الدفاع لدفع الاعتداء

 

 

[قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ]

                                           صدق الله العلي العظيم

المقدمة

الحمد لله الذي شرّع الدفاع لرد الاعتداء وإعزازاً للإسلام وبيضته، وإذلالاً للكفر وشوكته، والسلام على سيد المجاهدين وغازي المشركين نبينا محمد العربي الصادق الأمين وعلى آله الطّاهِرين وصحبه المنتجبين الذين باعوا أنفسهم لله، وبذلوا أموالهم في سبيل الله، فتم النصر الذي أراده الله وكانوا من الفائزين.

إن الأمة الإسلامية والعربية تجتاز اليوم مرحلة خطيرة من أشد مراحل حياتها، مرحلةٌ دقيقة مرحلة حياة أو موت، فلقد اعتدى الأعداء الكفار على بلادها وأراضيها، ودنسوا مقدساتها، وانتهكوا حرمتها، وعاثوا في أرجائها فساداً، فلقد استولى الصهاينة على الأراضي العربية نتيجة تفرق كلمتنا، وتقاعسنا عن الدفاع عن أوطاننا، ونتيجة ابتعادنا عن الله عز وجل وعن العمل بسنة رسوله الكريم وأحكامه وتعاليمه.

ولما كانت البلاد الإسلامية وخصوصاً قطرنا العراق العزيز يُهَدَّدُ من هجمة عدوانية من الطاغوت الأمريكي الصهيوني اخترت الكتابة في بحثي هذا الموسوم (الدفاع لدفع الاعتداء) وتناولت فيه تعريف الدفاع ونوعيه، فالنوع الأول تناولت فيه الدفاع لدفع الاعتداء والنوع الثاني الدفاع لطرد الأعداء. والأدلة على وجوب الدفاع كتاباً وسنةً وإجماعاً وعقلاً، وبحثت في المبحث الثاني: فضيلة الدفاع وكتبت فيه حكم المدافع والحث على طلب الشهادة وحرمة التخلف عن الدفاع والموالاة للكفار وكان المبحث الثالث في أحكام الدفاع ومقوماته وبينت فيه ما يجب على الرئيس المطاع ورعيته. أمّا المبحث الرابع في المرابطة من حيث تعريفها وفضلها وأحكامها.

لقد جاء بحثي في هذا الوقت العصيب ليكون المسلمون على بينة من واجبهم في الدفاع بالنفس والمال وبذل الأرواح رخيصة في سبيل الله، وعلى معرفة بالقواعد والسنن التي فرضها الله وشرّعها، وأوجب عليهم اتباعها ومراعاتها لينالوا ما وعدهم الله به من النصر والغلبة على أعدائهم الكفار في الدنيا، ويفوزوا بالأجر العظيم والسعادة الخالدة في جوار الله وكنفه في دار الآخرة.

إن الإسلام يرمي من وراء مبادئه الرشيدة وتشريعاتِه النفيسة وتعاليمه السامية ونظمه القويمة إلى إيجاد أمة قوية متماسكة  كالبنيان المرصوص عزيزة الجانب موفورة الكرامة، تتعاون على ما يوجب لها الخير ويدفع عنها الشر، وتتضافر على نصرة الشريعة المطهرة وإعلاء كلمة الله لتتمكن من إقامة دولة الحق في الأرض، وتكون خير أمة أخرجت للناس. وأوجب على الأمة الإسلامية أن تعد ما تستطيع من قوة لتصبح شديدة الشوكة، قوية البأس مرهوبة الجانب من قبل الأعداء الكفار اللئام من صهاينة وأمريكان، قادرة على الدفاع عن نفسها، وحماية حدودها ومواجهة كل عدو يعتدي عليها، ولتكون أمة عزيزة لها كرامتها وسيادتها في هذه الحياة.

اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة تعز بها الإسلام وأهله وتذل بها الكفر وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك والمدافعين عن سبيلك، وترزقنا فيها كرامة الدنيا والآخرة.

 

 

النجف الأشرف/ المدرسة المهدية الدينية/ 12 شعبان 1423هـ

 

المبحث الأول

تعريف الدفاع

ينقسم الدفاع إلى نوعين هما:

النوع الأول: الدفاع لدفع الاعتداء (الدفاع الاستعدادي):

وهو الدفاع لحفظ بيضة الإسلام من تَعَدِّي الكُفّارِ - المُسْتَحِقِّينَ لغضب الجبار - والهجوم على أراضي المسلمين وبلدانهم وقراهم، وقد استعدوا لذلك وجمعوا الجموع لأجله، لتعلو كلمة الكفر وتهبط كلمة الإسلام ويعلنوا فيها شعائر الكفر، فهو استعداد المدافعين المسلمين لاستعداد العدو الكافر لقتالنا وتأهبه لحربنا، وإعلانه العدوان السافر على بلادنا. والمراد ببيضة الإسلام هي الجماعة المطلقة ذات الشوكة وبفواتها تفوت جهة المقاومة، قال  عليه السلام : (قاتل عن بيضة الإسلام) خوفاً من استيلاء أعداء الإسلام على بلاد المسلمين لا سامح الله أو تفريق كلمتهم ووحدتهم أو غيرهما . قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: [وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ]([1]). وقوله تعالى: [يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ]([2]) زيادة الترغيب في القتال للكفار والاستعداد لصد العدوان. ووجوبه كفائي فإنه إذا حصل من يقوم بالدفاع وكان به الكفاية سقط عن المكلفين الباقين وإلا وجبَ على جميع المسلمين ممن له القدرة على حمل السلاح وله مدخلية في إذلال الكفار، وإنما كان الوجوب على سبيل الكفاية في هذا النوع من الدفاع لأن الغرض منه دفع الشر، فإذا اندفع الشر ببعض المكلفين حصل الغرض وبحصوله يسقط الفرض عن الآخرين. ويتأكد الوجوب على المكلفين كلما كانوا من المرابطين والأقربين للكفار المعتدين.

