي ثم انحنى عليه ليحمله ففتح العباس عينيه فرأى أخاه الحسين عليه السلام يريد أن يحمله فقال له: إلى أين تريد يا أخي؟ فقال إلى الخيمة، فقال يا أخي بحق جدك رسول الله عليك أن لا تحملني دعني في مكاني فقال عليه السلام لماذا؟ قال لأني مستحٍ من ابنتك سكينة وقد وعدتها بالماء ولم أتها به فوضعه في مكانه ورجع إلى الخيمة يكفكف دموعه بكمه، فلما رأوه مقبلاً أتت إليه أبنته سكينة ولزمت عنان جواده، وقالت: يا أبتاه هل لك علم بعمي العباس عليه السلام أراه أبطأ وقد وعدني بالماء وليس له عادة أن يخلف وعده، فهل شرب ماءاً وبل غليله ونسى ما وراءه أم هو يجاهد الأعداء؟ فعندها بكى الحسين عليه السلام وقال: يا ابنتاه إن عمك العباس قد قتل وبلغت روحه الجنان فلما سمعت زينب عليها السلام صرخت ونادت واأخاه واعباساه واقلة ناصراه واضيعتاه بعدك، فقال لها الحسين عليه السلام إي والله واضيعتاه بعده وانقطاع ظهراه فجعلت النساء يبكين ويندبن عليه وبكى الحسين عليه السلام معهن. وكان للعباس عليه السلام من الأولاد خمسة عبيد الله والفضل والحسن والقاسم وبِنْتٌ، وانحصر عقب العباس ابن أمير المؤمنين في ولده عبيد الله وزاد بعض العلماء العقب في الحسن بن العباس، وقد اسشتهد بعض أولاد العباس عليه السلام في واقعة الطف مع أبيهم وخير ما نختم به هذه المقالة أبيات للمرحوم سماحة آية الله العظمى الشيخ هادي كاشف الغطاء حيث أنشد قصيدة في سيدنا العباس ابن أمير المؤمنين في المقبولة الحسينية نقتطف بعض الأبيات منها:

 

 
 

أبا الفضل قد أشبهت بالفضل حيدراً
لأنك أنت الباب للسبط مثلما
وكان وزيراً للنبي مؤيداً 
وصلتَ على الأعداء صولته التي
بسيف أبيك الدين كانت حياته
أبوك فدى الهادي النبي بنفسه
ولكنه من كيد أعدائه نجا
ظمئتَ وأرويت الثرى من دمائهم
ومنك بسيف البغي أنْ قطعوا يدا
أبوك يلاقي الجيش في خير عدة
وإنْ هو نادى أنجدته ضراغم
سوى صارماً غضب تحلى لجينه
تسير الى الهيجاء منك بجحفلٍ
وكنت معيناً للحسين وناصراً
فيا ابن علي والعلا لك شيمة
  أباك فأحرزت الفخار المخلدا 
أبوك عليٌ كان باباً لأحمدا
كما كنت للسبط الوزير المؤيدا
تغادر شمل الضالمين مبددا
وكنت لسبط المصطفى في الوغا فدا
ولولاكم في الطف أودى به الردى
وبت على وجه الصعيد موسدا
غداة غدى طعم الردى لك موردا
فقد كنت في المعروف أطولهم يدا
وأنت تلاقي الجيش في الحرب مفردا
وأنت إذا ناديت لم تلقَ منجدا
رقاب الأعادي من دم الترس عسجدا
من العزم ماضٍ ما ونى أو ترددا
وبعدك لم يبصر معيناً ومسعدا
لقد طبت مولوداً كما طبت مولدا

 

 
 
البرمجة والتصميم بواسطة : MWD