ولا ريب في وجوب الدفاع الاستعدادي مع حصول العلم أو الظن أو الخوف من هجوم العدو الكافر على البلاد الإسلامية لتنـزيل الخوف عند العقلاء بمنزلة القطع.

النوع الثاني: الدفاع لطرد الأعداء (الدفاع لإخراج الكفار)

هو الدفاع لطرد الكفار عن بلدان المسلمين وقراهم وأراضيهم وإخراجهم منها بعد التسلط عليها، وإصلاح بيضة الإسلام بعد كسرها وثلمها، والسعي في نجاة المسلمين من أيدي الكفرة الملاعين المستكبرين المعتدين. وبتعبير آخر هو أن يجتاح العدو الكافر بلاد المسلمين بهدف الاستعمار والاستيلاء بأي نحو من أنحاء الاستيلاء سواء أكان فكرياً أم اقتصادياً أم عسكرياً أم سياسياً.

ووجوب هذا النوع من الدفاع فرض عين ، فيجب على المسلمين كافة أن يتركوا عيالهم وأطفالهم وأموالهم، ويدافعوا لطرد أعداء الله عن أولياء الله، فمن كان عنده جاه بذل جاهه، أو مال بذل ماله، أو سلاح بذل سلاحه، أو حيلة أو تدبير صرفها في هذا المقام لحفظ بيضة الإسلام، وأهل الإسلام من تسلط الكفرة اللئام. ومن ابرز مظاهر أفراد هذا النوع من الدفاع لطرد الأعداء فلسطين، فقد فتكت الصهيونية بالمسلمين في فلسطين فتك الطاغية المستبد.

وقد أفتى جَدُّنا الأعلى (كاشف الغطاء) بأن هذا الدفاع افضل أنواع الجهاد، وأعظم وسائل القرب لرب العباد، ويجب فيه اجتماع العساكر والجنود من أهل الإسلام بمقدار ما يجزي في إذلال الكفرة اللئام وطردهم من البلدان الإسلامية، فإن لم يحصل الاجتماع منهم مع عدم العَناء عنهم كانوا مخلين بالواجب بالنسبة إليهم، واستحقوا غضب الملك الجبار عليهم. ولذا أفتى فقهاؤنا إذا دار الأمر بين امتثال وجوب الجهاد الابتدائي للدعوة الإسلامية والدفاع لطرد الكفار عن بلاد الإسلام تعيّن الثاني منهما للأولوية القطعية ولعدم اشتراط الأذن في الثاني.

ولا يثبطن بُعْدُ الديار عن البلد الذي دُهِمَ مِنْ قِبَلِ أعداء الإسلام المؤمنين عن هذا الفرض العيني فإن الواجب على القاصي والداني أن يحمل السلاح ما دام قادراً على حمله، ولا إن الأقربين من الأرض التي انتهكها الكافرون أولى من غيرهم لقربهم من الأعداء.

 

الأدلة على وجوب الدفاع مطلقاً

أولاً: الآيات الكريمة

الحق إن الدفاع من القتال في سبيل الله وهو أحد مصاديق الجهاد فجميع الأدلة الدالة على وجوب الجهاد تدل على وجوب الدفاع منها: قوله تعالى: [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ]([3])، ولا ريب في إطلاق الآية الكريمة، والمراد في سبيل الله صِدْقه على القتال لحفظ الدين ولدفع استيلائهم عن بلاد المسلمين.

  1. قوله تعالى: [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ]([4])، معناها وجوب قتال الكفار لئلا تقع فتنة من ذهاب الدين أو المال أو السلطان أو نحوها مما تكرهون، والآية الكريمة دلت على وجوب الدفاع بقسميه.
  2. قوله تعالى: [الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا]([5])، والمراد من أولياء الشيطان هم الكفار قطعاً، والدفاع هو قتال في سبيل الله.
  3. قال تعالى: [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمْ الْأَدْبَارَ]([6]). معنى الآية الكريمة إذا ابتلى المسلمون بقتال الكفار فلا يجوز لهم الفرار ووجوب الدفاع والثبات لهم.

ثانياً: السنة الشريفة:

1. روي عن أبي بصير عن الإمام أبي عبد الله جعفر الصادق  عليه السلام : (من قتل في سبيل الله لم يعرّفه الله شيئاً من سيئاته)([7]).

2. وروي عن الإمام علي بن أبي طالب  عليه السلام : (إن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه، وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة، فمن تركه ألبسه الله ثوب الذل وشمله البلاء، وديث بالصَغار وأديل الحق منه بتضييع الجهاد، وغضب الله عليه بتركه نصرته)([8]).

3. وروي عن الإمام محمد الباقر  عليه السلام  في صحيح ابن خالد: (ألا أخبرك بالإسلام أصله وفرعه وذروة سنامه؟ قلت: بلى جعلت فداك، قال  عليه السلام : أما أصله فالصلاة وفرعه الزكاة وذروة سنامه الجهاد)([9]).

ثالثاً: الإجماع:

لا ريب في قيام الإجماع على وجوب الدفاع عن البلاد الإسلامية من الكفار والمشركين مع وجود الضرر الديني مطلقاً أو الخوف على بيضة الإسلام بل ذلك من الضروريات لا الاجماعيات.

رابعاً: الدليل العقلي:

العقل يستقل بوجوب حفظ بيضة الإسلام، فإنَّ الخَطَرَ عظيمٌ في الدين والدنيا مع ذهابها، ولو تَأمَّلَ أقَلُّ عُقَلائِنا لَحَكَمَ بِفَرْضِ عَدَاوَةِ الكفار والمشركين لله ورسوله ولنا معاشر المسلمين وإن احترام الدين لا يتم إلا بدفع الكفار عن المسلمين، والدليل على هذا الأمر العظيم هو الوجدان السليم . فمعاشر المسلمين تأبى استيلاء الكفار عليها، كما إن استقامة الدين لا تتم إلا برفع يد الكفار عن المسلمين، والمسلمون وإن اختلفوا في آرائهم ومذاهبهم وفي عناصرهم وشعوبهم إلا إنهم متحدون لطرد أعدائهم وصيانة أوطانهم. كما إن غاية العقل من هذه الحياة ليس إلا الترقي الدنيوي والآخروي، ومن المعلوم ان استيلاء الكفار على بلاد المسلمين يمنع عنهم كلا الترقيين، أمّا الأُخْرَوِيُّ فواضح [وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ]([10])، وأمّا الدنيوي فلا عز ولا شرف ولا كرامة، فيرتفع كل هذه بمجرد استيلاء الكفار على بلاد المسلمين، بل لو تأمل المنصف أدنى تأمل لقطع بأن المستفاد من ديننا الحنيف أنْ ليس من مذاق الشارع المقدس أن يكون المسلم تحت إمرة الكافر، بل الفطرة السليمة توجب الدفاع عن الأوطان من الكفار اللئام فالدفاع من الأحكام الفطرية وحكم العقل وبناء العقلاء على ذلك.

 

 

 

المبحث الثاني

فضيلة الدفاع

 الدفاع أفضل أقسام الجهاد، وأعظم الوسائل إلى رب العباد، ومن قتل يقف مع الشهداء يوم المحشر، وهو الشهيد الأكبر، فالسعيد من قُتل بين الصفوف، فإنه عند الله تعالى بمنزلة الشهداء المقتولين مع الحسين  عليه السلام  يوم الطفوف، قد زُخرفتْ لهم الجنان وانتظرتهم الحور والولدان، وهم في القيامة أضياف سيد الإنس والجان.

فَمَنْ علَِمَ بأنه يجب عليه الدفاع فليشهر سلاحه ويرفع راية الله اكبر، وينادي بأعلى صوته: أين غَيْرَةُ الإسلام؟ أين الطالبون بحفظ شريعة سيد الأنام؟ أين من باعوا أنفسهم بالجنان والحور والولدان في رضا الرّب الرؤوف الرحمن؟ أين المدافعون عن شريعة سيد الأمم؟.

أولاً: المدافع المقتول شهيد

إن المقتول في ساحات الوغى دفاعاً عن الوطن ينطبق عليه عنوان الشهيد ومصداق له، ويجري عليه حكم الشهيد في الدنيا والآخرة. فيثبت له في الآخرة مع خلوص النية ما أعده الله للشهداء من الدرجات الرفيعة، والمراتب العلية، والمساكن الطيبة، والحياة الدائمة، والرضوان الذي هو أعلى من كل مكرمة. ويسقط في الدنيا وجوب تغسيله وتحنيطه وتكفينه، فيدفن في ثيابه مع الدماء، ولا ينزع شيء منه سواء ما كان من الفراء والجلود فيما إذا قتل في ساحة المعركة وأدركه المسلمون ولم يكن به رمق الحياة.

ثانياً: الحث على طلب الشهادة

إن الله تعالى أعد للشهداء المكانة العظيمة والدرجات الرفيعة، وقد بيّن القرآن الكريم إن الشهداء إحياء عند ربهم ينعمون بالحياة الطيبة والرزق الكريم في جوار ربهم وكنفه وفي جناته وجنانه . قال الله عز وجل: [وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]([11])،  فرحين بما أعطاهم الله من فضل زائد عما استحقوه بعملهم ويستبشرون بإخوانهم المجاهدين الذين تركوهم في ميدان الجهاد، بأنهم سيلحقون بهم، ويرون النعيم المعّد لهم في حياة عند الله لا خوف عليهم فيها ولا يحزنون.

وقال الله تعالى : [وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ]([12]) أي لا تشعرون ولا تدركون كنهها، لأنها ليست في عالم الحس الذي يدرك بالمشاعر بل هي حياة غيبية برزخية تمتاز بها أرواح الشهداء على أرواح سائر الناس.

كما بيّن الرسول الأعظم ((صلى الله عليه واله وسلم) في أحاديث عديدة إن الشهيد يود الرجوع إلى الدنيا ليستشهد مرة أخرى لما يرى من فضل الشهادة، فروي: (ما من عبد يموت له عند الله خير يسره أن يرجع إلى الدنيا وإن له الدنيا وما فيها إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى). ومنها (يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول: يا رب خير منزل، فيقول: سلْ وتمنْ، فيقول: أسألك أن تردني إلى الدنيا فاقتل في سبيلك عشرات المرات، لما يرى من فضل الشهادة)، وروى أبو الدرداء أنَّ رسول الله ((صلى الله عليه واله وسلم) قال: (يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته).

لقد كان المؤمنون الأولون يتمنون الشهادة في سبيل الله، وكانت أحب الدرجات إليهم، قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ): (يا أيها الناس إن الموت لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب ليس عن الموت محيص ومن لم يمت يقتل، وإن أفضل الموت القتل، والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليَّ من ميتة على فراش)([13]).

فليعتبر بهذا القول الذين يخافون لقاء الأعداء، والله ما ادري ما
الذي يخشاه الجبان؟ هل يعتقد أنه إذا قبع في بيته ينجو من الخطر؟ وإذا
خرج إلى القتال قتل؟ وإن كان يظن ذلك فقد خاب ظنه واخطأ فيما ذهب
إليه حدسه، فلا الخروج إلى ميدان القتال يدني اجل الإنسان ولا البقاء
في البيوت وداخل القصور يحمي الإنسان ويدفع عنه الموت إذا جاء اجله؟ وهذا قول الله عز وجل واضح جلي في ذلك [أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ
وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ]([14])، فأجل الإنسان لا يقدم ولا يؤخر [فَإِذَا
جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ]([15])، إن الخروج إلى الميدان للدفاع
عن العقيدة الإسلامية والبلدان يُمَكِّن الإنسان من صعود سلم الحرية والكرامة، بينما البقاء في البيوت واهمال القتال يمكن الأعداء من الاعتداء والعدوان.

ثالثاً: حرمة التخلف عن الدفاع

وقد أوجب الله تعالى في محكم كتابه العزيز في آيات عديدة وجوب الدفاع بالنفس والمال، وإن التثاقل عن القتال حين الدعوة إليه يعتبر إثماً يوبخ فاعله عليه، قال الله تعالى: [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ]([16]). فليس من شأن المؤمنين بالله واليوم الآخر الذي يكون فيه الأجر الأكمل على الأعمال ولا من عادتهم أن يتخلفوا عن الدفاع في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم إذا عرض لهم المقتضي له، لأن هذا من لوازم الإيمان. قال الله تعالى: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ]([17])، فعلى المؤمن حقاً أن يدافع أو يعزم على الدفاع فيما إذا تعرض وطنه إلى العدوان. إن الذين يتخلفون عن الدفاع أو النفير العام عندما يحل العدو في بلادنا - لا سَمِحَ الله - ولا يستجيبون لقوله تعالى: [انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ]([18]) والذين يَتَباطَؤوْنَ ويتعللون بالتعللات إما أن يكونوا من ضعفاء الإيمان الذين اصيبت قلوبهم بمرض الضعف فلا تزيدهم الكوارث إلا ضعفاً، وإما أن يكونوا من المنافقين الذين اصيبوا بمرض النفاق. ولا خير في أمة إذا اصيبت بمثل هذه الأمراض، فما ذل قوم إلا وخافوا من حَرِّ السيوف.

رابعاً: حرمة موالاة الكفار:

لا يجوز موالاة أعداء الله ورسوله وحرمة التعاون مع كل من يساعد الكفار في غزو بلدان الإسلام مثل استخدام الأراضي العربية والإسلامية لضرب المسلمين . قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: [لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ]([19]) وقوله تعالى: [لَا يَتَّخِذ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ]([20])، فَمَنْ يُوالِ أعداء الله ورسوله فقد انتفى الإيمانُ من قلبهِ واستحق العذاب الأليم في الدنيا قبل الآخرة. والموقف الإسلامي من أعداء الله ورسوله هو غلظة من المؤمنين على الكافرين بقوله تعالى: [وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً]([21]).

 

المبحث الثالث

أحكام الدفاع ومقوماته

أولاً: أحكام الدفاع:

  1. يجب على العلماء إعانة الرئيس المطاع المتوجه لدفع الكفار وحفظ بيضة الإسلام، ووعظ الناس ونصحهم وأمرهم بالمعروف والاجتهاد في الدفاع، وأن ينادي العلماء في الناس: أين غيرة الإسلام والمجتهدون في نصرة خاتم الأنبياء؟ أيها الناس الدنيا دار فناء ليس لكم فيها مقرّ، والموت أمامكم ولا خلاص لكم منه، فبيعوا أنفسكم برضا الله والجنة قبل أن تموتوا مع الخيبة والخسران والحرمان من الجنة ونعيمها والحور والولدان.
  2. ينبغي للمدافعين حسن التوكل على الله، والاعتماد والوثوق به والاطمئنان بقوله تعالى: [كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً]([22])، وأنْ لا يعتمدوا على قوتهم وأسلحتهم وكثرتهم وحسن تدبيرهم، فإن الله حسب من توكل عليه واستند إليه.
  3. أن يرفع المدافعون المسلمون الأضغان والعداوة فيما بينهم، ويكونوا كنفس واحدة وَيَتَناسَوْا ما وقع بينهم من الفتن والحروب، ويروا أنفسهم كأنهم خلقوا الآن من كتم العدم، وإذا وقعت بينهم فتنة سببها الكفار - لا سَمِحَ اللهُ - تداركوها بالإصلاح، لئلا يطمع بهم عدّوهم. وأن يكون ما وراء الجبهة رصيناً ومتماسكاً، فإن مَنْ وراء المدافعين يشدون أزر المدافعين ويضاعفون الجهد في تماسك الجبهة وسد احتياجات المجتمع الإسلامي فلهم يكون جزاء الدفاع وإن لم يحملوا السلاح.
  4. يجوز للرئيس المطاع أو قائد الجيش أن يجبر الناس على الحرب والدفاع حتى بقهرهم على اعانته ومساعدته، ومنع المدافعين من الرجوع إلى أهلهم إلا مع الاستغناء عنهم بغيرهم .
  5. يجوز للرئيس المطاع أو قائد العساكر والجنود والجيوش الأخذ من خراج الأراضي وغيرها وصرفه في تقوية الجنود من تجهيزها بالأسلحة والعتاد والمُؤَنِ والزاد، كما يجوز صرف الصدقات الواجبة من زكاة الأموال وزكاة الفطرة ما به من ردّ المظالم ومجهول المالك والمال المنذور لوجه الله ليُصرف في محال القُربات وغيرها والصدقات المندوبات. وصرفها في الدفاع اعظم من صرفها على الفقراء والمساكين والرقاب وأبناء السبيل. بل يجوز للرئيس المطاع الأخذ من مال المسلمين ما يكفيه لسد احتياجات الدفاع.
  6. يجوز التوصل إلى دفع الكفار عن بلاد الإسلام بجميع أنواع الحيل والخدع، فإن الحرب خدعة، كما يجوز حفر الآبار وطم أفواهها حتى يقع الكفار فيها، كما يجوز احراقهم بأي طريقة كانت أو بإغراقهم أو بادخال السم في طعامهم وشرابهم. هذا ما أفتى به جدنا الأعلى كاشف الغطاء في كتابه (كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء)([23])، كما يجوز في الدفاع إذلال العدو الكافر بأي كيفية من الطرق، كقطع الشجر أو سد المياه وسد طرق المؤن واستخدام الحيل حتى لو توقف على لبس المدافعين المسلمين لباس الكفار ليتوصلوا إليهم حتى ينقضوا عليهم.
  7. يجوز استعمال الآلات الموسيقية والغناء وغيرهما من الأمور المشجعة للناس إذا توقف عليها نظم الجنود وتشجيعهم على الدفاع وقطع دابر المعاندين إخوان الشياطين من صهاينة وأمريكيين.
  8. الدعاء عند التقاء الكفار بالمأثور، ومنه دعاء النبي (صلى الله عليه واله وسلم: (اللهم مُنزلَ الكتاب، سريعَ الحساب، مجري السحاب، أهْزِم الأحزاب يا صريخَ المكروبين، يا مُجِيْبَ دعوةِ المضطرين يا كاشفَ الكربِ العظيم، اكشف كربي وغمي، فإنك تعلم حالي وحال أصحابي)([24]).
  9. تجب على المدافع صلاة الخوف إذا تسلط العدو، وأحكامها موكولة إلى محلها، كما يجوز للمدافع لبس ما لا يجوز له لبسه من حرير وذهب إذا كان مما يُرْهَبُ به العدو وَيَخافُهُ.
  10. الظاهر جواز مخالفة الوالدين في الدفاع فضلاً عن اعتبار إذْنِهما، فالمخالفةُ لهما في هذا الأمر لا يعدّ عقوقاً, إذ (لا طاعَةَ لمخلوقٍ في معصية الخالِقِ).
  11. لا تقبل دعوة الكفار بالأمان للمسلمين، ولا سيما إذا خشي تحزبهم وتجمعهم للقتال. ومن نظر في عداوتهم لِلْمُسْلِمِيْنَ اكتفى بذلك لإثبات عدم أمانهم وَعَرَفَ مَكايَدَهُمْ.
  12. حرمة الفرار ووجوب الثبات عند ملاقاة الكفار. قال تعالى: [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمْ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ]([25]).
  13. نهى الإسلام عن اذاعة الأسرار الحربية، ونهى عن خوض عامة الناس في أمور الحرب لما فيه من إضرار بهم، لأنهم ينصرفون عن أعمالهم، وييسرون لجواسيس العدو الاطلاع على أسرار المسلمين، وفي ذلك ما لا يخفى من ضرر وفساد. كما يحرم كل الدعايات المغرضة التي تؤدي إلى خور المسلمين وتقاعسهم عن الدفاع وتهاونهم لا سامح الله.
  14. إن القتال لدفع اعتداء الكفار عن بلاد المسلمين يباح في الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم الحرام ورجب الأصب، وهذه الأشهر يحرّم القتال فيها ابتداءً من المسلمين ولكن يحل القتال لرد الاعتداء.

ثانياً: مقومات الدفاع:

1.إن الإيمان بالحق الذي يدافع في سبيله ركن ركين من أركان الدفاع، فلا يدخل المدافع مضطرب الإيمان مزعزع العقيدة، فإن الإيمان قوة في الدفاع لا تقل عن قوة السلاح،فانه يقدم على القتال ويوطّن نفسه على تقديمها، وإن يؤمن بأنه معوضٌ بحياة أفضل وسعادة أكمل وخير أشمل، وهي حياة الشهداء في الجنان، ومذعنٌ لقوله تعالى: [وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ]([26]).

2. أن نشعر المعتدين الكافرين بأننا أمة واحدة ويتحقق فينا قول النبي (صلى الله عليه واله وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى). وقوله ( عليه السلام ): (المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يسلمه). فكل ارض من أراضي الإسلام من حِمى الله تعالى، فلا يصح أن نترك ما هو في حمى الله تعالى يعبث فيه أعداء الله.

3. بيان الغلظة على الكافرين والتراحم ما بين المسلمين ، ونشر الرعب في نفوس أعداء الإسلام قال الله تعالى: [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]([27]).

4. أن ينتصر المدافع على نفسه التي بين جنبيه وتكون أهواؤه وشهواته خاضعة لأمر الله تعالى ونهيه، فلا ينتصر على عدوه الذي يحمل السلاح حتى ينتصر على نفسه من شهواتها، فقد قال زيد بني علي  عليه السلام : (ما خاف قوم حرَّ السيوف إلا ذَلّوا).

5. التسليح بالصبر والمصابرة فإن الحرب بلاء الإنسانية يصحبها نقص في الثمر والخوف والاضطراب والقلق ولا علاج لذلك إلا بالصبر فهو الإرادة القوية والعزم الصادق.

6.أن يدافع في سبيل الله لا لأجل حمية أو عصبية فقد يدخله ذلك في ظلم، وهذا ما يؤدي إلى ضعف النفس عن القتال فمن خلا قلبه من الإيمان بالله فإنه يكون منه التخاذل في وقت الشدة.

ثالثاً: الرئيس المطاع:

لما كانت الحرب من الأعمال الجليلة ذات الأهمية الكبر ى التي تتركز عليها سعادة الأمة وشقاؤها في دفع العدوان عنها، كان اللازم وجود الرئيس المحنك فيها الذي يحسن إدارة الجيش وله البصيرة والخبرة بطرق النجاح فيها، وله من المسكة والعصمة ما يمنعه من الإغراء بفواتن الحياة ومباهج الملذات الصارفة له عن تدبير شؤون الفوز والظفر. والدفاع ما يحتاج إلى رئيس مُطاع له أشياع واتباع ورأي سديد وبأس شديد، قابل للسياسة، وأهل للرفعة والرئاسة، له معرفة بمحاربة ومخاصمة الكفار  والفجار والأشقياء إذا أمر انقادوا لأمره، وإذا نهى وزجر انتهوا لزجره، ذو بصيرة وصاحب رأي وتدبير، عالم بطريقة السياسة وعارف بدقائق الرئاسة، صاحب إدراك وفهم وثبات وجزم وحزم أنْ يقوم بأحمالها، ويتكلف لحمل أثقالها، لا أن يكون من الوسواسين، وصاحبُ الرأي الحري بالاتباع، والجامع لمحاسن الأقوال والأفعال ذُوْ هيبة تخضع لها الأبطال، وتذل لها فحول الرجال، القابل للرئاسة، الخبير بفنون السياسة، حَسَن السيرة، جيد البصيرة، إذا غضب هابه الأسد الضرغام، العادل بالرعية، القاسم بالسوية، لا بالمتهور في الحرب، ولا بالجبان المضطرب، ذُوْ تدبير وحكمة، وعزم في الأمور وهمة، سلاحه الدعاء وقوّته من الاعتماد على رب الأرض والسماء، ملازم للعمل بأحكام الله تعالى، وأن يكثر البشاشة والتبسم في وجه أصحابه، ويزيد اللطف على من له مّزية على أصحابه، ويكثر اللوم والعقاب على من قصّر في المحاربة ليقع المدافعون في الغَيْرَةِ. وأن يعتمد على الله، ويرجع الأمور إليه، ولا يكون له تعويل إلا عليه، ويسند النصر إلى الواحد القهّار، وأن لا يودع شيئاً من الأسرار إلا عند من يخاف بطش الملك الجبار، وأن يقيم شعائر الإسلام ويجعل مؤذنين وأئمة جماعة في عسكر الإسلام، وينصب الواعظين لِيُبَيّنُوْا نقص الدنيا الدنية للجيش والرعية، وَيُرَغِّبُوْا في طلب الفوز بالسعادة الأبدية، ويُسَهِّلُوْا أمر حلول المنية، ببيان أن الموت لا بد منه، ولا مفرّ عنه، وإن موت الشهادة فيه سعادة، وإن الميت شهيد حي عند ربه، معفو عن إثمه وذنبه، وللرئيس المطاع في الدفاع إجبار الناس على القتال والنزال، وله اخذ ما يتوقف عليه تدبير العساكر والجنود لرد أهل الكفر والطغيان والجحود من الرعية بمقدار ما يدفع هؤلاء الكفار الأشقياء إذا توقف الدفع عليه ، فإن لم يفِ اخذ من البعيد بقدر ما يدفع به العدو المريد. ويلزمه أعداد الأسلحة وكل ما يعزز النصر في المعركة، من أعداد الطعام والشراب، وكلما كان الزاد أدسم فهو لجلب القوة أحكم، قال سيد الأوصياء  عليه السلام  مخاطباً للغداء: (لولاك ما عبد رب الأرض والسماء).

وينبغي لرئيس المسلمين أن لا يُخْرِجَ معه مُخَذِّلاً، وهو المُزَهِّدُ في الخروج ولا المُرْجِفَ الذي يكثر من الأخبار السيئة واختلاق الأقوال الكاذبة حتى يضطرب الناس منها، ولا من يتجسس على عورات المسلمين، ولا من يوقع العداوة بين المسلمين، ولا الجبان الذي يُخْشَى من فراره فيختل العسكر باختلاله.

وينبغي للرئيس المطاع أن يأخذ العهد والبيعة من القادة الذين ينصبهم على العساكر والجيوش وأن يجعل له من أصحاب الرأي والتدبير والديانة والأمانة جمعاً يستشيرهم في الأمور فإن من استشار ضمَّ إلى عقله عقولاً أُخر.

وينبغي لهم الدعاء عند الحرب بما يجري على اللسان، مما يتضمن طلب النصرة، وأفضله الدعاء المنسوب إلى سيد الأوصياء الإمام علي بن أبي طالب  عليه السلام ، بأن تأخذ قبضة من التراب وترمي في مقابلة وجوه الكفار، مع قول: شاهت الوجوه.

رابعاً: الرعية:

تجب على الناس طاعة الرئيس المطاع، ومن يخالفه فقد خالف الله ورسوله واستحق الغضب من الله. كما على الناس أن يقبلوا عليه ويتسابقوا من سائر الجوانب إليه، وينادوا بأعلى النداء قائلين له: أرواحنا لروحك الفداء، ليشتد عزمه، ويقوى على محاربة أعداء الإسلام حزمه.

وأن تقوم الرعية على تقوية كلمة المسلمين والإسلام، وألا يدخلوا في الحرب إلا بعد استجازة الرئيس المطاع، ولا يعملوا عملاً مهما إلا بعد العلم بإرادته، وأن يُحيطوا به إحاطة الثياب بالبشر، ويدوروا عليه دوران الهالة على القمر، فإنهم خيمة وهو عمودها، إذا قام قامت وإذا مال مالت وما استقامت، وإذا نصب لهم رؤساء متعددون وجب اتباعهم كما وجب اتباعه ولا يجوز للرعية الفرار إذا التقى الصفان وتقابل الجمعان، ولا يتوقفوا عن الدفاع إلا بعد أن يأذن لهم، وتكفي التكبيرة الواحدة عند كل ركعة وقت الدفاع إذا لم يتمكن المقاتل من أداء الصلاة بأجزائها وشرائطها كما أفتى جدنا الأعلى كاشف الغطاء.

 

المبحث الرابع

المرابطة

أولا : تعريف المرابطة:

وهي الإرصاد لحفظ الحدود والثغور في بلاد المسلمين من هجوم الكافرين والمراد بالإرصاد هي تهيئة النفس والأموال اللازمة لذلك، والثغر هو الحد المشترك بين دار الكفر ودار الإسلام أو كل موضع يخاف منه، يخصص فيه جزء من الجنود للوقوف على الحدود حتى لا تغزى ديار الإسلام على حين غرة، ولا بد للثغور من حامية قوية للمقاتلين تحمي بلاد الإسلام من هجوم المعتدين، فالمرابطة بالثغور هي لمنع اعتداء الكفار ومناجزتهم قبل أن يوغلوا في داخل الأراضي الإسلامية فالرباط يتضمن معاني ثلاثة:

  1. الحراسة الشديدة بحيث لا تكون ثغرة ينفذ منها العدو إلى الديار الإسلامية، لأنه (ما غُزي قومٌ في عقر دارهم إلا ذلوا) كما قال الإمام علي ابن أبي طالب  عليه السلام .
  2. المرابطة تؤدي إلى إرهاب العدو وجعله في خوف ووجل مستمرين، إذ يعلم أن وراء المرابطة جيشاً يحمي الديار.
  3. أن يكون هناك استعداد مستمر للقتال والتدريب فلا يُؤْتى المؤمنون على حِيْنِ غِرَّةٍ.

ثانياً: فضل المرابطة:

حث الإسلام على المرابطة وبيان فضلها، قال الله في محكم كتابه العزيز: [يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]([28]). وقد روي عن سلمان المحمدي عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم قال: (من رابط يوماً في سبيل الله كان له كصيام شهر وقيامه)([29]). وروي أيضاً عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم: (لرباط يوم في سبيل الله تعالى صابراً محتسباً من وراء عورة المسلمين في غير شهر رمضان أفضل من عبادة مائة سنة صيام نهارها وقيام ليلها، ولرباط يوم في سبيل الله صابراً محتسباً من وراء عورات المسلمين في شهر رمضان افضل عند الله من ألف سنة صيام نهارها وقيام ليلها، ومن قتل مجاهداً أو مات مرابطاً فحرام على الأرض أن تأكل لحمه). وروي عن النبي الأكرم (صلى الله عليه واله وسلم: (إن كل ميت يختم على عمله إلا المُرابِط في سبيل الله، فإنه يدوم له عمله إلى يوم القيامة)([30]). وعنه (صلى الله عليه واله وسلم: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)([31]). وقال (صلى الله عليه واله وسلم (خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه في سبيل الله كلما سمع هيعة طار إليها) أي كلما يسمع أمراً فيه خطر على المسلمين طار إليه، وقد علم المؤمنون الأتقياء فضل المرابطة فكانوا يرابطون مختارين، وكان بعض الصالحين من علماء الدين يقسمون العام أربعة
أقسام: ربع ليعمل ويوفر لنفسه قوت سنته ونصف ليذاكر العلم مع أهله، وربع ليرابط في ثغور الإسلام ليكون مانعاً من الشر وليدافع حيث يجب الدفاع.

وتختلف مراتب المرابطة في الفضل، فالمرابط بنفسه وماله وعياله افضل الأقسام، ثم النفس وحدها وكلما كان الثغر اكثر خطراً، والمجاورون له من الكفار اشد بأساً يكون الرباط فيه أفضل، وكلما اشتد الاحتياج إليه زاد فضله.

ثالثاً: أحكام المرابطة:

  1. إذا توقف حفظ بيضة الإسلام أو نجاة المسلمين وجب المرابطة كفاية، وتجب إطاعة الرئيس المطاع المتولي لمقاتلة الكفار في التعيين، فهي واجبة وجوباً كفائياً لدى وقوع البلاد الإسلامية في معرض الخطر، فإذا لم يخرج العدد الكافي للمرابطة عوقب المتخلفون كلهم، وقد قام الإجماع على وجوبها في مقام الخوف من ذهاب بيضة الإسلام من العدو الكافر، ولا ريب في الملازمة بين مشروعيتها ومشروعية الدفاع، والشاهد على ذلك فهم العرف وهو من الأمور القطعية.
  2. المرابطة الموظفة لا تنقص عن ثلاثة أيام ولا تزيد على أربعين، ولكن لو زاد زاد الأجر، ولو نقص نقص، ولا تدخل الليلة الأولى والاخيرة منهما، وكلما زاد المرابط في التفحص عن حال المشركين وكثر به الأخبار عن أحوال الكفار كان ثوابه اعظم.
  3. إعانة المرابطين بالانفاق والسلاح كثواب المرابطة.
  4. ينبغي للقادة العسكريين أن يوزعوا المرابطين على الثغور على وجه يندفع به المحذور ويهيئوا الأسلحة والعتاد والمؤن والحصون والسواتر لصد الكفار اللئام. كما ينبغي للقادة العسكريين زيارة المرابطين بين فترة زمنية وأخرى لاختِبارِ أسلحتهم ومعرفة أحوالهم.
  5. يجوز للمرابطين قتل الكفار المعتدين من دون استئذان أحد من القادة العسكريين.

وفي ختام بحثي هذا اسأل الله عز وجل أن يوفق العرب والمسلمين إلى خير الطرق وأرشد السبل التي تمكنهم من استرداد أوطانهم ومقدساتهم، وإعادة كرامتهم وحريتهم وسيادتهم. وأن يشملهم بنفحة من نفحاته الربانية تجمع شتاتهم وتلم شعثهم، وتوحد كلمتهم، وتؤلف بين قلوبهم، وتعيد مكانتهم، وتُعدُّهم لتلقي النور الإلهي، وتحملهم على الرجوع إلى الهدي النبوي، وما ذاك بعزيز على رب الأرباب مؤلف القلوب، ومفرج الكروب، سبحانه لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الحكم وإليه ترجعون.


 

 

المصـادر

  1. القرآن الكريم
  2. بين جامعة الإمام الشيخ عي كاشف الغطاء في النجف ومجمع البحوث الإسلامية في القاهرة/ السيد كاظم الكفائي/ مطبعة الآداب/ النجف الأشرف/ 1974م.
  3. وجوب النهضة لحفظ البيضة/ السيد محمد الحَسَنيّ البغدادي/ مطبعة القضاء/ النجف الأشرف/ 1387 هـ - 1967 م / الطبعة الأولى.
  4. الجهاد الإسلامي/ السيد علي الحَسَنيّ البغدادي/ دار العلم للملايين/ بيروت/ الطبعة الأولى/ 1421 هـ - 2001م.
  5. كشف الغطاء عن مبهمات الشريعة الغراء/ الشيخ الأكبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء/ مكتبة كاشف الغطاء/ النجف الأشرف/ 2001م.
  6. وسائل الشيعة إلى تحصيل الشريعة/ محمد بن الحسن الحر العاملي (ت: 1104هـ).
  7. مجمع البيان في تفسير القرآن/ لأبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي/ منشورات دار الكتب/ بيروت.
  8. شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام/ لأبي القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن الحلي/ مطبعة الآداب/ النجف الأشرف/ 1389هـ.
  9. القواعد والفوائد/ لأبي عبد الله محمد بن مكي العاملي المعروف (بالشهيد الأول) (ت: 876 هـ)/ مطبعة الآداب/ النجف الأشرف.
  10. المفردات في غريب القرآن/ لأبي القاسم الحسين بن محمد بن الفضل الراغب الاصفهاني/ مصر/ 1324هـ.
  11. الجعفريات/ محمد بن محمد الأشعث الكوفي/ مكتبة نينوى الحديثة.
  12. عوالي اللئالي/ أبو جمهور الأحسائي/ دار سيد الشهداء/ 1405هـ.
  13. سنن ابن ماجه/ الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني/ (207 -275هـ)/ حققه محمد فؤاد عبد الباقي/ دار إحياء الكتب العربية/ عيسى البابي الحلبي وشركاؤه.
  14. بحار الأنوار/ العلامة المجلسي (ت: 1110هـ)/ مؤسسة الوفاء/ بيروت/ لبنان/ 1404هـ.

 


([1]) سورة الأنفال, آية: 60.

([2]) سورة الأنفال, آية: 65.

([3]) سورة البقرة, آية: 190.

([4]) سورة البقرة, آية: 193.

([5]) سورة النساء, آية: 76.

([6]) سورة الأنفال, آية: 15.

([7]) وسائل الشيعة / باب 1 / م11 /حديث 19/ ص9.

([8]) المصدر نفسه / باب 1 / م11 /حديث 13/ ص8.

([9])  المصدر نفسه / باب 1 من أبواب مقدمة العبادات/ حديث 3.

([10]) سورة البقرة, آية: 120.

([11]) سورة آل عمران, آية: 169.

([12]) سورة البقرة, آية: 154.

([13]) وسائل الشيعة / باب1 / م11/ حديث 13 / ص8.

([14]) سورة النساء, آية: 78.

([15]) سورة الأعراف, آية: 34.

([16]) سورة التوبة, آية: 38.

([17]) سورة الحجرات, آية: 15.

([18]) سورة التوبة, آية: 41.

([19]) سورة المجادلة, آية: 28.

([20]) سورة آل عمران, آية: 28.

([21]) سورة التوبة, آية: 123.

([22]) سورة البقرة, آية: 249.

([23]) كشف الغطاء 4/ 381.

([24]) الجعفريات/ 217؛ مستدرك الوسائل/11 /109, أبواب جهاد العدو/  باب 46/ حديث 17؛ الجامع الصحيح/ 4/ 195/ حديث 1678.

([25]) سورة الأنفال, آية: 15، 16.

([26]) سورة آل عمران, آية: 169.

([27]) سورة التوبة, آية: 123.

([28]) سورة آل عمران, آية: 200.

([29]) عوالي اللئالي/3/ 183 حديث 7؛ صحيح مسلم /4/ 169 حديث 1913؛ سنن ابن ماجه/2/ 1924 حديث2766.

([30]) كنز العمال /4/ 297 / حديث 10574؛ رياض الصالحين /369.

([31]) المصدر نفسه /4/297/ح (10572)، (10573).

 
 
البرمجة والتصميم بواسطة : MWD